الثلاثاء، 2 ديسمبر 2014

قس بن ساعدة يظهر في الرياض


قس بن ساعدة يظهر في الرياض

أحمد بن راشد بن سعيّد



حدّث سهم بن كنانة، قال:
وجد قَسُّ بن ساعدةَ الإيادي نفسه في جزيرة العرب مرة أخرى, وقاده قدره إلى الشراء في سوق الأسهم، بيد أنه اكتوى بنارها، ولدغته مراراً، فقرر أن يلقي خطبة على الناس مقتبسة من خطبته الشهيرة في سوق عكاظ في الجاهلية. رأيته ذات يوم على ظهر راحلته خارج سوق باليمامة، وقد حمل عصاه بيده، واجتمعت حوله أمة من الناس.
قال قس:
اسمعوا وعوا، من عاش ماتْ، ومن مات فاتْ، وكلُّ ما هو آتٍ آتْ، هلك الناسُ بين خذ وهاتْ، وسهرٍ على شات، ليلٌ داجْ، وشفاهٌ ذات أرواجْ، وأسمنتٌ وزجاجْ، وأنعامُ تُنحرْ، وبحارٌ لونُها أحمرْ، وثمارٌ بائرة، وشموسٌ غائرة، وتأمينٌ ولا أمانْ، وبيوتٌ ولا أركانْ، وجزرٌ منهوبة، وأموالٌ مكذوبة.
إنّ في السماءِ لخبرا، وإنّ في الأرضِ لعِبرا، وإنّ في السوقِ لخطرا، عاد الغنيُّ فقيرا، والصعلوكُ أميرا، ذلّت لعمري أعناقُ الرجالْ، وكسا الحزنُ وجوه ربّاتِ الحِجالْ، فما أقسى الفشل بعد العملْ، والخيبة بعد الأملْ، مالي أرى الناس يخسرون ولا يربحون، ويدخلون ولا يخرجون، أرضوا بالفتاتِ فأقاموا، أم تُركوا هناك فهاموا، يقسم قسٌّ قسماً لا إثم فيه أن للربح سوقاً هي أفضل من سوقكم التي تخوضون فيها خوض السكارى، وتخبطون خبط الحيارى، وأنكم لتلقون بأيديكم إلى التهلكة انتحارا.
قال سهم بن كنانة: وأطرق قسٌّ هنيهة، ثم رفع رأسه وعلى محيّاه غمامة حزن، وقال: وإن أنسَ لا أنسى ذلك السهم الذي اشتريته بحذرْ، فتمزق أمام ناظري شذر مذرْ, ثم هو أبى أن يثوب إلى رشدِه, ويعود إلى سالف عهدِه، ولقد صبرت عليه وفي العين قذى، وفي الحلق شجا، فخسف بي الأرضْ, وغصّت به قوائمُ العرضْ, ولمّا رأيته مندفعاً إلى حتفِه, متدحرجاً بخفِّه وظلفِه, كجلمودِ صخرٍ حطّه السيلُ من علِ, ألقيت حبله على غاربِه, ورميته في وجه مضاربِه, وما ضرّني, بل سرّني, ووالله إن الدنيا لا تساوي عندي لحظة طنزْ, ولا عفطة عنزْ، فآليتُ عليكم ألا تقربوا هذه السوق، وفيكم عينٌ ترمقْ, وقلبٌ يخفقْ. ثم أنشد:

في المفلسين الأولين من الأنام لنا بصائرْ
لما رأيتُ قوافلاً للبؤسِ ليس لها نظائرْ
ورأيتُ قومي نحوها تمضي الأوائلُ والأواخرْ
من فتيةٍ وكواعبٍ بيضٍ ومن أُسْدٍ قساورْ
يلقونَ فيها الفاجعاتِ كأنها ساحُ المجازرْ
وتسوقُهم للثّكل والتقتيل آلافُ البواترْ
لما رأيتُ مواكباً للفوز عادتْ بالخسائرْ
وجثتْ كما تجثو الشياهُ وحولها سكينُ ناحرْ
حفّتْ بها نُذُرُ الأسى واغرورقتْ منها المحاجرْ
لم ينجُ منها ذو الحصافة واكتوى منها المُحاذرْ
أيقنتُ أني لا محالة حيث صار القومُ صائرْ
ورأيت أن البيدَ أسلمُ من مُقام في حواضرْ
ففررتُ خوفاً مثلما فرّتْ من الصَّيد الجآذرْ
قال سهم بن كنانة: ودوّت عاصفة من التصفيق أدهشت قساً الذي لا يعرف هذه العادة. لكن أحد الحاضرين قطع استغرابه سائلاً: هل ابتلّت منك العروقْ، وربحت شيئاً من السوقْ, أم أنها أذاقتك الأمرّين، فخرجت منها بخفَّيْ حُنين؟
قال قس: بل لم أخرج حتى بخفْ, وتناولتني الأرجلُ والأكفْ, كم مرة عزمت على الفرارْ, واتخذت القرارَ تلو القرارْ, فتنازعني إليها نفسي, وأَحني للعاصفة رأسي, وأقبلُ عليها إقبال المقامرْ, وأجوب مفاوزَها جوب المغامر, وأمنّي نفسي منها بانبلاج صبحْ, واندمال جرحْ, وأقول: هذا هو القاعْ, وما أفلح من باعْ, والعاقلُ من عضّ بالنواجذ على سهمِه, وما نالت نوائبُ الزمان من حلمِه, بيد أني عرفت أني كالواقفِ على الرسومْ, الخابطِ على التخومْ, الدائرِ في مَحالْ, القابعِ في سَفالْ, فلم أر بداً من فرارْ، ورُبَّ نكسةِ أعقبها انتصارْ, ولا أقول ما قال امرىء القيس:
وقد طوّفتُ بالآفاقِ حتى
رضيتُ من الغنيمةِ بالإيابِ
بل أقول: رضيت ُ من الغنيمة بالعذابِ!
قال سهم بن كنانة: وسكت قس ملياً عن الكلام كعادته، وأخذ يعبث بلحيته البيضاء، فعلمت أنه يُعدّ شيئاً ذا بال، وقد صدق حدسي إذ أنشد:
خرجتُ من السوقِ صفرَ اليدينْ
كسيراً وظهري ينوءُ بدينْ
خرجتُ وخلّفتُ إرثَ الهموم
ورائي وتاريخَ بؤسٍ ومَينْ
خرجتُ ولاشيء آسى عليه
ولا شمسَ لا باحةً لا لجينْ
ولن يرجعَ الفارسُ المستباحُ
إلى عهدِه بعد هجرٍ وبَينْ
أيرجعُ حتى يسامَ الهوانَ
ويُلدغ أكثرَ من مرّتينْ
يميناً سيبقى يجوبُ الدنا
ويسعى بفكرٍ وقلبٍ وعينْ
وفي الأرضِ منأى عن الناهبين
وسوقٍ يُسيّرها كلُّ شينْ
سيبقى عزيزاً عصيَّ المنال
أبيّاً إلى أن يوافيه حَينْ
قال سهم بن كنانة: وكرر قس البيت الأخير بصوت متهدج, فانفجر الناسُ باكين وداعين الله بالفرج.
ثم إن قساً هم بالرحيل, فأحاط الناس به, متسابقين إلى عناقِه, ومظهرين الحسرة على فراقِه.
 قال له أحدهم: ويحك يا ابن ساعدة, كلنا مصابٌ في السوقْ, فعلام كلُّ هذا الضيقْ, أوما ترى الناسَ حولك شركاءْ, ما بين ولولةٍ وبكاءْ؟
وصاح آخر: ابق يا قسْ, فوالله ما أصاب سوقَنا إلا سحرٌ أو مسْ, وأمسك رجل بتلابيبه هاتفاً: أو يفر العربيُّ من الحربْ, وإن حمي الوطيسُ واشتد الكربْ, جرّدْ يا قسُّ لها سنانَك, وثبّتْ في معمعانِها جنانَك, وحاول بعضُهم دعوته إلى الطعام مقسماً بطلاق زوجته وفراق صحبته أن يقبل, لكن قساً أعرض عن الجميع, لاوياً عنان جمله الأورق, ومنغمساً في الزحام, ولم يره أحد بعد ذلك.

• @LoveLiberty

مقالات أحمد بن راشد بن سعيد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق