الاثنين، 3 مارس 2014

نداءان لمصر من غزة والأقصى


نداءان لمصر من غزة والأقصى

فهمي هويدي
المعادلة صارت مقلوبة، فمصر التي كشرت عن أنيابها في مواجهة الغضب الفلسطيني عند معبر رفح، اعتمدت الدبلوماسية الهادئة في التعامل مع النهم الإسرائيلي في القدس.
(1)
الخبر ليس جديدا، وربما كان الجديد فقط هو التزامن بين اللقطتين في لحظة تاريخية واحدة، الأمر الذي يسلط الضوء على بؤس المفارقة، ذلك أن معركة السلطة المصرية ضد قطاع غزة وحماس خلال الأشهر الثمانية الأخيرة احتلت موقعا متميزا في أجندة السلطة وفي المنابر الإعلامية المعبرة عنها.
وفي حين ظل التصعيد والتهديد سمت العلاقة مع القطاع، فإن السكون والتعاون الإيجابي الحذر ظل من أبرز سمات العلاقات المصرية الإسرائيلية.
صحيح أن ذلك السكون، بل والتعاون الحذر ظل مخيما طول الفترة التي كان فيها الدكتور محمد مرسي على رأس السلطة، إلا أنه كان متسما بسوء الظن المتبادل، فضلا عن أن العلاقات مع حماس والقطاع كانت على النقيض تماما مما هي عليه الآن. وهو الوضع الذي انقلب في الوقت الراهن، فصار سوء الظن من جانب حماس، وتعالت مؤشرات المودة والثقة مع إسرائيل، على الأقل فذلك ما شهد به السفير الإسرائيلي الأسبق في مصر تسفي مزال في ورقة صدرت (في 15/1/2014) عن مركز يروشليم لدراسة المجتمع والدولة. وقد نشرت صحيفة جيروساليم بوست ملخصا لها بالإنجليزية، وقد هاجم الرجل فيها بشدة الدول ووسائل الإعلام الغربي التي اعتبرت الوضع الجديد في مصر انقلابا، في حين دعا الدول الغربية إلى ضرورة تقديم كل صور العون للسلطة القائمة، معتبرا أنها الوحيدة التي تشن حربا لا هوادة فيها على التطرف الإسلامي.
الشكوك العميقة التي ساورت الإسرائيليين من توجهات النظام السابق عبرت عنها دراسة أعدها البرفيسور ليعاد بورات وصدرت في 19/8/2013 عن مركز بيجين السادات للدراسات الإستراتيجية التابع لجامعة «بارايلان»، وقد ذكر فيها أن نظام الدكتور مرسي اتبع تكتيكات تعد الأرضية لاتخاذ قرار التخلص من اتفاقية كامب ديفيد. فمن ناحية ــ والكلام له ــ راعى موقف المجتمع الدولي من خلال تأكيده على احترام الاتفاقات الدولية التي وقعتها مصر، ومن ناحية ثانية فإنه سمح لمستشاريه بتقديم كل المسوغات التي تبرر التنصل من الاتفاقية المذكورة بعد اتهام إسرائيل بعدم الوفاء ببنودها.
في التعبير عن الثقة ذكر النائب السابق لرئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي، الجنرال موشيه كبلينسكي في حوار بثته القناة العاشرة يوم 14/2 في برنامج «الأسبوع» أن الجيش المصري حليف مهم لإسرائيل ومن مصلحتها الإستراتيجية أن يتم تعزيز قدرته على استعادة الاستقرار والهدوء في البلاد.
(2)
في الأسبوع الماضي دعا بعض الناشطين في قطاع غزة إلى اعتصام أمام معبر رفح، مطالبين بفتحه لقضاء حوائج الناس ومصالحهم بعدما اشتدت معاناتهم جراء الاستمرار في إغلاقه بمتوسط ثلاثة أسابيع كل شهر. وحين تم تبليغ الرسالة إلى السلطات المصرية وجرى فض الاعتصام يوم الجمعة الماضي (28/2) كان قد مضى على إغلاق المعبر 25 يوما متصلة، في حين وصل عدد الراغبين في السفر ستة آلاف شخص، بين مرضى بحاجة إلى العلاج ودارسين يريدون الالتحاق بمعاهدهم وموظفين وعمال لهم ارتباطاتهم. وبعدما أصبحت القاعدة أن يفتح المعبر ليوم واحد بعد فترة الإغلاق، فإن عدد الذين يسمح لهم بالمرور منه يتراوح في العادة بين 500 و600 شخص فقط، الأمر الذي يعني أن الراغب في الخروج أو الدخول عليه أن ينتظر عدة أشهر لكي يحل عليه الدور وينفرج كربه، الأمر الذي حول القطاع إلى سجن كبير، لا يعرف نزلاؤه لماذا ينكل بهم، ويقاوم كثيرون فكرة أنهم يعاقبون لأنهم يمثلون رمز مقاومة الاحتلال والصمود في مواجهة العدوان الإسرائيلي.
حاولت تحرير المشهد فقيل لي ما يلي: 
< إن أهل القطاع تعرضوا لهذا النوع من التنكيل في عامي 2006 و2007 (أيام حكم مبارك) حين تولت حركة حماس السلطة في القطاع بعد فوزها بالأغلبية في الانتخابات التشريعية. لكن معاناة الناس خفت بصورة تدريجية بعد ذلك، إلا أن الأمر اختلف بعد تولي الدكتور محمد مرسي للسلطة، حيث أصبح المعبر يفتح يوما ويغلق يوما، وهو وضع لم يستمر بعد 30 يونيو 2013، وإنما عادت الأمور إلى ما كانت عليه حين كانت الأزمة في ذروتها في عهد مبارك.
>>من المفارقات أنه في حين أصبح الإغلاق هو الأصل بعد 30 يونيو، فإن معبر بيت حانون الذي يطلق عليه الإسرائيليون اسم معبر ارينز، لم يغلق مع القطاع حتى في أوقات الاجتياحات والاعتداءات الإسرائيلية التي تعرض لها أهل غزة.
>>يعتبر المسؤولون عن سلطة القطاع أنه لا أساس للاتهامات التي وجهت إلى حماس بالضلوع في أعمال ضارة بالأمن المصري. ويدللون على ذلك بأنه لم تثبت في أي تحقيق نزيه تلك التهمة بحق أي عضو في الحركة، رغم سيل التقارير والادعاءات الإعلامية التي لم تكف عن شيطنة حماس طول الوقت، ومما ذكره أحد أولئك المسؤولين أنه من غير المعقول أن توافق حماس على التهدئة مع إسرائيل، في حين تعمد إلى المساس بأمن مصر بأي صورة.
>>تقبل قيادات حماس تحقيق الاتهامات التي نسبت إليها بشهادة رجال المخابرات العامة المصريين الذين تعاملوا مع ملف القطاع من البداية. وكانوا الطرف الأساسي في جميع الاتصالات التي أجريت مع السلطات المصرية، علما بأن هؤلاء لم يغيبوا عن أي لقاء تم بين الدكتور محمد مرسي وبين قيادات الحركة. كما أنهم يقبلون بنتائج أي تحقيق تجريه أي جهة مستقلة سواء كانت حقوقية مصرية أو تابعة للجامعة العربية.
>>في الوقت الراهن تقبل حركة حماس بفكرة منع أعضائها من اجتياز المعبر، وترى أنه ليس هناك ما يبرر معاقبة المرضى وأصحاب المصالح والحوائج من أبناء القطاع، بمنعهم من قضاء مصالحهم، خصوصا تلك التي تهدد حياتهم ومصائرهم.
ماذا كان الرد المصري على رسالة الاعتصام الذي استمر خمسة أيام؟ ــ الصحف المصرية لخصت الرد في الحديث عن الاستنفار الأمني ورفع درجة الاستعداد القصوى، تحسبا لاحتمال اقتحام المعتصمين للمعبر. في هذا الصدد نقلت جريدة «الشروق» (عدد 1/3/2014) عن مصدر عسكري قوله إن المشير عبد الفتاح السيسي أصدر توجيهاته لقيادة الجيش الثاني الميداني باتخاذ جميع الإجراءات والاستعدادات بمنطقة رفح والتصدي لمن يحاول اقتحام المعبر بكل قوة وحسم. وأضاف المصدر أن جهات سيادية أبلغت قيادات بحركة حماس رسائل تحذيرية شديدة اللهجة بأن من يحاول اقتحام المعبر سيتم التعامل معه بالقوة والحسم، وستحمل حماس بالمسؤولية عن ذلك.
(3)
في حين كانت مصر ترفع درجة الاستعداد القصوى لمواجهة المعتصمين أمام معبر رفح، كان «الكنيست» يناقش مشروع قانون يدعو إلى بسط السيادة الإسرائيلية على المسجد الأقصى، إذ يقضي بإلحاق تبعيته لوزارة الأديان في إسرائيل، بدلا من دائرة الأوقاف الإسلامية بالأردن. (الاعتصام بدأ يوم الأحد 23/2 والمناقشة جرت في الكنيست في اليوم التالي مباشرة ــ الاثنين 24/2 ــ، وينص المشروع على «السماح لليهود بدخول المسجد الأقصى من أي باب وفي أي وقت للصلاة فيه»، الأمر الذي يعني فتح الباب على مصراعيه أمام تقسيم مواعيد الصلاة في المسجد بين المسلمين واليهود.
زميلنا الدكتور صالح النعامي تابع المناقشة في الكنيست وقال في رسالة تلقيتها منه إن النائبة الليكودية الجنرال ميري ريغف التي كانت في السابق ناطقة بلسان الجيش الإسرائيلي وصفت خلال دفاعها عن المشروع المسلمين الذين يصلون في المسجد الأقصى بأنهم «حيوانات محمد»، وقالت إننا في إسرائيل ندافع عن حقوق الحيوانات، ولكننا لا نحافظ على حقوق اليهود في جبل الهيكل (الوصف العبري للمسجد الأقصى)، مضيفة أنه يجب أن يتردد نداء «سمعا إسرائيل» (صلاة مهمة لليهود، وألا نسمح بأن يتم ترديد عبارة «لا إله إلا الله» فيه.
وفي تأييد المشروع قال النائب الليكودي موشيه فايغلين إنه «بدون سيطرتنا على هذا المكان فلن يكون لنا وطن»، مدعيا أن حق اليهود في الصلاة بالمسجد الأقصى مشتق من حقيقة أن إسرائيل «دولة يهودية». من ناحيتها قالت النائبة شولي موعالم من حزب «البيت اليهودي» إن اليهود يجب أن يدخلوا المسجد الأقصى باعتبارهم أصحاب حق، وليس كلصوص يتسللون تحت حراسة الشرطة. وأضافت: «لن ننتظر حتى نحصل من الأردن على إذن قبل الحج لجبل الهيكل. وسنصلي فيه تحقيقا لسيادتنا على المكان».
على صعيد آخر تحدثت صحيفة «معاريف» عن أن ملك الأردن ورئيس السلطة الفلسطينية حثا بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء على التدخل لعدم السماح بتغيير الوضع القانوني للمسجد الأقصى، إلا أن المصادر الإسرائيلية ذكرت أنه في حال صدور القانون فإن نتنياهو قد يماطل في تطبيقه، باعتباره مدركا للتداعيات الكارثية المترتبة عليه، ولم تستبعد تلك المصادر أن يلجأ رئيس الوزراء إلى ذلك بحجة أن الأمر قد يفضي إلى المساس بالأمن القومي الإسرائيلي. ونقلت إذاعة الجيش الإسرائيلي عن المصادر المختصة قولها إن المشروع سيكون ملزما للحكومة إذا أيدته الأغلبية، وفي هذه الحالة فإنه سيمثل نقطة فارقة في تعامل الحكومات الإسرائيلية القادمة مع الملف.
(4)
الصدى في الأردن كان سريعا، فبعد يومين من تقديم المشروع إلى الكنيست، قرر مجلس النواب طرد السفير الإسرائيلي من عمان، واستدعاء السفير الأردني من تل أبيب. كما دعا الحكومة إلى تقديم مشروع قانون لإلغاء اتفاقية وادي عربة (معاهدة السلام) التي وقعت بين البلدين في عام 1994. وهي من القرارات التي يتعين أن تحظى بموافقة الملك والحكومة لتنفيذها.
في مصر استنكر المشروع شيخ الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية في البداية، ثم أدانه رئيس الوزراء المهندس إبراهيم محلب، الذي طالب الدول العربية والإسلامية وإصرار العالم باتخاذ موقف حاسم إزاء التعديات السافرة على المقدمات الإسلامية.
وأدلى وزير الخارجية نبيل إسماعيل فهمي بتصريح مماثل، لكننا لم نشهد إجراء من جانب مصر أو حتى تلويحا بإجراء تفوح منه رائحة الغضب. حتى الإدانة اللغوية لم تستخدم العبارات الخشنة التي خرجت من القاهرة ردا على أهالي غزة الذين اعتصموا أمام معبر رفح.
وكان حزب «الدستور» هو الوحيد الذي أصدر بيانا قويا أدان المشروع الإسرائيلي، إلا أنه لم يذهب إلى أبعد من مطالبة الحكومة بالتشاور مع الآخرين في الرد المناسب. رغم أن لدى مصر أوراقا عدة تستطيع أن تعبر بها عن غضبها، أخفها استدعاء السفير الإسرائيلي وإبلاغه بالاحتجاج واستدعاء السفير المصري «للتشاور»، وتقليص اتفاقات التعاون بين الجانبين.
ولا ينسى في هذا الصدد أن القاهرة سحبت سفيرها من أنقرة وطردت السفير التركي بسبب الخلاف مع نظامها الجديد، أما الأصوات المصرية الأخرى التي تبشرنا باستعادة كبرياء وغيرة الستينيات فقد تجاهلت الموضوع ولم يسمع لها صوت فيما أعلم.
إن المسجد الأقصى فضلا عن موقعه المتميز بين مقدسات المسلمين باعتباره أولى القبلتين، يعد رمزا لقضية وثيقة الصلة بالأمن المصري والقومي العربي، فضلا عن كونها مصيرية بالنسبة للشعب الفلسطيني. وفي زمن الكبرياء، حين كانت القضية لها مركزيتها في الوجدان العربي ثارت الأمة ومعها العالم الإسلامي حين أقدم صهيوني متعصب في عام 1969 على محاولة إحراق جناحه الشرقي، الأمر الذي أدى إلى احتراق منبر صلاح الدين. ولأجل ذلك عقد أول اجتماع لزعماء العالم الإسلامي في الرباط، وقرروا إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي (التعاون الإسلامي الآن). ولكن حين تأهبت إسرائيل للسيطرة على المسجد كله وجدنا ذلك التراخي من جانب مصر وغيرها من الدول العربية المركزية، التي بدا واضحا في مواقفها تراجع أهمية القضية والأقصى معها، بما يعني تراجع النخوة والغيرة حتى عن أمن الأمة ومستقبلها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق