الجمعة، 31 أغسطس 2018

فوق السلطة - ترمب يفتقد السديس

برنامج فوق السلطة 

 ترمب يفتقد السديس




أيها الأميركيون، يا من تهددون رئيسَكم بالخروج عليه؟ كم من القرون تحتاجون للوصول إلينا؟ نحن لا نخرج على الحاكم، لا يجوز، مهما فعَل يبقى خليفة، حتى لو كان ميا خليفة.
مرةً تقولون ترامب تلاعب بالانتخابات، ومرات تهرب ضريبي، احتيال مصرفي، خيانات زوجية.. وآخرُ الخبريات -تخيلوا- شبكة "سي إن إن" مُنهمِكة بنشر "سكوب"، سبق، بأنه يوجد ابن غير شرعي لترامب أنجبه قبل نحو أربعين سنة. 
ما هذا الحقد، يا عيال ترامب؟ 
هل كنتم أمامه أم وراءه حين صارت الحادثة المزعومة؟

الخميس، 30 أغسطس 2018

أردوغان يكسب وترمب يغرق

أردوغان يكسب وترمب يغرق

تهديد ترمب لشعبه بالفقر إذا سمحوا بطرده من البيت الأبيض يظهره وكأنه زعيم دولة من دول العالم الثالث، لا يختلف عن المستبدين الذين توارثوا المقولة الشهيرة "أنا أو الفوضى"،






عامر عبد المنعم
لم تمر أيام قليلة على الحرب الاقتصادية التي يقودها ترمب على أردوغان إلا وانقلب السحر على الساحر، وتهاوى الرئيس الأمريكي وانهالت عليه السكاكين واقتربت إجراءات عزله من منصبه، وقد عبرت مجلة تايم الأمريكية بالصورة والفيديو عن حالة الغرق التي يعيشها الرئيس الأمريكي وهو في مكتبه بالبيت الأبيض.
خرج أردوغان من المعركة منتصرا وهو يقود شعبه ضد مؤامرة ضرب العملة التركية، ونجح في امتصاص الصدمة الأولى وحشد الأتراك فأصبحوا حائطا من الفولاذ ضد الهجمة العدوانية، وفي المقابل ترنح ترمب بسبب الضربات من الخلف، وبدأ رحلة النهاية المبكرة، وفقد أعصابه حتى أنه هدد الأمريكيين محذرا من عزله قائلا "أنا أو الفقر".
 تهديد ترمب لشعبه بالفقر إذا سمحوا بطرده من البيت الأبيض يظهره وكأنه زعيم دولة من دول العالم الثالث، لا يختلف عن المستبدين الذين توارثوا المقولة الشهيرة "أنا أو الفوضى"، التي اعتدنا سماعها وأصبحت شعار النهاية للأنظمة الفاسدة.
تركيا ومعركة الاستقلال
وسط كل الصراعات التي تنخرط فيها الولايات المتحدة فإن الصراع مع تركيا هو الأهم والأخطر، فالحرب على الإسلام لها أولوية بالنسبة للقادة الغربيين المتطرفين، وتركيا هي الدولة الإسلامية القوية التي تشق طريقها للاستقلال والتحرر من الهيمنة الغربية.
حرب ترمب ليست ضد أردوغان كشخص وإنما ضد المشروع المسلم لحزب العدالة والتنمية الذي قطع شوطا كبيرا للإفلات من القيود الغربية، ويقترب من إزاحة الاحتلال الغربي الذي يقف ضد أي محاولة إسلامية للاستقلال.
ولخصوصية الوضع الجغرافي لتركيا فإن الصراع معها معقد جدا، وليس كباقي الصراعات في العالم الإسلامي، وقد استطاع أردوغان إدارة الصراع بذكاء شديد مستفيدا من التناقضات الدولية، ونجح في تحويل العقد الجيوسياسية إلى فرص للتصدي للمكر المعادي.
لقد استغل أردوغان حرب ترمب ضد الليرة التركية في حشد الدول التي تعارض هيمنة الولايات المتحدة لاتخاذ إجراءات تحاصر الدولار بالاعتماد على العملات الأخرى في التبادل، والسعي لتأسيس نظام جديد بعيدا عن العملة الأمريكية.
دول مثل الصين وروسيا والاتحاد الأوربي كانت لديها أفكار لوقف التعامل بالدولار لكن لأسباب سياسية واقتصادية ليس لديها الجرأة للبدء في هذه الحرب الجديدة ولكن دخول أردوغان جعله - بغير ترتيب مسبق - يقود هذا التوجه العالمي لاستبعاد الدولار من المعاملات وأعطى دفعة قوية للبدء في تنفيذ الفكرة.
جاءت الاستجابة السريعة لأردوغان من روسيا التي تحاصرها أمريكا بالعقوبات وأعلن نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف أن روسيا ستبدأ عمليا بالتخلص من الدولار كوسيلة للحسابات المتبادلة والبحث عن سبل بديلة.
تصاعد التمرد العالمي
جسارة الرئيس التركي والمجاهرة بتحدي الرئيس الأمريكي جعلت كثيرا من القوى الدولية تسانده بشكل مباشر وغير مباشر وتتجرأ على إظهار التمرد العالمي ضد استمرار الولايات المتحدة في قيادة النظام الدولي، وصدرت تصريحات لم نكن نسمعها من قبل، خاصة من قادة الدول الأوربية.
لقد تشجع الرئيس الفرنسي ماكرون لأول مرة ودعا الأوربيين لحماية أنفسهم بعيدا عن الولايات المتحدة، أي الخروج من مظلة حلف الناتو وإنهاء الهيمنة الأمريكية على أوربا.
وفي موقف آخر لا يقل أهمية أعلن وزير الخارجية الألماني هايكو ماس عن استراتيجية جديدة لألمانيا تعمل على إنشاء أوربا القوية والمستقلة وإعادة تقييم الشراكة الأطلسية  "بتبصر وبصورة انتقادية، وحتى بصورة انتقادية ذاتية".
هذا التمرد الأوربي هو التوجه الأكثر دلالة على التمرد العالمي لأنه سيؤدي إلى تفكك الغرب ذاته وإضعاف الولايات المتحدة وتقليص دورها.
التضامن العربي
من أهم مكاسب أردوغان في معركته ضد ترمب حالة التضامن العربي الواسعة مع تركيا، التي أظهرت بوضوح التحول الكبير في اتجاهات الرأي العام ببلاد العرب، لمناصرة الأتراك وتجاوز الحماس الشعبي المواقف السياسية الرسمية.
لقد عبر العرب عن تضامنهم مع الأتراك في معركة العملة عمليا بشراء الليرة سواء في تركيا أو في البلدان العربية، وشاهدنا حملات على مواقع التواصل الاجتماعي لتنظيم المبادرات لدعم العملة التركية في مشهد جدير بالاهتمام والدراسة.
هذا التحول العربي الكبير المؤيد لتركيا جاء بعد عملية وعي غيرت الانطباعات السلبية التي غرسها الفرنسيون والإنجليز لتشويه الدولة العثمانية وربط شعوبنا بالغرب الاستعماري وتحسين صورته.
لقد لعبت مواقف أردوغان وزعامته الكارزمية دورا كبيرا في تغيير مواقف كثيرين، لكن هناك سببان رئيسيان وراء حالة التأييد الطاغي لتركيا في العالمين العربي والاسلامي، أولهما استقبال تركيا للمضطهدين والمهاجرين المسلمين واستضافة المعارضين السياسيين والترحيب بهم.
لقد نجح السياسيون والإعلاميون العرب الذين خرجوا من ديارهم هربا من الحكومات المستبدة في نقل صورة حقيقية عن الواقع التركي تختلف عن الصورة التي تبثها حملات التشويه التي تقف خلفها أنظمة تابعة للرئيس الأمريكي.
 لكن السبب الثاني الذي له الدور الأكبر في تحسين صورة الأتراك هو مسلسل "قيامة أرطغرل" الذي أصبحت مشاهدته جزءا من حياة عشرات الملايين من العرب والمسلمين في كل أنحاء العالم.
هذا العمل الفني المبهر هو القوة الناعمة التي استطاعت أن تبدد كل المعلومات المغلوطة التي حشوا بها كتب التاريخ والمناهج التعليمية وأعادت تقديم  الصورة الحقيقية للخلافة العثمانية التي أسسها عثمان بن أرطغرل.
نجح مسلسل أرطغرل في الوصول إلى الطبقات الشعبية التي لا تقرأ الصحف ولا تشاهد نشرات الأخبار، وكما أنه نجح في تشكيل الوعي لدي الشعب التركي وذكرهم بأجدادهم ودينهم فإنه أعاد التذكير بأن أمتنا واحدة وأن الإسلام جاء ليوحدنا تحت رايته بغض النظر عن العرق واللون والمنطقة الجغرافية، وهذا المعنى يعيدنا إلى عناصر قوتنا الحقيقية بعيدا عن الحدود السياسية التي فرضها المستعمرون ليفرقوا بيننا.
***
المعركة ضد تركيا لم ولن تتوقف، وعلينا أن ننتظر المزيد من المكر والعداء، فتركيا القوية ليست مكروهة من ترمب وحده؛ فكل خصوم أمريكا لا يتحمسون لتحرر أردوغان من الاحتلال الغربي بشكل كامل.
إن عودة تركيا كدولة إسلامية كبيرة يعني إعادة رسم خريطة النظام الدولي على أسس جديدة، وتوزع القوة بين أقطاب متعددة، وفي هذا مخرج للشعوب المقهورة وتحرير للأمم المستعبدة.

القيمة العليا في الإسلام

القيمة العليا في الإسلام 
2017-08-30 

الذي أفهمه أن الله أمرنا بعبادته -سبحانه وتعالى ذكره- وتعبيد الناس له، فهذه الأمة أخرجت للناس من أجل هدايتهم إلى صراط الله المستقيم بسم الله الرحمن الرحيم لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم يطرح كثيرٌ من المهتمين بالفكر الإسلامي سؤالًا يفتش به عن القيمة العليا في الإسلام؟، وتأتي الإجابات متعددة، فبعضهم يصر على أن القيمة العليا في الإسلام هي العدل. 
ومفهوم العدل نسبي، فكل عند نفسه عادل، وقلَّ أن تجد من يفاخر بممارسة الظلم أو الإعانة عليه؛ أو: كل يدعي أن تمكين منظومته الفكرية من واقع الناس يثمر العدل، فالعدل مفهوم نسبي والمتفق على أنه عدل مطلق بين الناس قليل كما غيره من باقي المفاهيم.  وبعضهم يجيب بأن القيمة العليا والهدف الرئيسي للإسلام هو عمارة الأرض، يقول: استخلف الله الإنسان في الأرض لعمارتها.
 ويجمع هذا الفهم من نصين كريمين.. قولِ الله تعالى عن آدام عليه السلام: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}
[البقرة: 30]  
وقول الله تعالى:  {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}  [هود:61] . 
وحين تدور حول هؤلاء وأفكارهم يظهر لك معلمين أساسيين:
 أولهما: أن العمارة في حسهم تعني "البناء".. بناء البيوت وإصلاح دنيا الناس. 
ثانيهما: جعلوا "التعمير" ثابتًا يشد إليه غيره. بمعنى أنهم جعلوه مقصد الشريعة الأول، وبالتالي كل ما أدى إلى إصلاح معاش الناس يعد مقصدًا شرعيًا أو وسيلة تأخذ حكمه كغاية من باب (الغايات لها أحكام المقاصد)! 
ولا يجادل عاقل في أهمية تعمير الأرض وإصلاح دنيا الناس كهدف من أهداف الشريعة، ولكن المشكلة تكمن في جعله الغاية من التشريع؛ وحتى يتضح الأمر أكثر دعنا نسأل: هل عمارة الأرض غاية أم ثمرة؟ الذي أفهمه أن عمارة الأرض أثر يترتب على تمكين قواعد ومبادئ الشريعة في حياة الناس، أو ثمرة من ثمرات الالتزام بشرع الله، بمعنى أن تطبيق الشرع يثمر عمارة الأرض لا أن هدف الشرع بداية هو عمارة الأرض.  الذي أفهمه أن الله أمرنا بعبادته -سبحانه وتعالى ذكره- وتعبيد الناس له، فهذه الأمة أخرجت للناس من أجل هدايتهم إلى صراط الله المستقيم.. إلى توحيد الله، قال تعالى:  {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} [آل عمران:110] ، وإن فعلوا عمرت دنياهم. 
وتستطيع أن تصل إلى هذه الحقيقة من النصوص الشرعية، والتفكير العقلي المجرد، وواقع الناس على مدار التاريخ والواقع المعاصر.  
أولًا: النصوص الشرعية: في نص محكم البيان يقول الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96] . 
فجعل البركة مع الإيمان والتقوى. وسمى الله الكافر مفسدًا، بل المفسد ب (ألـ) التعريفية وكأن لا مفسد غيره، قال تعالى:  {وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} ، وقال تعالى:  {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} . 
وسمى الله سعي المنافقين فسادًا مع أنهم عند أنفسهم مصلحين {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ}  وأهل التفسير على أن الفساد هنا هو المعصية.. سمى الشيء بسببه. وجُعلت المعصية سببًا مباشرًا للفساد:  {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}  [الروم:41] . {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى:30] . 
فوجود المعصية وجود للفساد. وذهاب المعصية حضور لعمارة الأرض..  
ثانيًا: واقعنا المعاصر: الذين يدَّعون التحضر والعمران: هل حقًا آثاروا الأرض وعمروها؟!؛ ما ثمرة هؤلاء؟ الواقع المشاهد أنهم ملؤوا الأرض بالخوف والجوع والفقر، والقسوة .. شيدوا عالمًا قلقًا مضطربًا.. متصارعًا، أخرجوا إنسانًا لا يرحم صغيرًا ولا يوقر كبيرًا ولا يصل رحمًا. مع الأخذ في الاعتبار أن المجتمعات الغربية لا تُقرأ وحدها، فتقدم الأوربيين (أو دول الشمال) ورخاؤهم المادي جاء على أنقاض دول الجنوب، ولذا يقرأ مشهد العالم مجتمع ويسأل الغربيون (الشماليون) عن تخلف (الجنوب). 
ثالثًا: التاريخ: رصد الشيخ أبو الحسن الندوي بعض ما خسره الناس حين تخلى المسلمون عن قيادة البشرية في كتابه الماتع: (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟)، وأريد أن أضيء على التاريخ من زاوية سياسية، وهي أن النموذج الإسلامي أوجد مجتمعات آمنة مطمئنة تمسك بيدها تسعة أعشار ما يخصها وتديره بنفسها، وبعيدة كل البعد عن ظلم الحكام. وانحصر الصراع السلطوي بين المتنافسين على السلطة. والاستبداد لم يُعرف إلا مع نموذج الدولة القومية التي استباحت المجتمع وتحكمت في كل شيء. ومع ذلك فإن آثار الحروب السلطوية في الإسلام ضئيل جدًا حين يقارن بمثيلتها عند الأمم الأخرى، فالنموذج الإسلامي هو الأفضل حين يقارن بغيره، وخاصة في حمايته للمجتمع من ظلم الحكام.  ودعنا ندور حول هذه الفكرة وهي أن عمارة الأرض أثر من آثار الالتزام بشرع الله وليست هدفًا في ذاتها، وأن عبادة الله وتعبيد الناس لله هو القيمة العليا والهدف الرئيسي من إرسال الرسل  {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} ، من زاوية أخرى.. 
دعنا نسأل: هل هدف الناس هو العمران؟  اتفق المختصون من أهل البرمجة العصبية وأبوها (علم النفس) وأبناء عمومتهم (التربويون) ومن حام حولهم من الوعاظ على أن هدف الناس هو تحقيق السعادة، والسعادة هي الراحة والطمأنينة، وهي غير اللذة وغير النجاح. والراحة والطمأنينة أبداً لا تكون إلا في طاعة الله سبحانه وتعالى.  {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}  [الرعد:28] ،  {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] ، {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ}  [المطففين:22] . {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}  [التغابن11] . 
وفشلت الحضارة المعاصرة التي اهتمت بالبنيان وتطوير أدوات الناس في الحياة في تحقيق هدفهم الرئيسي (السعادة)، بل أخذتهم بعيدًا عنها. فغاية الناس الحقيقية عندنا وليست عند غيرنا. غاية البشرية ليست بيوتًا وطرقًا ومصانعَ ومزارعَ ـ ولا أُزَهِّد فيها أبدًا ـ بل غايتهم الأولية السعادة، وهي لا تكون إلا بالإيمان بالله. 
تكمن مشكلة جعل إصلاح دنيا الناس هدفًا رئيسيًا، أو قيمة عليا، أو مقصدًا من مقاصد الشريعة العليا في الالتقاء مع الخصوم خلف العمران، وإهمال التوحيد كمنطلق وهدف، وينتهي هؤلاء في الغالب إلى حالة من التعايش في غير محلها، وينقلبون على النصوص ويؤولونها بغير معناها، وأعود إن شاء الله لأكمل في مقالٍ آخر.. لأجيب عن سؤال يتبادر للذهن مفاده: كيف تعمر الأرض بمن لا يستهدف عمارتها؟ 
محمد جلال القصاص

رابط المادة

لم يقوضه ترامب وإنما كشف حقيقته: أسطورة النظام الليبرالي الأمريكي

لم يقوضه ترامب وإنما كشف حقيقته: أسطورة النظام الليبرالي الأمريكي

2018-8-30 | خدمة العصر
كتب الباحث "غراهام أليسون"، أستاذ بكلية كينيدي جامعة هارفارد، في مقال نشره موقع دورية "فورين آفيرز"، أن أفكارا قليلة اكتسبت رواجا أكثر انتشارًا داخل مجتمع السياسة الخارجية الأمريكي في السنوات القليلة الماضية مقارنةً بالنظام الدولي الليبرالي. في مقالي الأخير، "أسطورة النظام الليبرالي"، حددت ثلاثة ادعاءات جوهرية قدمها المدافعون عن هذا النظام: "أولاً ، كان النظام الليبرالي هو السبب الرئيس لما يسمى بالسلام الطويل بين القوى على مدى العقود السبعة الماضية.
ثانيًا، كان بناء هذا النظام هو المحرك الرئيس لانخراط الولايات المتحدة في العالم في تلك الفترة. وثالثاً، أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هو التهديد الرئيس للنظام الليبرالي، وبالتالي للسلام العالمي. ورأى الكاتب أن كل ادعاء يحتوي على قدر من الحقيقة، لكن كل منها خطأه أكثر من صوابه.
الحقيقة الأكثر إزعاجاً بالنسبة لأولئك الذين يزعمون أن النظام الليبرالي لعب دورا رئيسا في السلام الطويل منذ الحرب العالمية الثانية، هو أن أكثر من 40 سنة من السنوات السبعين السلمية قد تمت أثناء الحرب الباردة. إن عدم وجود نزاع كبير بين القوى "لم يكن نتيجة للنظام الليبرالي، بل هو نتيجة ثانوية لتوازن القوى الخطر بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة". في هذه النقطة، يقول الكاتب، اقتبست من المؤرخ جون لويس جاديس.
لا يحاول "ليسنر وراك-هوبر" ولا "مازار" الدفاع عن الاقتراح القائل بأن النظام الليبرالي أدى إلى السلام الطويل. ولكن الكاتب في مقالته الأخيرة، المثيرة للجدل، اقتبس من الباحث في العلاقات الدولية، جوزيف ناي، تمسكه بهذا الادعاء، عندما أشار إلى أن "النجاح الواضح للنظام (الليبرالي) في المساعدة على تأمين واستقرار العالم على مدى العقود السبعة الماضية".
في الواقع، في السنوات الأخيرة، دافع العديد من المؤلفين عن نسخ من هذه الرؤية في الشؤون الخارجية. لننظر إلى اقتراح "جون إكنبيري"، الذي صدر في العام الماضي، القائل بأن المدافعين عن النظام اللبرالي "يجب أن يبدأوا باسترداد السرد الرئيس للسنوات السبعين الماضية. . . . لقد نجا العالم من حرب القوى العظمى".
في الشهر الماضي، اشترى 43 باحثًا دوليًا بارزًا حيزا في صحيفة "نيويورك تايمز" لنشر بيان بعنوان: "لماذا يجب علينا الحفاظ على المؤسسات والنظام الدولي". أقوى ادعاء يقدمونه هو أن "النظام الدولي الذي تم تشكيله بعد الحرب العالمية الثانية. . . ساهم في . . . أطول فترة في التاريخ الحديث دون حرب بين القوى الكبرى"، إن مفردة "ساهم" تثير السؤال التالي: "لكن بكم"؟
إن تحديد الأهمية النسبية للعوامل التي حالت دون حروب القوة العظمى على مدى السنوات السبعين الماضية ليس مجرد تمرين أكاديمي. فإذا لم يكن السلام الطويل مصادفة، وهو أمر يتفق عليه كل من ليسنر وراب-هوبر ومازار، فإن تحديد أي العوامل الأكثر أهمية هو أمر حاسم لإبقائها مستمرة. يزعم "مازار" أن الأمم المتحدة، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومؤسسات أخرى كانت "مكملاً للعوامل الأخرى التي تكفل السلام والازدهار". بالنسبة لكل منها، يجب أن نسأل: هل كان ذلك ضروريًا؟ لو لم تكن موجودة، فهل ستذهب القوى العظمى إلى الحرب؟ ثم ينبغي أن نسأل: هل يكفي هذا لضمان السلام؟
كان العامل الوحيد في نظام ما بعد الحرب الذي كان كافيا، في حد ذاته، للحفاظ على السلام هو الجمع بين القوة العسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة مع تصميم القادة الأميركيين على استخدام تلك القوة لاحتواء الاتحاد السوفييتي وفي النهاية إلحاق الهزيمة به.
أوافق على أنه في إنشاء الأمم المتحدة وإنشاء مؤسسات بريتون وودز وإعادة إعمار ديمقراطيات ألمانيا واليابان وتعزيز حقوق الإنسان، كانت الولايات المتحدة تعمل بشكل جيد، وأن تقويض هذه الجوانب من النظام العالمي يضر بالمصالح الوطنية للولايات المتحدة، لكنَ أياً من الردود لا يقدم حجة مقنعة بأن أيًا منها كان كافياً أو ضروريا لسلام طويل. ومن الجدير بالذكر أن العديد من التحالفات والاصطفافات غير الليبرالية، من التحالف الغربي مع الاتحاد السوفييتي في الحرب العالمية الثانية إلى توافق الولايات المتحدة مع الصين الشيوعية ضد الاتحاد السوفيتي منذ السبعينيات، أسهمت أيضًا في الانتصار في الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة.
* التهديد السوفيتي:
الادعاء الثاني، أن الحاجة إلى بناء النظام الليبرالي دفعت الولايات المتحدة إلى التخلي عن عزلتها التقليدية، كما أعرب عن هذا أستاذ العلوم السياسية، ناي. وقد كتب: "النجاح الواضح للنظام الدولي الليبرالي. . . أدى إلى إجماع قوي على أن الدفاع عن هذا النظام وتعميقه وتوسيعه كان ولا يزال يشكل المهمة المركزية للسياسة الخارجية الأمريكية".
أزعم أنه على العكس من ذلك، فإن المحرك المركزي لانخراط الولايات المتحدة في العالم في هذه العقود لم يكن الرغبة في دفع الليبرالية خارج الحدود ولا بالحاجة إلى بناء نظام دولي ليبرالي. لقد كان تصميم القادة على القيام بكل ما يرونه ضروريا للحفاظ على الديمقراطية الليبرالية في دولة واحدة فقط، الولايات المتحدة، مما يعتبرونه تهديدًا وجوديًا للشيوعية السوفيتية.  
يستشهد "مازار" بالمؤرخ "مارك مازورز" لدعم موقفه بأن هدف واشنطن الأصلي ذهب أبعد من الاحتواء. ولكن كما يشير "مازور" بنفسه بحق: "كان أنموذج منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) هو معاهدة البلدان الأمريكية لعام 1947 للمساعدة المتبادلة التي افتتحت من خلال الحديث عن الأمم المتحدة والحاجة لتجنب الحرب بين الموقعين، ولكن كان في الواقع تحالفاً عسكرياً ضد التهديد من خارج نصف الكرة الأرضية".
أتفق مع كل من الردود بأن النظام الليبرالي يشكل جزءًا من تفسير المشاركة الأمريكية في الأحداث الخارجيو. وكما قلت، لم تهدف الولايات المتحدة أبداً إلى الحفاظ على الديمقراطية الليبرالية في الوطن، وفقط، فعندما أعادت بناء خصومها المهزومين بعد الحرب العالمية الثانية ودعمت حلفاءها في أوروبا الغربية، سعت أمريكا لبناء ديمقراطيات ليبرالية. لكن هذه الجهود كانت، كما أقترح، لبنات بناء في نظام مصمم أولاً وقبل كل شيء لهزيمة الاتحاد السوفيتي. لو لم يكن هناك تهديد سوفيتي، لما كانت هناك خطة مارشال ولا حلف شمال الأطلسي. وكما كتبت: "لم تروج الولايات المتحدة أبدًا لليبرالية في الخارج عندما اعتقدت أن ذلك سيشكل تهديدًا كبيرًا لمصالحها الحيوية في الداخل".
* أبعد من ترامب:
أما ما يتعلق الأمر بالادعاء الثالث الذي قدمه العديد من أنصار النظام الليبرالي، فإن ترامب يمثل التهديد الرئيس للنظام العالمي، فإني أتفق معهم على أن سوء فهم ترامب للقوة التي تأتي من الوحدة مع الحلفاء وسحب الولايات المتحدة من المبادرات التي دافعت عنها الإدارات السابقة، والتي تهدف إلى تعزيز التجارة العادلة وتقييد انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، من شأن كل هذا أن يقوض النظام الدولي الليبرالي. لكنني أزعم أن تراجع القوة العالمية للولايات المتحدة، والصعود الفضائي للصين، وعودة روسيا، والأهم من كل ذلك، الفشل الطويل الأمد للديمقراطية الأمريكية، أهم من ترامب.
في الفصل الأخير من كتابي الأخير حول التحدي الصيني، تساءلت: "ما الذي يشكل أكبر تهديد منفرد لمكانة أمريكا في العالم؟"، والإجابة كما خلصت إليها: "إخفاقات النظام السياسي الأمريكي". فالتحدي الذي يواجه الأميركيين اليوم ليس أقل من إعادة بناء ديمقراطية ناجحة داخل حدود بلدهم. للأسف، فقد الكثير من الأمريكيين، خاصةً في مجتمع السياسة الخارجية، إحساس الآباء المؤسسين الحريصين على كيفية إنجاح التجربة الأمريكية الجريئة والخطرة في الحكم الذاتي.
بينما يحاول الأمريكيون لتفعيل الليبرالية في الوطن، يجب ألا تتشبث السياسة الخارجية للولايات المتحدة بالوضع الراهن أو تحاول العودة إلى ماضٍ متخيل عندما صاغت الولايات المتحدة العالم على صورتها. وكما كتبت، فإن الأميركيين يحتاجون إلى "طفرة من الخيال الإستراتيجي إلى أبعد من الحكمة التقليدية الحالية...". هذا سهل قوله، ولكن من الصعب القيام به.

جيفري لانج.. والهدف من الحياة! ج(1)



جيفري لانج.. والهدف من الحياة! ج(1)

30 أغسطس, 2018
رَشيد الغُولي
بشكل مختصر أود أن أتكلم معكم، عما يحدثنا به القرآن الكريم، انطلاقًا من وجهة نظر رجل قل نظيره في زحمة هذه الحياة، المليئة بالمتناقضات، وفي نفس الوقت، المليئة بالحكم والعبر لمن أراد أن يعتبر، وكذلك من هداه المولى عز وجل إلى الطريق المستقيم، ومن عليه سبحانه تعالى بنعمة الفكر والتفكر، وأعانه على تحمل المشاق من أجل تحصيل العلم النافع في الدنيا والآخرة.
يقول الدكتور المقتدر جيفري لانج في كثير من محاضراته عبر العالم، وفي كتبه، كلامًا دقيقًا رائعًا جميلًا يستحق منا جميعًا الوقوف عنده، ومذاكرته، قصد بها استخلاص المعاني العميقة، ومعرفة الأسس التي بني عليه هذا الفكر وهذا التفكير، خصوصًا وإذا كان الأمر يتعلق بالتدبر في كلام رب الأرباب رب العرش العظيم، فمن بين الحقائق الدقيقة التي حاضر فيها كثيرًا، حديث القرآن الكريم بشكل مستفيض عن الهدف من الحياة، وأظن أنه موضوع غاية في الأهمية، نظرًا لأن الدين الإسلامي نوعًا ما يعاني غربة طويلة، تستمد قوتها من الحصار الممنهج والمنظم لمجموعة لا بأس بها من اللاعبين المحترفين، فتارةً من طرف الرافضين لمبدأ التدين بشكل عام، وتارة أخرى عن طريق إلصاق التهم وتحميل هذا الدين العظيم، ما لا يمت إليه بصلة، لا من قريب ولا من بعيد، بسبب جهل الأبناء وظلم الأعداء، هذا الدين الذي أسس للرحمة والمغفرة والتسامح والحب والجود والكرم. بالإضافة إلى أن الكثيرين حول العالم عندهم شغف متزايد بسبب كثرة الأقاويل والأكاديب والدسائس التي تحاك حول الحمولة الفكرية والعقائدية لهذا الدين، وقدرته على بناء مجتمع متماسك، ومتزن، ومنتج، وراق، وناجح بكل المقاييس، وفي كل الاتجاهات، وعلى جميع المستويات.
يقول جيفري لانج في معرض كلامه، بأنه يظن أن أول سؤال يود الناس معرفة الإجابة عليه، خصوصًا عند التفكير في دين جديد، هو كيف يقدم هذا الدين الهدف من الحياة، والغرض من وجود الإنسان بصفة عامة، وما هي بنود رسالته قيد حياته، ولذلك سوف نبدأ بإذن الله تعالى من وجهة نظر الملحد، والسبب المباشر أننا نريد التكلم عن نوعية الإجابات التي يحملها القرآن الكريم للملحد. كما أنه قدم للعالم بأسره، وبكل شجاعة وأمانة، في مشهد راق جدًا، الأحدات والتجارب القاسية التي مر بها في طفولته وشبابه، ودفعه دفعًا ليصبح ملحدًا بعدما كان مسيحيًا، ثم في المقابل كيف استطاع تغيير وجهات نظره واعتناقه للدين الإسلامي بعد ذلك.
ولد وترعرع في أسرة مسيحية، وكانت له أم رائعة، قاطعًا قطعًا تامًا بأنها لم تلعب أي دور في تحوله إلى إنسان ملحد. كانت والدته سيدة رائعة تتمتع بالوقار والحب، وكانت محبوبة من طرف جيرانها وعامة الناس، خصوصًا أنها كانت تشتغل ممرضة في قسم الحالات الميؤوس منها، الحالات التي أشرفت على الوفاة.
أما بالنسبة لوالده، فقد كان رجلًا صعب المزاج، ولأسباب غير معروفة، كانت بداخله أحاسيس غريبة، تولد له باستمرار حجمًا كبيرًا من الغضب، فكان في كل ليلة يحاول كبح جماح هذا العنف المكبوت، عن طريق شرب كمية كبيرة جدًا من الكحول، وللأسف الشديد كان هذا الإدمان، يجعله سريع الاستثارة، ويستمر هذا السلوك السيئ، ليلة تلو الأخرى، مما يجعله (الدكتور جيفري لانج) وإخوانه الأربعة، يعيشون حالة من الرعب الدائم، وبحكم أنه الأصغر سنًا، والأكثر التصاقا بأمه، كان هو الأكثر تأثرًا، فكان أسوأ ما شاهده في حياته هو اعتداء والده على أمه، بشكل متكرر ودائم، جعله يعيش كابوسًا يوميًّا، لا يقوى أي طفل على تحمله.
إنه ليس الأسوا على الإطلاق أن يكون الطفل هو الهدف الأهم للأب عند العنف، لكن الكثير من الناس يعتقدون عكس ذلك، إلا أن هذا الأخير يجزم أنه في لحظة الهجوم، لا يفكر إلا في شيء واحد، هو كيفية مقاومة هذه اللكمات، والصبر، حتي يظل على قيد الحياة، فعندما يكون تحت طائلة الضرب، أو اللكم، أو الطرد، أو التهديد، حتما سوف يكون مصدومًا من هول الفاجعة، ولا شيء يدور في فكره وتفكيره غير الهرب، نعم لا شيء غير الهروب من هذا الواقع المرير، لا وجود لأي تفكير بخصوص ما سوف يحدث بعد ذلك، أو في العواقب الوخيمة، أو في الصدمات النفسية، على الأقل وقت حدوت هذه الوقائع الأليمة، لكن ربما بعد أن ينتهي هذا المشهد القاتم برمته، غير الإنساني بالمرة، قد يسامح وقد يلوم نفسه لسبب من الأسباب.
لكن أخطر ما حصل مع جيفري لانج، والذي يعتبره ويصنفه هو شخصيًا بالأسوأ على الإطلاق، هو كمية الرعب المدمر الذي يستحوذ على قلبه وعقله، هذا بالإضافة الى الشعور بالذنب، عندما يرى قساوة الاعتداء الجسدي والمعنوي على والدته، لأتفه الأسباب، وبدون أي سبب يذكر، مع العلم أن هذه الأم هي الشخص الوحيد في هذه الحياة التي كانت تمده بالحب، والحنان الدفئ، والأمان، والحماية.
الشعور بالذنب أسوأ بكثير من الشعور بالخوف، فكل لحظة في ظل هذا الشعور تمر كشهر، وكل شهر منه كسنة، وكل سنة منه بسنين، نعم إنه عمر من الحزن والغبن، يأتيك فيه هذا الإحساس من كل الاتجاهات، من كل حدب وصوب. أولًا لتنامي مشاعر الكره لوالده، لأننا تربينا على احترام آبائنا، ونولد وبداخلنا هذه الرابطة القوية التي تربطنا بهم وتجمعنا معهم، لكن معايشة هذه الأحداث الأليمة، تولد نوعًا من الهياج الداخلي، تتجاذبك المشاعر في اتجاهات متعاكسة، وكذلك شعور بالذنب الناتج عن احتمالية أن تكون أنت السبب الحقيقي في هذه الأحدات، كما أن معرفتك المسبقة بعدم قدرتك على فعل أي شيء من شأنه إيقاف هذا السلوك الطائش يزيد الجرح عمقًا وتعقيدًا، لا سيما وأنه فضل الهروب أو البكاء على المواجهة، وبهذا نكون قد استبدلنا احترامنا لأنفسنا، بأمننا الشخصي.

كيف أنقذت مذبحة رابعة الإسلاميين!

 كيف أنقذت مذبحة رابعة الإسلاميين!

محمد جلال القصاص
باحث دكتوراة علوم سياسية
بعد ثورة يناير اتخذ الإخوان المسلمون من ميدان رابعة العدوية مرتكزًا لهم أكثر من مرة، وتردد أن سبب ذلك قرب رابعة من القصر الجمهوري (مقارنة بميدان التحرير)، بمعنى أنهم يحتشدون في مكانٍ قريبٍ من صانع القرار يضغطون عليه –كما في حالة المجلس العسكري- أو يدعمونه-كما في حالة الدكتور مرسي-. وفي هذا السياق بدأت الدعوة للتجمع في ميدان رابعة قبل الانقلاب بأسبوعٍ تقريبًا. وكنت خارج مصر لسنوات طوال قبل ثورة يناير2011 وعدت بعدها، وحين خالطت الإسلاميين امتلأت يقينًا بأنهم يتحركون لبلاء لا لتمكين؛ واتجهت لدراسة السياسة أملًا في أن أفهم وأنصح نفسي وغيري بعلم؛ وجاءت رابعة وأنا أُجمع المادة العلمية لرسالة الماجستير!

كنت في الميدان قبل الإنقلاب (حضرت الجمعة التي تجمعوا فيها وانصرفوا،ثم الجمعة التي تجمعوا فيها وبقوا إلى أن حدث الانقلاب يوم الاربعاء3 يوليو2013)، وكنت فيه ليلة الانقلاب، وكنت فيه بعدها. ولم أكن أجلس. كنت أتحرك بين الجموع أرى بعيني وأسجل ما أراه من ملاحظات، ونثرت ذلك في رسالة الماجستير، وهي مطبوعة. حين أعلن العسكر انقلابهم، قلت: الآن تتحرك الجموع إلى القصر الجمهوري نصرةً للرئيس. ولكن حدث شيء آخر!

أطبق عدد قليل من العسكر (كانوا من الحرس الجمهوري) على المعتصمين في رابعة، جاءوا من الجهة الشمالية إلى محاذاة طيبة مول، ولم تكن قد دخلت في الاعتصام وقتها، وشغلوا المعتصمين بالميدان عن التحرك لنصرة الرئيس، ومع الصباح تراجع العسكر إلى بداية شارع عباس العقاد ثم انسحبوا بعد ذلك، وبعد رحيل العسكر لم يتحرك الذين في الميدان.. ظلوا مكانهم يهتفون!
ظهر بوضوح أن قادة الموقف يومها ينتظرون الحسم من الخارج. كأنهم يعتقدون أن الخارج هو الذي يفصل في الخصومة وأنه يميل لمن هم أكثر عددًا.. يظنون أن الخارج مع الأغلبية حسب مبادئ الديمقراطية
وقتها لم يكن في الميدان سوى الإخوان وعدد قليل من عوام الناس، تحديدًا من الصعيد (جنوب مصر، ووجود الصعايدة بجوار الإخوان مما لم أجد له مبررًا إلى اليوم ولم أجد من التفت إليه وحاول تفسيره)، وبدأ الناس يتجمعون وتضاعف عدد المعتصمين، وبدأ التحرك من الميدان، وبالفعل تحركوا إلى دار الحرس الجمهوري، وكنت يومها بين الحضور، كانت الأعداد كثيفة جدًا، وكان العسكر قلة، وكانت الحماسة مرتفعة، وقلت: سيدخلون دار الحرس الجمهوري ويحررون الرئيس (كانت تتردد إشاعة قوية بأن الرئيس بداخل دار الحرس الجمهوري)، ولم يفعلوا. انفض المشهد الملتهب فجأة بعد خطابٍ من أحد (صقور) الإخوان فك الله أسره!!

حين انتهى هذا (الرمز الصقر) من كلمته قلت: لن يجدوا فرصة كهذه، وأن العد التنازلي قد بدأ، وأخذت بعضي واتجهت لرابعة أكمل تسجيل الملاحظات على الصحوة الإسلامية، فقد كانت رابعة فرصة ذهبية لرؤية أكبر عدد ممكن من المنتسبين للصحوة الإسلامية يتحدثون بشكل طبعي. بل في أزمة، كانت غنيمة شهية لمن يريد أن يعرف ويفهم أفراد الصحوة عن قرب؛ وبذلت جهدًا ووقتًا للسماع والحديث. ووقتها استيقنت من أن الإخوان لن يحسموا.

ثم جاءت مذبحة الحرس ومذبحة المنصة والرمي على السائرين في المسيرات من أقسام الشرطة، والهجوم على المعتصمين في النهضة، وكثر القتل في المعتصمين، واحتشد الناس بالملايين في رابعة والنهضة وفي المسيرات المليونية في المدن الكبرى وأحياء القاهرة المكتظة بالسكان (كالعمرانية والهرم)، حتى كانت الشوارع تموج بالبشر موجًا، وظهر أمران متناقضان: حدة في الخطاب، وتراجع واضح في الفعل على الأرض.

ظهر بوضوح أن قادة الموقف يومها ينتظرون الحسم من الخارج. كأنهم يعتقدون أن الخارج هو الذي يفصل في الخصومة وأنه يميل لمن هم أكثر عددًا.. يظنون أن الخارج مع الأغلبية حسب مبادئ الديمقراطية.. يظنون أنه مؤمن بكفره. وظني أن ثمة من يتواصل معهم في الخفاء ويقنعهم بعدم الحسم وأن الأمور ستكون على ما يرام، ظني أن ثمة من هدهدهم وأضعف عزمهم إلى أن نقضي الأمر وُفرض عليهم واقعٌ جديد؛ ومن شواهد ذلك ظهور اليافتات المكتوبة بالإنجليزية والأحاديث باللغة الإنجليزية على المنصة، بل وفي داخل الميدان في المناطق البعيدة عن الكاميرات، علمًا بأن تردد الصحفيين الأجانب كان مؤقتًا.. جاءوا بشكل كثيف في يومٍ أو يومين مع بداية الاعتصام ثم رحلوا. كأن قد جاءوا في سيارة واحدة!

ومما يدعم فكرة أن القيادات الإسلامية وقفت مكانها تنتظر حلًا من الخارج وأن غايتهم انحسرت في إظهار كثرة عددهم ليميل الخارج إليهم أن الاعتصام تحول لما يشبه السكن الدائم (مساكن اللاجئين)، وعرف أهل الخيام بعضهم، وظهرت أنشطة اجتماعية مختلفة في الاعتصام غلب عليها البعد الدعوي وخاصة من السلفيين الذين ملؤوا الميدان نصرة للإخوان، وأصبحت المسيرات روتينية، وبدأ الحديث عن إنشاء مدارس في رابعة، ما يعني أن الاعتصام مستمر للأبد!

مع مرارة رابعة.. وآلمها.. وما أعقبها من مطاردة واعتقال وإهانة لنا ولأهلنا إلا أنها أنقذت الإسلاميين من ورطة قيادة المشهد، وأجلستهم حيث يحبون.. أو حيث يحسنون: في السجون



في ذات الوقت كان الفريق الآخر يطور واقعًا، بكل ما يستطيع من أدوات: الإعلام والأمن، والخطاب الديني الموافق له، وبناء السجون والمعتقلات، والتجريب العملي (مذبحة الحرس والمنصة والاشتباك مع المتظاهرين في المحافظات). أصبح المشهد بين فريقين: فريق كل أدواته الرفض وإظهار كثرة العدد ويفتقد أي رؤية لتطوير الواقع بل يشعر أنه في ورطة؛ وفريق يمتلك رؤية شديدة الوضوح تستهدف فرض واقعٍ جديد خلي من الحركات الإسلامية كفاعلٍ، وبيده أدوات كثيرة يستخدمها ويطورها ويضيف إليها. كان لابد من الفض انقاذًا للإسلاميين قبل غيرهم، فلم يكن لديهم حلًا ولا تطويرًا للمشهد كأن قد أقسموا على أن لا يتحركوا من تلقاء أنفسهم.

تضخم سؤال لم يفارقني: ماذا يريد الإسلاميون في مصر؟ الهدف المجمل حاضر بقوة، وهو تحكيم شرع الله، أو: استئناف الحياة الإسلامية من جديد. وحين تسأل عن التفاصيل لا تجد. بضاعتنا في مصر – وغير مصر في الغالب- هي الرفض.. هي الممانعة، ولا نملك حلًا ولا أدواتٍ لفرض حل في حال وجوده، ولذا ننتظر الحسم من خارجنا، وكشفتنا رابعة وأخواتها، ولكننا لم نعِ الدرس بشكلٍ جيد، والسبب: أننا نفسر كل ما يقع علينا بأنه ابتلاء يرفع الله به درجاتنا؟، علمًا بأن طرحَ السؤالِ الذي يبحث عن سبب الفشل هو أول ما فعله الصحابة يوم أحد، فقبل أن ينصرفوا من المعركة تساءلوا عن سبب الهزيمة: (أنى هذا؟)، ونحن لا نفعل مثلهم..لا نطرح أسئلة على التجارب المتعثرة، بل نمضي قدمًا!
  
فمع مرارة رابعة.. وآلمها.. وما أعقبها من مطاردة واعتقال وإهانة لنا ولأهلنا إلا أنها أنقذت الإسلاميين من ورطة قيادة المشهد، وأجلستهم حيث يحبون.. أو حيث يحسنون: في السجون.. يشتكون الظلم والظالمين، ويتنادون بأن البلاء سنة الله في المرسلين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وهو حق يسترون به باطل!

الأربعاء، 29 أغسطس 2018

قوات مكافحة التعاطف

قوات مكافحة التعاطف
 وائل قنديل

ليست المرة الأولى التي يصف فيها حمدين صباحي السلطة الحالية في مصر بما تستحق، وليست الأولى، أيضاً، التي يقف فيها متّهماً بأنه خلية أخوانية، من جانب أتباع عبد الفتاح السيسي، أو حصان طروادة الذي يؤدي دوراً خبيثاً، من جانب غلاة المعسكر الآخر.

في سبتمبر/ أيلول من العام الماضي 2017، تحرّكت البلاغات الأمنية والصحافية ضد صباحي، حين أعلن أن عبد الفتاح السيسي هو النسخة الأكثر رداءةً من نظام مبارك الرديء، هو الاستبداد فجا وفاجرا، هو العداء للفقراء، هو الانصياع لصندوق النقد الدولي ومؤسسات التمويل الغربية، هو التبعيّة والرضوخ للمهيمن الاستعماري، هو العلاقات الدافئة مع العدو الصهيوني، وهو الضحكات المبتذلة مع الكيان الصهيوني، وهو التفريط لأول مرة في تاريخ مصر في أرض مصر في تيران وصنافير، وهو العدوان بالقمع والسجن والمطاردات والاختفاء القسري والقتل خارج القانون على كل صوت حر “.

والآن، وبعد عام، تقريباً، يكرّر صباحي القول، بعبارات أقوى وأوضح، حيث يعلن في مؤتمر ما تطلق على نفسها “القوى المدنية الديمقراطية” الآتي: اللي عاوز يقف مع الشعب المصري والدولة المصرية عليه أن يقف ضد هذه السلطة، لأنها سلطة فساد، واستبداد وغباء واحتكار وتجويع لأغلبية المصريين سلطة تبعية، وبالتالي تغيير هذه السلطة وواجب على كل مصري”.

وتابع: “هذه السلطة سلطة منكر، ويجب العمل على تغييرها، بقلبه، بلسانه، بيده، بكل ما استطاع سلميًا، لأننا بدون الشعب لا حول لنا ولا قوة، ليس لنا سوى الله والشعب، ونحن نثق في الشعب المصري، وعلينا أن نخوض كل الانتخابات ونجهز لها”.

مرة أخرى، تتحرّك البلاغات، تطالب برأس صبّاحي “الإخواني العميل الخائن.. إلخ إلخ” وتنصب المشانق الصحافية. وعلى الجانب المقابل، تبدأ حملات التشفّي والتشكيك، من تيار “لا تسامح.. لا تعاطف.. لا تفكير”ليلتقي الرافدان في تيار كاسح من الهستيريا، يرفض كلمة الحق، إذا جرت على لسان المخالفين، وهذه هي الوضعية الأمثل لنظامٍ يهمه كثيراً أن يستمر الحريق في حقول رافضيه بالكلية، ومعارضيه بالتجزئة، لتبقى حالة التآكل الذاتي والانتحار الجماعي قائمة، حتى يوم القيامة.

والحقيقة، أن كلام حمدين صبّاحي الأخير في توصيف السلطة الحالية، وضرورة التخلص منها، بوصفها المنكر، هو الأقوى، حتى الآن، ولا يختلف عليها اثنان عاقلان، ويبقى الخلاف الواجب والمستحقّ في الرهان الساذج على الانتخابات، مرة أخرى، لتغيير هذا المنكر المدجّج بأسلحة البطش والغطرسة، والقدرة على التزوير والتزييف وإبادة الخصوم المحتملين من على وجه الأرض.

في ذلك، من حقّك، بل من واجبك، أن تختلف معه وترفض طرحه، الذي أظهرت التجربة العملية تهافته مرتين، الأولى مع صبّاحي شخصياً في 2014 والثانية في 2018 تلك التي سميت انتخابات، ولا تمتّ لمفهوم الانتخاب بصلة، بل أن صبّاحي نفسه قاد حملة مقاطعة هذا العبث، تحت شعار “خليك في البيت”، وإن كان قد بارك ترشّح خالد علي في وقت مبكر، ناهيك عن عدم احترامه شخصيًا مخرجات الانتخابات الحقيقية الوحيدة، التي حلّ بها ثالث الترتيب.

أيضاً، لعل السيد صباحي يدرك أنّ “سلطة المنكر” تحتقر مفهوم الانتخابات الحقيقية، وتمارس إذلالًا منهجيًا لكل من فكّر في الانتخابات الديمقراطية، طريقاً شرعياً وحيدًا للوصول إلى الحكم، فخلف أسوار السجون الآن أول رئيس منتخب ديمقراطياً، الدكتور محمد مرسي، ومنافسه في عملية الانتخاب الوحيدة، الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، بينما يقبع في بحبوحة الإقامة الجبرية، الصامتة المستكينة، الجنرال أحمد شفيق، منافس الدكتور مرسي في جولة الإعادة، فيما يتهدّد المرشحين الآخرين، حمدين وخالد علي، مصير الاعتقال والتنكيل بالبلاغات والاتهامات… وحده عمرو موسى نجا من المفرمة، بعد أن أعلن انصياعه التام للسلطة (المنكر).

سيقول المتوجّسون من حمدين صبّاحي، إنه كان عنصراً مهماً في صناعة الوضع الكارثي الذي تتردّى فيه مصر، وهذا صحيحٌ واقعاً، وسليم منطقاً، وأزعم أن أرشيف كاتب هذا السطور يحفل بعديد المقالات التي تدين حمدين، وآخرين، غير أن الموضوعية تقتضي أن نقول لمن يعلن موقفاً محترماً: أحسنت، كما نقول له خسئت حين “يرتكب” موقفاً معادياً لكل ما هو حق، وكل ما هو إنساني، مستسلماً لشهوة غل وانتقام من المختلف معهم سياسياً وأيديولوجياً.

الآن، صبّاحي بمواجهة رياح الاتهام بالخيانة والأخونة، مهدّدًا في حريته وأمنه، عقابًا على الجهر بمعصية الحاكم المنكر. وبناء عليه، أعلن تضامني الكامل مع حقه في الحريّة، وفي مراجعة الذات، وفي الاختلاف، على الرغم من ضجيج “قوات مكافحة التعاطف”.

هل حقاً فكر المسلمون في إجلاء النصارى من الأندلس؟

هل حقاً فكر المسلمون في إجلاء النصارى من الأندلس؟
أحمد الظرافي
النصارى في ظل الحكم الإسلامي للأندلس:
لقد كان مبدأ حرية العقيدة غالبًا على حكام المسلمين في الأندلس بعد الفتح، فقد سمحوا طوال مدة عزهم ومجدهم للنصارى بالاحتفاظ بحريتهم الدينية، وكان لهم مطران مركزه طليطلة ومحل إقامته قرطبة، وتركوا لهم أغلب كنائسهم وأديرتهم، كما تركوا لهم حرية الاحتكام إلى شريعتهم وقوانينهم، كما سمحوا لهم بالاحتفال بأعيادهم ومواسمهم، وإقامة علاقاتهم الاجتماعية بحسب أعرافهم القديمة، واحتفظ الذين يملكون منهم أراضي تزرع بملكية أرضهم مقابل مقدار معين من الخراج بحسب طيب الأرض وغلتها؛ وذلك وفقًا لعهد المصالحة بينهم وبين المسلمين، وطبقًا لشروط معينة منهاالالتزام بدفع الجزية وبأحكام أهل الذمة وعدم منع أي نصراني يريد الدخول في الإسلامولما كان النصارى يشكلون أقليات كبيرة ضمن المجتمع الإسلامي، في القواعد الأندلسية الكبرى مثل قرطبة وإشبيلية وطليطلة وسرقسطة وبلنسية، فقد أنشأت الحكومة الأندلسية منذ الفتح منصب«القومس»(comes[1]، ليكون هذا القومس مرجعهم الرئيس في شؤونهم الروحية، وللإشراف على النظام والسكينة، ولجمع ما هو مقرر عليهم من جزية وخراج، وكانت الحكومة الإسلامية تترك لهم في معظم الأحوال المجال لاختيار هؤلاء القوامسوكان القومس يمارس سلطات مأمور الشرطة على طائفته، وكان يناط به جباية الضرائب، مسؤولًا عنها، يعاونه قاضٍ خاص هو «قاضي العجم»، أو الرقيب عليهم، يفض المنازعات التي تنشب بين النصارىوكان القومس في كل مدينة من المدن من الشخصيات ذات النفوذ، ومن أهل الحنكة والدهاء والمداراة والمعرفة بالجباية، وكان له في معظم الأحيان مكانة خاصة لدى الأمير أو الخليفة، إذ كان مستشاره في كل ما يتعلق بشؤون النصارى وأحوالهم، كما فعل أرطباس بن غيطشة عندما أشار على أبي الخطار الحسام بن ضرار الكلبي، أمير الأندلس، بتفريق الشاميين عن دار الإمارة قرطبة وإنزالهم في الكور[2]ولذا فقد اطمأن السكان الأصليون لحكامهم الجدد، وانكسر حاجز الخوف من نفوسهم، منذ ولاية عبدالعزيز بن موسى بن نصير (95-97هـ).والولاة الذين أتوا بعد عبدالعزيز، أمثال السمح بن مالك الخولاني (100-102هـ)، وعنبسة بن سحيم الكلبي (103-107هـ)، وعبدالرحمن الغافقي (112-114هـ)، وعقبة بن الحجاج السلولي (116-123هـ)، وغيرهم من الولاة انتهجوا سياسته المتسامحة نفسها إزاء النصارى، وكان هذا أيضًا هو نهج ملوك بني أمية وديدنهم في عهدي الإمارة والخلافة (138-399هـ). والأمثلة التي تدل على أن ولاة الأندلس وملوك بني أمية قد أحسنوا إلى النصارى ولم يسيئوا إليهم كثيرة معلومة وقد تحدثت عنها كتب التاريخ باستفاضة وأشاد بها المؤرخون الأوربيون أنفسهم[3].
والمهم أنه بسبب هذه السياسة المتسامحة التي انتهجها الحكام المسلمون في الأندلس، ولاةً وأمراء وخلفاء، إلى جانب محاسن الإسلام نفسه سنجد أن أكثرية سكان الأندلس من النصارى وغيرهم قد أقبلوا منذ سنوات الفتح الأولى، ودون أن تحكمهم عقد الخوف والتهويل، على تقبل عقيدة الإسلام، والتحول إليه[4] عن قناعة ودون أي ضغط أو إكراه، فلم يرغم إنسان واحد على أن يترك دينه من غير قناعةٍ واختيار، تطبيقًا لقول الحق سبحانه وتعالى{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]وتطبيقاً لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سماحته وعفوه وميله لكي يفتح قلوب الناس قبل أن يفتح بلادهم، بعد أن تلين قلوبهم لعظمة ومحاسن الإسلام وأخلاق رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم[5]وقد جاء ذلك الإقبال على الإسلام بعد أن علموا محاسن الإسلام وعظمته وفطرته، وبعد أن شاهدوا بأم أعينهم سماحة الفاتحين وسمو أخلاقهم، وتحطيمهم للنظام الطبقي غير العادل الذي فرضه القوط عليهم، ونشرهم لمبدأ المساواة بين الناس، وعدم التمييز بين مسلم وآخر إلا بالتقوى، وبعد أن تنسموا على أيديهم نسيم الحرية التي اكتملت بها إنسانيتهم، وأبدعت في ظلالها عقولهم، وجادت أنفسهم بالخير والبذل والعطاءوقد كان ذلك التحول المدهش إلى الإسلام من السكان الأصليين في الأندلس بداية التخالط السكاني والتمازج الثقافيولم يبقَ على عقيدته سوى قلةٍ من الكاثوليك، وذلك إلى جانب قلةٍ من اليهود، ولكن حتى هؤلاء وأولئك لم يلبثوا أن استعربوا ثقافة ولسانًا وأسلوب حياة، وذلك بعد حقبة قليلة من الزمن.
شبهة المستشرق الفرنسي رينو:
بيد أن المستشرق الفرنسي جوزيف رينو (1795-1867مصاحب كتاب «تاريخ غزوات العرب على فرنسا، ومن فرنسا على سافواي وبيمونت وسويسرا في القرن الثامن والتاسع والعاشر من التاريخ المسيحي بحسب روايات المؤرخين المسيحيين والمسلمين»[6]، الذي صدر بالفرنسية، في النصف الأول من ثلاثينات القرن التاسع عشر، والذي نقله إلى العربية المرحوم الأمير شكيب أرسلان، ونشره ضمن كتابه «تاريخ غزوات العرب في فرنسا وإيطاليا وسويسرا وجزائر البحر المتوسط».
أقول إن هذا المستشرق أثار شبهة كبيرة في كتابه المذكور آنفًا، فقد زعم أن الخليفة عمر بن عبدالعزيز فكّر في إجلاء النصارى من إسبانيا وجنوب فرنسا إلى إفريقيا، قالوكان الخليفة الجديد عمر بن عبدالعزيز اطّلع على ما دبّ من الخلل إلى موقف العرب بالأندلس فأنفذ إليها السمح بن مالك الخولاني أميرًا، وعهد إليه بإصلاح الأمور ورم الثغور..إلى أن يقولوكان الخليفة، قد أمر السمح بأن يقدّم له بيانًا عن البلدان المفتوحة وما فيها من النفوس والجبايات ليبرم في أمر الأندلس رأيًّا، فقد كان عمر بن عبدالعزيز شديد الخوف على الإسلام وكان قد هاله بقاء ذلك العدد الكبير من المسيحيين في تلك البلاد، واستشعر من ورائهم خطرًا على مستقبل المسلمين، ففكر في إجلاء مسيحيي إسبانيا وجنوب فرنسا إلى إفريقيا، حيث لا يكون من وجودهم تهلكة على الدولة، إلا أن السمح طمأن مخاوف الخليفة، قائلًا لهإن الإسلام ينمو وينتشر وتمتد شماريخه بسرعة في إسبانيا، وأنه لا يبعد اليوم الذي تصير فيه تلك البلاد بأجمعها تابعة لدين محمدقالروى ذلك بعض مؤرخي العرب، وأسفوا من كون السمح بن مالك الخولاني لم يعمل برأي الخليفة في هذا الموضوع[7].
ولا يخفى ما في هذا الكلام من طعن في الفتوحات الإسلامية، فكأن الهدف الأساسي للفاتحين هو الاستيطان في البلاد المفتوحة، وضم الأراضي وحيازتها، ثم تأمين سلامة أرواحهم، وضمان مستقبلهم فيها ولو كان ثمن ذلك هو إجلاء سكان الأقاليم المفتوحة من أصحاب الديانات الأخرى من أوطانهم، واجتثاثهم من جذورهم، وطردهم من أرضهم، كما فعل الصهاينة بأهلنا في فلسطين.
رد الدكتور محمد زيتون على هذه الشبهة:
على أن أحد المؤرخين العرب المعاصرين، وهو الدكتور محمد محمد زيتون، قد طعن في هذه الحكاية لعدم استنادها إلى دليل عقلي أو تاريخي، وكان أول من وقف على هذه الشبهة وحاول تفنيدها في حدود علميقاليذكر ابن عذاري أن عمر بن عبدالعزيز كان رأيه نقل المسلمين من الأندلس وإخراجهم منها لانقطاعهم عن المسلمين واتصالهم بأعداء الله الكفار، فقيل لهإن الناس قد كثروا بها وانتشروا في أقطارها، فعدل عن رأيه ذلك.. إلخ.
ثم عقّب على ذلك بالقول: كل ذلك واضحًا وصريحًا في أن عمر (كانيريد نقل المسلمين من الأندلسغير أننا نجد الأمير شكيب أرسلان بعد أن نقل كلام رينو السابق، يقول: هذا الرأي، في نقل مسيحيي إسبانيا وجنوب فرنسا إلى إفريقيا، لا نجد له أصلًا في المراجع العربية، ولسنا ندري من أين أتى به رينو. (قالومبلغ علمي، أنه لم يسبق في تاريخ المسلمين أن أجلي قوم من ديارهم لكثرة عددهم بالنسبة لعدد المسلمين الفاتحينوأنه لم يُجلَ عن دياره سوى اليهود، عندما حُملوا على ترك الجزيرة العربية، لا لكثرة عددهم، وإنما لإثارتهم الفتن والدسائس والقلاقل ضد المسلمين[8].
قلتكلام محمد زيتون هذا يقصد به بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة الذين أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة، ثم يهود خيبر ويهود فدك، الذين أجلاهم عمر بن الخطاب في خلافته، وذلك تنفيذًالأمر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «لا يبقين دينان في أرض العرب»[9]، ولخرقهم للعهود والمواثيقوكان الهدف من هذا الإجلاء تأمين قلب الأمة الإسلامية، ولتستريح هذه الأمة من إفكهم وضلالهم، ومن ثم تنهض جيوش الفتح بحمل الدعوة للمشرق والمغرب، شعارها «الإسلام أو الصلح أو الحرب» والأمان لأهل الكتابوهؤلاء اليهود لم يعرفوا شرفًا في حرب الإسلام، ولم يدخروا وسعًا في الكيد له، ولم يراعوا حقوق الجوار، ولم يلتزموا بالعهود، فكان لا بد من إجلائهم وتنظيف الأرض منهم.   
استدراك على رد الدكتور زيتون:
بيد أن رد الدكتور محمد زيتون السابق فيه ثغرة، نرجو أن نكون موفقين في سدها، ذلك أن الإجلاء من جزيرة العرب لم يقتصر فقط على اليهود وإنما شمل النصارى أيضًا، ونصارى نجران بالتحديدولكن هذه المسألة مسألة خاصة متعلقة فقط باليهود والنصارى في جزيرة العربمهد الإسلام ومركز المقدسات الإسلامية، وهي محكومة بنصوص شرعية فهذا أمر ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تكن سياسة ثابتة لخلفاء المسلمين إزاء اليهود والنصارى في الأمصار والولايات المفتوحة، فقد روي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الأخير: «لا يبقين دينان في أرض العرب» (متفق عليه، من حديث أم المؤمنين عائشة). وعن عمر بن الخطاب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلمًا» (أخرجه مسلم وغيره). وعن أبي عبيدة قالآخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم: «أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب...» (أخرجه أحمد وغيره)[10]وقد أجلى عمر بن الخطاب يهود خيبر ويهود فدك، من أرض العرب، مستندًا إلى هذا الحديث، خاصة بعد أن أساء يهود خيبر للمسلمين، وأساؤوا إلى عبدالله بن عمر، بل وكم كانوا قد أساؤوا قبل ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وآذوه وحاولوا قتلهكما أجلى عمر بن الخطاب نصارى نجران، وكانت كعبة النصرانية جنوبًا، عن الجزيرة العربية واشترى عقاراتهم وأموالهم، وذلك أن أهل نجران مارسوا الربا الذي كانوا قد تعهدوا بعدم التعامل به، وازداد ثراؤهم وقوي بأسهم، وسيطروا على البلاد اقتصاديًّا، واقتنوا الخيول، وضعف أمر المسلمين في هذا البلد، فخاف عمر مغبة ذلك، فأجلاهم عنها، ونزل بعضهم الشام ونزل بعضهم النجرانية بناحية الكوفة وبهم سميتوكتب عمر بن الخطاب إلى نصارى نجران عهدًا بذلك[11]كما أن عمر بن الخطاب أعطى يهود فدك قيمة نصيبهم في الأرض عندما أجلاهم «فلما أخذوا قيمة بقية أرضهم خلصت كلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم»[12].
السوابق التاريخية المتعلقة بإجلاء أهل الكتاب:
من هذا يتضح أن السوابق التاريخية المتعلقة بإجلاء اليهود والنصارى من ديارهم وإعادة توطينهم في مناطق أخرى من دار الإسلام، محدودة جدًا في تاريخ الإسلام، بل كانت مقتصرة على يهود المدينة وخيبر وفدك، ثم نصارى نجران، وبالتالي لا يمكن اعتبارها سياسة ثابتة لخلفاء المسلمينوفي حدود علمي أنه لم يتم تطبيقها بعد ذلك في أي مكان فتحه المسلمون لا في العراق ولا في الشام ولا في مصر ولا في غيرها، إلا أن يكون قد حدث ذلك في العصور المتأخرة وفي حوادث استثنائية نادرة ومعزولة ولأسباب وجيهة وملحة، فهذه مسألة أخرى.
ومع ذلك فلنفترض جدلًا أن الخليفة عمر بن عبدالعزيز قد كلَّف السمح بن مالك بإجلاء مسيحيي إسبانيا وجنوب فرنسا إلى إفريقيا، فهل كانت الشريعة الإسلامية تجيز له أن يفعل ذلك بعد أن أعطاهم المسلمون الأمان مقابل الجزية والخراج؟
الجوابذكر الإمام ابن تيميةأن المسلمين لما فتحوا البلاد كان الفلاحون كلهم كفارًا، لأن المسلمين كانوا مشتغلين بالجهاد، ولهذا لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر أعطاها لليهود، يعملونها فلاحة لعجز الصحابة عن فلاحتها، لأن ذلك يحتاج إلى سكناها.. فلو أقام طائفة من هؤلاء فيها لفلاحتها تعطلت مصالح الدين التي لا يقوم بها غيرهم، فلما كان زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفتحت البلاد وكثر المسلمون استغنوا عن اليهود فأجلوهم.. (قال ابن تيمية)، ولهذا ذهب طائفة من العلماء، كمحمد بن جرير الطبري، إلى أن الكفار لا يقرون في بلاد المسلمين بالجزية إلا إذا كان المسلمون محتاجين إليهم، فإذا استغنوا عنهم أجلوهم كأهل خيبر (قالوفي هذه المسألة نزاع ليس هذا موضعه[13].
وهذا أيضًا شاهد آخر على أن فكرة إجلاء اليهود والنصارى من البلاد التي غلب عليها المسلمون خارج شبه الجزيرة العربية لم تطرح في عصر الفتوحات، وإنما كانت من المسائل الفقهية التي بحثها بعض الفقهاء بعد تبلور المذاهب في القرن الثالث الهجري، ولعل ذلك بسبب قيام بعض الجاليات النصرانية بنقض عهودها مع المسلمين، وكان أول من قال بها هو الإمام الطبري، استنادًا إلى حديث «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب». ومع ذلك فقد كانت هذه المسألة موضع خلاف، كما ذكر ابن تيمية أعلاهعلى أن الطبري قد نص على أن «على الإمام إخراج كل من دان بغير دين الإسلام، من كل بلد غلب عليها المسلمون عنوة»[14]، ولم يقل إخراجهم من بلد إسلامي إلى بلد إسلامي آخر، كما في المسألة موضع البحثهذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد نص الطبري على أن الإخراج يكون«من كل بلد غلب عليه المسلمون عنوة»، والحال أن الأندلس لم تفتح كلها عنوة، وإنما منها ما فتح عنوة، ومنها ما فتح صلحًا، بل إن الشمال كله فتح صلحًا[15].              
من هم المؤرخون الذين سفهوا رأي الخولاني؟!
ومع كل ذلك فدعونا نمشي وراء هذا المستشرق حتى النهاية، فهو قد أوضح أن هذا الذي قاله وساقه مساق الحقائق المسلمة لم يقله من عند نفسه وإنما قاله استنادًا إلى روايات المؤرخين العرب، فقد ختم كلامه حول هذه القصة بالقول: «روى ذلك بعض مؤرخي العرب، وأسفوا من كون السمح بن مالك الخولاني، لم يعمل برأي الخليفة في هذا الموضوع»، فمن هم أولئك المؤرخون العرب الذين سفهوا رأي السمح بن مالك الخولاني؟
الجوابقال الأمير شكيب أرسلانقال رينو في الحاشية أن من جملة هؤلاء الذين سفهوا رأي السمح هذا، ابن القوطية والمقري[16]، فهل لهذا أصل في هذين المصدرين؟
في الحقيقة، عندما يقابل الأمير شكيب أرسلان كلام رينو بكلام المقري، وعندما نتحقق نحن من ذلك أيضًا، فإننا لا نجد أي أثر أو إشارة ولو من بعيد لما زعمه المستشرق رينو حول رغبة عمر بن عبدالعزيز في إجلاء مسيحيي إسبانيا وجنوب فرنسا، إلى إفريقيا، وتكليفه السمح بن مالك الخولاني، عامله على الأندلس، بتحقيق هذه الرغبة، بعد أن تحولت إلى قرار واجب التنفيذ[17]وكذلك لم أجد لها أصلًا في كتاب ابن القوطية، والقصة بكاملها لدى هذين المؤرخين هي كالتالي:
قال المقري نقلًا عن ابن حيانوكان من رأيه، أي عمر بن عبدالعزيز، أن ينقل المسلمين عنها لانقطاعهم وبعدهم عن أهل كلمتهم (قالوليت الله تعالى أبقاه حتى يفعل، فإن مصيرهم مع الكفار إلى بوار، إلا أن يستنقذهم الله تعالى برحمته[18].
وقال ابن القوطيةوكان عمر بن عبدالعزيز، رحمه الله، قد عهد إلى السمح بإجلاء المسلمين من الأندلس، إشفاقًا مما دخل عليهم، إذ خشي تغلب العدو عليهم، فكتب إليه السمح بن مالك، يعرفه بقوة الإسلام، وكثرة مدائنهم، وشرف معاقلهم»[19].
هذا كل ما ورد في هذين المصدرين بشأن هذه القضية، وهي كما نرى مرتبطة بإجلاء المسلمين من الأندلس وليس النصارى كما زعم رينو، وهذا ما يؤكده مؤرخون آخرون مثل ابن عذاري[20]، وصاحب الأخبار المجموعة[21]، وابن الأثير[22]، والرازي[23] وغيرهم.
وبعد كل ما تقدم من حيثيات، يمكننا القول باطمئنان ومن دون أي شك إن قصة إجلاء مسيحيي إسبانيا وجنوب فرنسا إلى  إفريقيا، لا أصل لها في مصادر المؤرخين العربوغلط هذا المستشرق الفرنسي لا خفاء به ولا امتراء فيه، وهذا مع افتراض حسن النية، وإلا فهو التدليس القبيح الظاهر، والتزوير الواضح الفاضح.
القصة الحقيقية لمحاولة إجلاء النصارى من الأندلس:
على أن واجب العدل والإنصاف يقتضي مني أن أذكر أنني حينما كنت أقلب بطون الكتب المتعلقة بتاريخ الأندلس من أجل تجميع مادة كتابي «السمح بن مالك الخولاني، أمير الأندلس ورائد الفتوحات الإسلامية في فرنسا» تحققت من أن فكرة إجلاء النصارى من الأندلس قد طُرحت بالفعل، وتم تنفيذها جزئيًّا ولكن في وقتٍ متأخر، وتحديدًا في آخر حكم المرابطين للأندلس (479-541هـ)، وكانت الأندلس إذ ذاك قد تقلصت وصار أكثرها تحت سيطرة ممالك الشمال النصرانية، وكان النصارى بسبب دخولهم في الإسلام في القرون السابقة قد صاروا أقليات صغيرة في قواعد الأندلس الباقية في أيدي المسلمين بعد أن كانوا يشكلون أقليات كبيرة بها بعد الفتحوعلى الرغم من الحقوق العديدة التي تمتعت بها تلك الأقليات في عهود الولاة والأمراء والخلفاء، فقد تنكرت لعهودها، ولم تدخر وسعًا في مناوأة الحكومة الإسلامية، وتدبير الدسائس ضدها، وكانت عضد الثورات المختلفة في المدن والمقاطعات الثائرة، ولاسيما طليطلة وما يجاورها من المدن القريبة من حدود النصارى[24]وقد استفحل خطر هذه الجاليات النصرانية، بعد سقوط مدينة طليطلة بأيدي القشتاليين سنة 478هـ/ 1085م، واشتداد وطأتهم على المسلمين، في وقت بلغت الحركة الصليبية، التي انبعثت من وسط فرنسا ذروة تعصبها، وأخذ النفوذ الفرنسي بشتى صوره وأشكاله السياسية والثقافية والدينية يتغلغل في شمال إسبانيا باعثًا فيها روحًا صليبية جديدة ضد المسلمين على أيدي أسقف طليطلة وبعض القساوسة والرهبان الفرنسيين أتباع نظام كلونيCluny [25] الشهير في فرنسا، الذي جرى تأسيسه سنة 910م، والذين استقروا في طليطلةوثبت تواطؤ النصارى عامة مع إخوانهم نصارى الشمال في تلك الحرب الصليبية ضد المسلمين، وتحول العديد من منهم إلى جواسيس يعملون لحساب الممالك النصرانية في الشمال، التي ضرب بها المثل فقيل إنها أكثر تعصبًا للبابوية (الكاثوليكية) من البابا نفسه[26].وقد كانوا لا يكتمون ترحيبهم بالغزوات النصرانية المتكررة على الأراضي الإسلامية، وكانوا بسبب معرفتهم العربية يقدّم بعضهم العون لجيوش الشمال[27]، كما كانوا يزودونهم بالأقوات والمؤمن عند حصارهم للمدن الإسلامية.وكل هذا وغيره أثار مسلمي الأندلس ضدهم، ودفع الفقهاء لتحريض حكومة المرابطين عليهم، وإصدار الفتاوى التي تقضي بتغريبهم، لوضع حد لخياناتهم ومكائدهم[28].
قال الدكتور أحمد فكري، في سياق حديثه عن المعاهدين في قرطبةكان هؤلاء المعاهدين يعيشون في أمان ويسر في قرطبة ولم يؤثر في مجرى حياتهم ما نسب إلى بعض رجال الدين منهم من التعصب وإثارة الفتن في عهدي الأمير عبدالرحمن الأوسط (208-238هـوابنه الأمير محمد (238-272هـ). وقد هاجر بعض هؤلاء المعاهدين في فترات متباعدة، وخاصة في القرنين الخامس والسادس (الحادي عشر والثاني عشر الميلاديينإلى مناطق شمال الجزيرة، وانضموا إلى أهل الممالك المسيحية، وظلوا يُعرفون فيها بالمستعربين، ويحافظون على تقاليدهم الأندلسية[29]وقد بدأ المعاهدون يتنكرون لمواطنيهم العرب، منذ أيام الفتنة، وظهر خطرهم في بداية القرن السادس الهجري، وبخاصة بعد الحملة الكبيرة التي قام بها ملك أراغون ألفونسو الأول سنة 519-520/ 1125-1126م، على غرناطة[30]، استجابة لنداءات المستعربين الغرناطيين وتحريضاتهم، مما دفع، في سنة 520هـ(1126م)، أبا الوليد بن رشد (جد الفيلسوف الشهير)، قاضي الجماعة، إلى عبور المجاز والتوجه إلى مرّاكش ليشرح لأمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين (500-538هـخطر المعاهدين على المسلمين في الأندلس لنقضهم العهد، وخروجهم على الذمة، باستدعائهم نصارى الشمال ومساعدتهم، وقد أفتى ابن رشد بوجوب تغريبهم وإجلائهم عن أوطانهم، وهو أخف ما يؤخذ به من عقابهم، وأخذ أمير المسلمين بهذه الفتوى، وأمر بتغريب المعاهدين، وبادر ولاة الأندلس بتهجيرهم إلى بلاد العدوة، أي المغرب، فتم تهجير جم غفير منهم، بعد أن قُتل عدد منهمكما قامت القوات الأرغونية الغازية، التابعة لألفونسو الأول، ذاتها بإجلاء عدة آلاف منهم واصطحبتهم برفقتهاوتكرر إجلاء مماثل لهم سنة 531هـ و559هـ، حتى قل عددهم كثيرًا في مدن الأندلس نتيجة لذلك ونتيجة الهجرة أيضًا إلى المدن النصرانية[31]ولكن جهودهم كانت على أي حال من أهم العوامل في إضعاف الحكومة الإسلامية، وفي تعضيد جهود إسبانيا النصرانية لاسترداد أراضيها المفتوحة من المسلمينوهذا ما يعتبره المؤرخون الإسبان من وجهة نظرهم أعمال بطولة، ولهذا يخصص العلماء الإسبان لتاريخ النصارى المعاهدين مصنفات وبحوثًا كثيرة[32].  
وقد تحامل المستشرق الهولندي رينهرت دوزي عند تناوله لهذا الموضوع على المرابطين أشدّ التحامل، فجردهم من كل مكرمة وألصق بهم كل صفة بغيضة، ومن ذلك اتهامهم بالجهل والوحشية والقضاء على العلم والحضارة في الأندلس، وتطرق إلى هذه القصة بشكل مختلف، فقد أرجعها إلى موقف المرابطين المتعنت تجاه المستعربين، وإسرافهم في اضطهادهم[33]، متغافلًا عن خيانة أولئك النصارى للمسلمين ونقضهم للعهود والمواثيق.


[1] حول أصل هذا المصطلح ومفهومه انظر: ليفي بروفنسال، تعليقاً على كتاب جمهرة أنساب العرب، لابن حزم، الذي حققه ونشره في القاهرة سنة 1948، ص467. 
[2]انظر: ابن الخطيبالإحاطة في أخبار غرناطة (1/103) تحقيق محمد عبد الله عنان، مكتبة الخانجيالقاهرة، ط2، 1973. 
[3] انظر في ذلك المراجع التالية على سبيل المثال  لا الحصر:
روجيه جارودي، الإسلام في الغرب، ترجمة ذوقان قرقوط، دار دمشق دمشق، ط1، 1995، ص16-17.
زغراد هونكه، شمس العرب تسطع على الغرب، نقله عن الألمانية فاروق بيضون وكمال دسوقي، دار الجيل دار الآفاق الجديدة بيروت، ط8، 1413هـ/1993، ص476.
لين بول ستانلي، قصة العرب في إسبانيا، ترجمة علي الجارم، مطبعة المعارف ومكتبتها بمصر، د.ت، ص39.
رينهرد دوزي، المسلمون في إسبانيا (1/47)، ترجمة، حسن حبشي، الهيئة المصرية للكتاب القاهرة، 1995.
توماس أرنولدالدعوة إلى الإسلام، ترجمة حسن الإبراهيم وآخرين، مكتبة النهضة المصرية، ط1، 1947، ص121،122.
[4] عبدالمجيد نعنعيتاريخ الدولة الأموية في الأندلس، دار النهضة العربية - بيروت لبناند.ت، ص93.
[5] علي بن عمر بادحدحالكلمات المتقاطعة، 17-03-2007: موقعه على الإنترنت، رابط:
[6] انظر، أرسلانتاريخ غزوات العرب في فرنسا، دار الكتب العلمية بيروت، د.ت، ص15-16.   
[7] المرجع السابق، ص52.
[8] زيتون، المسلمون في المغرب والأندلس، 1411هـ/ 1990، ص196.
[9] صاعد الأندلسي، طبقات الأمم، نشره لويس شيخو، المطبعة الكاثوليكية بيروت، 1912، ص88.
[10]انظر، مجلة السنة، العدد (59)، ربيع الثاني 1417هـ، ص14-16. 
[11] انظر، عصام الدين عبدالرؤوفاليمن في ظل الإسلام، دار الفكر بيروت، ط1، 1982، ص51-52.
[12] أبو عبيد، الأموال، تحقيق محمد عمارة، دار الشروق بيروت، ط1، 1409هـ/1989، ص178.
[13] ابن تيمية، الحسبة في الإسلام، الكتاب الثالث في مجلد (في التراث الإسلامي)، دار الحداثة - بيروت، ط1،1990، ص507، وانظر، خليل إبراهيم ملا خاطر، فضائل المدينة المنورة (1/350) ، ط1، 1413هـ/1993.
[14] فتح الباري، خليل إبراهيمالمرجع السابق (1/350).
[15] انظر، المقرينفح الطيب (1/273)، تحقيق إحسان عباس، دار صادر بيروت، 1968.
[16] أرسلان، المرجع السابق، ص52، حاشية (4).
[17] المرجع السابق، ص53 وما بعدها.
[18] المقري، نفح الطيب (3/14).
[19] ابن القوطية، تاريخ افتتاح الأندلس، تحقيق الأبياري، دار الكتاب (المصري القاهرة، اللبناني بيروت)، ط2، 1989، ص38.
[20] ابن عذاري، البيان المغرب (2/26)، تحقيق كولان وبروفنسال، دار الثقافة بيروت، ط3،1983.
[21] مجهول، أخبار مجموعة، تحقيق الأبياري، دار الكتاب (المصري القاهرة، اللبناني بيروت)، 1989، ص30.
[22] ابن الأثير، الكامل، طبعة أبو صهيب الكرمي، بيت الأفكار الدولية، د.ت، ص798.
[23] الغساني، رحلة الوزير في افتكاك الأسير، طبعة نوري الجراح (دار السويدي أبو ظبي، المؤسسة العربية للدراسات بيروتط2، 2002، ص143.
[24] ابن الخطيب، الإحاطة (1/106): حاشية.  
[25] أحمد العبادي، في تاريخ المغرب والأندلس، دار النهضة العربية بيروت، د.ت، ص262، وانظر، أمريكو كاستروإسبانيا في تاريخها: المسيحون والمسلمون واليهود، ترجمة على إبراهيم منوفي، المجلس الأعلى للثقافة -القاهرة، 2002 ، ص166.
[26] العبادي، المرجع السابق، ص293.
[27] شاكر مصطفى، الأندلس في التاريخ، منشورات وزارة الثقافة - دمشق ،1990، ص98.
[28] انظر، ابن الخطيبالإحاطة (1/114).
[29] أحمد فكري، قرطبة في العصر الإسلامي، مؤسسة شباب الجامعة الإسكندرية، 1983، ص244.
[30] راجع خبر هذه الحملة في الإحاطة (1/109).
[31] فكري، قرطبة، هامش (14) ص271-272، وانظر الإحاطة (1/113-114).
[32] عنان، انظر الإحاطة (1/106) حاشية.
[33] دوزي، المسلمون في إسبانيا (3/163)، وانظر، بيير غيشار، التاريخ الاجتماعي لأسبانيا المسلمة، بحث منشور بكتاب الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس (2) ، تحرير سلمى الخضراء، مركز دراسات الوحدة العربية بيروت، ط1،1998، ص972، 986، العباديمرجع سابق، ص267.