احتار الكثيرون في تفسير نزعة البعض نحو الانصياع لسلطة ما في حالات تبدو فيها هذه الطاعة تتناقض مع معتقداتهم الشخصية أو مخالفة لمبادئهم أو ضمائرهم، فيعزون ذلك تارة لقلة التعليم أو لطبيعتهم السادية أو لأشياء أخرى.
فعلى سبيل المثال: ما الذي يدفع طيارا -من درعا- في سلاح الجو التابع لجيش النظام السوري إلى قصف مدينته درعا -التي ولد بها ويعرف أهلها- بالبراميل المتفجرة وهو يعلم ويدرك أن براميله تطال أهله وأقاربه؟
وبالمثال أيضا: ما الذي يدفع شابا عراقيا إلى قتل بني وطنه وأقاربه بدم بارد بعد انضمامه لداعش؟ وما الذي يجعل جنديا أمريكا ولد فى بيئة ديموقراطية وحياة رغدة إلى تعذيب مسلمين -لمجرد أنهم مسلمون- فى سجون أبو غريب وجوانتناموا بهذه الدرجة من الوحشية؟
سؤال قريب من هذا طرح فى محاكمة واحد من المسؤولين عن قتل الآلاف من اليهود فى الحرب العالمية الثانية، وهو أدولف إيخمان رئيس جهاز البوليس السري “جستابو” فى نظام ألمانيا النازية، وكان رده: لقد كنت أنفذ الأوامر فقط وأنا غير مسؤول.
جواب ايخمان حفز عالما نفسيا شهيرا وهو ستانلي ملغرام إلى البحث حول مدى مسؤولية مرتكبي الجرائم المنتسبين إلى دول أو تنظيمات عن أفعالهم.
وتساءل: هل يعقل أن دور الجنود الذين نفذوا الهولوكوست لم يتعد تنفيذ الأوامر؟ هل يمكن أن يكونوا شركاء في الجريمة؟
للإجابة على هذا السؤال، قام ملغرام بدراسة لقياس مدى استعداد مجموعة ما إلى القيام بما يتناقض مع ضمائرهم إذا جائتهم الأوامر من سلطة أعلى، فبعد محاكمة ايخمان بوقت قصير وفي عام 1961 قام ملغرام بنشر إعلان يطلب فيه أفرادًا للمشاركة في دراسة تجريها ييل، نصَّ الإعلان على أن التجربة تستغرق ساعة واحدة مقابل 4.5 $ كان المشاركون رجالًا ما بين 20 ـ 50 عامًا ينتمون إلى مختلف المستويات الاجتماعية والثقافية، منهم من لم ينه تعليمه الثانوي، وآخرون أتموا الدكتوراه.
تم إقناع المشاركين بأنهم يشاركون في اختبار يهدف لقياس أثر العقاب في التعلم وهو أمر غير صحيح ـ فالتجربة في واقع الأمر تهدف إلى قياس مدى انصياع المشارك لأوامر المشرف، لكن إخفاء حقيقة الهدف ضروري لنجاح التجربة.
يقوم ملغرام بشرح التجربة للمشاركين وعددهم أربعون شخصا، حيث سيقوم المشاركون بدور المعلمين فيما يقوم آخر بدور الطالب وسيجلس كل واحد من المشاركين “المعلمين” فى غرفة بينما يجلس ممثل يقوم بدور طالب فى غرفة مجاورة ولا يشاهد أحدهما الآخر ويتواصلان عبر الكلام ويجلس ملغرام مع المشارك فى غرفة ويوجهه إلى سؤال الطالب عدة أسئلة وعندما يخطئ يقوم بعقابه بصعقه بجهاز كهربائي به أزرار بدرجات مختلفة.
يتم تعريض المشارك لصعقة كهربائية بشدة 45 فولت كنموذج للصدمة التي سيوجهها للمتعلم (الممثل) عندما يخطئ.
جلس (المشارك في غرفة أخرى) وأمامه على الطاولة جهاز الصدمات الكهربائية وله عدد من المفاتيح يشير كل منها إلى شدة محددة للتيار، تتدرج من 30 حتى 450 فولت.
يقدم المشرف للمشارك ورقة تحوي مجموعة من الكلمات المتقابلة وهي التي يجب على المتعلم أن يحفظها.
وتقتضي حيثيات الاختبار أن يقوم المعلم بقراءة الكلمات المتقابلة كلها، وعندما ينتهي من قراءتها، يعود ليقرأ الكلمة الأولى ويقدم أربعة احتمالات للكلمة المقابلة لها.
المتعلم (الممثل) سيقوم بضغط زر أمامه يمثل اختياره، فإذا أخطأ الاختيار فإن على (المشارك/ المعلم) أن يقول له بأنه أخطأ، ويخبره بشدة الصعقة التالية، ثم يضغط على الزر الخاص بالصعقة الكهربائية المناسبة، أما إذا كانت الإجابة صحيحة يقوم المعلم بقراءة الكلمة التالية وإعطاء الاحتمالات الأربعة لها. وهكذا حتى تنتهي القائمة، ثم يعيدها من البداية إلى أن يتمكن المتعلم من حفظ كل الكلمات.
المشاركون يظنون إذن بأنهم يوجهون صعقات كهربائية للمتعلم. لكن في واقع الأمر لم تكن هناك أي صعقات كهربائية، بل كان هناك تسجيل صوتي معد مسبقًا بصوت الممثل (المتعلم) يصدر فيه صرخات بالتناغم مع صوت الصعقات الكهربائية.
بعد عدة زيادات في شدة الصعقة يبدأ الممثل (المتعلم) بالضرب على الجدار الفاصل بينه وبين المشارك عدة مرات ويشتكي من الوضع الصحي لقلبه.
عند هذه النقطة عبّر عدد من المشاركين عن رغبتهم في وقف الاختبار وتفقد وضع المتعلم. كثير من المشاركين توقفوا عند الشدة 135 فولت مشككين في مغزى الاختبار.
آخرون استمروا بعد أن تلقوا تطمينات تعفيهم من أي مسؤولية. بعض المشاركين راحوا يضحكون بانفعال شديد لدى سماعهم صرخات الألم الصادرة عن الطالب (الممثل).
وبعد انتهاء الأربعين مشاركا من التجربة كانت النتائج صادمة حيث وصل 65% من المشاركين (27 من أصل 40) إلى الصعقة القصوى (450 فولت، رغم كون كثير منهم غير مرتاح لهذا الأمر.
كل واحد تقريبًا توقف لبرهة وأبدى شكوكًا تجاه الاختبار، حتى إن البعض عبر عن رغبته بإرجاع النقود.
لكن، لم يعلن أي مشارك قبل مستوى 300 فولت عن رغبة حاسمة في التوقف عن الاختبار.
تكررت تجربة ميلغرام في العديد من المجتمعات، وقد أسفرت عن نتائج مماثلة تقريبا لتلك التي ظهرت في الولايات المتحدة. وأفادت العديد من الدراسات ارتفاع معدلات الطاعة عن تلك التي ظهرت في عينات جامعة ييل. فعلى سبيل المثال، تم الإبلاغ عن معدلات الطاعة لأكثر من 80٪ بالنسبة للعينات من إيطاليا وألمانيا والنمسا وإسبانيا وهولندا .
توصل ملغرام إلى مجموعة من النتائج أهمها:
أن الطبيعة البشرية غير جديرة بالاعتماد عليها لتبعد الإنسان عن القسوة، والمعاملة اللاإنسانية، عندما تتلقى الأوامر من قبل سلطة فاسدة.
نسبة كبيرة من الناس مستعدون لتنفيذ ما يؤمرون دون أخذ طبيعة الأمر بعين الاعتبار، وبدون حدود يفرضها الضمير، مادامت الأوامر صادرة عن سلطة شرعية.
وقال ملغرام: “إذا تمكن في هذا الاختبار، مشرف مجهول، من أن يوجه الأوامر لمجموعة من البالغين لقهر رجل في الخمسين من عمره، وإخضاعه لصعقات كهربائية مؤلمة رغم احتجاجاته ومرضه لا يسعنا إلا أن نتساءل عما تستطيع الحكومات”.
ويضيف: “إن الأشخاص العاديين والذين وببساطة يؤدون أعمالهم ودون أي درجة من العدوانية يمكن أن يتحولوا إلى مساهمين فى عملية تدمير مرعبة وبالإضافة إلى أنه كلما توضحت التاثيرات المدمرة الناجمة عن أفعالهم والتي تتناقض مع القواعد الثابتة والأساسية للأخلاق فقد استمروا فى الطاعة قليلون هم من يملكون القدرة على رفض الانصياع للأوامر.
وبهذا يظهر هذا الاختبار أن الغالبية من البشر لديهم قابلية للتحول إلى معذبين وجلادين إذا توفرت لهم فرصة طاعة من هو أعلى منهم سلطة حتي لو كانت سلطة أدبية، وإن هذه السلطة قد تكون دولة أو جماعة أو تنظيما يستمد منه الفرد المشروعية لإيلام وربما لقتل غيره.
هذا الاختبار يفسر لنا إلى أي مدي يجب علينا ألا نلجأ لتفسيرات السادية وضعف التعليم وغيرها لتفسير عمليات التعذيب والقتل بدم بارد فى عالمنا، بل إنه علينا أن ننظر فى علم النفس لنحاول الكشف عن أسباب جديدة لدى البشر تدفعهم لارتكاب فظائع قد لا تتوافق مع طبيعتهم فى العادة.
المصادر:
•http://psychology.about.com/od/profilesmz/p/stanley-milgram-biography.htm
•http://psychology.about.com/od/socialinfluence/fl/What-Is-Obedience.htm
•http://www.simplypsychology.org/milgram.html
•http://www3.niu.edu/acad/psych/Millis/History/2003/stanley_milgram.htm
•ويكيبديا
•فيديو لاختبار ملغرام
https://www.youtube.com/watch?v=fCVlI-_4GZQ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق