الأربعاء، 31 مارس 2021

مصلحون

غداً تطيرُ العصافيرُ التي حُبِسَتْ عن زُرقةِ البحرِ عن ماءِ البساتينِ غداً سيعلمُ سَجّــــاني بأنّ دَمي يسعى إلى اللهِ مِن بينِ الزّنازينِ ..... سلمان_العودة غداً_تطير_العصافير


من نوال السعداوي إلى سورة الجاثية

من نوال السعداوي إلى سورة الجاثية

من نوال السعداوي إلى سورة الجاثية

محمد إلهامي

 بعد أيام من قراءة المضحكات المبكيات في وفاة #نوال_السعداوي، ساقني الله تعالى لقراءة سورة الجاثية.. فكانت شفاءً ونورًا وهدىً ورحمة..


"الجاثية"

يُصَوِّر لك هذا اللفظ حالة الشخص الرث الذليل النادم، الذي يجثو على ركبتيه، مُنْهارٌ أمام الخوف الهائل، لا يصمد أن يقف ولا يملك أن يرقد، تتعلق عيناه وقلبه أمام هذا الحال الحائل، والشغل الشاغل!

وتدور السورة حول موضوع واحد: موضوع اتباع الهوى مهما تكاثرت الأدلة!

فإذا هذا الذي جثا يوم القيامة في تلك الحال الرثة المَهينة، كان في الدنيا في حال آخر، كان مُتَّبِعًا لهواه، فمهما جاءته الأدلة وحاصرته البراهين والشواهد، التمس لنفسه الخروج منها:

يخرج منها أحيانا بطلب المستحيل (وإذا تُتْلَى عليهم آياتنا ما كان حُجَّتَهم إلا أن قالوا: ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين).

ويخرج منها أحيانا بدعوى أن الأمر ليس مؤكدًا، ولا يزال فيه شكّ، ولا يزال فيه خلاف (وإذا قيل إنّ وعد الله حق، والساعة لا ريب فيها. قلتم: ما ندري ما الساعة؟ إن نظنّ إلا ظنًّا، وما نحن بِمُسْتَيْقِنين).

ويخرج منها أحيانا بدافع الحسد والبغي، بلا سبب (وآتيناهم بيّنات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم).

وأحيانا لا يجد شيئا يفعله أمام آيات الله، فيأخذ في الهروب منها بالسخرية، (وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هُزُوا).

وهكذا كان حاله في الدنيا، متهربٌ من كل ما يخالف هواه، يلتمس لنفسه المبررات، يتشدد في طلب الدليل فإذا جاءه الدليل الظاهر لم يؤثر فيه (يسمع آيات الله تُتْلَى عليه، ثم يُصِرّ مسْتَكْبرًا، كأن لم يسمعها)!

ولذلك وصف الله تعالى هذا الصنف بأنه (أَفَّاكٌ أثيم)، كثير الإفك، كثير الإثم!

وكشف الله خبيئة هذا النوع من البشر، فعَرَّى عنهم رداء العقل والمنطق، وأسلوب السخرية ومظهر الكبر، فأخبر تعالى عن السرّ الخطير، قال تعالى (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه، وخَتَم الله على سمعه وقلبه، وجَعل على بصره غشاوة. فمن يهديه من بعد الله؟!)

هذا هو إذن، ذلك الهوى الكامن في النفس، هو الذي هيمن عليها وساد وسيطر، حتى صار إلها خفيا، فما رضيه هذا الهوى فهو الحق، وما كرهه هذا الهوى فهو الباطل.

وتلك الحال شرحها الحديث المشهور، حديث عرض الفتن على القلوب، وفيه يقول نبينا -صلى الله عليه وسلم- "تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير، عودًا عودًا، فأيما قلب أُشْربها نُكِتَتْ فيه نُكْتَةٌ سوداء، وأيما قلب أنكرها نكتت فيه نكتة سوداء، حتى تصير على قلبين: أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، وأسودَ مِرْبادًا، كالكوز مُجَخِّيًّا (أي: مقلوبا)، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أُشْرب من هواه".

فالمعروف والمنكر عنده مرتبط بذوقه ومزاجه، فما التذّ به فهو معروف، وما كرهه فهو منكر!!.. ذلك هو إله الهوى!

ومن أعجب ما يبثه إله الهوى في نفس صاحبه، تلك الحيلة الغريبة العجيبة التي لا تستقيم في عقل ولا منطق، إنه يوحي لصاحبه أنه سينال في النهاية ثواب المؤمنين أيضا.. كيف؟! لا أحد يعرف، ولكن لا بد أن يكون كذلك، فغير مقبول -عند إله الهوى- أن تكون النهاية هي الجحيم والعذاب والنار.. لا، لا بد من أن يحدث شيء، لا بد أن تكون ثمة وسيلة وطريقة ومخرج، بحيث إذا تحقق ما يقوله هؤلاء المؤمنون (المتطرفون) فإننا سننجو!

ولذلك تصدمهم الآية التي تقول: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات، سواء، محياهم ومماتهم؟! ساء ما يحكمون * وخلق الله السموات والأرض بالحق، ولتُجْزَى كل نفس بما كسبت، وهم لا يُظْلَمون)

لذلك كله، تشعر حين تقرأ هذه السورة أنها تعلن الحرب على هذا الصنف من الناس، وتحاصره بالأدلة التي تهدم عليه بناءات الهوى في نفسه، وتُقَلِّب اللهجة بين الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، وحشد الدلائل عليه لئلا يبقى له مهرب!

تبدأ السورة بتدفق منهمر عن آيات الله في السموات والأرض والخلق والدواب والليل والنهار والمطر والرياح، ثم تقف فجأة لتنكر على من يتهرب من هذه الآيات أو يستعمل السخرية وتخبره بالعذاب العظيم المهين الذي ينتظره!

ثم تستأنف السورة آيات الله في البحر والفلك وما في السموات والأرض مما سُخِّر للإنسان، ثم تقف فجأة لتثبيت المؤمنين إذ يتعرضون للأذى من هؤلاء، فتخبرهم أن الله سيجزي كل قوم (بما كانوا يكسبون * من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون).

ثم تذهب السورة إلى مثال آخر من أمثلة اتباع الهوى، وتمزجه بتثبيت المؤمنين، ذلك مثال بني إسرائيل حين جاءهم العلم بالنبي وصفته، ولكنهم حسدا وبغيا كفروا به (وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم، إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون * ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون).

ثم يبدأ نصف الصورة الثاني في بيان حال الذين اتبعوا أهواءهم يوم القيامة.. تلك الحالة التي مَهَّدَ لها اسم السورة.. حالة الجثو على الركب في المشهد المهين الذليل، حين يتحول ذلك المستكبِر الساخر إلى رثٍّ ضئيل!! يرنو ببصره ويرهف سمعه ويتعلق قلبه فلا يسمع إلا ما يصدمه ويرعبه:

(هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق، إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون)
(أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين؟)
(اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين)
(ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هُزُوا، وغرّتكم الحياة الدنيا، فاليوم لا يُخرجون منها)

وتُخْتَم السورة بهذا الختام الرهيب.. ختام الذي يُلقي في روع القارئ روعة من الخشية والرهبة.. ختام يشعر الإنسان فيه بضآلته وصغره وهوانه وقلّته في هذا الكون الرهيب، وأمام الله خالق الوجود والمهيمن عليه.

(فلله الحمد، رب السموات ورب الأرض، رب العالمين * وله الكبرياء في السموات والأرض، وهو العزيز الحكيم).

إن الإنسان لَيَعرف من نفسه أنه صغير قليل ضئيل، أقل من ذرة في عاصفة، وأقل من قطرة في بحر.. هذا الزمان الذي يُحسب بملايين السنين على هذه الأرض وحدها لا يشغل الإنسان منه إلا حيّز سبعين سنة أو ثمانين أو حتى مائة.. أين تذهب هذه المائة من تلك الملايين التي تعد بالمئات؟!

فهذا اتساع الزمان..

وأما اتساع المكان، فماذا يشغل الإنسان من حيِّز هذه الأرض؟!.. وماذا تشغل هذه الأرض من حيِّز هذا الكون؟! إنه فعلا أقل من حبة رمل في صحراء شاسعة، وأضأل من ذرة تهيم في فضاء فسيح؟!

وبرغم هذا، يتضخم الإنسان في نفسه، يريد أن يطاول الإله ويصاوله ويحادده، فتراه يجادل في أوامر الله ونواهيه وأحكامه كأنما هو نِدٍّ أو كأنّ له من الأمر شيء؟!

هذا المخلوق قضى دهرا من عمره تقلبه يد أمه أو مربيته، فتسمح عنه أوساخه وتنظفه وتطعمه وتسقيه، ولا يملك لنفسه شيئا، بل لا يملك أن يدفع عن نفسه شيئا لو أراده أحدٌ بأذى!

وهو نفسه إذا طال به العمر عاد ضعيفا متهالكا تقلبه أيدي الخدم والأبناء وزوجات الأبناء يمسحون عنه ما يتساقط من فمه أو حتى ما يتساقط من بوله وعذرته!

فلو حسبنا وقت قوته واستغنائه عن الناس ما تجاوز ثلاثين سنة أو أربعين على الأكثر، ولو حسبنا مساحة نفوذه وحكمه وتأثيره ما بلغت في أقصاها حكم دولة من الدول..

ومع ذلك، فهو عند ذروة قوته وتمكنه، يخضع لطبيب يسقيه الدواء المر ويفتح له جسمه ويجبر له عظامه، ويخضع لموظفيه الذين يرفعون له التقارير والتوصيات والمحاذير.. فما لهذا الإنسان -على الحقيقة- ولا لحظة واحدة يستغني فيها بقوته عن الناس كلهم!

فمن أين يأتي هذا المخلوق بكل هذا الكبر لكي يناكف آيات الله، يريد منها أن توافق هواه.. فيسرح ويمرح يريد أن يلويها ويعتسفها ويتكلف أن ترضيه، فإن لم يستطع كانت لديه الجرأة ليتحدث عن قراءة جديدة وتفسير جديد أو عن تجديد الدين وخطابه وتطويره ليوافق ما يريد؟!

افتح المصحف.. واقرأ سورة الجاثية.. وتأملها! وتأملها!

فإن في القرآن شفاء.

أنيــن أُمَّــــة

أنيــن أُمَّــــة




أستاذ لغة ، قال للتلميذ: قف يا ولدي وأعرب : عشق المغترب تراب الوطن

وقف الطالب وقال:

عشق : فعل صادق ، مبني على أمل يحدوه إيمان واثق بالعودة الحتمية.

المغترب : فاعل ، عاجز عن أن يخطو أي خطوة في طريق تحقيق الأمل ، وصمته هو أعنف ردة فعل يمكنه أن يبديها.

تراب : مفعول به مغصوب ، وعلامة غصبه أنهار الدم وأشلاء الضحايا والقتلى.

الوطن : مضافة إلى تراب ، مجرورة بما ذكرت من إعراب تراب سابقا.

تفاجأ الطلاب ، وابتسم المعلم ، لادراكه ما يريد أن يوصله الطالب للتلاميذ ... فأراد ان يسمع من الطالب الكثير ... فقال : يا ولدي ، مالك غيرت فنون النحو ، وقانون اللغة؟ إليك محاولة أخرى ... أعرب : صحت الأمة من غفلتها

قال الطالب:

صحت : فعل ماضي ولىّ ، على أمل أن يعود.

والتاء : تاء التأنيث ، في أمة لا تكاد ترى فيها الرجال.( الفاعلين)

الأمة : فاعل ، هدَّه طول السبات ، حتى أن الناظر إليه ، يشك بأنه لا يزال على قيد الحياة.

من : حرف جر ، لغفلة حجبت سحبها شعاع الصحو.

غفلتها : اسم ، عجز حرف جر الأمة ، عن أن يجر غيره.

والهاء : ضمير ميت ، متصل بالأمة التي هانت عليها الغفلة ، مبني على المذلة التي ليس لها من دون الله كاشفة.

فدمعت عين المعلم وقال متأثرا : "ما لك يا ولدي نسيت اللغة وحرّفت معاني التبيان؟"

قال الطالب :
"لا يا أستاذي ... لم أنس ، لكنها أمتي ...
نسيت عز الإيمان ، وصمتت باسم السلام ، وعاهدت بالاستسلام ، دفنت رأسها في قبر الغرب ... معذرة أستاذي ،
فسؤالك حرّك أشجاني ، ألهب منّي وجداني ... معذرة أستاذي ، فسؤالك نارٌ تبعث أحزاني ، تهدّ كياني وتحطّم صمتي ، مع رغبتي في حفظ لساني. عفواً أستاذي ، نطق فؤادي قبل لساني ... 

امرأة في سوريا تُعذب!!! 
وأخرى في إراكان تُغتصب !!!
وثالثة بـالصومال تئنّ جوعاً !!!
ورابعة في سجون العراق تذلّ !!!
ولم يقلق الغرب إلا على امرأة لا تقود السيارة بـأرض الحرمين !!!
لا تحسب الأرض عن إنجابها عقرت
من كل صخر سيأتي للفدا جبل
فالغصن ينبت غصناً حين نقطعه
والليل ينجب صبحاً حين يكتمل
ستمطر الأرض يوماً رغم شحتها
ومن بطون المآسي يولد الأمل
 "عبدالله البردوني 
 


تجمدت العروبة ومات العرب!

تجمدت العروبة ومات العرب!

محمد أمين

كان أستاذي في الجامعة في قسم الصحافة والإعلام يقول لنا - في محاولة للتأكيد على أهمية الإعلام - إنه لو كان هناك إعلام حر في زمن النكبة والهجرة الفلسطينية لما كان العالم ليسكت على المحرقة التي تعرض لها الشعب الفلسطيني، باقتلاعه من أرضه وارتكاب المليشيات الصهيونية الإرهابية أبشع الجرائم بحقه تقتيلا وتهجيرا، ولكان للإعلام دور في تحشيد الرأي العام العربي والدولي، وكنت وقتذاك أحاول جاهدا الاقتناع بتلك الفرضية الإعلامية ولكن على مضض.

حُرق الفلسطينيون وقُتّلوا وهُجروا عام 1948 في غفلة من الإعلام، ويُحرق السوريون ويُقتلون ويُهَجَّرون ويموتون بردا وتجمدا "لايف" في 2021، وفي بث مباشر متواصل منذ العام 2011، لتتأكد شكوكي في نظرية الأستاذ، فالإعلام دون ضمير إنساني لا قيمة له، والحق بلا قوة هو ضعف في الحقيقة، والنفاق الدولي لا يختص بزمان معين ولا بشعب محدد، والخذلان العربي هو ذاته لم يتغير.

إن الصمت و"التجمد" إزاء التغريبة السورية سيلاحقنا جراءه العيب والعار كعرب أولا، كما سيلاحق "الإنسانية" جمعاء التي تكتفي بالتفرج على الأطفال والنساء والأبرياء السوريين وهم يُهجرون ويُقتلون على يد نظام فاشي، ويَتجمَّدون حتى الموت في محاولتهم الهروب من الموت.

العار كذلك سيلاحق أنظمة عربية متصهينة تضخ المليارات للاستثمار في تل أبيب، فيما لا تَهُز محرقة السوريين ضميرها.. دول تتسامح مع تل أبيب وتفتح لصهاينة العالم الباب والشباك والحدود دون تأشيرة وبلا حدود، وتغلق الحدود في وجه إخوة الدم واللغة والدين. لا أعني الحدود الجغرافية، بل الحدود الإنسانية العابرة للجغرافيا.

ففي لبنان تُمارس أبشع أنواع العنصرية ضد اللاجئين السوريين، وتفشل الدولة في ردع المتنمرين عليهم، ويقاسي السوريون مثل تلك العذابات في بقية دول الجوار. 
أما الدول الغنية فتغلق حدودها الإنسانية والمادية في وجه السوريين، وتفتحها مشرّعة للإسرائيليين، لنكون مضطرين في ظل بؤس المقام والمقال أن نطالبها بأن تعامل السوريين كالإسرائيليين بتقديم الدعم المادي لهم، وفتح الحدود الجغرافية والتسامحية.

نطالبهم بتمويل المؤسسات الخيرية التي تقوم على رعاية اللاجئين السوريين عوضا عن محاربتها ووسمها بالإرهاب، نطالب العرب شعوبا وأنظمة بالوقوف مع السوريين، فهم ليسوا شعبا مشردا، وإنما شعب ثائر كريم.. هم ليسوا متسولين بل تزخر بلادهم بكل خيرات الدنيا، تلك التي أكل منها كل العرب من المحيط إلى الخليج. مشكلتهم العصية على الحل أنهم ابتلوا بنظام دموي "أقلواتي" طائفي جرّف البلاد عبر نصف قرن، لم يرحم فيها حجرا ولا بشرا، ذلكم النظام هو المسؤول عما يتعرض له السوريون، وليس من خرج منهم بسلمية مطالبا قبل عقد بالحرية.

لا ينبغي أن يتم التعامل مع السوريين كعبء فهم إخوة لنا، ودعم كل عربي ومسلم لأخيه السوري أو الفلسطيني أو العراقي أو الصومالي هو عقيدة واجبة، وليس صدقة ولا منة، فكلنا ننطق بلغة واحدة، وندين لرب واحد، ونشترك في مصير مشترك، وقدرنا جميعا أن نواجه في بلادنا مثلث "الظلم والفساد والاستبداد" الذي يتسبب منذ عقود في تخريب بلداننا وإفقارها، وتهجير الشباب والشابات منها. فالموت لم يبدأ في زمن كورونا ولا زمن الربيع العربي، وهناك صيرورة طويلة للمأساة العربية، بدأت من فلسطين، ولم تتوقف.

سوريا لم تكن يوما "خرابة"، وليست قاحلة ولا مهجورة.. ليست فقيرة، هي أرض الخيرات والفاكهة.. هي أرض أقدم الحضارات على وجه الأرض، فيها كانت بداية الاستيطان البشري وتخطيط أولى المدن واكتشاف الزراعة والتدجين، فيها عُرفت الأبجدية كما تقول كتب التاريخ، قامت فيها مملكة إيبلا التي استمرت من2500 قبل الميلاد إلى 2400، وليس الأسد وأبوه من قبله إلا عابرين في كلام عابر.

لم تتجمد السيدتان الشهيدتان وطفلاهما، بل صعدوا عند أرحم الراحمين، شهداء عند ربهم يرزقون.. من تجمد هي العروبة، ومن مات هم العرب.

خدعة القرن.. الثورة العربية الكبرى بعيون بريطانية

 خدعة القرن.. 

الثورة العربية الكبرى بعيون بريطانية

أحمد مولانا

تمثل وثائق الأرشيف البريطاني المرفوع عنها السرية كنزا تاريخيا يشرح خلفيات الأحداث الكبرى التي وقعت في قلب العالم الإسلامي ويوضح كيفية تشكل خارطة المنطقة مطلع القرن العشرين.

لماذا حرّض الإنجليز الشريف "حسين" على الثورة؟

مثّل دخول تركيا الحرب العالمية في 1914 بجوار ألمانيا خطرا كبيرا على مصالح بريطانيا، عبرت عنه بوضوح مذكرة إستراتيجية أعدتها الدائرة السياسية البريطانية في وزارة الهند قائلة إن المخاطر تتمثل في "الخوف من ثورة المسلمين في مصر والهند ضد الوجود البريطاني وإحياء فكرة الوحدة الإسلامية مجددا"، ومن ثم أوصت المذكرة بقطع دابر تلك المخاطر عبر إضعاف الحكومة المنظمة الوحيدة القادرة على إعطاء زخم لفكرة الوحدة الإسلامية آنذاك ألا وهي الحكومة التركية.

بدأ الإنجليز مبكرا في مراسلة شريف مكة، الحسين بن علي، لتشجيعه على الثورة ضد الوجود التركي في الحجاز، واعدين إياه بمنصب الخليفة، وفي 30 أغسطس 1915 أرسل المندوب السامي البريطاني في مصر، مكماهون، لى الشريف رسالة تحريضية قائلا له: "إن جلالة ملك بريطانيا العظمى يرحب باسترداد الخلافة إلى يد عربي صميم من فروع تلك الدوحة النبوية المباركة".

هنري  مكماهون

 وأخذ مكماهون يخاطب "الشريف" بألفاظ التعظيم، فراسله في 10 مارس 1916 قائلا: "إلى ساحة ذلك المقام الرفيع ذي الحسب الطاهر والنسب الفاخر، قبلة الإسلام والمسلمين، معدن الشرف وطيب المحتد، سلالة مهبط الوحي المحمدي الشريف ابن الشريف، صاحب الدولة السيد الشريف حسين بن علي، أمير مكة المعظم، زاده الله رفعة وعلاء". استجاب الشريف للإغراءات وأعلن الثورة على العثمانيين في 10 يونيو 1916، ما أسعد مكماهون، الذي أرسل إلى وزارة الخارجية في لندن في 14 أغسطس 1916 قائلا: "إن لدينا فرصة فريدة قد لا تسنح مرة أخرى في أن نؤمّن بواسطة الشريف نفوذا مهما على الرأي العام الإسلامي والسياسة الإسلامية، وربما نوعا من السيطرة عليهما".

أمدت بريطانيا الشريف بالمال والسلاح، ففي خلال العام الأول فقط من ثورته أعطته 71 ألف بندقية وأكثر من أربعين مليون طلقة، بل وأرسلت إلى نجلي الشريف، فيصل وعلي، ألف سيجارة لكونهما المدخنَين الوحيدَين في عائلتهما. كما عززت بريطانيا جيش الشريف بأعداد كبيرة من الأسرى العرب التابعين للجيش العثماني، وفي رسالة طريفة نصح الدبلوماسي البريطاني سايكس الجنرال كلايتون في أكتوبر 1917 بالتوجه إلى معسكر الأسرى العرب ليخطب فيهم قبل التحاقهم بالشريف قائلا:

 
اندلعت ثورة البلاشفة الروس في أكتوبر 1917، ونشر البلاشفة الوثائق السرية التي عثروا عليها في مقر وزارة الخارجية الروسية بالعاصمة بتروغراد، ومن بينها اتفاقية "سايكس بيكو"

"هل من واجبي، أنا الإنجليزي، أن أذكركم بآل بيت علي ومعاوية والعباس بالأولياء والأبطال الذين صنعوا أمجاد العرب في العالم، بالتأكيد إن ضمائركم تقول لكم ذلك. ولكنني كرجل إنجليزي سأقول لكم التالي: إن إمبراطوريات العرب دمرت وجعلت تراباً بالخلافات والتكاسل، وإن نير الترك كبل أعناقكم 900 عام لأنكم أتبعتم أهواءكم ولم تكونوا متحدين أبداً.. والآن بيدكم الفرصة التي إذا أضعتموها فلن يغفر الله لكم.. إن من الأفضل أن يكون المرء طاهياً في السرية العربية من أن يكون وزيراً خاضعاً للأتراك".

اعتبر الإنجليز أن من إيجابيات انحياز الشريف لهم "رفضه إعلان الدعوة للجهاد ضد بريطانيا، تحجيمه النفوذ التركي في الحجاز، حيلولته دون تجميع المتطوعين للقتال في صفوف الجيش العثماني، وإيقافه مخطط إمام اليمن لمهاجمة المستعمرة البريطانية في عدن".. وميدانيا، تمكن جيش الشريف من السيطرة على الحجاز، كما تمكن جيشه الشمالي، بقيادة نجله فيصل، من دخول دمشق بالتنسيق مع الجيش البريطاني. 

أحلام الشريف وخدعة القرن

عاش الشريف أحلاما وردية مصدقا أن بريطانيا ستهبه حكم الجزيرة العربية والعراق والشام وفلسطين، حتى أن نجله فيصل عندما قال له "ماذا ستفعل إذا افترضنا أن بريطانيا العظمى لم تنفذ الاتفاق في العراق؟" احتد عليه الشريف قائلا "ألا تعرف بريطانيا العظمى؟ إن ثقتي فيها مطلقة".

 

وفي فترة مبكرة حرصت بريطانيا وفرنسا على جس نبض الشريف، فقابله الدبلوماسيان البريطاني سايكس والفرنسي بيكو في 24 مايو 1917 ليستطلعا رأيه بخصوص مدى قبوله سيطرةَ فرنسا على سوريا، فأجابهما قائلا: "إنه لا يمكنه أن يكون طرفاً في عمل يرمي إلى تسليم مسلمين لحكم مباشر من قبَل دولة غير إسلامية". وجدير بالذكر أن بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية قد تقاسمت تركة الدولة العثمانية بينها في اتفاقية "سايكس بيكو" في 1916، وحرص سايكس في برقية أرسلها إلى وزارة الخارجية بلندن في 17 مارس 1916 على التوصية بكتمان بنود الاتفاقية عن زعماء العرب.

 جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن، إذ اندلعت ثورة البلاشفة الروس في أكتوبر 1917، ونشر البلاشفة الوثائق السرية التي عثروا عليها في مقر وزارة الخارجية الروسية بالعاصمة بتروغراد، ومن بينها اتفاقية "سايكس بيكو"، فوصلت أنباء الاتفاقية إلى الشريف، فبادر للاستفسار عن حقيقة الأمر، وهو ما شرحه المندوب السامي البريطاني وينغت في رسالة إلى وزير خارجيته في 16 يونيو 1918 قائلا:

احتلت الجيوش الفرنسية سوريا، وطردت منها فيصل، نجل الشريف حسين، وعندما رفض الشريف تلك الإجراءات، وامتنع عن التوقيع على معاهدة فرساي، تخلت عنه بريطانيا

"إن ملك الحجاز.. قد أرسل برقية شديدة إلى وكيله موعزاً إليه بالقيام بتحقيقات عن الاتفاق البريطاني الفرنسي ونطاقه. ولا بد أنك تتذكر أن الملك لم يُبلغ قط باتفاقية "سايكس -بيكو" بصورة رسمية.  نصحت الوكيل أن يقول إن البلاشفة وجدوا في وزارة خارجية بتروغراد سجلاً لمحادثات قديمة وتفاهم مؤقت وليس معاهدة رسمية بين بريطانيا وفرنسا وروسيا". وصدّق الشريف تبريرات الإنجليز، بل وهنأهم بكل سذاجة على سيطرتهم على القدس قائلا: "إن هذا النبأ مستلزم للفخر العظيم"، ظنا منه أن المدينة ستدخل ضمن نطاق مملكته المنشودة.

وعقب انتهاء الحرب، احتلت الجيوش الفرنسية سوريا، وطردت منها فيصل، نجل الشريف، كما فرضت بريطانيا الانتداب على فلسطين وبدأت في توطين اليهود، فرفض الشريف حسين تلك الإجراءات، وامتنع عن التوقيع على معاهدة فرساي، فتخلت عنه بريطانيا، ووجهت دعمها كله لأمير نجد، عبد العزيز بن سعود، الذي اجتاح الحجاز عام 1924، ما اضطر الشريف إلى الهرب إلى العقبة ليجبره الإنجليز على مغادرتها ليعيش في منفاه الإجباري في قبرص.

وبذلك تحققت إستراتيجية بريطانيا، التي عبر عنها مدير الاستخبارات العسكرية البريطانية في القاهرة قائلا، في فترة مبكرة في 1916، "إن هدف الشريف هو تأسيس خلافة لنفسه.. نشاطه يبدو مفيدا لنا لأنه يتماشى مع أهدافنا الآنية؛ وهي تفتيت الكتلة الإسلامية ودحر الإمبراطورية العثمانية وتمزيقها.. إن العرب هم أقل استقرارا من الأتراك؛ وإذا عولج أمرهم بصورة صحيحة فإنهم يبقون في حالة من الفسيفساء السياسية؛ مجموعة دويلات صغيرة يغار بعضها من بعض؛ غير قادرة على التماسك.. وإذا تمكنا فقط من أن ندبّر جعل هذا التغيير السياسي عنيفا؛ فسنكون قد ألغينا خطر الإسلام بجعله منقسما على نفسه".

المصادر

*الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية (نجد والحجاز) ترجمة "نجدة فتحي صفوة، المجلدان الثاني والثالث، ط. دار الساقي.


 


  

الثلاثاء، 30 مارس 2021

كيف أسس محمد علي باشا للأجانب في بيت المقدس؟(4)

كيف أسس محمد علي باشا للأجانب في بيت المقدس؟


محمد   إلهامي


هذا هو المقال الرابع والأخير من هذه الورقة البحثية التي تتناول دور محمد علي باشا في تأسيس إسرائيل في فترة السنوات العشر التي حكم فيها الشام، وقد ألزمنا أنفسنا في هذه المقالات ألا ننقل معلومة إلا عن مصدر مؤيد لمحمد علي أو وثيقة رسمية من أرشيف دولته أو مصدر أجنبي (والمصادر الغربية معجبة بمحمد علي كذلك)، وقد رأينا في المقالات الثلاثة السابقة كيف استكثر محمد علي من اتخاذ اليهود في حاشيته وفي أعماله حتى الحساسة منها، وكيف سهل لهم التدفق والهجرة والإقامة في فلسطين، وكيف سمح لهم بالتسهيلات التجارية والاقتصادية والقانونية التي ترفعهم فوق أهل البلاد وتقلب الميزان الاجتماعي للشام. (راجع المقالات تفضلًا: الأول، الثاني، الثالث).

والآن نختم بدوره في تأسيس النفوذ الأجنبي وتضخيم صلاحيات القناصل الأجانب، حيث بدأت القنصليات الأجنبية تغزو القدس وتهيمن بحمايتها على غير المسلمين، وهو الأمر الذي كانت له آثار بعيدة، ولم تستطع الدولة العثمانية أن تلغيه فيما بعد.

رابعًا: تضخم نفوذ القناصل الأجانب

افتتحت القنصلية البريطانية في القدس لأول مرة في عهد سلطة محمد علي (1839م)، وهي القنصلية التي ستتولى حماية اليهود والبروتستانت المسيحيين في بيت المقدس والشام، وستبذر في هذه الأرض البذور الأولى للصهيونية بما كان لها من النفوذ، وكان ويليام تيرنر يونج أول قنصل في القدس، و«قد اهتم على وجه خاص بيهود الإشكنازيم، وأيضًا كانت بريطانيا تود إنشاء «محمية» لها في القدس احتذاءً بفرنسا وروسيا حيث إنه لم تكن هناك طائفة بروتستانتية يسبغ القنصل عليها حمايته، فقد وجد أن اليهود الأوروبيين كانوا دون كفيل أجنبي، ومن ثم نَصَّب نفسه راعيًا لهم… وبحلول شهر ديسمبر من عام 1938، ونتيجة لمساعي يونج الحميدة تم السماح للجمعية اللندنية لترويج المسيحية والتي تُعرف أيضًا بـ«جمعية لندن لليهود» بالعمل في القدس. وبدأت طلائع المبشرين البروتستانت في الوصول إلى المدينة المقدسة»[1].

لقد أسست سياسة إبراهيم لنفوذ القناصل الأجانب، إذ كانت القوانين تدفع بالأموال – ومن ثم النفوذ والعلاقات الاجتماعية – لتستقر في حجر القناصل، لقد «أتيح للأجانب ولقناصل الدول أن يكونوا أحرارًا في البلاد، وأن يتَّجروا بلا عائق ولا مانع مع أن تجارتهم كانت محصورة ببعض الموانئ، ولكن القناصل الذين اتخذوا الامتيازات تكأة لهم أَلَّفوا من أنفسهم دولة في الدولة، وكانوا يعطون الحماية لمن أرادوا. وبما أن متاجر الأجانب كانت تدفع 3 بالمائة ومتاجر الرعية كانت تدفع 20 بالمائة، فقد أخذ القناصل أكثر التجار تحت حمايتهم ليعفوا من زيادة الرسوم الجمركية»[2].

وقد استثمر اليهود هذا الوضع المريح فأقدموا على محاولة الاستيلاء على حائط البراق من المسجد الأقصى، وأعانهم على هذا القناصل، وقد احتفظت لنا السجلات بوثيقة تتضمن شكوى شيخ المغاربة في بيت المقدس إلى إسماعيل عاصم حكمدار حلب من أن اليهود ما زالوا يتعاظم أمرهم ويزيدون في الإيذاء عند حائط البراق، فمن بعد ما كانوا يزورون الحائط زيارة عادية هادئة صارت تتعالى أصواتهم وتتكاثر أعدادهم ويزيدون طقوسهم حتى كأنه صار كنيسًا لهم، ثم أرادوا أن يُبَلِّطوا الأرض التي أمام الحائط، وهو أمر جديد لم يسبق لهم أن تجرؤوا عليه، ثم إنه سيؤدي إلى إغلاق طريق مؤدٍ إلى وقف إسلامي آخر بتلك المنطقة، وقد دُعِمت شكوى شيخ المغاربة بقرار من «مجلس شورى القدس»، ومن ثَمَّ قرر إسماعيل عاصم منع اليهود من إحداث شيء جديد، لكن ما لبث أن جاء أمر من القنصل الإنجليزي إلى متسلم القدس بأن يسمح لليهود بما أرادوا، فأصدر متسلم القدس أمرًا بالسماح، ثم اعترض مجلس شورى القدس، فرُفِع الأمر لإبراهيم باشا الذي لم يبال به وفوض إسماعيل عاصم في القرار، وهو ما مآله عمليًّا إمضاء رغبة اليهود المدعومة بقوة القنصل الإنجليزي[3].

وكان القناصل يستخدمون نفوذهم في الدفاع عن غير المسلمين من أهالي الشام، ومن غريب ما وقع في مثل هذا الأمر أن المسلمين كانوا يتخذون زي اليهود ليتخلصوا من التجنيد الذي لم يكن يشمل اليهود والنصارى، فانتبه إلى هذا المكلف بجمع، أو بالأحرى: خطف، الشباب للتجنيد فأخذ يجمع الكل، فأخذ ضمن من أخذهم جملة من اليهود والنصارى، ورغم أن الخطأ لم يستغرق سوى ساعات إذ بدأ شباب اليهود والنصارى يعودون في عصر اليوم نفسه إلا أن السلطة عاقبت اليوزباشي الذي لم يتحقق في جمعه أُخِذ منه سيفه ونيشانه وضُرِب بالسياط أمام القنصل الفرنسي بودين وأُنْزل رتبتيْن[4].

وذات يوم وقعت جريمة قتل لأحد رهبان النصارى (حادثة الباديري)، فجندت لها سلطة الشام كل طاقتها للبحث عن الفاعلين، واتخذت التعذيب سبيلًا حتى على يهودي مشتبه فيه، ومع هذا فقد حضر إليهم يهودي إفرنجي تدل الدلائل على معرفته بالمجرمين وحاول التشفع في اليهودي المُعذَّب، ثم خرج ولم يُعتقل أو يُحقق معه ولم يُتَتَبَّع، رغم أن خروجه كان لإنقاذ القتلة الذين لم يعترف عليهم بعد اليهودي المقبوض عليه! ثم وبعدما ثبتت التهمة عليهم بالاعتراف والإقرار جاء قرار سيادي من محمد علي بالعفو عنهم لما تحرك إليه اليهود الأوروبيون[5]!

ولقوة نفوذ القناصل كان إبراهيم باشا رغم قسوته العنيفة على من يتمردون عليه لا يستعمل نفس تلك القسوة مع غير المسلمين، فمن ذلك أنه حين خرَّب الكرك أمهل النصارى ثلاث ساعات يخرجون فيها من البلد وينقلون منها ما استطاعوا من أرزاقهم، ثم اجتاح البلد ونفذ فيها مذبحته فكان عساكره يقتلون من لقوه وينهبون ما وجدوه ثم جعل البلد ركامًا[6]. وتسجل وثيقة عسكرية جملة غريبة ترد في أمر موجه إلى خفتان باشا في جهة دمشق يقول: «نظرًا لقيام النصارى في جبل الدروز اجمعوا الهناديين وامكثوا بأثقالكم حيث أنتم وليس لكم أن تعتدوا عليهم في هذه الآونة لأني أريد أن أخمد فتنتهم دون أن أمسهم»! ثم نجد وثيقة أخرى بأمر عسكري آخر إلى سليمان باشا «بإبداء النصح والعظة إلى الثوار»، ويتكرر هذا الطلب بالنصح والعظة[7]!

ومما يُرثى له أن المسلمين اضطروا أن يمتهنوا أنفسهم للقناصل للنجاة من بطش سلطة إبراهيم، وذلك أن قوانين التجنيد الإجباري – التي كانت في ذلك الوقت استعبادًا لا رحمة فيه ولا أمل في النجاة منه – كانت تشمل المسلمين ويُعفى منها المسيحيون واليهود، فكان المسلمون «ذوو المقام النبيل يعملون قواسين وخدمًا وسواسًا عند القناصل الأوروبيين، وحتى عند وكلائهم وتراجمهم من أتباع السلطان، ومن الرعايا المحتقرين ليتجنبوا خدمة الصف استنادًا إلى المعاهدات التي تضمن حصانة العاملين في القنصليات»[8].

لقد أهين الشعور الديني للمسلمين بشدة – كما يقول قسطنطين بازيلي – حتى كان بعضهم يقول لبعض «الدولة صارت دولة نصارى خلصت دولة الإسلام»[9]، وقد بلغ الحال في ثورة الشام الأولى أن شابًا تركيًا ذهب من يافا إلى نابلس حيث صنع صليبًا من الخشب، وصعد إلى مئذنة الجامع الكبير في نابلس وبيده ذلك الصليب، فأخذ يصيح من فوق المئذنة: هل ذهب دين محمد وانقضى؟ هل ارتفع الصليب على الهلال؟ من كان منكم مسلمًا فليقاتل هذا النصراني إبراهيم باشا[10].

ويمكن اختصار الانقلاب الذي تم في أحوال الأجانب والقناصل في قصة المستر فارين القنصل الإنجليزي، فقبل حقبة محمد علي لم يكن يستطيع أجنبي «التجول في البلاد إذا لم يكن مرتديًا الملابس الوطنية أو يحرسه الجند، حتى إن إنكلترا عينت المستر فلرين قنصلًا لها في دمشق في سنة 1829، فلم يستطع دخول دمشق وأقام في بيروت»[11]، وظل مقيمًا أربع سنوات حتى استولى إبراهيم باشا على دمشق، فرتَّب له دخولًا أسطوريًّا أورده مؤلف «مذكرات تاريخية» على هذا النحو:

«كان ترتيب دخوله (هكذا) طَلَع لملاقاته عمر بك أمير اللواء، واستنظره في قصر عبد الرزاق باشا الذي بالمرجة، وصُحْبته ألف عسكري نظام، وكان برفق القنصل حاضر من بيروت أربعة وعشرون خيال في بيارق النظام، وقواصته عدة ثمانية وعبدين وتراجمين ثلاثة وكيخية وخزندار، وحول في قصر عبد الرؤوف باشا عند عمر بك وتفكجي باشي واستقام مقدار نصف ساعة، وقام ركب، ومشيوا قدامه ألف عسكري نظام في الموسيقا، وبين باشي وبعده ثلاثون قواصًا من قواصة الوزير، بعده الخيالة الذين حضروا معه من بيروت ببيارقهم، وبعده التفكجي باشي وجماعته، وبعده قواصته لابسين طقومة ورديًا جزايرليًا مقصبًا، وبيدهم عصي فضة مكوبجين (ذات قبضة) على كسم صليب، وبعدهم التراجمين في الشالات الكشمير في الخيل المنظومة، وبعدهم القنصل راكب على راس خيل من الخيول الجياد، عدته مشغولة في الصرما، ولابس على راسه برنيطة محجرة بالألماس، وفي راسها جملة ريش أبيض وأحمر، ويرمي سلامًا، ووراه كيخية وخزنداره وعبيده، وتنظر العالم [أي: وترى الناس] منتشرة من عند قصر المرجة شي لا ينحصي. وحكم طريقه على الدوالك، على بيت يوسف باشا، على باب السرايا، على سوق الأروام وسوق الجديد، على باب القلعة، على باب البريد، على سوق الحرير، على البزورية، على ماذنة الشحم، على الخراب، على طالع القبة، على حمام المسك، على باب توما، على حمام البكري، على زقاق القميمم (القميلة)، على بيته، فكانوا قبل بمدة آخذين له بيت قزيها الذي قدام قناية الحطب، ودخلوا العساكر جميعها لعند بيته فحالًا رفعوا له البنديرة فوق باب البيت على راس السطوح، وثاني يوم وضع فوق باب البيت نيشان المملكة (الآرما) مصورًا فيها تاج الملك وحصان وسبع، وكان يوجد قدام باب بيته على مدة سبعة ثمانية أيام مثل فرجة الحاج (بكثرة) الناس فوق بعضها بعض هذا ما كان من مادة دخول القنصل»[12].

وهكذا صار القناصل قوة فوق قوة السلطة نفسها، وقد استمر إنشاء القنصليات الأجنبية التي أسس محمد علي لوجودها حتى بعد رحيل سلطته؛ فلقد صار النفوذ الأجنبي قوة حقيقية قائمة، وصار ذلك النفوذ موضع تنافس غربي لا تقوى الدولة العثمانية في حالها آنذاك على اقتلاعه، «فخلال السنوات الخمس عشرة التالية كانت فرنسا وبروسيا وروسيا والنمسا قد فتحن قنصليات لها في المدينة المقدسة، وأصبح هؤلاء القناصل ذوي حضور بالغ الأهمية في المدينة… بيد أنه كان لكل منهم أجندته السياسية، وكثيرًا ما أدى ذلك إلى الصراع في المدينة المنقسمة على نفسها بالفعل. ووجد السكان المحليون أنفسهم طرفًا في صراعات القوى الأوروبية»[13].


[1] كارين أرمسترونج، القدس، ص565، 566.

[2] داود بركات، البطل الفاتح إبراهيم، ص143.

[3] أسد رستم، المحفوظات الملكية المصرية، 4/294 وما بعدها، (رقم الوثيقة 6205 بتاريخ 4 محرم 1256هـ).

[4] مجهول، مذكرات تاريخية، ص80، 81.

[5] مجهول، مذكرات تاريخية، ص117، 121، 122؛ وانظر: إيلي ليفي أبو عسل، يقظة العالم اليهودي، (القاهرة: مطبعة النظام، 1934م)، ص154.

[6] مجهول، مذكرات تاريخية، ص78.

[7] أسد رستم، المحفوظات الملكية المصرية، 4/356 (وثيقة رقم 6312 بتاريخ 3 ربيع الآخر 1256هـ).

[8] قسطنطين بازيلي، سورية وفلسطين تحت الحكم العثماني، ص162.

[9] مجهول، مذكرات تاريخية، ص59، 60.

[10] داود بركات، البطل الفاتح إبراهيم، ص139.

[11] داود بركات، البطل الفاتح إبراهيم، ص189؛ مجهول، مذكرات تاريخية، ص25.

[12] مجهول، مذكرات تاريخية، ص68، 69.

[13] كارين أرمسترونج، القدس، ص565.

محمد علي باشا مؤسس إسرائيل (1)

كيف سهَّل محمد علي باشا تدفق اليهود على فلسطين؟(2)

كيف حول محمد علي باشا إسرائيل من حلم إلى مشروع؟(3)