هل نقرأ كل شيء؟
محمد الأحمري: تضلع من خير قول أهل طريقتك, حتى
إذا شطّ بك الموج في البحر, تذكرت جزرا تأوي إليها , وتنقذك من الغرق.
المصدر: كتاب مذكرات قارئ.
كنت أناصر هذه الفكرة في غرارة الصبا , ونفذتها زمنا ولم أبال , وهرّبت من الكتب الممنوعة ما استطعت , وأسررت كتبي على القريب والبعيد , ولمّا سمعت عن كتب عبدالله القصيمي بعد قراءة “الغربال” أو “الغربال الجديد” لميخائيل نعيمة , وحواره الساخر بالقصيمي قلت في نفسي : لم لا تقرأ له ؟ فحرصت على كتبه فلم أجدها عند أحد معارفي , ولا في الدول العربية التي لي فيها أصدقاء.
فلما سافرت للدراسة وجدت نفسي في مكتبة “جامعة ميشجن” التي جمعت “كل الكتب” , هذا وصف صحيح ؟ ربما يكاد .
وهناك صرفت وقت الدراسة لقراءة ما اتسع له يومي , فأذهب لها كل يوم بعد الدوام أو في الليل , وهي لا تغلق إلا في وقت متأخر جدا , في الثانية صباحا , فهي تفتح لمدة عشرين ساعة في اليوم , ويخرج منها القراء بالتهديد ! فما حال المكتبات في جامعتنا ؟! ليس هنا الحديث .
وكان مما تذكرت البحث عنه كتب القصيمي , فقرأت له , وعند لحظة معينة وهو يتكلم عن الأنبياء شعرت باشمئزاز شديد من كتاباته , ورأيته يسف إلى درجة غير معقولة في شتم الرسل والأنبياء , وأحسست أن هذه النفسية المستخفة الساخطة تعاني من مرض وليس من ثقافة ومعرفة ؛ فطريقته تمطيطية ثقيلة تستعين بتنويع الكلام وتكراره الممل في كتب كبيرة جدا , شعرت أنه يمتهن الإنسان , كل إنسان , وأنه يحتقر نفسه في صورة الآخرين , ويشكو إفلاسه بالزعم أن الآخرين أفلسوا .
رميت كتب هذا الثقيل المتخافف المغرور المتنفج غير راغب , ولكني بدأت أشك في القاعدة التي مشيت عليها , ولأنني نشأت في بيئة محافظة جدا وبين أصدقاء محافظين , كنت لا أخبرهم بقراءاتي البعيدة أو المخالفة لاهتماماتهم؛ خوفا من سخطهم , وبحثا عن الأصدقاء والبيئة الطيبة التي تحتاج لها.
ومر زمن حتى قال لي نبيه مثقف : كيف استطعت أن تقرأ تلك الكتب في تلك البيئة ؟ بل من دلّك عليها ؟ قلت : الكتب تجر بعضها بعضا , ويأتي الغيث مع السمين , وينبت الشوك على درب الحبل ( الكرم ) , من “أجل الورد نسقي العليق” .
ومر زمن طويل حتى كنت أقرأ “الاستقامة” لابن تيمية , وهو أرقى وأنضج ما كتب , وفيه بحث جميل عن القراءة , وهل يفتح الإنسان عينيه على كل شيء في طريق المعرفة ؟ كان يناقش القشيري في قوله في القشيرية : قَالَ أَبُو الْقَاسِم الْقشيرِي فِي بَاب السماع قَالَ الله تَعَالَى: { فبشر عبَادي الَّذين يَسْتَمِعُون القَوْل فيتبعون أحْسنه }
قَالَ أَبُو الْقَاسِم اللَّام فِي قَوْله القَوْل تَقْتَضِي التَّعْمِيم والاستغراق وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه مدحهم بأتباع الْأَحْسَن.
قلت [ أي ابن تيمية ] : وَهَذَا يذكرهُ طَائِفَة مِنْهُم أَبُو عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ وَغَيره وَهُوَ غلط بأتفاق الْأمة وأئمتها لوجوه .
أحدها : أَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَأْمر باستماع كل قَول بِإِجْمَاع الْمُسلمين حَتَّى يُقَال اللَّام للاستغراق والعموم , بل من القَوْل مَا يحرم استماعه وَمِنْه مَا يكره كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم :(من اسْتمع إِلَى حَدِيث قوم وهم لَهُ كَارِهُون صب فِي أُذُنَيْهِ الآنك -يعني الرصاص- يَوْم الْقِيَامَة ). , وَقد قَالَ تَعَالَى :{ وَإِذا رَأَيْت الَّذين يَخُوضُونَ فِي آيَاتنَا فَأَعْرض عَنْهُم حَتَّى يخوضوا فِي حَدِيث غَيره وَإِمَّا ينسينك الشَّيْطَان فَلَا تقعد بعد الذكرى مَعَ الْقَوْم الظَّالِمين وَمَا على الَّذين يَتَّقُونَ من حسابهم من شئ وَلَكِن ذكرى لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ }
فقد أَمر سُبْحَانَهُ بِالْإِعْرَاضِ عَن كَلَام الخائضين فِي آيَاته وَنهى عَن الْقعُود مَعَهم فَكيف يكون اسْتِمَاع كل قَول مَحْمُودًا , وَقَالَ تَعَالَى:{وَقد نزل عَلَيْكُم فِي الْكتاب أَن إِذا سَمِعْتُمْ آيا ت الله يكفر بهَا ويستهزئ بهَا فَلَا تقعدوا مَعَهم حَتَّى يخوضوا فِي حَدِيث غَيره إِنَّكُم إِذا مثلهم } فَجعل الله المستمع لهَذَا الحَدِيث مثل قَائِله فَكيف يمدح كل مستمع كل قَول , وَقَالَ تَعَالَى: { قد أَفْلح الْمُؤْمِنُونَ الَّذين هم فِي صلَاتهم خاشعون وَالَّذين هم عَن اللَّغْو معرضون } وَقَالَ تَعَالَى : { وَعباد الرَّحْمَن الَّذين يَمْشُونَ على الأَرْض هونا وَإِذا خاطبهم الجاهلون قَالُوا سَلاما إِلَى قَوْله وَإِذا مروا بِاللَّغْوِ مروا كراما }
وروى أَن ابْن مَسْعُود سمع صَوت لَهو فَأَعْرض عَنهُ , فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم :( إِن كَانَ ابْن مَسْعُود لكريما ) , فَإِذا كَانَ الله تَعَالَى قد مدح وَأثْنى عَليّ من أعرض عَن اللَّغْو وَمر بِهِ كَرِيمًا لم يستمعه كَيفَ يكون اسْتِمَاع كل قَول مدوحا.
وَقد قَالَ تَعَالَى :{ وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم إِن السّمع وَالْبَصَر والفؤاد كل أُولَئِكَ كَانَ عَنهُ مسئولا } فقد أخبر أَنه يسْأَل العَبْد عَن سَمعه وبصره وفؤاده وَنَهَاهُ أَن يَقُول مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ علم , وَإِذا كَانَ السّمع وَالْبَصَر والفؤاد كل ذَلِك منقسم إِلَى مَا يُؤمر بِهِ وَإِلَى مَا ينْهَى عَنهُ وَالْعَبْد مسئول عَن ذَلِك كُله كَيفَ يجوز أَن يُقَال كل قَول فِي الْعَالم كَانَ فَالْعَبْد مَحْمُود على استماعه , هَذَا بِمَنْزِلَة أَن يُقَال كل مرئي فِي الْعَالم فَالْعَبْد ممدوح على النّظر إِلَيْهِ .
وَلِهَذَا دخل الشَّيْطَان من هذَيْن الْبَابَيْنِ على كثير من النساك فتوسعوا فِي النّظر إِلَى الصُّور المنهى عَن النّظر إِلَيْهَا , وَفِي اسْتِمَاع الْأَقْوَال والأصوات الَّتِي نهوا عَن استماعها , وَلم يكتف الشَّيْطَان بذلك حَتَّى زين لَهُم أَن جعلُوا مَا نهوا عَنهُ عبَادَة وقربة وَطَاعَة ..” انتهى , [ الاستقامة 1/218 ] .
ونقل الشيخ أكرم ضياء العمري عن الذهبي قول الثوري :( من سمع ببدعة فلا يحكها لجلسائه , لا يلقها في قلوبهم ) , ثم عقب الذهبي :( أكثر أئمة السلف على هذا التحذير , يرون أن القلوب ضعيفة , والشّبه خطّافة ) , [ قيم المجتمع الإسلامي من منظور تاريخي , أكرم العمري 1/152 ].
وقد تتبعت بدعة نقد للقرآن ظهرت في أمريكا , وشهدت مقالها الأول وعجبت منه , وعلمت أن مقصود مشيعه أن يثير بلبلة في العقول والقلوب , وقد قدمها في سياق جذاب وخبر مهم وغلاف مجلة مخصصة لها , فاتصلت ببعض المجلات والهيئات الإسلامية راجيا منهم ألا يذكروا الخبر ولا يشيعوه ولا ينتقدوه , فالسكوت عنه إماتة له .
ومر نحو من ثمانية أعوان , وإذا بالمجلة نفسها تنشر نقدا للقرآن وللإسلام , ثم تقدم مشروعها بمقدمة يتعجب فيها كاتبها كيف أن أحدا لم يتابع المشروع النقدي الذي طرق من قبل -مشيرا للسابق- وعاد ليؤكد أن الإسلام بحاجة لتفكيك وشك ونقد وتمحيص , تنزله من القداسة لأرض الناس , وتجعله بجانبة بقية الكتب الدينية التي تنتقد كل يوم , وأبدى سخطه لأن الإشاعة والبدعة لم يحملها أحد للناس ولم تروج كما ينبغي !
وهكذا تجدون أن الرد أحيانا ينم عن جهل الراد , وضعف تبصره في طريقة التعامل مع الحوادث والبدع , فجزء كبير لا يريد إلا البحث عن نقد ورد , فنجاحه في استثارة الكلام عنه , وشيوع خبره , وإن كان محض كذب .
وقد وجدت فيه ترجمة الإمام أحمد عند الذهبي التالي :” قال أبو قلابة: لا تجالسوا أهل الأهواء -أو قال: أصحاب الخصومات- فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، ويلبسوا عليكم بعض ما تعرفون.
ودخل رجلان من أصحاب الأهواء على محمد بن سيرين، فقالا: يا أبا بكر، نحدثك بحديث؟
قال: لا. قالا: فنقرأ عليك آية؟
قال: لا، لتقومان عني ، أو لأقومنه , فقاما.
فقال بعض القوم: يا أبا بكر، وما عليك أن يقرأ عليك آية؟ … قال : خشيت أن يقرآ آية فيحرفانها، فيقر ذلك في قلبي “.
[ سير أعلام النبلاء 11/285 ] .
إن للنصوص والأفكار المشككة أثرا أبعد مما يتوقع الإنسان , وأنا لا أملك مصباحا واحدا يضيء جميع الطرق والزوايا أمامك , لتميز السهول الخضراء والأخرى المجدبة
وذلك لأسباب أهمها :
أن الناس يختلفون في مستوى القراءة والفهم , فربما قرأ هذا النص من بلغ معالي الأفكار , فحظر الأمور عليها عبث , مع إنه لا محالة واجد عقلا خيرا من عقله , وذكاء أنجب من ذكائه , وما تأملت الكتب إلا رأيت “عواصف للعقول” فوق المعقول , وربما قُرأ كلامي في الحث على التوسع من هو أبعد عن الموضوع , وأقل خبرة في المغامرة , فضّره قول هنا وهناك , وسمّ قلبه بسموم يصعب عليه شفاؤها , وقد لا يجد حاذقا يأخذ بيده في دروب آمنة .
ولعل من خير ما نقول هو : الحث على أن تتضلع من خير قول أهل طريقتك , حتى إذا شطّ بك الموج في البحر , تذكرت جزرا تأوي إليها , وتنقذك من الغرق , واعلم أن مدى الإنسان مهما بعد فهو قريب , وعقله مهما كبر فهو صغير , فكم من عبقري عاش في الخزعبلات !
واعلم أن الأفكار مصدر للشقاء , كما هي مصدر للسعادة , ففيها نوافذ للنور , وبها دروب شائكة للعتمة , ولها لذة كما لها ألم بيئس لا يرحم , ولا يتركك تخلو هانئ البال إلى وسادتك , ولكنها تفتق العقل فتخرجه لما هو أبعد من مداه , فإما أن تردّه مهديا راشدا , وإما أن تعود به مرهقا معذبا بما لا يطيق .
قراءة في مذكرات قارئ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق