فلسطين بين التعسف الغربي الأميركي والتخاذل العربي
منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 وإلى حين كتابة هذه السطور، تعمل الآلة الصهيونية تقتيلًا وتنكيلًا في أهل غزة بأحدث ما توصلت إليه أيدي البشر من آلات الفناء، وبمباركة من القوى الغربية، وخذلان من الجار ذي القربى والجار الجنب، وقد وصل ضحايا العدوان الإسرائيلي حتى اللحظة إلى أكثر من 43 ألفًا، معظمهم من النساء والأطفال، وبدعم واضح وصريح من القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية.
فبحسب تقرير لوكالة "سند"، التابعة لشبكة الجزيرة، تم رصد 6 آلاف رحلة عسكرية غربية دعمًا لإسرائيل، شملت نقل معدات عسكرية (من ضمنها القنابل التي تصبّ على رؤوس أطفال غزة)، واستطلاعًا جويًا، وتزويدًا بالوقود.. في الوقت ذاته الذي تعجز فيه الدول العربية عن توفير كوب من الحليب للقيام بأوَد رضيع في شمالي غزة.
الواقع العربي يظهر عجزًا واضحًا، ما يثير الكثير من التساؤلات حول الأسباب الكامنة وراء هذا الضعف الدبلوماسي العربي
الدعم المطلق والتغاضي عن المجزرة
يعتبر الدعم الغربي لإسرائيل أحد أبرز أوجه التحالف العضوي – ولا أقول الإستراتيجي- القائم بين الطرفين منذ منتصف القرن العشرين؛ ويتجلى هذا الدعم في مختلف المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية، ليعكس توجهًا ثابتًا في السياسة الغربية، وخصوصًا الأميركية تجاه منطقة الشرق الأوسط. فعلى الرغم من تعاقب الإدارات الأميركية، فإن موقف الولايات المتحدة الداعم لإسرائيل بقي دون تغيير.
يحدث هذا في وقت يمكن فيه للأنظمة العربية الغنية بمصادر الطاقة كالنفط والغاز الطبيعي أن تستخدم نفوذها كأداة ضغط؛ لتحقيق توازن أكبر في الموقف الأميركي، أو على الأقل لدفع أميركا إلى عرك أذن متنمرها الصغير في المنطقة (كما فعلت قبل الرد الإسرائيلي على الضربة الإيرانية)، إلا أن الواقع العربي يظهر عجزًا واضحًا في هذه السياسات، ما يثير الكثير من التساؤلات حول الأسباب الكامنة وراء هذا الضعف الدبلوماسي العربي.
ساندت الولايات المتحدة إسرائيل في المحافل الدولية، مستخدمة حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي ضد قرارات تنتقد السياسات الإسرائيلية، لا سيما تلك المتعلقة بالاستيطان وحقوق الفلسطينيين
جذور وتداعيات الدعم الأميركي
لا يمكن فصل الدعم الأميركي لإسرائيل عن التاريخ السياسي والإستراتيجي للعلاقات بين البلدين؛ فمنذ قيام الكيان عام 1948، مارست الولايات المتحدة دورًا بارزًا في تعزيز مكانته عسكريًا واقتصاديًا.
وقد تجسد هذا الدعم في شكل مساعدات عسكرية كبيرة، حيث تقدم واشنطن مساعدات مالية سنوية تتجاوز 3.8 مليارات دولار، ضمن اتفاقات تمتد لعقود من الزمن، كما زوّدت إسرائيل بأحدث التقنيات العسكرية والأسلحة المتطورة، الأمر الذي منحها تفوقًا عسكريًا على جيرانها العرب.
سياسيًا، ساندت الولايات المتحدة إسرائيل في المحافل الدولية، مستخدمة حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي ضد قرارات تنتقد السياسات الإسرائيلية، لا سيما تلك المتعلقة بالاستيطان وحقوق الفلسطينيين.
يُعزى هذا الدعم اللامحدود إلى عدة عوامل، منها التأثير القوي لجماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل في الولايات المتحدة، مثل لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (AIPAC)، بالإضافة إلى ما يعتبره البعض تحالفًا إستراتيجيًا يُبنى على قواسم ثقافية وتاريخية مشتركة بين البلدين، وقد قال أوباما: "نحن ندعم إسرائيل لأنها تشبهنا".
يمكن للدول العربية توسيع علاقاتها التجارية والاقتصادية مع الصين وروسيا، ما يمنحها مزيدًا من الخيارات في تنويع حلفائها، وإضعاف الاعتماد الاقتصادي المتبادل مع الولايات المتحدة
العجز العربي
في مقابل الدعم الغربي الأميركي اللانهائي لإسرائيل، تملك الدول العربية مجموعة من أدوات الضغط التي يمكن أن تستخدمها للضغط على السياسة الأميركية، والتأثير في موقفها تجاه القضية الفلسطينية، وموازنة دعمها المستمر لإسرائيل.
ومع ذلك، فإن مدى فاعلية هذه الأدوات يعتمد على الإرادة السياسية والتنظيم والتنسيق العربي المشترك. ومن أهم هذه الأدوات المتاحة، والتي تمكن أن تؤثر على الغرب الذي لا يفهم إلا لغة القوة والمصلحة.
- النفط و الغاز: تعتبر الدول العربية، خاصة دول الخليج، من أكبر مصدري النفط والغاز في العالم. في سبعينيات القرن الماضي، أثبتت أزمة النفط العربية عام 1973 أن استخدام النفط كأداة ضغط يمكن أن يؤثر بشكل كبير على الاقتصاد العالمي. ويمكن للدول العربية استغلال هذه القوة الاقتصادية للتأثير على السياسات الأميركية من خلال التهديد بتقليل الإنتاج، أو فرض حظر على تصدير النفط، أو تغيير وجهات التصدير نحو أسواق آسيوية وأوروبية بديلة.
كما يمكن أن تؤدي صادرات الغاز دورًا في إعادة توجيه السوق، أو فرض شروط سياسية تؤثر على سياسة الولايات المتحدة تجاه قضايا المنطقة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
- التحالفات الإستراتيجية والعسكرية: تعتمد الولايات المتحدة على عدد من القواعد العسكرية في دول الخليج لضمان نفوذها في المنطقة، ومواجهة أي تهديدات إقليمية؛ فيمكن للدول العربية الضغط على الولايات المتحدة من خلال إعادة تقييم هذه العلاقات العسكرية، أو فرض شروط جديدة تتعلق بالقضية الفلسطينية مقابل استمرار التعاون العسكري.
كما ترتبط الدول العربية مع الولايات المتحدة بشبكة من الاتفاقيات الأمنية والاستخباراتية، خاصة في مجال مكافحة الإرهاب.. يمكن توظيف هذا التعاون كوسيلة للضغط، حيث تعتمد الولايات المتحدة على الدول العربية للحصول على معلومات استخباراتية في الشرق الأوسط.
- السياسات التجارية والاقتصادية: تمتلك الدول العربية – وخاصة دول مجلس التعاون الخليجي – استثمارات ضخمة في الولايات المتحدة، سواء من خلال شراء الأصول أو الاستثمارات في السندات الأميركية. ويمكن أن تُستغل هذه الاستثمارات كوسيلة ضغط، إما من خلال تقليل الاستثمارات أو إعادة توجيهها نحو أسواق أخرى، للضغط على صانعي القرار في واشنطن.
كما يمكن للدول العربية توسيع علاقاتها التجارية والاقتصادية مع الصين وروسيا، ما يمنحها مزيدًا من الخيارات في تنويع حلفائها، وإضعاف الاعتماد الاقتصادي المتبادل مع الولايات المتحدة. وقد يشكل هذا تهديدًا للمصالح الأميركية في المنطقة، ويدفعها لإعادة النظر في موقفها من القضية الفلسطينية.
- التنسيق الدبلوماسي العربي لأخذ مواقف موحدة في المحافل الدولية: إذ يمكن للدول العربية أن تعتمد على كتلتها التصويتية الكبيرة في الأمم المتحدة، بما في ذلك الجمعية العامة ومجلس حقوق الإنسان، للتأثير في القرارات الدولية بشأن القضية الفلسطينية، وخلق جبهة موحدة تضغط على الولايات المتحدة.
يمكن كذلك تحقيق التقارب مع الدول الأوروبية، وهو ما يمكِّن الدول العربية من الضغط على الولايات المتحدة من خلال تحسين علاقاتها مع الدول الأوروبية، وتشجيع أوروبا على اتخاذ مواقف أكثر استقلالًا عن واشنطن فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. وهو ما قد يخلق توازنًا في السياسات الغربية تجاه إسرائيل، ويزيد من الضغط على الولايات المتحدة.
- التعامل مع القضية الفلسطينية كأداة للشرعية الإقليمية: تاريخيًا، كانت القضية الفلسطينية مركزية في الخطاب السياسي العربي، ويمكن للدول العربية استخدام هذا الملف لتحسين صورتها أمام شعوبها، خاصة في مواجهة أي محاولات للتطبيع مع إسرائيل، عبر وضع هذه القضية في صدارة أولوياتها. كما تستطيع الدول العربية حشد التأييد الشعبي الذي قد يشكل ضغطًا غير مباشر على الولايات المتحدة.
هناك كذلك التهديد بالتطبيع مع إيران.. فنظرًا لحساسية التوترات بين الولايات المتحدة وإيران، يمكن للدول العربية تهديد الولايات المتحدة بإمكانية تحسين علاقاتها مع إيران إذا استمرت واشنطن في دعمها غير المشروط لإسرائيل. حيث سيشكل هذا التحرك تهديدًا إستراتيجيًا للولايات المتحدة، التي تسعى للحد من نفوذ إيران في المنطقة.
على الدول العربية – إن كانت لديها الرغبة في استعادة الدور الفاعل والمؤثر – تبني إستراتيجيات متكاملة، تقوم على تنسيق المواقف وتوظيف مصادر القوة الاقتصادية والسياسية، بغية الضغط على الولايات المتحدة لتبني سياسات أكثر توازنًا تجاه المأساة الفلسطينية
وعلى الرغم من توفر هذه الأوراق، فإن فاعلية استخدامها مرهونة بالتنسيق بين الدول العربية، وقدرتها على تجاوز الخلافات الداخلية؛ حيث تحتاج هذه الدول إلى رؤية إستراتيجية متكاملة لمواجهة التحديات السياسية والاقتصادية، وتوحيد مواقفها في المحافل الدولية. فاستخدام هذه الأدوات بشكلٍ فعّال يمكن أن يشكل ضغطًا حقيقيًا على الولايات المتحدة، ويدفعها لإعادة النظر في موقفها الأحادي لصالح إسرائيل.
ويرجع هذا العجز إلى عدة عوامل، لعل أهمها اعتماد بعض الدول العربية على الأسواق الأميركية والأوروبية كمستوردين رئيسيين لنفطها، ما يجعلها غير راغبة في المخاطرة بقطع هذه العلاقة الاقتصادية الهامة. بالإضافة إلى ذلك يأتي تزايد الإنتاج الأميركي من النفط الصخري في السنوات الأخيرة، والذي ساهم في تقليل اعتماد الولايات المتحدة على النفط المستورد، ما قلل من قدرة الدول العربية على استخدام النفط كورقة ضغط فعّالة.
هناك كذلك الانقسامات السياسية بين الدول العربية نفسها، والتي تجعل من الصعب عليها تبني موقف موحد تجاه الولايات المتحدة، حيث تتباين مصالح هذه الدول وفق تحالفاتها الإقليمية والسياسية.
وقد أدت هذه العوامل مجتمعة إلى اختلال موازين القوى في المنطقة لصالح إسرائيل، ما انعكس سلبًا على القضية الفلسطينية، في ظل الدعم الأميركي المتواصل لإسرائيل، وغياب ضغوط فعلية من جانب الدول العربية، فاستمرت إسرائيل في سياساتها التوسعية والاستيطانية، وتجاهلت قرارات الأمم المتحدة التي تدين هذه الممارسات.
وبالتالي، أصبحت القضية الفلسطينية ضحية لصراعات إقليمية أوسع بين الدول العربية، ما جعلها تخسر الكثير من الزخم والدعم الدولي الذي كانت تحظى به في السابق.
ففي الوقت الذي كانت الدول العربية قادرة فيه على التأثير في السياسة الأميركية تجاه إسرائيل من خلال أوراق ضغط إستراتيجية، فإن الانقسام العربي والعجز عن اتخاذ مواقف موحدة أضعفا من قدرتها على التأثير في مسار القضية الفلسطينية، وخصوصًا بعد المجازر التي يرتكبها الكيان الصهيوني في غزة والضفة على مرأى ومسمع من العالم.
وبالتالي، فعلى الدول العربية – إن كانت لديها الرغبة في استعادة الدور الفاعل والمؤثر- تبني إستراتيجيات متكاملة، تقوم على تنسيق المواقف وتوظيف مصادر القوة الاقتصادية والسياسية؛ بغية الضغط على الولايات المتحدة لتبني سياسات أكثر توازنًا تجاه المأساة الفلسطينية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق