الأحد، 31 مارس 2024

ناشطة يهودية أمريكية: أيدي إدارة بايدن ملطخة بدماء غزة

 

ناشطة يهودية أمريكية: أيدي إدارة بايدن ملطخة بدماء غزة


إعداد 

فريق التحرير

ميديا بنجامين مؤسسة منظمة “كود بينك” المدنية المناهضة للحروب: ما يحدث في غزة “إبادة جماعية وتطهير عرقي ومجزرة وحتى هولوكوست”

ميديا بنجامين مؤسسة منظمة “كود بينك” المدنية المناهضة للحروب:
– ما يحدث في غزة “إبادة جماعية وتطهير عرقي ومجزرة وحتى هولوكوست”
– الكونغرس لا يزال يسعى إلى إرسال مساعدات جديدة لإسرائيل

قالت الناشطة اليهودية الأمريكية ميديا بنجامين، إن إدارة الرئيس جو بايدن وأعضاء الكونغرس أيديهم ملطخة بدماء سكان قطاع غزة.

وفي حديث للأناضول، أضافت بنجامين مؤسسة منظمة “كود بينك” المدنية المناهضة للحروب، أن التدمير الإسرائيلي في قطاع غزة “إبادة جماعية”.

وتابعت أن “الولايات المتحدة انخرطت في العديد من الحروب بالعراق وأفغانستان وأماكن أخرى عديدة منذ حرب فيتنام”.

وذكرت أن “الولايات المتحدة دولة قوية، ولم تتم محاسبتها على ما ارتكبت في العراق وأفغانستان وسجن أبو غريب بالعراق، وبوصفي مواطنة أمريكية أريد أن تتحمل حكومتي المسؤولية عن أفعالها”.

ووصفت بنجامين الأزمة الإنسانية في غزة والهجمات الإسرائيلية على القطاع بأنها “مرعبة”، معتبرة “ما يحدث في غزة إبادة جماعية وتطهيرا عرقيا ومجزرة وحتى هولوكوست”.

ولفتت إلى أن الكونغرس لا يزال يسعى إلى إرسال مساعدات جديدة لإسرائيل، وأن الإعلام الأمريكي “لا ينشر بصدق ما يحدث في غزة”.

وقالت: “أنا يهودية، وأعتقد أن لي الحق في أن يكون لي رأي في هذا الأمر، فهذا الوضع لا يساعد الشعب اليهودي ولا إسرائيل، ولا يساعد علاقات الولايات المتحدة مع المسلمين، ولا استقرار العالم بشكل عام”.

وطالبت بنجامين، الإدارة الأمريكية التي تواصل دعمها غير المشروط لإسرائيل، بـ”إيقاف المساعدات والأسلحة المرسلة لتل أبيب”.

وأردفت: “أقول لإدارة بايدن، عار عليكم ما فعلتموه حتى الآن (في غزة)، وألون يديّ بهذا اللون (أحمر الدم) يوميًا لأن أيدي هذه الإدارة وأعضاء الكونغرس ملطخة بالدماء، ونحن ندعو لتحقيق وقف إطلاق نار وألا ترسلوا مساعدات لإسرائيل”.

وشددت على أنه يجب ألا يسامح العالم الولايات المتحدة على ما فعلته في غزة، مشيرة إلى أن الناس هناك يموتون جوعًا، واصفة الوضع بـ”المفجع”.

وبينت أن الكونغرس لا يريد مساعدة سكان غزة، ويسمح بهذه المجاعة، مضيفة: “إدارة بايدن تقول: ’نحن نهتم بالناس في غزة ونقول لإسرائيل من فضلك لا تقتلي هذا العدد الكبير من الناس’، ولكن ما تفعله عكس ذلك تمامًا، والآن يحاولون إرسال 14 مليار دولار أخرى إلى إسرائيل لشراء قنابل لقتل المزيد”.

وفي ختام حديثها، خاطبت الناشطة اليهودية الإسرائيليين، قائلة: “ماذا يمكنكم أن تقولوا لحكومة (بنيامين) نتنياهو غير استقيلوا؟ ضعوا هذا الرجل (نتنياهو) في السجن وانقلوه إلى لاهاي (محكمة العدل الدولية)، جميعهم مجرمو حرب، لكن بصراحة لدينا مجرمو حرب خاصون بنا في الولايات المتحدة أيضًا”.

ودعت بنجامين المجتمع الدولي إلى “التوحد بشكل عاجل لفتح الحدود والموانئ لإيصال المساعدات الإنسانية إلى مدينة رفح والمناطق الأخرى من غزة”.

ومنذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، تشن إسرائيل حربا مدمرة على قطاع غزة خلفت عشرات الآلاف من الضحايا المدنيين معظمهم أطفال ونساء، فضلا عن كارثة إنسانية غير مسبوقة ودمار هائل بالبنية التحتية، الأمر الذي أدى إلى مثول تل أبيب أمام محكمة العدل الدولية بتهمة “الإبادة الجماعية”.

“الولايات المتحدة توافق على تزويد إسرائيل بمزيد من القنابل والطائرات الحربية”

قنابل “سيئة السمعة” وصفقة مقاتلات F35

واشنطن بوست: الولايات المتحدة ستزود إسرائيل بأكثر من 1800 قنبلة تزن كل منها نحو 900 كلغ و500 قنبلة تزن 100 كلغ

وافقت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن خلال الأيام الماضية “سراً” على إرسال قنابل ومقاتلات بمليارات الدولارات إلى إسرائيل، رغم ما ذكرته عن مخاوف حيال هجوم عسكري متوقع في مدينة رفح جنوب قطاع غزة، يهدد حياة مئات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين، فيما أشار مسؤول عسكري أميركي بارز إلى أن تل أبيب “لم تحصل على كل طلباتها” من الأسلحة.

وقال مسؤولون مطلعون في وزارتي الدفاع “البنتاجون” والخارجية الأميركيتين لصحيفة “واشنطن بوست” الأميركية إن مجموعات الأسلحة الجديدة تشمل أكثر من 1800 قنبلة MK84 زنة 2000 رطل، و500 قنبلة MK82 زنة 500 رطل.

وأشارت الصحيفة الأميركية إلى أن قنابل MK84 التي وافقت واشنطن على إرسالها ارتبطت بهجمات إسرائيلية، أسفرت عن وقوع عدد كبير من الضحايا خلال الحرب في غزة، منبهة أن المسؤولين الأميركيين تحدثوا إليها بشرط عدم الكشف عن هوياتهم، لأن التراخيص الأخيرة لم يتم الكشف عنها علناً.

وأوضحت الصحيفة أن القنابل زنة 2000 رطل قادرة على تدمير المباني، وإحداث حفر في الأرض قطرها 40 قدماً أو أكبر، وأنها لم تعد تُستخدم أبداً من قبل الجيوش الغربية في المواقع المكتظة بالسكان، بسبب خطر وقوع إصابات بين المدنيين.

صفقة مقاتلات F-35A

ولفتت الصحيفة إلى أن الخلاف العلني المتزايد لم يمنع بايدن من إرسال الأسلحة والمعدات العسكرية إلى الصراع، ونقلت عن مسؤولين أميركيين قولهم إن وزارة الخارجية الأميركية أقرت الأسبوع الماضي إرسال 25 مقاتلة طراز F-35A، ومحركات تبلغ قيمتها نحو 2.5 مليار دولار إلى إسرائيل.

وأوضحت “واشنطن بوست” أن وزارة الخارجية لم تكن بحاجة إلى تقديم إخطار جديد للمشرعين بشأن المقاتلات، بسبب موافقة الكونجرس على تزويد إسرائيل بهذا النوع من المقاتلات في عام 2008. وأقر الكونجرس أيضاً إرسال قنابل MK84 وMK82 قبل سنوات.

وتؤكد هذه الموافقات، بحسب الصحيفة، أن إدارة بايدن تعتبر عمليات نقل الأسلحة مسألة “غير قابلة للمساس” عند النظر في كيفية التأثير في أفعال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، رغم ظهور خلافات بين الولايات المتحدة وإسرائيل بشأن إدارة الأخيرة للحرب.

وقال مسؤول في البيت الأبيض للصحيفة: “نحن نواصل دعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. إقران المساعدات بشروط ليس من سياستنا”.

ويقول بعض الديمقراطيين، من بينهم حلفاء لبايدن، إن الحكومة الأميركية تتحمل مسؤولية الامتناع عن تزويد إسرائيل بالأسلحة إذا لم تلتزم بالحد من سقوط ضحايا في صفوف المدنيين في العملية المخطط لها في رفح، وتخفيف القيود المفروضة على دخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع الذي يقف على حافة المجاعة.

ويقول مسؤولون أميركيون وإسرائيليون إن هناك 4 كتائب تابعة لحركة “حماس” لا تزال موجودة في رفح التي نزح إليها أكثر من 1.2 مليون فلسطيني بعد إجبارهم على ترك منازلهم خلال حملة القصف واسعة النطاق التي شنتها إسرائيل خلال الأشهر الخمسة الماضية.

“حصانة من العقاب”

وتسرع الولايات المتحدة توصيل الدفاعات الجوية والذخائر إلى إسرائيل، لكن بعض الديمقراطيين ومجموعات الأميركيين ذوي الأصول العربية انتقدوا دعم إدارة بايدن الثابت لإسرائيل، والذي يقولون إنه يمنحها شعوراً “بالحصانة من العقاب”.

وقال بايدن إن غزو مدينة رفح الواقعة على طول حدود غزة مع مصر، يمثل “تجاوزاً لخط أحمر” بالنسبة له. وطلب الرئيس الأميركي من نتنياهو إرسال فريق من المسؤولين الأمنيين إلى واشنطن هذا الأسبوع لسماع مقترحات أميركية تحد من إراقة الدماء.

وأثار الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة، والذي أودى بحياة أكثر من 33 ألف فلسطيني، معارضة من داخل الحزب الديمقراطي الذي ينتمي إليه بايدن، ما دفع الآلاف إلى اختيار “غير ملتزم” في ورقة اقتراع الانتخابات التمهيدية التي أجراها الحزب مؤخراً لاختيار مرشحه للرئاسة.

“سيل أسلحة”

وذكرت صحيفة “واشنطن بوست” في تقرير منفصل، أن مسؤولين أميركيين أخطروا أعضاء بالكونجرس خلال جلسة سرية مؤخراً، أن الولايات المتحدة وافقت ووردت بشكل سري أكثر من 100 صفقة بيع عسكرية أجنبية منفصلة لإسرائيل منذ 7 أكتوبر، وصفته بأنه “سيل من الأسلحة”. 

وأشارت إلى أن هذا العدد، الذي لم يفصح عنه من قبل، يعد أحدث مؤشر على تورط واشنطن المكثف في الصراع المثير للخلاف المستمر منذ 5 أشهر، حتى في الوقت الذي يعرب فيه كبار المسؤولين والمشرعين الأميركيين بشكل متزايد عن تحفظاتهم العميقة بشأن التكتيكات العسكرية الإسرائيلية في الحرب، التي أودت بحياة أكثر من 30 ألف شخص، بحسب مسؤولي وزارة الصحة الفلسطينية في غزة.

ووفقاً للصحيفة، لم تُفصح الإدارة إلا عن اثنتين فقط من المبيعات العسكرية الأجنبية التي تمت الموافقة عليها، لإسرائيل منذ بداية الصراع؛ إحداهما ذخائر دبابات بقيمة 106 ملايين دولار، والأخرى مكونات لازمة لصنع قذائف عيار 155 ملم بقيمة 147.5 مليون دولار، وهذه المبيعات استدعت التدقيق العام، لأن إدارة بايدن تجاوزت الكونجرس للموافقة على الحزم من خلال اللجوء إلى سلطة الطوارئ.

رفع القضايا أمام “الجنائية الدولية

حضرة السيد كريم خان المحترم،

أكتب إليكم لطلب إصدار بيان علني فورا يوضح اختصاص “المحكمة الجنائية الدولية” فيما يتعلق بالأعمال العدائية الدائرة حاليا بين الجماعات الفلسطينية المسلحة وإسرائيل، بالإضافة إلى إجابات مكتبكم للإعلام.

ندرك أن مكتب المدعي العام، بحكم سياسية عامة، لم يعد يُصدر ما كان يُسمى بـ “تصريحات وقائية”. في الوقت نفسه، أحثكم على النظر ضمن جدول أعمال المحكمة في مسألة متى وكيف يمكن أن يكتسب صوت مكتب المدعي العام للمحكمة قيمة فريدة في المجال العام.

المخاطر المحدقة بالمدنيين خلال الأعمال العدائية الحالية كبيرة للغاية. مع أن أي بيان قد تصدرونه سيتطرّق إلى العموميات بدل أحداث معينة، من الواضح أن الأطراف المختلفة ارتكبت انتهاكات مروعة للقانون الإنساني الدولي ترقى إلى جرائم حرب.

من شأن بيانكم أن يذكر جميع الأطراف بالتحقيق المستمر الذي يجريه مكتبكم، وبواجباتهم بموجب القانون الجنائي الدولي والقانون الإنساني الدولي، وباختصاص المحكمة بحكم انضمام فلسطين إلى “نظام روما الأساسي”. من شأن بيانكم أيضا أن يشير إلى استعداد مكتبكم لتوسيع التحقيقات بحيث تشمل أي جرائم مزعومة تندرج ضمن هذا الاختصاص.

وبما يتخطى أي قيمة رادعة محتملة، نعتقد أيضا أن صوت المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية سيكون له وزنه في ضمان إدراج دعم العدالة في الاستجابات الدولية منذ اللحظات الأولى لاندلاع هذه الأعمال العدائية. من شأنه أيضا أن يذكّر جميع الحكومات بأهمية التأكيد على احترام القانون الإنساني الدولي في بياناتها العلنية المتعلقة بالنزاع. ندرك تماما صعوبة التوصل إلى توافق سياسي حول دعم المساءلة النزيهة، وفي الوقت نفسه ندرك أهمية هذا التوافق كي تحقق المحكمة العدالة. لطالما كانت البيانات العلنية لمكتبكم فعالة في حشد الدعم للدور المحوري الذي تضطلع به المحكمة الجنائية الدولية.

المساءلة عنصر أساسي في إنهاء القمع الذي يتغذى على الإفلات من العقاب وحلقات إراقة الدماء حول العالم. ضمان الاعتراف بالدور المحوري للمحكمة الجنائية الدولية يبعث برسالة مهمة ليس إلى الجناة المحتملين فقط، بل أيضا، وبشكل مهم، إلى الضحايا والناجين.

أخيرا، كما تعلمون بلا شك، وفي أماكن عديدة حول العالم، يُنظر إلى الإفلات من العقاب عن الانتهاكات الخطيرة المرتكبة في إطار النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني على مدى سنين على أنه دليل قاطع على ازدواجية المعايير فيما يخص العدالة الدولية. نؤمن بأن لمكتبكم دورا مهما يؤديه في هذا السياق.

نشكر اهتمامكم بهذه المسألة ونحن على استعداد لمناقشتها معكم في أي وقت تجدونه مناسبا.

عندما فاضت دموعي!

 

عندما فاضت دموعي!

لم تذرف عيناي دمعة واحدة منذ بداية حرب الإبادة الجماعية الصهيو-أميركية التي يتعرض لها قطاع غزة منذ حوالي ستة أشهر، رغم قسوة الألم وشدة الصدمة وفداحة التضحيات وبشاعة المعاناة التي يواجهها أهل غزة في كل لحظة من لحظات ليلهم ونهارهم. لم تذرف عيوني دمعة واحدة وهي تتابع هذه التفاصيل، ليس بلادة أو عدم اكتراث، وإنما لأن هذا الصمود الأسطوري لأهل غزة، رغم فداحة المعاناة وضخامة المصاب، لا تواسيه الدموع ولا تكفيه الزفرات، وإنما الإجلال والإكبار والدعم والمساندة والمشاركة بكل أنواعها.

النصر قادم لا محالة، ولكن كيف ومتى وأين، فهذا شأن الله سبحانه وتعالى، وما يدور في غزة لا يعني حركة "حماس" والشعب الفلسطيني فحسب، بل يعني العالم العربي والإسلامي وسائر الأمم التي ترزح تحت وطأة الظلم والاستعباد والفقر والصراعات والهيمنة والاستبداد والفقر والمرض والتمييز والإفساد.

الحرب في معية الله

أما لماذا انهمرت دموعي عند قراءة هذه الآية، فكانت فرحا واستبشارا بالمعنيين اللذين تجليا أمامي فجأة من معانيها التي لا يعترف بها أساطين السياسة؛ المعنى الأول: أن الله مطلع على تفاصيل الظلم الذي يتعرض له سكان قطاع غزة في هذا الحرب، وتفاصيل الألم الذي يعانونه، وتفاصيل الابتلاء الذي وقع عليهم في الأهل والمال والولد، ولكنه سبحانه يمحّصهم ويختبرهم ليعلم الصادق من المنافق، ويعلم الصابر من الجزع. يقول الله تعالى في سورة العنكبوت: ٣ (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)، ويقول عز وجل في سورة آل عمران: ١٤٢ (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)، والصابرون أكرمهم الله بالبشرى في قوله سبحانه في سورة البقرة: ١٥٥ (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ). والصابرون يوفيهم الله أجورهم بغير حساب، قال تعالى في سورة الزمر: ١٠ (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ).

هذه الآيات تنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعو إلى توحيد الله ويحارب الكفار والمشركين والمنافقين، ولكن عندما نقرأها في ضوء ما يدور في غزة، نشعر وكأنها نزلت في أهل غزة، انظر إلى قوله تعالى في سورة الأحزاب: ١٠ (إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)، وقد نزلت في معركة الخندق، في العام الخامس للهجرة، وقد ظن بعض المسلمين كل ظن بأن الدائرة على المؤمنين، وظهر النفاق حتى قال بعضهم: كان محمد -صلى الله عليه وسلم- يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر بينما أحدنا لا يقدر على أن يذهب إلى الغائط، أما الصادقون من المؤمنين فأيقنوا أن وعد الله حق، وأن رسوله حق، وأنه سيظهر على الدين كله.

في معركة الخندق؛ ظن بعض المسلمين كل ظن، وظهر النفاق، حتى قال بعضهم: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر بينما أحدنا لا يقدر على أن يذهب إلى الغائط. أما الصادقون من المؤمنين فأيقنوا أن وعد الله حق، وأن رسوله حق، وأنه سيظهر على الدين كله.

النصر قادم

أما المعنى الثاني الذي استوقفني: فهو أن الله قادر على نصر المؤمنين وكف هذا الظلم عنهم، وقادر على هزيمة أعدائهم. نعم إن الله قادر على نصر أهل غزة وإيقاف هذه الحرب منذ أول يوم، ولكنه يدبر الأمر لهذا الكون وما فيه من أمم وخلائق، على مر الأزمان والعصور، فالنصر قادم لا محالة، ولكن كيف ومتى وأين، فهذا شأنه سبحانه العزيز الحكيم، وما يدور في غزة لا يعني حركة "حماس" والشعب الفلسطيني فحسب، بل يعني العالم العربي والإسلامي وسائر الأمم التي ترزح تحت وطأة الظلم والاستعباد والفقر والصراعات والهيمنة والاستبداد والفقر والمرض والتمييز والإفساد. ولا ندري لعل الله تعالى اختار غزة وأهلها في هذا المكان وهذا الزمان لأمر كبير قادم لا يعلمه إلا هو سبحانه القائل في سورة البقرة: ٢٥١ (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)، وقد ختم الله تعالى الآية بقوله (ذو فضل على العالمين) وليس على المؤمنين فحسب، وقد نقل الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية، عن الإمام الثعلبي قوله "وقال سائر المفسرين: ولولا دفاع الله المؤمنين الأبرار عن الفجار والكفار لفسدت الأرض، أي هلكت" وذكر الثعلبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن الله يدفع العذاب بمن يصلي من أمتي عمن لا يصلي وبمن يزكي عمن لا يزكي وبمن يصوم عمن لا يصوم وبمن يحج عمن لا يحج وبمن يجاهد عمن لا يجاهد، ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء ما أنظرهم الله طرفة عين، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض}. إنه الدفع الذي يميز الله به الخبيث من الطيب، ويدفع به الظلم ويقيم العدل، ويتحقق به التوازن الذي يفسح المجال للبشرية أن تجد طريقها إلى الله.

وقد يظن ظان أن تمحيص الله بهذه الحرب الجائرة في قطاع غزة، إنما هو لأهلها فحسب، وهذا ظن قاصر، فالتمحيص الإلهي في حرب غزة يتسع ليشمل جميع الفلسطينيين والعرب والمسلمين على وجه الخصوص، على المستويين الرسمي والشعبي في كافة قطاعاتهم ومجالاتهم ومستوياتهم، وربما يتسع ليشمل الأمم غير المسلمة التي تخلط الأخلاق بالرذائل، والعدل بالمظالم، والحقوق بالانتهاكات، والحرية بالاستعباد، والسلام والاستقرار بالقتل والاضطرابات.

إن العالم كله بعربه عجمه، بمسلميه وغير مسلميه، يتألم لما يجري في قطاع غزة من حرب إبادة جماعية جائرة، يقودها التحالف الصهيو-أميركي

إن استحضار معية الله سبحانه مع أهل غزة، وهو العليم الخبير المهيمن العزيز الجبار المتكبر، يجعلنا لا نعتمد على حسابات البشر فحسب، وإنما على حكمة العزيز القدير، وما قدره من مقادير وصرفه من أحوال لأمر الكون وما فيه من خلائق حتى آخر الزمان، كما يجعلنا في حالة استبشار دائمة بوعد الله بالنصر القادم.

في أروقة رمضان - 21 رمضان

                
في أروقة رمضان - 21 رمضان

  











غزة: قراءة ديمقراطية

 غزة: قراءة ديمقراطية

د. منصف المرزوقي


كلنا واعون بأن السابع من أكتوبر/تشرين الأول نقطة تحوّل في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وفي تاريخ كل الإقليم، وربما حتى في تاريخ العالم.

حدث كهذا الذي يسيل فيه إلى اليوم كمّ هائل من دم الشهداء يُسيّل أيضًا كمًّا هائلًا من الحبر، وهذه مجرّد بداية.

فتُجاه الملحمة- المأساة التي تعيشها غزة منذ ستة أشهر- هناك "قراءة" القلب، ونحن نشاهد الخراب والتقتيل العشوائي والتجويع المجرم. إنها المشاعر التي نعيشها كل يوم: الحزن أمام كل هذا التسونامي من الآلام، والغضب أمام تخاذل العرب – حكومات وشعوبًا- وعجز المنظومة الدولية عن إيقاف المجزرة، والفخر والاعتزاز أمام بطولة الشعب الذي لا يُقهر.

كل هذه المشاعر ستنعكس على رؤيتنا لهذه الحرب. علمًا أن لهذه الأخيرة قراءات متعددة، يجب أن تكون حاضرة في أذهاننا حتى لا تحجب الشجرة عنا الغابة.

ذكاء فلسطيني

إنها وجهات نظر مختلفة لكنها متكاملة منها:

  • القراءة المخابراتية: أتصور أن كل مخابرات العالم تسخر اليوم من المخابرات الإسرائيلية التي أوهمت العالم – وخاصة أوهمت نفسها- أنّها تعرف كل شيء. ولا شك أن هذه الأخيرة ستحاول بكل الوسائل ترميم صورتها عبر مزيد الاغتيالات مثلًا. لكن كأس الزجاج إذا تهشّمت من المستحيل ترميمها. ولا شك أن بقية الوكالات العالمية بصدد دراسة معمّقة للذكاء الفلسطيني، وكيف تغلّب على ما كان يفترض أنه قمة الدهاء والمكر، وأي دروس يجب استخلاصها لتحيين مفاهيمها وتنظيمها.
  • القراءة العسكرية : أكيد أن مراكز التخطيط الإستراتيجي في الكثير من الدول عاكفة على مراجعة عقيدتها القتالية، وقد أظهر "طوفان الأقصى" قدرة مجموعة قتاليّة صغيرة على تمريغ أنف دولة نووية في التراب، وما الدروس التي يجب استخلاصُها في هذا الميدان أيضًا.
  • القراءة السياسية الإستراتيجية: إذا اعتبرنا أن الصراع الأميركي الصيني، تحديدًا، والصراع الغربي الروسي الصيني عمومًا محور الصراع العالمي اليوم، فلا شك أن كبار المحللين بصدد تقييم الضرر الفادح الذي لحق بالغرب؛ نتيجة دعمه الأعمى للعدوان الإسرائيلي وعجزه عن إيقافه، وكيف أنه بصدد فقدان معركة عقول وقلوب ملايين العرب والمسلمين لصالح الثنائي الروسي الصيني، الذي يعدّ أكبر منتصر في هذه الحرب؛ نتيجة موقفه من هذا العدوان.
  • القراءة التاريخية: لا شك أن هناك ما قبل "طوفان الأقصى" وما بعده، وأن المؤرخين بصدد إعداد أطروحات حول هذه اللحظة المفصلية من تاريخ الصراع بين الصهيونية والأمة العربية.

ثمة قراءات عديدة أخرى، كقراءة المتشددين وعودتهم لنظرية صراع الحضارات، أو القراءة الاقتصادية للبحث في تبعات الحرب بعد اتّضاح هشاشة الطرق التجارية.

أضف إلى ذلك القراءة الأدبية، حيث لا شك أنّ كمًّا كبيرًا من الإبداع الشعري والروائي والفكري، سينتج عن كل الألم الذي يعيشه الشعب الذي لا يُقهر، وكل محبّيه من أبناء وبنات الأمة المقهورة.

ما أُريد عرضه في هذه المقالة قراءة ديمقراطي مزمن وغير تائب للملحمة المأساة.

والأمر ليس مرتبطًا بهموم باحثٍ في العلوم السياسية، وإنما بهموم الرجل السياسي المؤمن – ربّما عن حق وربما عن خطأ- بأنّ أحد أسباب كوارث شعوبنا فشلها في بناء نظام سياسي مستقر وفعّال وأقلّ الأنظمة سوءًا؛ أي النظام الديمقراطي، ومنخرط منذ عقود في النضال من أجل هذا النظام، ومهووس بسؤال مهم: هل السابع من أكتوبر/تشرين الأول الضربة القاضية لحلم ولمشروع يترنّحان منذ انتصار الاستبداد على الثورات الديمقراطية السلمية التي سُمّيت الربيع العربي؟.

السؤال داخل السؤال: ما الذي تُعلّمنا الأحداث التي نعيش عن الديمقراطية، وحتى ما هي درجة مسؤوليتها فيما يجري تحت أعيننا؟

لاعبون أساسيون

للتعامل مع الإشكالية يجب استعراض وضع الديمقراطية بالنسبة للاعبين الأساسيّين؛ أي اللاعب الإسرائيلي والفلسطيني والعربي (المصري تحديدًا)، والغربي (الأميركي أساسًا).

بخصوص اللاعب الأول، يجب التذكير بأن إسرائيل محكومة بأغرب نظام سياسي في العالم. حيث تعيش تحت ثلاثة أنظمة سياسية من المفروض استحالة الجمع بينها.

هي دولة تحكمها ديمقراطية ليبرالية غربية كلاسيكية كالموجودة في بريطانيا أو أميركا، لكن لليهود فقط.

هي دولة تعيش تحت نظام أبارتايد واضح وصريح، إذ تعرّف نفسها كدولة لليهود. أي أن غير اليهود- وهم ربع السكان- مواطنون من درجة ثانية. تصور أميركا تُشرّع بكامل الوضوح أنّها دولة للبيض أساسًا، وفرنسا أنها دولة للمسيحيين قبل كل شيء.

هي أيضًا دولة استعمارية، كما يدلّ على ذلك احتلالها الضفةَ رغم أنف القانون الدولي، ودولة استبدادية، كما تدلّ على ذلك سياسة القتل والسجن، ونزع الأراضي خارج كل قانون إلا قانون القوة.

أي ديمقراطية هذه التي تضمن لمواطني الدرجة الأولى حقوقهم وحرّياتهم، بينما تحمي وتموّل احتلال شعب آخر؟!. نحن أمام ديمقراطية عرجاء، حيث لا وجود لنظام ديمقراطي حقيقي دون قيمه الأساسية: مساواة كل السكان مع نفس الحماية القانونية والحرية للجميع.

لكن مأزق الديمقراطية في إسرائيل ليس فقط ضربها للقيم الأساسية للديمقراطية. هو أيضًا إجرائي نتيجة آلية التصويت بالنسبية في الانتخابات البرلمانية. هذا النظام الانتخابي الذي يبدو ذروة الديمقراطية هو في الواقع مقتلها. أينما جُرّب إلّا وكانت النتيجة إمّا عدم استقرار سياسي، وإمّا تحكّم الأقلية في الأغلبية، حيث لا تُشكّل الحكومات إلا بصعوبة.

ويمكن للأحزاب الصغرى والهامشية أن تبتزّ الأحزاب الكبرى لفرض سياساتها. هذا بالضبط ما يحدث اليوم، حيث لا يُفهم تواصل الحرب دون فهم دور النظام الانتخابي في إسرائيل الذي جاء بأمثال بن غفير وسموتريتش القادرين على فرض أجندتهما المتطرّفة، ومواصلة الحرب في غزة والاستيطان في الضفة.

هكذا يمكن القول؛ إنّ طبيعة الديمقراطية الإسرائيلية  – بتنكرها للقيم الأساسية للديمقراطية ونظامها الانتخابي الذي يمكّن الأقلية من فرض رأيها على الأغلبية – هي سبب من أسباب مأساة غزة خاصة أنّها بعد الرفض الواضح والصريح لحلّ الدولتين، لا تضع أمام كامل المنطقة إلا الخيار بين الحرب الدائمة والحرب الأزلية.

فشل الدمقرطة العربية

ماذا الآن عن اللاعب العربي والمصري تحديدًا؟

كلّنا نعرف أن المعابر كانت مفتوحة سنة حكم الرئيس الشهيد محمد مرسي، وأنّه لو تواصل في الحكم لما وصل الضغط مستواه الرهيب والذي أدّى للحروب المتلاحقة، ومنها الحرب الأخيرة.

كلنا نعرف أن النظام المصري هو من يستطيع أن يرفع الحصار عن غزة ولم يفعل منذ صيف 2013 إلى اليوم.
هل كانت إسرائيل تجرؤ على أن تفعل بالفلسطينيين ما تفعله، لو كان هناك اليوم نظام ديمقراطي في مصر، ودعْنا نحلم، في أغلب بلدان المنطقة؟

هل كانت مثل هذه الأنظمة الديمقراطية المتخَيّلة قادرة على أن تُطبّع وتُحاصر وتفتح المعابر البرية لإسرائيل بعد غلق البحر الأحمر أمام سفنها، والحال أن الأغلبية الساحقة للشعوب ترفض مثل هذه السياسات؟

بديهي أن هذه الحرب هي نتيجة فشل الدمقرطة العربية ومن تبعات تصفية الربيع العربي، وأنها جزء من الفاتورة الرهيبة التي دفعها الشعب في سوريا وليبيا واليمن والسودان.

نأتي للفاعل الأميركي

كم غريبٍ أن يركّز الخطاب الغربي والأميركي؛ لتبرير الدعم الأعمى لإسرائيل، على حجة حق دولة نووية تملك أحد أقوى جيوش العالم في الدفاع عن نفسها، ولا حديث عن حق شعب محتل في الدفاع عن نفسه، ممّا يعني أن عليه قبول الحصار في غزة والاستيطان في الضفة والأبارتايد داخل حدود 1948، وإلا فإنه يوصم بالإرهاب ومعاداة السامية.

يبقى أن نتساءل: كيف يمكن للدولة الديمقراطية الأولى، تقديم كل هذا الدعم اللامشروط لدولة مارقة تتحدى كل الأعراف والقوانين الدولية، وترتكب كل يوم مجازر يندى لها الجبين، وملاحَقة أمام محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية؟

بطبيعة الحال ثمة أسباب عديدة لهذا الدعم، لكن السبب الأهم في قضية الحال ما يؤكده المحلل السياسي الأميركي "فنكلشتاين"، وهو يهودي، عندما يقول؛ إن مشكلة بايدن هي خوفه من فقدان المموّلين اليهود لحملته الانتخابية، ودعمه غير المشروط؛ بحثًا عن هذا الدعم.

نحن هنا أمام إشكالية عامة تعاني منها الديمقراطية في كل مكان، ألا وهي ارتهانها للمال والإعلام واللوبيات، وقدرة هذه القوى على ابتزازها.

أخيرًا وليس آخرًا اللاعب الفلسطيني

كعلماني حقوقي ديمقراطي لم أؤمن يومًا بأن الإسلام (السياسي) هو الحل. لكنني قلت دومًا لأصدقائي العلمانيين في الجزائر، وتونس، ومصر، وفلسطين، إذا قرّر الصندوق إعطاء السلطة للإسلاميين اُتركوهم يحكمون، فنحن من ربحناهم للديمقراطية، وليس هم الذين ربحونا للإسلام السياسي. إذا نجحوا فنجاحهم للوطن كله وإذا فشلوا فسيرحل بهم الصندوق الذي أتى بهم، وإذا رفضوا الانصياع لقواعد اللعبة التي أتت بهم للحكم، فهناك المقاومة المدنية.

وضع بائس

للأسف جزء من العلمانيين- الذين أعرف – مثل فريق كرة قدم مستعد أن يلعب شريطة أن يربح، وإلا فهو لا يعترف بالقواعد التي دخل على أساسها اللعبة. بل يمكن القول؛ إن خشيتهم من نجاح الإسلاميين كانت أقوى حتى من الأمل في فشلهم، ومن ثمة إستراتيجيتهم الانتحارية التي أدّت بهم للالتحاق بالاستبداد لينكل بهم تنكيله بالإسلاميين.

تصوروا لو قبل عباس بانتصار حماس، وتركها تحكم، هل كانت إسرائيل تستفرد بالضفة وبحماس لتروّض الأولى وتصفّي الثانية؟

عذابات أهلنا في غزة اليوم هي أيضًا نتيجة فشل الديمقراطية الفلسطينية.

من هذه القراءة السريعة، يمكننا أن نستنتج أن للديمقراطية دورًا مركزيًا في مأساة غزة، وإن بآليات ومداخل مختلفة، سواء بإجهاضها في مصر، وقتلها في رام الله، وإفسادها في إسرائيل، وابتزازها في أميركا.

السؤال الآن: ما تأثير الحرب على الديمقراطية وهي في مثل هذا الوضع البائس؟

لم يخطئ السناتور الأميركي برني ساندرز، وهو يهودي، بالقول؛ إن إسرائيل تتجه أكثر فأكثر لتكون دولة أصولية دينية، مما يعني أن حتى الديمقراطية العرجاء في إسرائيل قد تنتهي، ومعها تنتهي أسطورة واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط انتهاء أسطورة الجيش الذي لا يقهر، والموساد الذي يحصي دبيب النمل على سطح المريخ.

الثابت أيضًا أن هذه الحرب تضيف لمصاعب الديمقراطية في عملية الانتشار والتمكن في الوطن العربي. ما لا يبدو أن الإدارة الأميركية أخذته بالحسبان، هو أن موقفها المساند للعدوان الإسرائيلي يساهم في إضعاف حظوظ الدمقرطة في العالم العربي – هذا إذا اعتبرنا أن الأمر جزء من إستراتيجيتها – لأن الديمقراطية ما زالت في أذهان أغلب العرب مرتبطة بالغرب، ومن ثمة فكل ضرب لمصداقية الغرب هو ضرب لمصداقية الديمقراطية. مما يعني أن سياسة الانحياز الأعمى لإسرائيل هي على الأمد المتوسط والبعيد أحسن هدية لانتشار النموذج الروسي أو الصيني للحكم، وضربة لما تريده أميركا من تصدير ما تراه جزءًا من قوّتها؛ أي النظام الديمقراطي.

هل يعني هذا أن هذه الحرب أنهت بالضربة القاضية كل حلم ديمقراطي بجعل الخيار الصيني الروسي أكثر إغراءً للأجيال العربية الجديدة، ناهيك عن اقتناعها بأنه لا جدوى إلا للمقاومة المسلحة والقدوة حماس؟

انهيار الاستبداد

كل هذا ممكن، لكنْ ثمة شعاع نور في كل هذا الظلام. من جهة هناك الفشل الواضح للثورة المضادة في كل بلدان الربيع العربي وانهيار صورة الاستبداد؛ نتيجة جبنه وتقاعسه أمام مأساة غزة، مما يعني أن الحراك الثوري عائد إلى الساحة قريبًا بحفيظة أقوى ضد أنظمة يمكن القول فيها: "أسد عليّ وفي الحروب نعامة".

هناك الشارع الغربي الذي يعج بالمتظاهرين ولا عنصريَّ فاشيًّا بينهم، وإنما كلهم من الديمقراطيين، وبينهم كثير من اليهود الذين لا يشترون البضاعة الكاذبة: معاداة الصهيونية هي معاداة السامية.

إن أكبر نصير لغزة اليوم هي القوى الديمقراطية في الغرب التي تتظاهر منذ أشهر في الشوارع، وفي كبرى الجامعات الأميركية والأوروبية، وهذا أمر له دلالات هامة، إذ يدلّ على أن الديمقراطية ليست مجرد آليات لتسيير الانتقال السلمي للسلطة، وإنما هي قيم إنسانية مشتركة وعميقة تمنع تحول الصراع بين دولة محتلة وشعب محتل إلى معركة عنصرية أو دينية تزيد الطين بلة، وتغطي على الجوهر الحقيقي للنزاع.

الاستنتاج الأهم الذي يجب أن نسعى لغرسه أنّه إذا أردنا ألا تتكرّر مآسينا، فيجب أن يكون لنا ديمقراطية غير فاسدة، غير قابلة للابتزاز لها آليات لا تنقلب أدوات قتلها. ويوم يكون لنا مثل هذه الديمقراطية التي تجعل منا شعوبًا من المواطنين لا شعوبًا من الرعايا، ويوم نستطيع أن نبني دولًا ديمقراطية تستطيع أن تبني بينها اتحادًا كالاتحاد الأوروبي، فلن تكون لنا غزة أخرى، ولن تصرخ امرأة في أي شبر من الوطن العربي إلا وهُرع لنجدتها ألف معتصم.

ليُسمح لي بأن أختم هذه المقالة ببعض الذكريات الشخصية.

في يونيو/حزيران 2012 حال وصول الرئيس الشهيد محمد مرسي لسدّة الرئاسة، قلت الآن يمكنني أحقّق حلمي بزيارة غزة كرئيس لتونس، لكن مستشاريّ تصدّوا كلّهم للفكرة؛ لأن زيارة غزة وحدها قد تُغضب رام الله، وقد تُدخلنا في صراعات داخلية كنا نريد نهايتها لا تغذيتها. أما الجمع بالذهاب أيضًا لرام الله فقد كان غير وارد لضرورة المرور بالإسرائيليين.

هكذا تخليت عن الفكرة بكثير من الحسرة.

وفي صيف 2015 قرّرت كمواطن المغامرة بركوب "سفينة الحرية" السويدية التي كانت تحمل ثلّة من النشطاء لمحاولة كسر الحصار. وفي عرض البحر ليلًا وفي مشهد هوليودي هاجمتنا فرقة كوماندوز وقادتنا من الغد لميناء أسدود، ومنه أخذتني سيارة لمطار تل أبيب ليركبوني أول طائرة متجهة لباريس.

ها أنا أكثر من أي وقت مضى بشوق إلى غزة، أحلم بألا يوافيني الأجل المحتوم قبل أن أقبّل ثراها، وأن أترحّم على شهدائها، وأن أعود مرضاها ومعاقيها، وأن أطلب صفحها عن تخاذل أمّة ما زالت تعاني من صدمة كل الإخفاقات، وأن أشكرها على أنّها رفعت رؤوسنا، وأنّها أكثر من أي وقت مضى رمز كل المفاخر وقدوة الأجيال.

ما بعد الحرب في السودان.. اليابان نموذجًا

 

ما بعد الحرب في السودان.. اليابان نموذجًا

خسائر وأرقام صادمة

وفقًا لإحصائية وزارة المالية، فقد بلغت الخسائر الاقتصادية جراء الحرب 26 مليار دولار، وهي إحصائية أولية غير دقيقة، أضاف إليها عضو مجلس السيادة الفريق إبراهيم جابر أرقامًا صادمة، عندما ذكر أنّ المؤسسات العامة والحكومية تعرضت لدمار قد تفوق إعادة إعماره 150 مليار دولار- يا للهول- فتلك الخسائر قابلة للزيادة، وهي فاتورة مبدئية لنحو عام واحد فقط من القتال!

هذه الأرقام، لم تشمل – بطبيعة الحال – الأضرار التي لحقت بالقطاع الخاص، وبالسواد الأعظم من الناس العاديين، ضحايا الحرب، الذين فقدوا بيوتهم ومقتنياتهم وأهلهم ومصادر رزقهم، لكن الفاجعة الكبرى – مما يصعب رتقه – هي النسيج الاجتماعي الممزق، الذي سيعاني منه جيل آخر، على الأقل، ومأزق الهويات القاتلة، مما تولد عن جدلية صراع المركز والهامش، التي عبَرَت موائد النخبة السياسية والعسكرية، إلى الجنود البسطاء الذين باتوا يلوحون بمطالب اقتسام السلطة والثروة فوق أفواه البنادق، ويتحدثون عن المظالم التاريخية.

الإوزّ الطائر

ولعل من المؤسف القول؛ إن الحرب نقلت السودان نقلة خطيرة، من رصيف الدول النامية إلى غرفة الإنعاش، وأصبح اليوم كما لو أنه رجل أفريقيا المريض، دون مبالغة في الوصف، بعد أن كان مرشحًا ليكون سلّة غذاء العالم، وهي ردة لا نظير لها في التجارب المعاصرة، مما يتطلب كضرورة حاسمة، ثورة إصلاحيّة عميقة الجذور، أسوة بالتي حدثت في اليابان، إذ إن العالم كله يمضي للأمام، بخطى وئيدة، أو على طريقة نظرية الإوزّ الطائر، وهي التي تقوم بتصوير عملية النمو الاقتصادي في دول شرق آسيا، وتأتي اليابان في مقدمة ذلك السرب.

ولعلّ الاقتصادي الياباني «أكاماتسو كانامي» عندما وضع تلك النظرية في العام 1937م اعتمد على طريقة أسراب الإوزّ، التي تشير إلى أن الدول الناهضة – وتمثل السرب اللاحق – تميل إلى الصناعات الأقل تقدمًا، مقارنة بالدول التي تفوقها في التطور الاقتصادي، وعرض تجربة بلاده التاريخية في التحول المذهل من استيراد النسيج من بريطانيا إلى إنتاجه وتصديره بعد ذلك، وصولًا إلى تركيز رأس المال والانعطافة "الحداثوية"، حدّ أن العالم اليوم، شديد الإعجاب بالتجربة اليابانية، كما لو أنها دولة في كوكب مغاير.

قد يكون من المفيد للسودانيين النظر في تجربة اليابان، ليس لما انتهت إليه من ثورة صناعية، ولكن من البداية المُدهشة والخروج السريع مِن عُنق الزجاجة، وذلك بالضرورة يتطلب تحطيم ما تبقى من جهاز الدولة البيروقراطي، والأفكار السياسية البالية للنظام القديم.

التجربة اليابانية

بالعودة للعام الأخير من الحرب العالمية الثانية، وبينما الأنفاس مُتصاعدة، نفّذ الحلفاء هجومًا جويًا بقنابل حارقة، قضت والتهمت نحو 67 مدينة يابانية، ثم تلا ذلك إلقاء أميركا قنبلتين نوويتين على هيروشيما وناغازاكي لتستسلم طوكيو أخيرًا، وتنتهي الحرب بدمار هائل في كل أجزاء اليابان تقريبًا، ونتج عن ذلك نهاية القبضة الإمبراطورية، ودمار الاقتصاد والحياة القديمة كلها، حتى ظنّ الجميع أن اليابان لن تقوم لها قائمة بعد ذلك اليوم الأسود.

لكن العقل الياباني لم ينهزم، وقد أخذ رئيس الوزراء حينذاك يوشيدا المهمة على عاتقه بقدر من الجدية، وحول النقمة إلى نعمة؛ تحقيقًا لما عرف بعد ذلك بالمعجزة اليابانية، والتي حدثت في أقل من عشرين عامًا، تحت شعار: (فوكوكو كيوهيي)، والتي تعني تنمية القوة الاقتصادية والعسكرية للبلد، في محاولة جادّة للحاق بالركب الغربي الصناعي، والسير فوق جُملة مشروعات إصلاحية، استهدفت القوانين أولًا، ومن ثم التعليم والإنتاج الزراعي، وقبل كل شيء بناء شخصية الفرد على نموذج "غامان"، الذي يعتنقه الياباني منذ الصغر، وهو مجموعة إستراتيجيات تهدف للتعامل مع الأحداث الخارجة عن السيطرة، حد أن الأفراد يطورون في أنفسهم قدرةً خارقة على تحمل أشياء غير متوقعة أو سيئة، ومن العسير اجتيازها بنجاح، مثل: الزلازل والمصاعب الأخرى الحياتية.

تفكيك القبضة المركزية

بالمقابل يحتاج أهل السودان بعد أن تضع الحرب أوزارها، إلى مرحلة مهمة، وهي مرحلة التعافي الاجتماعي والسياسي، ومن بعد ذلك التوافق على دستور جديد، يتضمن حلًا ناجعًا للإشكالية الأهم المنحصرة في الصراع على السُلطة، وهي قضية تتطلب تفكيك قبضة المركز لصالح الأقاليم، باعتماد النموذج الفدرالي بدرجة أكبر، مع أحقية كل إقليم بالتمتع بثرواته وحقوقه السياسية، والتنسيق مع المركز في بعض القضايا السيادية فقط، دون أن تكون ثمة حاجة للهجرات نحو العاصمة.

والمشكلة الأخرى، تتعلق بوضع حد للأيادي الخارجية التي تعبث بموارد السودانيين، إذ إن أكثرَ ما أضرّ بالاستقرار خلال العقود السابقة، القابليةُ السودانيّة للتدخلات الأجنبية، وازدهار أسواق العمالة السياسية للخارج، وهو ما أملته الوضعية الجغرافية للسودان تقريبًا، وضعف الوازع الوطني، لا سيما أنه، كما أشار الدكتور عزمي بشارة في كتابه: "الانتقال الديمقراطي وإشكالياته"، "كلما زاد الوزن الجيوستراتيجي للدولة، زاد تأثير العوامل الخارجية السلبية"، وهو مأزقنا الراهن بالضبط، ويمكن للقوى الوطنية تدارك استقلالية القرار، في خضم مكابدتهم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

ربما ليس بالضرورة تقفّي أثر المعجزة اليابانية وقع الحافر بالحافر، فللسودان خصوصيته وتفرده حتى في الفجائع، بينما اليابان دولة استثنائية في هذا العالم، لكنها أيضًا أقرب تجربة لما يمكن للمرء أن يفعله بُعيد الهزيمة والدمار، فالحكمة ضالة المؤمن، حيثما وجدها، فهو أحق أن يأخذ بها، وأمام الشعب السوداني فرصة أخيرة، تنشد التسامي فوق الجراح، ثم التوجّه إلى العمل.

خيرات السلاطين.. كيف أحيا المماليكُ فلسطين بالأوقاف؟

خيرات السلاطين.. كيف أحيا المماليكُ فلسطين بالأوقاف؟

محمد شعبان أيوب

دخلت فلسطين في حوزة الإسلام منذ العام 16 من الهجرة، حين فتحها عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وأصبحت من بعده مأوى للمسلمين كافة من المشرق إلى المغرب، ففيها المسجد الأقصى الذي تهافت إليه العُبَّاد والعلماء والصالحون، وفيها المدن التاريخية الكبرى مثل الخليل مدينة إبراهيم -عليه السلام-، وموقع مدفنه، وفيها عسقلان التي ورد في فضلها أحاديث تحفز المسلمين على الرباط فيها في مواجهة الأعداء، وفيها غزة التي مات فيها أحد أجداد رسول الله حتى عُرفت باسمه "غزة هاشم"، وهي التي وُلد فيها الإمام الشافعي.

هذه الأهمية التاريخية والدينية لفلسطين جعلتها محط اهتمام الخلفاء والسلاطين وأهل الخير منذ العصر الراشدي وحتى العصر العثماني، فكل جيل من هؤلاء كان يحرصُ على التعمير والإنشاء وإقامة الخدمات العامة في مختلف المجالات التعليمية والدينية والصحية والاجتماعية وغيرها. ومن هؤلاء السلاطين الذين سيطروا على فلسطين وطردوا المغول من أطرافها ومن بلاد الشام كاملة سنجدُ المماليك الأتراك والجراكسة الذين حكموا مصر وبلاد الشام والحجاز، وفي القلب منها فلسطين، لمدة قاربت قرنين ونصف القرن، وقد سجَّل التاريخُ ما أقاموه فيها من منشآت لا يزال الكثير منها باقيا حتى يومنا هذا.

ومن اللافت أن هذه المنشآت كان جُلها وقفا، والوقف هو تحبيسُ الأصل وتسبيلُ المنفعة؛ أي إيقاف أراضٍ وعقارات ودكاكين وغيرها من الأمور التي تجلب مالا متدفقا وجعل هذا المال منحصرا في مؤسسات دينية أو تعليمية أو صحية أو خدمية أو اجتماعية بصورة تأبيدية، يستفيد منها المسلمون كلهم على مر الأجيال والعصور، وبهذا الوقف انطلق قطار الحضارة الإسلامية وازدهر، وحملت الأمة على عاتقها مفاتيح نهضتها، وسدَّ حاجتها.

وقد مدح ابن خلدون نظام الأوقاف وازدهاره في المشرق الإسلامي زمن المماليك، وهو الذي جاء إلى مصر المملوكية في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي مستوطنا إياها في ربع القرن الأخير من حياته، وقد وجد الأوقاف من أقوى الأسباب التي أدت إلى انتعاش هذه الدولة، فقال: "وما أدري ما فعلَ الله بالمشرق والظن به نفاق (انتشار) العلم فيه، واتصال التعليم في العلوم، وفي سائر الصنائع الضرورية والكمالية؛ لكثرة عمرانه والحضارة، ووجود الإعانة لطالب العلم بالجراية من الأوقاف التي اتسعت بها أرزاقهم"[1].

ولئن لفتت الأوقاف المملوكية وما أحدثته في أسواق العلوم والخيرات نظرَ ابن خلدون في مصر، فقد أكثروا منها في فلسطين، وكان من أبرز الواقفين بها السلطان الظاهر بيبرس البُندقداري، حيث شهد عهده تعميرا للمساجد والرابطات والمؤسسات الدينية في مصر وبلاد الشام، كما صب جُل اهتمامه على القدس. ففي عام 659هـ في السنة التالية من ارتقائه للحكم مباشرة، أمر بجمع الأموال اللازمة للعمارة، حيث بعث الصُّناع والآلات لإصلاح قبة الصخرة التي كانت قد تداعت للسقوط، كما قام بإعمار قبة السلسلة القريبة منها وزخرفتها، وأوقف عليها ريع قُرى نابلس والخليل وغيرها[2].

وبعد ذلك بثلاثة أعوام قام بيبرس بإرسال بعثة جديدة لإصلاح وتعمير المدينة المقدسة بترميم مساجدها ومدارسها. ولهذا السبب سارع أمراؤه للتعمير في القدس على نهجه، ومنهم الأمير أيدغدي البصير الذي أنشأ "رباط البصير" قرب المسجد الأقصى، كما أنشأ مسجدا في مدينة أريحا، وقد أوقف العديد من القرى في فلسطين لصرف ريعها في ثمن خُبز ونعال لمَن يردُ إلى القدس من المجاورين والمسافرين والزُّهاد والنُّسَّاك[3].

وعندما زار بيبرس القدس عام 661هـ لتفقد أحوالها، خصَّص في كل سنة خمسة آلاف درهم للمسجد الأقصى للإنفاق على تسيير شؤونه العمرانية والفكرية، كما راجع بنفسه الأوقاف القديمة التي أوقفها خلفاء وملوك المسلمين للمسجد، وشدَّد على حمايتها والحفاظ عليها، كما أولى عنايته لتجديد مقام إبراهيم -عليه السلام- في مدينة الخليل، وزاد في الرواتب التي كانت تُصرف على الزائرين والمجاورين، كما قرر تعيين أوقاف جديدة، فجعل ريع محاصيل قرية إذنا القريبة من الخليل حصرا على مقام إبراهيم وزواره والمقيمين فيه[4].

كما أنشأ الظاهر بيبرس سماطا أو مائدة دائمة طوال العام في مدينة الخليل، وقد تحول هذا السِّماط إلى مؤسسة مملوكية سلطانية يحرص السلاطين على رعايتها، والوقف عليها، وتعيين الموظفين والمشرفين وتحديد رواتبهم الشهرية. وظلت هذه الأوقاف على مائدة مقام إبراهيم الخليل -عليه السلام- مستمرة حتى جاء السلطان برقوق بعد أكثر من قرن فأضاف إليها قرية دير إستيا الواقعة جنوب غرب نابلس وقفا على هذه المائدة، ونقش نصَّ وثيقة الوقف هذه على عتبة الباب الشرقي للمسجد الإبراهيمي[5].

ومن أشهر السلاطين المماليك الذين جاءوا بعد الظاهر بيبرس واهتموا بمدينة القدس ومنشآتها وأوقافها السلطان المنصور قلاوون الذي عمَّرَ المسجد الأقصى من الجهة القبلية مما يلي الغرب عند جامع الأنبياء، كما أنشأ رباطا للصوفية عند باب الناظر اسمه "الرباط المنصوري"، وأيضا أنشأ القناطر على الدرجتين الشماليتين بصحن قبة الصخرة، وعمَّرَ باب القطَّانين، كما أنشأ قناة السبيل الواقعة عند بركة السلطان خارج أسوار القدس من جهة الغرب. ثم جعل المنصور قلاوون مخصصات سنوية للمسجد الأقصى، واهتم بأمر الأوقاف على المدينة وتنميتها، وجاء ابنه السلطان الناصر محمد بن قلاوون ليكمل ما قام به أبوه المنصور من أعمال خيرية؛ فقد أوقف على الرباط المنصوري عدة بساتين زيتون غربي مدينة غزة، وعدة قرى أخرى في مناطق الشمال الفلسطيني[6].

الجاولي وإسهامه في القدس والخليل

ويُحصي المؤرخون مساحة الأراضي الزراعية التي أوقفت على المساجد والمدارس في بلاد الشام وفلسطين في عهد الناصر محمد بن قلاوون فيقدرونها بمئة وثلاثين ألف فدان في الشام وحدها. وقد عيَّن السلطان الناصر محمد الأمير سنجر الجاولي أميرا على غزة، ثم تطور الأمر فأصبح بمنزلة والي فلسطين بكاملها، وقد أنشأ هذا الأمير مسجدا كبيرا في مدينة الخليل ظل البناء مستمرا فيه لمدة ثلاث سنوات. ويقع هذا المسجد قرب الحائط الشمالي الشرقي للمسجد الإبراهيمي، حيث أنشأ هذا الجامع من ماله الخاص وليس مال الدولة، وسنرى اليوم النقش على أحد جدران المسجد: "أُنشئ في أيام مولانا السلطان الملك الناصر.. بنظر العبد الفقير إلى الله تعالى سنجر بن عبد الله الناصري من ماله رحمه الله، ولم يُنفق عليه شيء من الحُرم، كُتب بتاريخ ربيع الآخر سنة عشرين وسبعمائة"[7].

وأضاف الأمير سنجر الجاولي بجوار هذا المسجد رواقا ليكون مطبخا مخصصا لتوزيع الطعام على الفقراء والمجاورين والزوار. وقد عرفت مدينتا القدس والخليل وجود مطابخ موقوفة على الفقراء والمجاورين والزوار بصورة مجانية، وتعود هذه العادة إلى أزمنة تقدمت على عصر المماليك، فحين زار الرحالة الفارسي ناصر خسرو مدينة الخليل سنة 439هـ وجد بها دار ضيافة فوق المسجد، قائلا: "وعلى سطح المقصورة في المشهد حجرات للضيوف الوافدين، وقد وُقف عليها أوقاف كثيرة من القرى ومُستغلَّات (من الدكاكين وغيرها) ببيت المقدس"[8].

وقد زار المؤرخ ابن فضل الله العُمري مدينة الخليل سنة 745هـ، وزار هذا المطبخ والفرن الذي أنشأه الجاولي فقال عنه: "زرتُ الخليل صلوات الله عليه وسلامه في ذي الحجة سنة خمس وأربعين وسبعمائة، فأخبرني جماعة من المباشرين (الموظفين) أن في بعض ليالي هذا الشهر في هذه السنة فرقوا زيادة على ثلاثة عشر ألف رغيف، وأن غالب أيام العام ما بين السبعة آلاف والعشرة آلاف، ويُفرّق أيضا مع الخُبز طعام العدس بالزيت الطيب والسُّماق، وبالنهار يُطبخ أيضا قدر من الدشيش ويُفرق على الواردين، وفي بعض الأسبوع يُطبخ ما هو أفخر من ذلك"[9].

وقد أشاد مؤرخ القدس والخليل مجير الدين العليمي في القرنين الخامس عشر والسادس عشر بهذا المطبخ الموقوف لله، وتكلم عن أقسامه المختلفة، فذكر أنه كان مخصصا لعمل الجريشة للمجاورين والواردين، كما كان يتم عمل السماط الذي يُفرق على أهل البلد والواردين في ثلاثة أوقات كل يوم. وقُدِّر ما كان يُعمل من الخُبز يوميا بأربعة عشر ألف رغيف، تبلغ خمسة عشر ألفا في بعض الأوقات، وأضاف مجير الدين أن سعة وقف هذا المطبخ لا تكاد تُضبط، وأنه لم يكن يُمنع أحد عنها لا من الأغنياء ولا من الفقراء، وكان يشتمل على ست طواحين، وثلاثة أفران، ومخزن ضخم للقمح والشعير، ووصف مقدار سرعة العمل في هذه الأفران في القرن العاشر الهجري بحيث إن القمح يدخل إلى المخزن ثم إلى الطواحين ثم إلى العجن والخبز ثم يخرج خبزا بحيث كانت المخازن تنفد سريعا، وأنه كان يوجد عدد كبير جدا من العاملين في هذا المطبخ والفرن وملحقاتهما[10].

كل هذا بفضل الأوقاف التي أنشأها الأمير سنجر الجاولي الذي كان رجلا تقيا ورعا، شافعي المذهب، أصله من ديار بكر، ولم تتوقف منشآته عند هذا الحد، بل أنشأ المدرسة الجاولية في القدس في الزاوية الشمالية الغربية من ساحة المسجد الأقصى. وتقع هذه المدرسة اليوم ضمن ما يُعرف بروضة المعارف الوطنية، أو ما يُعرف أيضا بالمدرسة العُمرية، وقد حوَّل الإنجليز هذه المدرسة بعد احتلالهم فلسطين إلى مركز للشرطة سنة 1936م، ثم استولى عليها المتطوعون عام 1948م بقيادة عبد القادر الحسيني[11].

وقد ذكرنا في مقالة سابقة عن رحلة ابن بطوطة لفلسطين أهم المنجزات العمرانية التي أنشأها الأمير الجاولي في مدينة غزة مقر نيابته، حيث جعلها واحدة من أكثر مدن دولة المماليك عمرانا في المجالات الصحية والتعليمية والدينية وغيرها، وأشهرها جامعُه في غزة، حتى إن المؤرخ نجم الدين الغزي الذي وُلد بعد ذلك بقرنين ونيف يقول عن حجم هذا الجامع واتساعه: "إنه كان يخرج منه في كل ليلة من رمضان نحو أربعمائة فارس مع الذين يأتون للصلاة فيه، هذا عدا عمن يأتون إليه بدون ذلك، وكان فيه الكثير من العلماء والمدرسين، والأئمة على المذاهب الأربعة، وكان عند باباه مسقاتان (وعاءان) من الرخام متقابلتان تُملآن في كل ليلة من رمضان سُكرا يشربُ منهما الداخل والخارج، وقد جعل له أوقافا كثيرة بقضاء غزة وغيرها"[12].

أوقاف المماليك المتأخرين

وفي القرن الخامس عشر وصل السلطان الأشرف برسباي إلى السلطنة، وكان قبل ذلك يتولى وظيفة ناظر الحرمين الشريفين "القدس والخليل" في فلسطين، وقد عمَّر الأوقاف ونمَّاها، ووقف للحرمين عوائد قرى كثيرا ذكرها منقوشة وألصقت بحائط الصخرة الشريفة تجاه قبلة المحراب. ويلحظ مؤرخو فلسطين أن توثيق الأوقاف المملوكية على جدران المساجد لا يزال باقيا إلى اليوم، ففيها يُسجَّل نوع الوقف وتاريخ إنشائه واسم السلطان. ومن الأوقاف التي أوقفها برسباي نجدُ قريتي العوجا والنوبعمة في غور الأردن قرب أريحا على قبة الصخرة المشرفة، ولا تزال لوحة الوقف منحوتة قرب الباب الشرقي لقبة الصخرة[13].

وقد حذا كل مَن جاءوا بعد برسباي مثل السلاطين جقمق وإينال وخشقدم حذوه، فأوقفوا الأوقاف على القدس والخليل، وأرسلوا إليها المصاحف الكبيرة، وسعوا لإبطال المظالم. والحق أن "قوة الشعور الديني لدى سلاطين المماليك وأمرائهم وأعيانهم كانت حافزا على إنفاقهم على مصالح الحرمين الشريفين "القدس والخليل" وأهاليهما، وتَمثَّل هذا الإنفاق في الهِبات والأُعطيات والصدقات"[14].

أما السلطان الأشرف قايتباي فيُعد من أشهر السلاطين المماليك المتأخرين الذين توسعوا في الإنشاء والتعمير والأوقاف في القدس الشريف، ولا تزال بعض مدارسه وأسبلته وإصلاحاته في قبة الصخرة والمسجد الأقصى باقية إلى يومنا هذا، وتأتي على رأسها المدرسة الأشرفية التي تقع داخل المسجد الأقصى بالقرب من باب السلسلة، وسُميت أيضا السلطانية، حيثُ بُنيت للمرة الأولى في زمن السلطان الملك الظاهر خشقدم (865هـ/‏‏1461م)، ثم أُعيد بناؤها سنة (887هـ/1482م) في زمن السلطان الأشرف قايتباي، وعُدَّت لؤلؤة بديعة في بيت المقدس بعد ‏الأقصى وقبة الصخرة، بسبب غنى مبناها بالعناصر المعمارية والزخرفية الرائقة، ورتب لها السلطان الأشرف قايتباي مشايخ وفقهاء ومدرسين للتعاليم الصوفية والفقهية، وقد هُدم القسم الأكبر منها في زلزال ‏‏(903هـ/1497م)، ثم أُعيدت إلى سابق عهدها[15].‏

هذه بعض أوقاف السلاطين المماليك في فلسطين عامة، والقدس والخليل خاصة، وهي تدلل على مدى اهتمام هؤلاء السلاطين والأمراء بهذه القطعة الغالية من ديار الإسلام. وهناك كثير من الأوقاف والمنشآت الأخرى التي أنشأوها لكن المقام لا يتسع لذكرها، وهي أيضا دليل على مقدار أهمية فلسطين في تاريخ الإسلام عامة.

المصادر

[1] مقدمة ابن خلدون ص551.

[2] ابن كثير: البداية والنهاية 13/205.

[3] ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 7/121.

[4] فايز الزاملي: الأوقاف في فلسطين في عهد المماليك ص63، 64.

[5] خليل عثامنة: فلسطين في خمسة قرون ص429.

[6] العسلي: معاهد العلم ص224.

[7] عثمان الطل: الأمير سنجر الجاولي ومنجزاته العمرانية في فلسطين ص301، 302.

[8] ناصر خسرو: سفر نامه ص86.

[9] ابن فضل الله العمري: مسالك الأبصار في مسالك الأمصار ص223.

[10] العليمي: الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل 1/148.

[11] عثمان الطل: الأمير سنجر الجاولي ومنجزاته العمرانية في فلسطين ص301، 302.

[12] مصطفى الطباع: إتحاف الأعزة في تاريخ غزة 2/220.

[13] الأوقاف في فلسطين في عهد المماليك ص69.

[14] الأوقاف في فلسطين ص70.

[15] العليمي: الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل 2/35، 36، 325.