الجمعة، 31 يوليو 2020

لا دعاء للأقصى في يوم عرفة

لا دعاء للأقصى في يوم عرفة 

وائل قنديل
في زمن ليس بعيدًا، كان موسم الحج بمثابة مؤتمر للأمة، تستعيد فيه ذاكرتها المعطلة، أو المعطبة، طوال العام، فتجد قضايا العالم الإسلامي والعربي الحقيقية حاضرةً وساطعةً في دعاء الخطباء والمتكلمين في يوم عرفة.
في شبابنا، كنا نتابع وقائع يوم عرفة المنقولة تلفزيونيا أو إذاعيًا، ركضًا وراء ميكروفون ينتقل من حنجرة إلى حنجرة كلها تتنافس ببديع البيان في استحضار الهموم والأوجاع والأحلام، فكانت فلسطين السليبة موضوعًا رئيسًا.
الدعاء في خطبة يوم عرفة كان للقدس وللأقصى ولفلسطين، والمستضعفين في الأرض من الشعوب المقهورة التي يفتك بها الاحتلال والظلم والاضطهاد، إلى الحد الذي كان معه التحذير من تسييس موسم الحج موضوعًا متكررًا على منصات الحوار والجدل.
الآن جاءت اللحظة التي يتم فيها تغييب فلسطين والأقصى والقدس عن خطبة يوم عرفة، في موسم حج استثنائي من كل الوجوه، إنْ على مستوى أعداد الحجيج، التي جعلت من المناسبة الأكبر والأهم في حياة المسلمين مجرد احتفالية تعبيرية، أو طقس فولكلوري رمزي، أو على مستوى الخطاب، وبشكل خاص مضمون خطبة عرفة التي جاءت مقتضبةً خاطفةً متسرّعة متعجلة، على الرغم من بحبوحة الوقت ورفاهية المكان، حيث لا زحام أو تكدّس أو تدافع .. لا مشكلات على الإطلاق في الحركة أو التفويج، انتقالًا بين المشاعر المقدسة.
 كان"كورونا" مهيمنًا ومتحكمًا في تحديد أعداد الحجاج، كما كان مهيمنًا على الخطاب، والدعاء، إذ لم يكلف الخطيب نفسه بالدعاء "لإخواننا المستضعفين في كل مكان"، أو تذكّر المسجد الأقصى المهدد والمحاصر، والذي اقتحمه مستوطنون صهاينة بأعداد كبيرة صبيحة وقفة عرفات، فقط دعا الشيخ لملك السعودية وولي عهده "الأمين المأمون"، وألهب أذان المستمعين بكلام غزير عن حتمية طاعة ولاة الأمر في كل ما يفعلون، ووجوبية الدعاء لهم بالتوفيق والنجاح والسداد والفلاح، حتى لو كان ولاء هؤلاء الولاة للبيت الأبيض أكبر وأهم من انتمائهم للبيت العتيق والأقصى السجين.
فيما مضى، كانت النظم السياسية تمارس التطبيع والانبطاح والتفريط في الحقوق السياسية والإنسانية للأمة طوال العام، ثم تنتظر موسم الحج لتطلق خطباءها بالكلام الذي يهز المشاعر ويحرك القلوب الميتة عن أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وواجب نصرة الأشقاء والأخوة المظلومين والمقهورين، لكن ذلك كله تحوّل إلى طقوس من الماضي، لم يعد مسموحًا بممارستها الآن، في زمن دونالد ترامب وتدشين المفهوم الصهيوني للاعتدال، وتسيير قوافل التطبيع السياحي في الاتجاهين. 

التغييب العمدي للموضوع الفلسطيني عن منابر المساجد بدأ مع الانقلاب على كل التاريخ والجغرافيا والإنسان العربي، ووضع الإسلامي السياسي، بديلًا عن الاحتلال الصهيوني، عدوًا وحيدًا لأنظمة الحكم العربية المتلهفة على نيل الرضا الإسرائيلي، ورويدًا رويدًا صار الدعاء لفلسطين تهمة، حتى وصلنا إلى مرحلة الدعاء بالهلاك للمقاومة في كل مواجهة مع الاحتلال، ليغيب الدعاء بالنصر "لإخواننا في فلسطين" عن لائحة الأدعية الرمضانية في المساجد؟
وكما قلت سابقًا، بعضهم نسي الدعاء للأقصى، وبعضهم تناساه، إيثارا للسلامة، من رقيبٍ يعد أنفاس المصلين، ويكاد يفرض ضرائب على عدد التسابيح والأدعية، وصنف ثالث تجاهل الأمر، كون الحكاية "حكاية فلسطين" ابتلعها الصمت الرسمي العربي المطبق، وبات لدى بعض الدول العربية حكام على درجة "سفير" للكيان الصهيوني.
كل عام وفلسطين حاضرة في الذاكرة والوجدان، عربية خالصة، رغم أنف المهرولين.

الانهيار المفاجئ للفئة الأولى!

الانهيار المفاجئ للفئة الأولى!

خواطر صعلوك

لقد تعرضت للسرقة من فئات اللصوص الثلاثة، وإليك عزيزي القارئ تفصيل الفئات، وكيف تمت السرقات.
اللص الأول دخل شقتي عام 2008، وكان ينتمي للفئة الثالثة من اللصوص، وهي أردى وأسوأ أنواع اللصوص حسب تصنيف الشرطة وحسب تصنيف الكاتب الرائع «أو هنري»، وتعمل هذه الفئة في الليل وتتحدث بالهمس وتسير على أطراف أصابعها، ولا تصعد على أكتاف الناخبين، ولكنها تصعد على «المواسير» أحياناً، وأحياناً أخرى على الأسوار العالية، وإذا تم ضبطهم متلبسين تتم معاملتهم بإهانة لأنهم فئة غير مرخص لها!
والحمد الله أن هذا اللص لم يجد ما يسرقه في شقتي، بل جمع لي كل الساعات والأشياء التي اعتقدت أنها ضاعت منذ زمن، وعندما شعر اللص بالتوتر بسبب جلبة ما، هرب وترك الأشياء ونسي هاتفه على الطاولة!
أما اللص الثاني فقد دخل حياتي عام 2009، ويعتبر من الفئة الثانية التي يُنظر إليها باحترام، وفي النهار لا تتحدث بالهمس بل تتحدث أمام الجموع باسم القانون أحياناً، وباسم الوطن أحياناً، أما في الليل فتتحدث بالهمس والإيداعات، ومن الصعب ضبط هذا النوع متلبساً لأنه مُعترف به ولكنه لا يحمل ترخيصاً بل حصانة.
وهذا اللص ما زال موجوداً في حياتي حتى اليوم، وأهم ما سرقه هو أحلام جيل بكامله.
أما اللص الثالث فهو من الفئة الأولى، التي لها نفوذ إعلامي كبير تعززه التأكيدات المستمرة الواردة من وزارة العدل بارتفاع نسب الطلاق بسبب دخول هذا اللص إلى قيم وعادات البيوت والأسر وسلوكيات النساء، وهذه الفئة دائماً في كامل أناقتها وتعيش في أرقى الفنادق واليخوت، ولديها قدرة كبيرة على التسويق وبيع الوهم والتطرف الاستهلاكي، صحيح أنها لا تصعد على أكتاف الناخبين ولكنها تفاقمت وتغوّلت على أكتاف المتابعين، وقد دخل هذا اللص حياتي في 2015م، وهذا اللص تحديداً اشتعل في المجتمع مثل نار، ولكنه انطفأ بالقانون مثل شمعة.
وللتو تم توقف نشاطه بسبب أنه نشر غسيله المبلول، فاشتكى عليه الجيران لأنه بلل ملابسهم أيضاً، وأمام النيابة وجد اللص نفسه أمام انعطافة مفاجئة للأحداث، حيث كان يحتاج إلى جمع شتات فكره، ولا نعلم هل سيجمع شتات فكره ونركب جميعاً «الباص»، أم سيخرج من حياتنا ويظهر بدلاً منه لص جديد، لأن هذه الفئة من اللصوص معترف بها ومُرخص لها، فالقانون لا يعاقب أو يقاضي إلّا أكثر أشكالها تطرفاً... وإلا فهذه الفئة منتشرة بأشكال مختلفة... وكل ما لم يذكر فيه اسم الله... أبتر.
قصة قصيرة:
الغاسل: تُرى هل يُحاسب المرء على قتل الوقت إذا حطم الساعة؟
المُجفف: لا طبعاً... بالتأكيد أن الساعة هي مَنْ ضربتك أولاً.
الغاسل: الحمد الله... براءة.

@moh1alatwan

الدور الروسي في محنة مسلمي تركستان الشرقية




 أحمد الظرافي
2020/07/18 
احتلت الصين تركستان الشرقية للمرة الأولى عام 1760، بعد معارك طاحنة بين حكام هذه المنطقة الإسلامية، وطوفان الجيوش الصينية النظامية، ونجم عن تلك الحرب مقتل مئات الآلاف من المسلمين، فضلا عن الذين ذبحوا بأيدي القوات الصينية. ورغم ذلك، لم يلقِ المسلمون التركستانيون سلاحهم، ولم تهدأ ثائرتهم، على مدى مائة عام، حتى استطاعوا تحرير بلادهم، بعد جهاد مرير، وتضحيات جسيمة، وبالتالي، الاعلان عن قيام دولة إسلامية في هذا الإقليم عام 1863.
في ظل روسيا القيصرية

وقد تزامن قيام تلك الدولة التركستانية مع ظهور روسيا القيصرية، كقوة عظمى طامحة، في الشمال، بعد ضمها لإقليم القوقاز بالكامل، وتحقيق حلمها في الوصول إلى المياه الدافئة، في بحر قزوين والبحر الأسود، حيث كان اللعاب الروسي يسيل على ثروات هذه المنطقة التركستانية، ذات السهول الزراعية الخصبة وغير المتناهية، والثروة الرعوية الوافرة، والكثافة السكانية المنخفضة، فضلا عن النزعة الصليبية التي كانت هي القوة المحركة لسياسة القياصرة الروس. فقد اتفقت السياستان الروسية والصينية، آنذاك، على ضرورة القضاء على هذه الدولة التركستانية المسلمة، وهكذا وقعت تركستان كلها، بين فكي كماشة، القياصرة الروس من الشمال، والصينيون من الشرق والجنوب، ونتيجة لذلك، فقد احتلت الصين تركستان الشرقية، مرة أخرى، عام 1876، أي بعد أقل من 14 من تحريرها، وذلك بمساعدة بريطانيا، الإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس، آنذاك.وفي سنة 1881م، أبرمت الصين مع روسيا معاهدة لتقسيم هذه المنطقة الشاسعة بينهما، مع تجاهل تام لسكانها، وكأنهم دواب تسير على ظهرها، وليس لهم طموحات أو تطلعات، فأصبحت تركستان الشرقية منذ العام 1884م، تابعة رسميا وبصورة قسرية للصين، تحت مسمى جديد هو "شينغيانع" ومعناها بالصينية "الوطن الجديد". بينما أصبحت تركستان الغربية تابعة رسميا لروسيا القيصرية، بصورة قسرية، تحت مسمى جديد هو آسيا الوسطى، واختفى نهائيا اسم بلاد ما وراء النهر، الذي عرفت به هذه البلاد طوال تاريخها الإسلامي، وذلك رغم خنوع السلطات الصينية للأوروبيين، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وحتى منتصف القرن العشرين. ويرجع سبب تحالف الروس القياصرة مع الصينيين، ليس فقط لأن كل منهما مشبع بالعداوة للإسلام، ولكن لما بات يعرف باسم النبوءة المزعجة، التي تنبأ بها الرحالة الروسي فاسيليف، الذي زار الصين عام 1867 موفدا من القيصر، لتقصي أحوال الصين، فقد ذكر هذه الرحالة في تقريره أن الإسلام مهيأ لأن يصبح الدين القومي للإمبراطورية الصينية، ولأن يقلب تبعا لذلك ،الأوضاع السياسية في العالم الشرقي رأسا على عقب.
وكان مما قاله:" إذا انتشر الإسلام في الصين، كما انتشر مذهب بوذا ينقلب العالم". وهذه النبوءة لم تزعج الروس فقط، وإنما أزعجت أيضا القوى الغربية والكنائس الكاثوليكية والبروتستانتية. ومن هنا يأتي تواطؤ الانجليز والروس مع الصينيين، لإعادة احتلال الإقليم عام 1876، وأيضا هجمة الكنائس الغربية على الصين في تلك الفترة.
في ظل الاتحاد السوفيتي

واندلعت في عام 1931 ثورة إسلامية شملت أجزاء تركستان الشرقية كلها، واستطاعت أن تحرر اغلب أراضي الإقليم، وعلى رأسها مدن "كاشغر"، و"شانشان"، و "تورفان"، و "ِأورموش"، قاعدة تركستان الشرقية (حاليا)، وأعلنت الدولة الإسلامية المستقلة في 12-11-1933، تحت اسم "الجمهورية الإسلامية في تركستان الشرقية"، وقد اختير "خوجا نياز" رئيسًا للدولة، و"ثابت داملا" رئيسًا لمجلس الوزراء، وأصبحت مدينة " كاشغر" التاريخية، عاصمة للدولة، ولكن كما حدث سابقا، فقد قضى التحالف العسكري الروسي الصيني على هذه الجمهورية في مهدها، وذلك في آب 1937، بعد حربِ ضروس، انتهت باستشهاد رئيس الدولة، وإعدام جميع أعضاء الحكومة وقتل عشرة آلاف مسلم. وحصل الروس مقابل مساعدتهم للصين في خنق هذه الدولة، على العديد من الامتيازات في الإقليم، كحق التنقيب عن الثروات المعدنية، والحصول على الثروات الحيوانية، واستخدم عدد من الموظفين الروس في الخدمات الإدارية.
وقامت ثورة أخرى خلال الحرب العالمية الثانية، قادها عالم مسلم يدعى علي خان، واستطاعت بحلول عام 1944، تحرير ولايتي " تارباغاتي " و" آلتاي"، وقد أقيمت فيهما دولة تركستان الشرقية، التي اتخذت مدينة "إيلي" (غولجا) عاصمة لها، وسعت هذه الدولة إلى تحرير باقي أراضي تركستان الشرقية من الاحتلال الصيني، ولكنها اصطدمت مجددا بالتحالف الصيني الروسي، وذلك بعد أن ضُمت جمهوريات أوزبكستان وتركمانستان وطاجكستان وأذربيجان وكازاخستان وقرغيزستان بالقوة إلى الاتحاد السوفيتي، خلال فترة حكم الطاغية الدموي ستالين (1924-1953) صاحب سياسة الستار الحديدي، والتطهير الديني، ومطاردة الحرف العربي([1]) ، فقد قام ستالين الذي شعر بالنشوة بعد انتصاره على الألمان في معركة ستالينغراد الحاسمة، في شباط 1943، بالتدخل عسكريا برا وجوا لصالح الصين، أثناء تلك الثورة الإسلامية، ونجح الروس وعملاؤهم، في اختطاف قائد الثورة، وأفسحوا بذلك المجال أمام جيش التحرير الشعبي الصيني، بقيادة الطاغية ماوتسي تونغ، لتحطيم هذه الدولة المستقلة عام 1949، وأفلحت الحكومتان الروسية والصينية في حمل الثوار التركستانيين على التخلي عن طموحهم في الحرية والاستقلال، والقبول بالصلح مع الصين، والانضواء تحت رايتها، مقابل الاعتراف بحقوقهم في إقامة حكومة تتمتع بالحكم الذاتي، يهيمن عليها الأويغور، أكبر الأقليات في الإقليم، ولم تؤد هذه السياسة إلا لبعث النعرة القومية في تركستان الشرقية، وبالتالي، تحول القضية، إلى قضية قومية، بعدما كانت قضية إسلامية، حتى ذلك الوقت[2].
في ظل روسيا الاتحادية

وقد توطد التحالف الصيني والروسي ضد المسلمين في تركستان بشطريها الشرقي والغربي، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وزوال الحكم الشيوعي الشمولي، عام 1991، وبالتالي حصول دول آسيا الوسطى (تركستان الغربية) على استقلالها، وهي كازاخستان، واوزباكستان، وتركمانستان، وقرغيزستان، وطاجيكستان، إضافة إلى أذربيجان في جنوب القوقاز، رغم أن هذا الاستقلال لم يكن إلا استقلالا شكليا، وأيضا رغم استمرار الحرب على الإسلام بشكل علني وسافر من قبل أنظمة هذه البلدان، التي يهيمن عليها أيتام الحزب الشيوعي البائد، وتبعية هذه الأنظمة الواضحة للنظام الروسي الاتحادي، سياسيا واقتصاديا وثقافيا وعسكريا، وصلاتها المشبوهة بالكيان الصهيوني[3]، واستمرارها في سياسة مسخ الشخصية الإسلامية لشعوب المنطقة. ففي غضون ذلك طرحت موسكو وبكين مشاكلهما السياسية والاقتصادية والعقائدية جانبا، وبادرتا بوضع حد للصراع الطويل على النفوذ بينهما، وأيضا للخلافات الحدودية المزمنة بينهما، والتي كادت تؤدي إلى حرب نووية بين الدولتين العظميين، عام 1969، ودخلا الجانبان، الروسي والصيني خلال الفترة (1991-1997)، في مفاوضات جدية وحاسمة لترسيم هذه الحدود البرية بينهما، والبالغ طولها 4300كم، وتوجت تلك المفاوضات بتوقيع العديد من المعاهدات والاتفاقيات، ومنها معاهدة الصداقة والتعاون عام 2001، بعد انتهاء حرب الشيشان، وصعود نجم الجزار بوتين، الذي أطلقت عليه الصحافة اسم (القيصر الجديد)، إشارة إلى طموحه في إعادة بعث روسيا القيصرية، كما تم التوقيع بين النظامين الروسي والصيني، على الاتفاقية النهائية لترسيم الحدود، في 14- 10- 2004، وبالتالي، إغلاق هذا الملف نهائيا. وكل ذلك، من أجل تنسيق جهودهما وتركيزها على توجيه سياسة دول وشعوب هذه المنطقة، وتقييد حريتها وإرادتها، وعلى رأس اهدافهما الإستراتيجية، ألا تقوم للإسلام قائمة فيها، على مقربة من حدودهما، وهذا الهدف تتوافق عليه كل القوى العظمى والإقليمية، القريبة والبعيدة، وهو مبعث ارتياح لكل من الولايات المتحدة والكيان الصهيوني والهند وإيران. ومن هنا يأتي الصمت الدولي، على محنة المسلمين في تركستان الشرقية، والتغاضي، إن لم يكن التواطؤ، عن كل الممارسات الوحشية، وسياسة معسكرات الاعتقال والتطهير الجماعية، التي تمارسها السلطات الصينية ضدهم، بشكل ممنهج، وبخاصة منذ أحداث 11 سبتمبر 2001، وهو نفس الموقف الدولي، إزاء محنة المسلمين في فلسطين، بأيدي الصهاينة اللقطاء، وفي كل مكان تحت الشمس يضهد فيه المسلمون، وهذا حتى من قبل المنظمات التي تدعي الاهتمام بقضايا حقوق الإنسان. في حين تقف أنظمة الدول الإسلامية متفرجة ومكتوفة الأيدي.

 1] للمزيد حول سياسة ستالين في آسيا الوسطى، انظر مقال: ماذا جرى داخل السياج الحديدي (آسيا الوسطى وستالين) مجلة البيان، العدد 392 ربيع الآخر 1441هـ، والمعاد نشره في الموقع على الرابط: http://www.albayan.co.uk/Mobile/MGZarticle2.aspx?ID=8896  
[2] انظر مقال، تركستان الشرقية قضية إسلامية لا قومية، مجلة البيان، العدد 359، رجب 1438هـ، والمعاد نشره في الموقع على الرابط:  http://www.albayan.co.uk/MGZarticle2.aspx?id=5693
[3] للتعرف على طبيعة هذا الاستقلال، أنظر مقال: دول آسيا الوسطى بعد ربع قرن من الاستقلال، موقع مجلة البيان الألكتروني 16-10-2018، الرابط: http://www.albayan.co.uk/mobile/article2.aspx?id=6415

ماذا لو كانت الكمّامات تستطيع الكلام؟!

ماذا لو كانت الكمّامات تستطيع الكلام؟!
توماس فريدمان
كاتب وصحافي أميركي
يمكن تذكر صيف 2020 باعتباره واحداً من تلك التواريخ المهمة حقاً في التاريخ الأميركي.
فأينما ذهبت ترى آباء لا يعرفون إن كان أبناؤهم سيذهبون إلى المدرسة هذا الخريف، ومستأجِرين لا يعرفون متى أو إن كانوا سيُطردون، وعاطلين لا يعرفون أي شبكة أمان، إن وُجدت، سيضعها الكونجرس تحتهم، وشركات لا تعرف كيف أو ما إن كانت تستطيع الصمود يوما آخر، كما أنه لا أحد منا يعرف ما إن كنا سنستطيع التصويت في نوفمبر.
هذا كم كبير من القلق الذي يتراكم تحت اقتصادنا ومجتمعنا ومدارسنا وشوارع مدننا، لأننا فشلنا فشلا ذريعا في إدارة أزمة فيروس كورونا. فلدينا 25 في المئة من كل الإصابات المسجلة في العالم، في حين أننا لا نمثّل سوى 4 في المئة من سكان العالم. وفي أقصى مظهر من مظاهر السخرية، فإن فيتنام، التي لديها أقل من ثلث سكاننا بقليل وأعلنت عن 416 حالة إصابة فقط ولا وفيات، تشعر بالأسف لحالنا.
فكيف أصبحنا حمقى لهذه الدرجة؟
لو دُفنت أميركا تحت حمم بركانية على غرار ما حدث لمدينة بومبي الإيطالية في سنة 79 ميلادية، لا قدّر الله، وجاء علماء الآثار لاحقا للحفر والتنقيب عن معالمها، فلا شك لدي في أن القطعة الأثرية الذي سينفضون عنها الغبار ويحملونها أولاً لتجيب عن ذلك السؤال الكبير ستكون شيئاً بسيطا لا تكاد صناعته تكلّف شيئا، ومن السهل جدا ارتداؤه: إنه الكمّامة.
وبالنسبة لشيء يفترض أن يغطّي وجوهنا فإن ذاك الشيء يشي بالكثير بخصوص الجنون الذي أصاب بعضنا. إذ تُخبرنا تلك الكمامة، بشكل خاص، كيف خلق أغلى بلد في العالم وأكثره تقدما علميا مجموعةً من الزعماء والمواطنين الذين حوّلوا ارتداء غطاء على أنوفهم وأفواههم تجنباً لانتشار العدوى إلى موضوع لحرية التعبير، وهو شيء لم يفعله أي بلد آخر في العالم.
والحال أنه ليس هناك شيء أكثر تثبيطا للمعنويات من هذا، ولا شيء يصيب بانتكاسة أقوى وأسرع في المعركة ضد كوفيد- 19. فالمجتمع الذي يستطيع تسييس شيء بسيط مثل الكمامة في زمن الوباء يستطيع تسييس أي شيء، ويستطيع أن يجعل من أي شيء موضوعاً خلافياً مثيراً للانقسام: الفيزياء، الجاذبية، التساقطات المطرية، أي شيء. والمجتمع الذي يسيّس أي شيء لن يدرك أبدا إمكانياته الكاملة في الأوقات الجيدة أو تلافي الأسوأ في الأوقات السيئة.
هذا هو حالنا اليوم.
إنه أمر لا يغتفر.
ومع ذلك، وعلى مدى عدة أشهر، ظل رئيسنا ونائب الرئيس ومعظم الحكام «الجمهوريين» وأتباعهم يساوون بين رفض ارتداء الكمامة ورفض انتهاك الحرية الشخصية، بدلا من أن ينظروا إليه باعتباره الشيء الأرخص والأكثر فعالية الذي يمكن أن نفعله للحد من انتشار الفيروس، والعودة إلى العمل وعودة أطفالنا إلى المدرسة.
والواقع أن رفض الرئيس ترامب للكمّامات لم تكن له أي علاقة بالإيديولوجيا. فقد كان مجرد معارضة من جانبه لأي شيء من شأنه إبراز الأزمة الصحية الحقيقية التي كنا فيها، وبالتالي قد تؤذي حظوظه في إعادة الانتخاب.
غير أن نائب الرئيس مايك بنس، السعيد دائما بتسويغ أفعال ترامب، حاول إلباس مقاومته للكمامات لبوساً دستورياً أنيقاً. فعندما سأله صحفي في تجمع ترامب بمدينة تولسا قبل بضعة أسابيع: لماذا يبدو الرئيس غير قلق بشأن غياب الكمّامات والتباعد الجسدي في الفعالية؟ قال بنس: «أودُّ أن أذكّرك بأن حرية التعبير وحرية التجمع السلمي منصوص عليهما في دستور الولايات المتحدة. والشعب الأميركي لا يتخلى عن حقوقنا الدستورية ولو في حالة أزمة صحية».
يا له من تدليس!
فكما كتب «جون فين»، الأستاذ الفخري للعلوم السياسية بجامعة «ويسليان»، في مقال مؤخراً: «هناك سببان يفسّران لماذا لا يُعد فرض الكمامة انتهاكا للتعديل الأول من الدستور. الأول هو أن الكمامة لا تمنعك من التعبير عن رأيك… وإضافة إلى ذلك، فإن التعديل الأول، وعلى غرار كل الحريات التي يكفلها الدستور، ليس مطلقا. ذلك أن كل الحقوق الدستورية خاضعة لسلطة الحكومة في حماية صحة المجتمع وسلامته ورفاهيته».
وفضلا عن ذلك، وجدت دراسة أنجزتها مؤسسة «بوسطن كونسالتينغ غروب» حول البلدان التي لم تسطّح منحنى فيروس كورونا فقط وإنما «سحقته»، أن السبيل إلى إعادة فتح الاقتصادات بالتوازي مع احتواء انتشار الفيروس يكمن في «التباعد الجسدي، وغسل اليدين مرات متعددة خلال اليوم، والاستخدام الواسع للكمامات»، وحقيقة إن هذه الحكومات طوّرت إرشادات مفصّلة بخصوص الوسائل الثلاث في ما يتعلق ببيئة العمل، والمدارس، والنقل العمومي.
وخلاصة القول: إن ارتداء كمامة في هذا الوباء هو إشارة احترام لمواطنينا وجيراننا، بغض النظر عن عرقهم أو عقيدتهم أو انتمائهم السياسي. فارتداء الكمّامة يقول لنا: «إنني لستُ قلقا على نفسي فحسب، وإنما قلق عليك أيضا. إننا جميعا جزء من المجتمع نفسه، والبلد نفسه، والكفاح نفسه من أجل البقاء أصحاء وسليمين».
ولو كان الأمر يتعلق برئيس آخر فإنه كان سيحث كل أميركي، منذ بداية هذا الوباء، على ارتداء كمامة بالأحمر والأبيض والأزرق (ألوان العلم الأميركي)، وكان سيستخدم مثل هذه الكمامة للقيام بعمل مزدوج: القضاء على كوفيد- 19 وتوحيدنا من أجل المسيرة الطويلة اللازمة للقيام بذلك.

الترجمة: مركز الناطور

فوق السلطة 192 - أهداف ابن سلمان.. والرز الإثيوبي

برنامج: فوق السلطة

 الرز الإثيوبي بدل المصري في عهد السيسي




تناولت حلقة (2020/7/31) من برنامج "فوق السلطة" موضوعاتها بالعناوين التالية: أهداف بن سلمان الساخنة.. بن نايف والجبري، الرز الإثيوبي بدل المصري في عهد السيسي.
كما تناولت الحلقة أيضا عناوين: جنون في لبنان على الحدود وفي حانات الليل، إحراق مسجد في البيرة وتمنن بمساجد أم الفحم، موالية الإمارات في تونس تحتفل بعلم تركيا.
أخيرا ردت مصر رسميا بخطوتين، على بدء إثيوبيا ملء سد النهضة من نهر النيل. الرد الأول كان برفع الغرامات والعقوبات على كل مواطن مصري يسرف في استخدام المياه.
أما الرد الثاني فجاء على لسان الرئيس عبد الفتاح السيسي شخصيا، حيث تمنى للإثيوبيين التوفيق في سد النهضة، وأعرب عن استعداده للمساعدة بشرط أن "لا تتأثر حصتنا من المياه". ويعكف نخبة من علماء الرياضيات والفيزياء، على تحليل معادلة السيسي. كيف يمكن أن يملأ سد إثيوبيا دون تخفيض نسبة مصر؟
وأنت تفاوض بسلمية برومانسية تذكر أن الأسد لا يفاوض على طعامه.
درسونا صغارا في كتب الجغرافيا، أن لا حياة في مصر من دون نهر النيل.. الأمن الاقتصادي والاجتماعي القومي، على هذا المستوى من الخطورة في مصر، لكن إياكم "إنو تبطلو تعملو رياضة".
فمن واجب رئيس الجمهورية أن يتفقد اللياقة البدنية لفئات الشعب. في هذا الوقت لياقة الإثيوبيين البدنية تعززت، مع احتفالاتهم بملء السد. رئيس الوزراء آبي أحمد يهنئ شعبه، ووزير خارجيته يهنئ نهر النيل بأن أصبح بحيرة.
إعلامي إثيوبي يحل المشكلة، أيها المصريون، بدل أن تزرعوا الرز المصري، اشتروه من إثيوبيا، الرز الإثيوبي.
في النهاية، تعاطي الرئيس السيسي مع قضية سد النهضة كان موجعا للمصريين، وكان يمكنهم أن يتحملوه هذا الأسبوع، لولا ضربة أخرى تلقوها، وكما يقال، "ضربتين على الراس، بتوجع".. توفي طبيب الغلابة محمد مشالي.

الخميس، 30 يوليو 2020

شنودة .. صورة بالحجم الطبيعي

شنودة .. صورة بالحجم الطبيعي

رفاعي سرور

 لم يكن إعلان أقباط المهجر عن قيام دولة قبطية قرارًا مفاجئًا، بل كان خطوة متوقعة  على مسار التصعيد، بعد خطوة طلب الحماية الدولية..                                        

لم يكن إعلان أقباط المهجر عن قيام دولة قبطية قرارًا مفاجئًا، بل كان خطوة متوقعة على مسار التصعيد، بعد خطوة طلب الحماية الدولية..

كما لم يكن غموض موقف شنودة من هذه الخطوة، وكذلك رفضه من قبل اتخاذ موقف ضد زكريا بطرس وعزيز مرقص أمرًا مفاجئًا هو الآخر، رغم مخالفته للصورة التي كان يبدو فيها شنودة حريصًا على الوطن، حتى وإن أثارت تلك المواقف غرابة من لا يعرف الصورة الحقيقية للرجل، ومدى انسجامها مع الخطة الهادفة إلى تقسيم مصر.

ومن هنا جاءت ضرورة إعطاء البابا شنودة صورة لحقيقته وحجمه، تساعد على تفسير كل مواقفه الموضوعة في سياق المخطط التاريخي للحرب على الإسلام بإدارته العالمية ومستواه الإقليمي، من خلال الدور الأرثوذكسي في دول كثيرة منها لبنان والسودان وصربيا، ثم مصر.

مما أعطى لصورته حجمًا كبيرًا، لا يوافق الحقيقة... حتى بدا وكأنه السر الثامن بعد أسرار الكنيسة السبعة!

والخلفية التاريخية للصورة يمكن تحديدها بحقيقة سياسية ضخمة.. وهي أن ثورة يوليو وجماعة الأمة القبطية.. خطة غربية أمريكية واحدة..

حيث قامت الثورة لتطويق الحركة الإسلامية واحتوائها، وكانت المرحلة الأولى من هذه الخطة تقتضي إحياء الرابطة الوطنية في مقابل الرابطة الإسلامية، وتمزيق دولة الخلافة، من خلال تحويل أقاليمها الجغرافية إلى كيانات مستقلة.. وتم هذا من خلال معاهدة سايكس بيكو 1916..|([1])
ولكن الخطة لم تنجح في إخماد الشعور الإسلامي، فتصاعدت المقاومة الإسلامية للمخططات الصليبية، فلجأت الجاهلية الغربية إلى إحياء القومية العربية كبديل عن الشعور الإسلامي العميق لإعادة الخلافة الإسلامية، ونجحت في فصل المنطقة العربية عن المنطقة الهندية، وعن آسيا الوسطى، وعن أفريقيا، وهي الأقاليم المكونة للخلافة الإسلامية.. وكان ذلك بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بتخطيط أمريكي إنجليزي مشترك، وتنفيذ أمريكي خالص.

ثم بدأت المرحلة الثانية من التفتيت، والتي تقتضي تقسيم مصر والسودان على أساس طائفي، فتم إعداد الطرف النصراني في مصر -سرًّا- كطرف أساسي في الخطة .. كما تم في نفس الوقت التركيز على استقطاب وتنصير القبائل الوثنية في جنوب السودان.. بواسطة قساوسة أرثوذكس مصريين، تمهيدًا لعزله عن الشمال المسلم.

ومن البداية كان سبب الثورة الأساسي هو رفض الملك فاروق لفصل مصر عن السودان، فجاءت ثورة يوليو لتكون بداية قراراتها هي إعطاء الشعب السوداني حق تقرير المصير الذي يعني مباشرةً فصل مصر عن السودان.

ثم سارت خطة التفتيت مع حركة يوليو، في خطيين متوازيين ([2]):
1- إضعاف الطرف الإسلامي، من خلال تصفية الإخوان المسلمين، وإضعاف حالة التدين عند المسلمين في مصر ..
2- إعداد الطرف النصراني في مصر، وتدعيم قوته..

وقد مرت هذه الخطة بمواقف مفصلية متزامنة، من أهمها:
- تكوين جماعة الأمة القبطية على يد إبراهيم هلال في نفس وقت الثورة (11 سبتمبر 1952)، وبدأ تجهيز وإعداد كوادر المشروع القبطي، ومن ذلك اختطاف جماعة الأمة القبطية "يوساب" في انقلاب واضح على الخط التقليدي للكنيسة لإتاحة الفرصة الكاملة للمخطط الجديد.
وكل هذه البدايات كانت مع بدء تنفيذ مخطط الغدر بالإخوان والانقلاب عليهم، والمعروف تاريخيًّا بمحنة 54([3]).

- وفي يوليو 1965م قام عبد الناصر بوضع حجر الأساس لكاتدرائية العباسية، وتبرع لها من ميزانية الدولة بآلاف الجنيهات وقامت شركة النيل العامة للخرسانة المسلحة "سيبكو" - وهي إحدى مؤسسات المخابرات المصرية - بتنفيذ المبنى الخرساني الضخم المصمت للكاتدرائية، والذي صار النموذج المحتذى بعد ذلك لكل الكنائس التي بنيت فيما بعد.
ومن أجل تغطية الخطة الرامية إلى دفع النصارى إلى مرحلة المناوأة والصراع الطائفي.. جاءت التبريرات الكاذبة لتبرع عبد الناصر للكاتدرائية، في الوقت الذي كانت إذاعة القرآن الكريم بغير ميزانية، حتى إن الشيخ محمود خليل الحصري لم يتقاضَ مليمًا واحدًا على تسجيل المصحف المرتل للإذاعة!
وفيما يبدو أن هيكل هو من أبلغ عبد الناصر بالأمر الأمريكي ببناء الكاتدرائية.. ولذلك حاول معالجة أن يكون بناء الكاتدرائية بالأمر، فكان يقول: أنه وجد تفهمًا تامًّا من عبد الناصر ووجد الرئيس واعيًا بمحاولة استقطاب الأقباط، التي يقوم بها مجلس الكنائس العالمي؛ ولذلك قرر من منطلق وطني أن تساهم الدولة بنصف مليون جنيه في بناء الكاتدرائية الجديدة.
ولعل هذا هو السبب الذي جعل البابا كيرلس يطلب من اثنين من الأساقفة أن يقيما قداسًا في بيت هيكل قائلًا: «إن بركات الرب تشمل الكل، أقباطًا ومسلمين»([4]).
ومع كل ذلك وفي نفس الوقت تم القبض على تنظيم سيد قطب وتصفية ما تبقى من نشاط للإخوان المسلمين، فيما عُرف تاريخيا بمحنة 65.
- وبعد سقوط المشروع الناصري في نكسة 67، واتجاه الشعب المصري إلى الله كرد فعل للهزيمة الموجعة.. بدأ النشاط التنصيري لجماعة الأمة القبطية في الظهور إلى العلن، وتم فبركة «ظهور العذراء» في الزيتون، لتُزاحِم الكنيسةُ بها توجه الشعب المصري إلى الله بعد حدوث النكسة، حيث راقت فكرة زعم ظهور العذراء للسياسيين الذين كانوا يحاولون إلهاء الشعب عن التفكير في النكسة..
وبذلك أراد النصارى اعتبار النكسة نقطة في خط انكسار الدولة وإعلان النشاط النصراني في مصر..
والتوافق الزمني بين مواقف الثورة في العداء مع الإسلام وتأييد النصارى لم يكن مصادفة، ولكنه كان مخططًا غاية في الدقة، حتى بلغت هذه الدقة أن يكون عداء الإسلام وتأييد النصارى في موقف واحد، وليس فقط التوافق الزمني بين الموقفين، وفي ذلك يقول إبراهيم مؤسس جماعة الأمة القبطية:
"وحصل شيء غريب وأنا في السجن -عام 1954- فقد نشرت الأهرام في صفحتها الأولى أن السفير الأمريكي جيفرسون كافري يريد مقابلتي، وأنا لا أعرف السفير الأمريكي ولم أقابله من قبل، وفوجئت في اليوم الثاني بالعقيد أنور المشنب، عضو مجلس قيادة الثورة يزورني، وقال لي: «هل هناك شيء ينقصك؟»، فقلت له: «لأ، سيادتك بتزورني ليه؟»، فرد: «علشان أطمئن عليك»، وعرفت بعد ذلك أن السفير الأمريكي عندما قرأ لائحة الاتهام.. خشي أن تصدر بحقنا تلك الأحكام، فطلب مقابلتنا مما أدى إلى خشية الدولة، وفعلًا بعد الزيارة بدأت الدولة في الإفراج عن أعضاء الجماعة، وكنت آخر واحد خرج يوم 12 فبراير 1955.

وماذا عن قصة حبسك مرة أخرى عام 1955؟
- كانت الدولة تدرس تطبيق قانون جديد للأحوال الشخصية، من المنتظر أن تبدأ تطبيقه في يناير 1956، وتنوي إلغاء المحاكم الشرعية والملية، وتريد تطبيق الشريعة الإسلامية، ولما عرفت اعترضنا وعملنا مظاهرة كبيرة بدأت من البطرخانة في «كلوت بك» إلى مجلس الوزراء، فأصدر الرئيس عبد الناصر قرارًا في 3 نوفمبر 1955 بالقبض عليّ للمرة الثانية، ومعي مطران الكاثوليك إلياس زغبي، ولكن الدولة أفرجت عنه بعد 4 أيام بسبب ثورة الفاتيكان على مصر.
- هل خرجت من السجن بعد وفاة البابا؟
- لا.. أكملت فترة عقوبتي، والحقيقة كانت فترة السجن في طرة أفضل فترة، وكانت صلتي بالله قوية خلالها، وكان معي في السجن 2000 مسجون من الإخوان المسلمين، و8 من اليهود الذين شاركوا في تفجيرات سينما مترو، و100 سجين من اليساريين، وكان معنا صالح رقيق نائب المرشد، وأجرينا انتخابات داخلية فاختاروني لأكون نقيب السياسيين.
- وفى السجن شاهدت بنفسي ألوان التعذيب والقتل التي قامت بها الدولة ضد السياسيين، وبالأخص الإخوان المسلمين، وكان أكثرها بشاعة المذبحة التي وقعت في أول يونيو 57، والتي أشرف عليها زكريا محيى الدين، وحدثت معجزة في ذلك اليوم أنقذتني من المذبحة، فقد فوجئت بكلاب كثيرة وكان يوجد ضابط يدعى «عبد العال سلومة» قال لي: «اهرب يا إبراهيم» فدخلت غرفتي وكنت أسمع صوت صراخ المساجين وحالات الاستنجاد واختبأت في مكان جانبي، وكانت عمليات القتل في جميع العنابر.
- وأعطى الأوامر للغرفة المجاورة، وتم قتل المسجون الذي كان فيها، وقدر عدد القتلى في هذا اليوم بـ 52 منهم مستشارون وشخصيات جديرة بالاحترام". ا هـ

بداية شنودة
و كانت من وقت تجهيز كوادر المشروع القبطي؛ حيث تولى شنودة أسقفية التعليم (1954) كما بدأ في نفس الوقت الظهور السياسي لشنودة من خلال حادثة كنيسة السويس والزقازيق كما سيتبين..
مرورا بإصدار شنودة -والذي كان أسقفًا للتعليم- مجلة الكرازة التي وضعت البرنامج التربوي لجيل المواجهة عام 65 .
غير أن تولي شنودة منصب البابوية عام 71 كان البداية الأساسية لمهمته.
فبعد هلاك عبد الناصر وتولِّي السادات جاء تتويج "شنودة" على كرسي البابوية.
وجاء السادات في حالة ضعف شديد للدولة: النكسة ومناوأة البقايا الشيوعية والإحباط الجماهيري والاقتصاد المتدني، فاستغلت الكنيسة تلك الظروف لتبدأ مع السادات مرحلة (المناوأة) مع السلطة، ثم جاءت المرحلة الحالية لتكون محاولة (المغالبة) النصرانية للسلطة.

ومن هنا أصبح من السهولة مقارنة الحالة الطائفية بالظروف السياسية التي صنعتها الثورة لتحقيق أهدافها التاريخية ضد المسلمين، ولصالح النصارى في خطين متوازيين وبدقة زمنية واضحة.
ولم يكن ذلك ليتم إلا من خلال زعامة نصرانية مجهزة لإدارة الخطة، وكان "نظير جيد" هو هذا الاختيار؛ ليصبح زعامة مصنوعة، وليكون هذا الاختيار هو العلامة الأولى للتصنيع..
نشأ شنودة نشأة سياسية -وكل إنسان محكوم بنشأته- فأستاذه التاريخي حبيب جرجس مؤلف أسرار الكنيسة السبعة، الذي وضع حجرين لبنائين: أحدهما هو الإكليريكية، والثاني هو مدارس الأحد، وتولى نظير مدارس الأحد التي تفرع عنها فكرة "اجتماع الشبان" التي أصبحت تمثل البداية التاريخية لجيل المواجهة.
ومن أنشطتها.. مجلة مدارس الأحد التي كانت صورة غلافها المسيح ممسكًا بكرباج في يده (انتبه.. المسيح بيده كرباج) وكانت أول عباراتها.. نحن صوت الله الرهيب..
في 18 يوليو 1954 تخلي شنودة عن اسمه الحقيقي –نظير جيد- بعد أن رسم راهبًا باسم انطونيوس السرياني..
وبعد سنة واحدة من رهبنته صار قسًّا، وهو تصرف استثنائي؛ لأن فترة الرهبنة كانت قصيرة جدًّا..
وعمل سكرتيرًا خاصًّا للبابا كيرلس السادس في 1959، لتهيئته وتدريبه على البابوية..
ثم أسقفًا للمعاهد الدينية والتربية الكنسية، وكان أول أسقف للتعليم المسيحي، وعميدًا للكلية الإكليركية في 1962..
وفي عام 1965 أسس شنودة مجلة الكرازة، وما زال يصدرها ويرأس تحريرها حتى الآن..
وقد حصل علي عدة جوائز عالمية للحوار والتسامح الديني، إحداها صادرة عن الأمم المتحدة التي أشرفت بقواتها الدولية على قتل 85 ألف مسلم في البوسنة والهرسك من خلال بطرس بطرس غالي السكرتير العام للأمم المتحدة.
والأخرى صادرة عن السفاح المجرم معمر القذافي قاتل شعبه.
وكانت أول ممارسات شنودة السياسية هي تنظيم المظاهرات ضد البابا يوساب، الذي لا يتناسب بطبيعته مع الخطة المطلوبة، فكان لابد من إزاحته لإتاحة الفرصة للمخطط الجديد.
وكانت أول مشاركاته السياسية: الانضمام للكتلة الوفدية التي أنشأها مكرم عبيد، والتي كان يسعى فيها إلى منازعة الزعامة الوفدية لرسم الخريطة السياسية للقوى المصرية، ليكون الوفد هو الساحة الأساسية للممارسة السياسية، والتي تبدو فيها كتلة مكرم منافسة لقوة النحاس، ويفرض التنافس السياسي بين القوتين ليشمل مجال العمل السياسي المصري كله.
ومن خلال هذا السياق التاريخي، ومن تلك البداية.. تشكل موقف شنودة؛ لذا كان لابد من تحديد الصورة الحقيقية لشنودة من تلك البداية حتى الآن من خلال صورة ثلاثية الأبعاد:
بُعد الاختيار التاريخي، وبُعد التكوين الشخصي، وبُعد الدور والمهمة..
بُعد الاختيار التاريخي:
يجب أن يكون معروفًا أن الواقع النصراني لا يملك العوامل الطبيعية للحركة السياسية، وإن كانت هناك محاولات لزرع واختلاق تلك العوامل، وسبب ذلك أن حركة النصارى تاريخيًّا لها طبيعة كامنة.. حتى وإن كان لها زمن طويل، غير أنها في كل هذا الوقت كانت معتمدة على قوى أخرى.. ابتداء من الدولة الرومانية التي تبنت عقيدتهم، وحتى الاحتلال الفرنسي والاحتلال الإنجليزي والسيطرة الأمريكية مؤخرًا..
ومن هنا كانت طبيعتها هي: الكمون والتربص واقتناص الفرص..
غير أن الزعامة التي صُنِعَت لإخراج النصارى من حالة الكمون كان لابد أن تكون متمردة ثائرة، وكانت شخصية شنودة شخصية عنيدة، فكان هناك من التقط هذه الشخصية، وتعامل معها واستغلها في إطار الأهداف المرسومة.
وهذا هو السبب في نجاح السيطرة الكاملة للزعامة النصرانية على أتباع الكنيسة.. من خلال البابا شنودة.

تاريخ التصنيع:
يبدأ تاريخ صناعة شنودة كزعيم للمخطط مع بداية الأحداث التي أظهرته بصفة الزعامة، وكان ذلك حينما احترقت إحدى الكنائس في السويس أثناء الثورة في عام 1952 بفعل الإنجليز، في محاولة لإحداث فتنة طائفية تؤثر على عمليات المقاومة التي يقودها الإخوان ضد الاحتلال، فكتب شنودة خطابًا تبدأ به ممارسة الزعامة قال فيه: "لعل العالم قد عرف الآن أن المسيحيين في مصر لا يُمنعون من بناء الكنائس فحسب، بل تحرق كنائسهم الموجودة أيضًا، ولا يُعرقل فقط نظام معيشتهم من حيث التعيينات والتنقلات والترقيات والبعثات، إنما أكثر من ذلك يحرقون في الشوارع أحياء"، وهو كذب صريح لإلهاب حماس العامة تمهيدا لقيادتهم.
ثم يأتي موقف آخر بنفس الفكرة الخبيثة، وهي حرق كنيسة الزقازيق ليظهر من خلاله موقف من مواقف صناعة الزعامة بتصدي "نظير جيد" بعد أحداث حرق الكنائس المفتعلة لتبرير تواجد عسكري لجنود الاحتلال في مناطق المقاومة الإسلامية للاحتلال، ولإظهار نظير جيد كزعامة مدافعة عن حقوق الأقباط !
وتفصيل الموقف: أن الإنجليز مرة أخرى أحرقوا كنيسة في الزقازيق بعد بدء حرب فلسطين، ودخول الفدائيين قبل الجيوش العربية، وذهب إبراهيم فرج -سكرتير حزب الوفد- (مسيحي)، واتفق مع البابا على تسوية الموضوع مع مدير المديرية في الزقازيق، لكن شنودة "نظير جيد" لم تعجبه هذه التسوية، بل رفضها واتهم المسلمين والإخوان المسلمين بالأخص بحرق كنيسة الزقازيق!
الخطير أن نظير جيد يتحدث في المقال هكذا: "لقد زارنا نجيب باشا وقتذاك فقال لنا لحساب من تعملون؟ لقد اصطلح المدير مع المطران، وانتهى الأمر وأنتم تهددون وحدة العنصرين".

علامات التصنيع:
أما علامات التصنيع الأخرى فقد جاءت في سياق الاختيار؛ حيث وضحت في عدة تساؤلات:
لماذا دخل سلك الرهبنة بضجة إعلامية؟
حيث كان يحضر الاجتماعات المدنية بلبس الرهبنة، ممسكًا بعصاة طويلة بهيئة لا تتناسب مع الظروف التي يظهر فيها، ولكنه كان يفعل ذلك إعلانا لرهبنته التي سيستفيد منها فيما بعد..
ولماذا طالبت المظاهرات بعودة شنودة إلى الأسقفية بعد إبعاد كيرلس له وإعادته إلى الدير؟
ولماذا أصبح أسقفًا للتعليم قبل أن يُتم الوقت القانوني في الرهبنة؟
حيث تولى شنودة منصب أسقف التعليم بعد أن مكث في الرهبنة ثماني سنوات فقط([5]).
ولماذا ترشح للبابوية بغير استيفاء الشروط المحددة لذلك ؟
ومن هنا كان اختيار شنودة للبابوية اختيار مباشر من وزير الداخلية قائلًا للسادات: شنودة يا ريس دا بتاعنا !

بُعد التكوين الشخصي([6]):
يجب أن نقرر من البداية أن شنودة كان مؤمنًا بقضيته، وأن هذه الصفة كانت أساس الاختيار؛ لأن الدور المقرر لشنودة لا يتطلب مجرد أداء دور في خطة، ولكن يتطلب من يؤمن بما هو عليه، ويقوم بكل طاقته على تحقيقه.
ولكن بمجرد الدخول في الخطة تبدد إيمانه بقضيته ليؤمن بنفسه.. ويتمحور حول ذاته بعد تأثره بمقتضيات الالتزام بالخطة الرامية إلى السيطرة الكاملة على النصارى بزعامته.
وكان من شواهد التمحور حول الذات:
- عدم السماح بمن يدانيه من القساوسة المحيطين به..
فقد كانت تجربة يوساب في مخيلته، فأخذ يتعامل مع من حوله على هذا الأساس، حيث كان أقرب المقربين ليوساب هو من تسبب فيما أصابه من كوارث.
- عدم السماح بإظهاره مخطئًا مهما كانت الظروف، ونفي مسئوليته عن أي خطأ، فأصبح هو المسئول عن كل شيء بلا مساءلة عليه من أحد.
- كما كان من أخطر شواهد التمحور حول ذاته هو العناد، مثلما وضح في مشكلة كاميليا شحاتة والأخوات المسجونات في الأديرة والكنائس، وكذلك مشكلة الزواج الثاني عند الأقباط.حتى أنه قال: لن أسمح بالطلاق إلا لعلة الزنى ولو ترك كل الأقباط الأرثوذكسية.
فرد عليه المطالبون بالزواج الثاني في مظاهراتهم ضده "مش هيسر الرب عنادك إحنا عبيدك ولا أولادك"، وكذلك: "المسيح رئيس الكهنة وهو- أيالبابا - رئيس رؤساء الكهنة"، ".
وبينما يشتهر بعناده الشديد.. يقول: الإنسان المعاند يخسر نقاوة قلبه..
وكان من أهم دلائل تمحور شنودة حول ذاته.. هو تعجله في محاولة تحقيق كل أهدافه المرسومة في حياته، خارجًا في ذلك عن السياق الزمني المحدد للخطة.. مثل صراعه مع السادات.. والذي أدى إلى عزله والإطاحة به..
وهذا التمحور هو الذي جعل البعض يتوهم أن له كاريزما أو زعامة طبيعية..
أما تفسير التفاف أكثر الأرثوذكس حوله.. فهو الخوف من الواقع المحيط الذي زرعه شنودة في نفوس الأقباط، و جعلهم يرتبطون بمن يتصورونه قادرًا على حمايتهم.
ومن هنا كانت المحاولات المستمرة للتخويف من المسلمين، واستغلال أي أحداث يمكن تفسيرها تفسيرًا طائفيًّا، كما تبين من حادثة حرق كنيسة السويس والزقازيق المفتعلة.
ولم يكن لشنودة موقف شجاع واحد، بل كانت مواقفه جميعًا تستند إلى ظروف عالمية ومحلية خاصة.
ونتيجة لما سبق.. لم يصبح هناك وجود لمن يحل محله، أو من يمكن الإجماع عليه بعده.. مما سيجعل الفراغ الذي يتركه شنودة في واقع النصارى بعد غيابه عن المشهد.. واسعًا يصعب ملؤه، كما ستعاني الإدارة الخفية للصراع في اختيار من يخلفه معاناة شديدة..
ولكن غياب شنودة لن يكون مانعًا من استمرار الخطة..ومن هنا اختلفت صورة شنودة في بدايته عن نهايته..وكان الاختلاف هائلًا بين ما كان يجب أن يبقى عليه وبين ما آل إليه..وهذا الاختلاف هو ما حاول شنودة معالجته بأقواله التي يشتهر بها والمخالفة لواقعه:
فبينما بلغ ثراؤه وصولجانه ما لم يبلغه أغنى ملوك الأرض يقول:
قد دخلت الكـون عريانًـا ** فلا قنية أملك فيه أو غنى
وسأمضي عاريًا عن كل ما ** جمع العقل بجهل واقتنى
عجبًا هل بعد هذا نشتهي **مسكنًا في الأرض أو مستوطنا

البعد الثالث : الدور والمهمة
ينبغي أن نعلم أن شنودة محصلة كل أبعاد العداء النصراني للإسلام..
فشنودة هو أول من أثار الشبهات..
كان يعتبر ذلك رسائل إلى مؤيديه ليثبت لهم ذكاءه أمام الغباء الإسلامي الذي يتوهمه، وكان يعتبرها صفعات فوق رقاب المسلمين..
وكان يطعن في الإسلام بأسلوب الغمز من خلال المؤتمرات مستغلًا عدم انتباه جهلاء المسلمين لهذا الخبث والدهاء، مثل قوله في أحد المؤتمرات أمام السادات:{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يقرءون الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [يونس: 94].
وبالطبع لم يذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أشك ولا أسأل».
كما ذكر في مؤتمر آخر أمام السادات أيضًا قول عائشة: (أرى ربك يسارع في هواك )..
والثقة الزائدة في نفسه وتوهمه أن المسلمين لن يفهموا فحوى .. يؤكد ما سبق في تحليل شخصيته.. 
وفي مقال منشور بمجلة "الهلال" أول ديسمبر 1970م يزعم كذبًا أن القرآن وضع النصارى في مركز الإفتاء في الدين -لمحمد صلى الله عليه وسلم- وأن النصارى كانوا مصدرًا للوحي وللرسالات والشرائع السماوية ـ وأن الإنجيل كتاب مقدس تجب قراءته على المسيحي والمسلم [ص60 وما بعدها ].
كل ذلك منذ السبعينات.. قبل زكريا بطرس بزمن طويل ولكنها كانت بأسلوب خفي..
أما الآن.. فقد أصبح هجوم شنودة على الإسلام معلنًا، حيث أيد زكريا بطرس وعاير علماء المسلمين بعدم الرد عليه، فكان ما كان من رد فعل إسلامي ساحق لزكريا ولجميع من أيده.
ولم يتوقف الأمر عند الطعن في الإسلام وطرح الشبهات..
بل كان شنودة أول من زعم أحقية الأقباط في مصر دون المسلمين، سابقًا بذلك الأنبا بيشوي، الذي قال أن المسلمين ضيوف في مصر.
ففي يناير 1952 كتب مقالًا في مجلة الأحد يقول فيه: “إن المسلمين أتوا وسكنوا معنا في مصر”! وهو ما يعني أنه يرى أن المسلمين غزاة، وجاءوا وسكنوا في مصر، وليسوا مصريين قد أسلموا.
وشنودة أول من استقوى بالخارج ..فقد أوعز إلى أقباط المهجر لكي يهاجموا السادات عند زيارته لأمريكا..
وأكد السادات نفسه في خطابه بمجلس الشعب بتاريخ 10 مايو1980م أن شنودة يريد أن يجعل من الكنيسة سلطة سياسية، وأنه مَن سبَّب الفتنة الطائفية، وأنه يحرِّض أقباط المهجر أمام الأمم المتحدة وأمام البيت الأبيض الأمريكي، وأنه يتصل بالرئيس كارتر ليحثه على لَيّ ذراع السادات، وإحراج موقف السادات أمامه. وأنه يقف وراء المنشورات التي تُوَزَّع في أمريكا عن الاضطهاد الذي يتعرض له المسيحيون في مصر، وكذلك المقالات والإعلانات المنشورة في الصحف الأمريكية، وأن البابا شنودة يقف وراء مخطط ليس لإثارة الأقباط فقط، ولكن لإثارة المسلمين واستفزازهم.مما يجعلنا نفهم لماذا لم ينكر شنودة على أقباط المهجر الذين يطالبون بالحماية الدولية وإعلان الدولة القبطية في مصر على مصر وطرد المسلمين منها([7])
هذه صورة شنودة بحجمه الطبيعي، تم تصويرها بخلفية تاريخية موثقة، لم يرسمها من يعبده ولم يتدخل فيها من يلعنه، يبدو فيها مجرد أداة مناسبة لمخططات فاجرة، و بداية لمن بعده من الطامحين إلى بابوية الجاه و الذهب.

([1]) مر مخطط التقسيم بعدة مراحل تاريخية:
1916/سايكس بيكو (الحرب العالمية الأولى) تمزيق الخلافة الإسلامية من خلال النعرات الوطنية.
1947/ إيزنهاور (الحرب العالمية الثانية) استبدال القومية العربية بالانتماء الإسلامي.
1992/المحافظون الجدد (حرب الخليج) مزيد من التفتيت والتقسيم الطائفي العرقي الديني.
([2]) ولم يكن موقف ثورة يوليو محدودا بمناصرة نصارى مصر بل كانت المساندة دولية حيث كان لجمال عبد الناصر مواقف تحيز فيها للنصارى في بلاد كثيرة، فتحيز للأسقف مكاريوس ضد تركيا في نزاع جزيرة قبرص، وتحيز للإمبراطور هيلاسلاسى في الحبشة ضد مسلمي الحبشة .
([3]) كتب عزت أندراوس محرر «موسوعة تاريخ أقباط مصر» مقالًا عن نشأة جماعة الأمة القبطية بعنوان: "جماعة «الأمة القبطية» أسست لتتوازن مع الإخوان المسلمين"، أكد فيها أن هذا التزامن كان مقصودًا، وفي مقال آخر كتب نفس الكاتب
-عزت أندراوس- تعليقًا على صورة لإبراهيم هلال –مؤسس جماعة الأمة القبطية- بين عبد الناصر ومحمد نجيب: "عندما اغتيل حسن البنا مؤسس الإخوان المسلمين سار في جنازته اثنين من الأقباط هم مكرم عبيد باشا، والثاني كان إبراهيم فهمي هلال زعيم جماعة الأمة القبطية، وكان هذا يعد دليلًا على أن جماعة الأمة القبطية أنشأت على غرار جماعة الإخوان المسلمين لتكون البديل القبطي لها".حتى أن شعارها “الإنجيل دستورنا، والموت في سبيل المسيح أسمى أمانينا”.توازيا مع شعار الإخوان “القرآن دستورنا والموت في سبيل الله أسمى أمانينا”
وكانت "جماعة الأمة القبطية " في مذكرتها قد دعت لجنة الخمسين المكلفة بوضع مشروع الدستور، دعتها باسم العدالة والوحدة الوطنية أن تضع لمصر دستورا وطنيا صريحا لا دينيا، مصريا لا عربيا، واضحا صريحا في ألفاظه ومعانيه. اعترضت الجماعة في مذكرتها علي اعتبار الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، واحتجت علي النص بأن يكون الرئيس مسلما، كما دعت إلى فصل الدين عن الدولة صراحة حرصا على قيام الأمة ووحدة أبنائها.
([4]) أطلق النصارى وقتها شائعة سخيفة مؤداها أن ابنة عبد الناصر كانت مريضة، فأقنعه أحد أعضاء البرلمان من النصارى بأن البابا هو الوحيد الذي يستطيع أن يعالج ابنته المريضة بعد أن يئس الأطباء من علاجها، فدخل البابا مباشرة إلى حجرتها وابتسم في وجهها وقال لها :«إنتي ولا عيانة ولا حاجة»، وصلى لأجل شفائها، لتتحول بعدها العلاقة الفاترة إلى صداقة وطيدة، وافق بعدها «ناصر» على أن تساهم الدولة في بناء كاتدرائية جديدة..
([5]) ترهبن في دير السريان في 18 يوليو 1954م, ورسم أسقف للتعليم في 30 سبتمبر 1962م بينما يقتضي قانون الرهبنة أن يظل الراهب فيها خمسة عشر عامًا على الأقل قبل أن يتولى منصب الأسقف.
([6]) كان السادات ممن انتبهوا إلى عشق شنودة للزعامة، وقال عنه: «ده عامل زعيم»، وقال أيضًا: «أنا عايز أعرف هو أنا اللي باحكم البلد، ولا شنودة».
([7]) لمزيد من الدراسة حول مخطط شنودة يرجى مراجعة التقرير الذي سربته المباحث العامة في مصر في السبعينات ونشره الشيخ محمد الغزالي في كتابه قذائف الحق، فصل: ماذا يريدون:

الجمعة 23 سبتمبر 2011 م
المصدر: المرصد الإسلامي لمقاومة التنصير

دروس الأمة للطغاة ودروس الطغاة للأمة

دروس الأمة للطغاة ودروس الطغاة للأمة

منصف المرزوقي

رئيس تونس السابق
نشر في 5/أبريل/2011
لنتأمل بعض الرسائل التي أوصلتها شعوبنا لطغاة غرّرت بهم كتب التاريخ، وهي توهمهم بخرافة المستبدّ العادل، وأن بوسعهم أن يأتوا بما لم تستطعه الأوائل، وغرّرت بهم حاشيتهم وهي توهم كلا منهم بأنه الرجل الذي يعادل ألفا، وأن الألف ممن سواه يعادلون الأفّ، وغرّرت بهم طبيعتهم الأمّارة بالسوء وهي توهمهم بأنهم يستطيعون فعل كل شيء دون محاسبة، وغرّر بهم جهلهم وهم يقرؤون تقارير المخابرات عوض قراءة كتب التاريخ.
الرسالة التونسية: مهما كنتَ بارعا في القمع والتزييف والكذب فستجد الشارع يوما يصرخ "الشعب يريد إسقاط النظام" وسيسقط نظامك، ولن ينقذك لا وعد ولا وعيد. أما فسادك وفساد عائلتك، فسيكون أكبر مِعْول لحفر قبر سلطانك وقبر شرفك على فرض أنك أعطيت يوما قيمة لشيء مثل هذا.
"
رسالة الشعب المصري لمبارك:
لا تحالفاتك مع أقوى قوة في الأرض، ولا خدماتك المتعددة لها، وتفريطك في كرامة شعبك ومصالحه، قادرة على منعك من السقوط
"
الرسالة المصرية: لا تحالفاتك مع أقوى قوة في الأرض، ولا خدماتك المتعددة لها، وتفريطك في كرامة شعبك ومصالحه، قادرة على منعك من السقوط، وحماتك الأجانب هم أول من سيغسلون أيديهم منك.

الرسالة السورية: مهما كانت قسوة قبضتك الأمنية وفظاعة سجونك، فإنك ستجد الشعب يوما في الشارع مطالبا برأسك.
الرسالة الليبية: مهما كانت شراسة الرد العسكري على انتفاضة شعبك، ومهما أرقت من الدماء فستسقط في آخرة المطاف، لا العالم ولا الشعوب أصبحت تسكت على أي نيرون جديد.
الرسالة اليمنية: مهما كنت بارعا في اللعب على القبلية لا بدّ أن تحين ساعة دفع الثمن وستدفع.
الرسالة البحرينية: لن تنجح الطائفية في إنقاذ حكمك، حيث سيصرخ متظاهرون ويحاصرونك الوقت الكافي لإسقاطك "لا سنية لا شيعية وحدة وحدة وطنية"، ولن تصمد طويلا أمام شعب هذا خياره الإستراتيجي.
بطبيعة الحال هناك رسائل أخرى بصدد الكتابة وسيأتي وقت إيصالها لأصحابها الذين لا يزالون على الوهم بأنهم غير معنيين بالبريد المضمون الوصول الذي توزعه الأمة هذه الأيام على كل من قوّموها دون مستواها وقوّموا أنفسهم فوق مستواها.
المساكين!
تصوروا معنويات هذا الملك وذاك الرئيس يوم يدقّ على الباب الموزع وبيده الإشعار بضرورة إخلاء المحل وقد انتهى عقد الكراء.
المشكلة أن الأغبياء الخطرين الذين قادونا وقادوا أنفسهم للوضع الحالي لم يفهموا كل دروس الثورة العربية المباركة.
هل سيأتينا ثواب في الدنيا والآخرة نحن بأمسّ الحاجة إليه إن نحن جمعنا أهم هذه الدروس على أمل (أو وهم) قدرتها على فتح بصيرة من ما زالوا راكبين ظهر الأسد، ومن سيحاولون امتطاءه غدا للبقاء في سلام على ظهره والنزول عنه دون أن تمزقهم الأظافر والأنياب؟.
تصوّر أنهم وضعوا نصب أعينهم هذه الحقائق التي تنضح بها رسائل أمتهم والتاريخ.
– الناس تسعى للسلطة والمال أساسا لنيل المحبة والاحترام، فما نفع مال تكدسه بالفساد وسلطة تمارسها بالقمع والكذب، وهما لا يجلبان لك إلا البغض والاحتقار ولا لأطفالك وأحفادك إلا اسما مجلّلا بالعار؟، عُدْ لفلسفة عمر الفاروق في الحكم، فهي التي حفرت له اسما أزليا في عقول وقلوب العرب و المسلمين.
– تستطيع أن تكذب مرة واحدة على شخص واحد، لكنك لن تفلح في تمرير الكذب طول الوقت على كل الناس، فانْأ بنفسك عن فلسفة بن علي في الحكم، تلك الفلسفة التي جعلته مضغة في الأفواه الساخرة على مرّ العصور، ولما أقاموا مثالا للكذب أعطوه ملامحه.
– بدل شرعية القوة اخترْ دوما قوة الشرعية، فهي الأضمن والأمتن، وتذكرْ أن من عاش بحد السيف مات به مهما كان حدّ سيفه قاطعا.
"
ألدّ أعدائك حاشية السوء التي تُسمِعك ما تريده أنت في مقابل أن تأخذ منك ما تريده هي، تقودك إلى الهلاك من حيث لا تدري لا أنت ولا هي
"
– ألدّ أعدائك حاشية السوء التي تُسمِعك ما تريده أنت في مقابل أن تأخذ منك ما تريده هي، تقودك إلى الهلاك من حيث لا تدري لا أنت ولا هي.
– اصبر على أذى المعارضة، صادقة كانت أم مغرضة وتعجيزية. اتركها تعمل في الهواء الطلق دون اختراق أو تعطيل أو قمع، فهي التي تعطيك أهمّ المعلومات وأصدقها عن حالة النظام ووضع البلاد. هي التي تُظهِر مواطن النقص التي يمكنك علاجها قبل أن تستفحل. 
تمثل بقول الشافعي:
عداتي لهم فضل عليّ ومنّة 
فلا أبعد الرحمن عني الأعاديا

هُمُ بحثوا عن زلتي فاجتنبتها 
وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا

– لا تطوق نفسك من الجهات الأربع في التعامل مع شعبك، ولا تطوقه هو من الجهات الأربع. اترك له ولك منفذا وطريقا بالتواصل مع ألدّ الخصوم وعدم ارتكاب محظور التعذيب والقمع البذيء، حتى إذا جاءت ساعة المواجهة خفّ ثمنها من دمك ودماء الآخرين.
– لا يخدعنّك هدوء الشعب فهو كائن حي ّ له من العمر أحيانا آلاف السنين، وتمرّن على كل فنون التخلّص من الطغاة، وما سُكونه الظاهري إلا اختباء السبُع داخل الأعشاب بانتظار لحظة الانقضاض على معذّبه.
– أخيرا لا آخرا اعلم وعلّم من تريده خلفا لك أن السلطة في عصر التعليم والإعلام، في عصر تكنولوجيا الاتصال والمواصلات، في عصر أيديولوجيات التحرر الفردي والجماعي، لم تعد غنيمة حرب يفوز بها مغامر ويرثها ابنه للتمتع بامتيازاتها من عبادة الشخصية، والحق في المال العمومي، وقمع المحتجين بالبوليس السياسي، وتزييف الوعي بافتعال مؤسسات الحداثة.
بل إنما هي وظيفة اجتماعية تُمارَس تحت رقابة جماعية متزايدة الدقة والصرامة، لا ينجح فيها إلا من اكتسبوا الثقة والاحترام لأنهم جعلوا شعارهم: سيد القوم خادمهم، وسيد الأسياد من يعطي المثل لا من يعطي الأوامر.
أعيد قراءة ما كتبت فأنفجر ضاحكا. حتى أنا انخرطت دون وعي في سذاجات المثقفين الذين لعبوا على مرّ العصور دور وُعّاظ السلاطين، وكلهم أمل أن يقرأ سلطان جائر أو مبتدئ نصائحهم الثمينة ويعمل بها.
المصيبة أن لا جنس السلاطين الفاسدين ولا جنس وعاظهم (الطوباويين في أحسن الحالات والانتهازيين في أغلبها) اختفى أو سيختفي يوما. ما لم يتعلمه المثقفون السذج هو أن مَن منحه الله عقلا وضميرا ليس بحاجة لنصائحهم، ومن منعه إياهما لا يلتفت إليها.
هم ينسون أو يجهلون أن أكبر قانون علمنا إياه التاريخ هو أن لا أحد يتعّظ من التاريخ، وأن كل دروسه ذهبت وتذهب أدراج الرياح.
تسألني لماذا كل هذا التشاؤم؟
ثمة لهذه اللعنة جملة من الأسباب:
– لا تتغير طبيعة البشر، إذ لا تورّث الخصائص المكتسبة بالتجربة الفردية والجماعية، ومن ثم لا تقدم عبر العصور في قصص الحب والزواج والطلاق والصداقة والعداوة، وكل ما يتغير هو أزياء الممثلين أما المسرحية فواحدة طوال التاريخ.
– من خصائص النفوس ممارسة الظلم (حتى ولو أنه من شيمها السعي إلى العدل)، وكل واحد منا ظالم يمارس الظلم ومظلوم يضجّ بالشكوى منه. ومن ثم فإن كمية الظلم والظالمين لا تتغيّر عبر العصور مثلما لا تتغير نسبة البخل والبخلاء.
– لا ينفع في تغيير هذا الواقع لا دين ولا أيديولوجيا ولا أخلاق ولا فلسفة ولا ثورة. وكل ما أمكن هو شيء من التخفيف وردة فعل عنيفة من ثورة لأخرى عندما يتجاوز الظلم حدوده "المعقولة".
– كما يؤدي وضع جزيئين من الهيدروجين وجزيء من الأوكسجين إلى تكوين جزيء من الماء، فإن احتكاك المال والسلطة والبشر يؤدي آليا إلى ظهور الفساد والظلم. وهذا بغض النظر عن الجنس واللون والدين والنظام السياسي. والفرق الوحيد بين الديمقراطية والاستبداد قدرة الأولى على شيء من العلاج وقدرة الثاني على تغذية المرض.
"
من طبيعة السلطة -وخاصة الاستبدادية منها- أن تجذب المصابين بجنون العظمة مثلما يجذب النور الفراش، وهذا ما يجعل من ساحة السياسة ملتقًى لكمّ هائل من المرضى النفسانيين
"
– من طبيعة السلطة -وخاصة الاستبدادية منها- أن تجذب المصابين بجنون العظمة مثلما يجذب النور الفراش، وهذا ما يجعل من ساحة السياسة ملتقًى لكمّ هائل من المرضى النفسانيين. وما التأله عند بعض الزعماء العرب إلا إحدى مظاهر هذا القانون الذي يمثل القذافي ذروته.
– السلطة مخدّر والمصاب بها مدمن بالمعنى الطبي للكلمة، أي إنه يحتاجها لما توفره من لذة، ثم يحتاج لكمية متزايدة منها للحصول على نفس المتعة.
كما تدمر الكميات المتزايدة من الكحول أو الهيروين أنسجة الجسم فإن مخدّر السلطة يدمّر شيئا فشيئا "أنسجة" العقل والروح ولا مجال للتراجع. والدكتاتور يزداد تبعية لمخدره، وحرمانُه منه موجع أشد الوجع، ومن ثم استعداده لكل شيء حتى لا يُحرَم منه. وهذا هو حال مدمن المورفين، المستعد للقتل لتوفير ثمن المخدر، مع فارق هام هو أن المدمن على السلطة مستعد لقتل الملايين.
– تورّط هؤلاء المرضى ومن يحيط بهم في كمّ هائل من الجرائم يجعلهم بدون خط رجعة، ومن ثم ليس أمامهم من خيار غير شعار "وداوني بالتي كانت هي الداء"، إلى أن ينتهوا كما هو الحال مع صاحب الكتاب الأخضر "عليّ وعلى أعدائي يا ربّ".
لقائل أن يقول إذن رسائل الأمة للطغاة العرب بلا جدوى، حيث لن يفهم فحواها من يجترون هزيمتهم، ولا الذين ما زالوا يتحكمون في رقابنا.
نعم للأسف.
انتبهوا للرسالة التي يبعث بها من بقي طافيا من الذين قادونا وقادوا أنفسهم للتهلكة: لن نخرج أبدا من السلطة لأننا لا نستطيع ذلك، نحن المدمنون الذين حاصرنا أنفسنا والآخرين من الجهات الأربع، لذلك لا خيار لنا غير البقاء بالعنف وبمزيد من الخبث والوعود، إلى أن نعيد السيطرة على الوضع وتعود المياه "الآسنة" إلى مجاريها ونواصل الإدمان إلى أن نموت به.
انتبهوا للرسالة التي يبعث بها من فقدوا السلطة في تونس ومصر: نحن فلول المافيات والبوليس السياسي وأباطرة الحزب الحاكم القديم، مصممون على العودة من النافذة بعد أن أخرجتمونا بالركل من الباب. سنتنظم من وراء الستار وسنخلق فوضى تجعل الناس يكفرون بالثورة، ويطالبون بعودة الاستقرار تحت راية منقذ جديد نحن بصدد إعداده وسترون منه العجب العجاب.
في هذه الحالة ما العمل ورسائلنا إليهم بلا متلق، ورسائلهم إلينا تبعث الرعب؟، أين المخرج على الأمد القريب وما الحلّ على الأمد المتوسط والبعيد؟.
إتمام الثورة هو المهمة الأولى بما أنه لا حياة لمن تنادي. ليُسمح لي هنا بترديد ما ردّدته طيلة السنوات العشر الأخيرة، أي ضرورة ترك منفذ للمدمنين الخطرين ومقايضة خروجهم السلمي بعدم المتابعة.
إن ما يعيشه الشعب الليبي ليس ناجما عن مجرد جنون القذافي، ولكن أيضا عن غلطة إصدار مذكرة توقيف بحقه من قبل المحكمة الجنائية الدولية، مما جعله كالحيوان الجريح المحشور في الزاوية والذي لا خيار له غير الدفاع عن نفسه إلى آخر قطرة من دمه، والأهم من دماء الآلاف.
لمن لا يعجبه موقفي أذكّر بأن العدل والقصاص وإنصاف الضحايا أمور هامة، لكن الحفاظ على حياة الآلاف أهم منها. نفس الموقف هو الذي يجب اتخاذه بالنسبة لفلول العهد البائد وأكثرهم لا يتآمرون على الثورة أملا في نصر يعرفون أنه مستحيل، ولكن من فرط الخوف على مستقبلهم.
فلنحيّد شرهم على طريقة جنوب أفريقيا التي أقامت لجان الحقيقة والمصالحة، أي فتح ملفات كبار المجرمين من البوليس السياسي والحزب الحاكم لمعرفة الحقيقة وإنصاف الضحايا، ولوضع هؤلاء الناس أمام خيار تقديم اعتذارهم وطلب الصفح، أو المثول أمام محاكم تقاضيهم في كنف الشفافية وبعيدا عن منطق الثأر.
"
من أهم مهماتنا بناء أسلم نظام ممكن لحماية الأجيال القادمة من الوقوع تحت تسلّط صغار النفوس كبار اللصوص، أمثال بن علي ومبارك وعلي صالح، وكبار المجانين مثل القذافي
"
المهمة الثانية، هي بناء أسلم نظام ممكن لحماية الأجيال القادمة من الوقوع تحت تسلّط صغار النفوس كبار اللصوص، أمثال بن علي ومبارك وعلي صالح، وكبار المجانين مثل القذافي.
ما يُعَلمنا التاريخ هو ضَعْف مردود الوعظ الديني والأخلاقي لأن من يستمعون إليه هم الذين لهم استعدادات فطرية للتصرف أخلاقيا، أما الذين ليست لهم تلك الاستعدادات فلا تأثير للخطاب التوعوي عليهم، بل هم من يستولون على الدين ويستخدمونه لخدمة الجزء المظلم من شيم النفوس.
يجب بالطبع مواصلة التربية الدينية والأخلاقية لا لشيء، إلا لتثبيت الاستعدادات الفطرية عند الأغلبية، لكن وضع النظام السياسي يجب أن ينطلق من حقيقة ثابتة أن العنصر التربوي غير كافٍ، وأنه يجب تأطير ومحاصرة الشرّ الذي هو فينا جميعا وليس فقط في الطامح للتألّه من بيننا.
مثال بسيط، كلنا تدافعنا أمام أكشاك هذه الإدارة أو تلك أو في المطارات في فوضى مشينة، وكل واحد يريد قضاء حوائجه الأول، ولم ينفع كثيرا احتجاج هذا ومطالبة ذاك باحترام الأولوية.
لكن الفوضى قضي عليها عندما وضع المشرفون على هذه المصالح حبالا ترسم مسارا متعرجا وإجباريا لا يسمح إلا بوقوف الفرد وراء الفرد. نفس الشيء عن نظام سياسي لا يراهن على انضباط يحضر ويغيب، ولكن يفرض على الجميع احتلال موقعه لا غير، ومن يخالف يطرد منه.
ليس لنا اليوم إلا النظام الديمقراطي على علاته للعب هذا الدور الذي يشلّ الفوضى والأنانية التي بداخلنا، وذلك عبر توزيع محكم للسلطات يضع القضاء خارج سلطة أي رئيس، وكذلك سلطة التشريع التي لا يختص بها إلا البرلمان، وتوزع السلطة التنفيذية بمهارة بين رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية (أو الملك)، بحيث لا يمكن لأي منهما أن يصبح دكتاتورا، كل هذا تحت المراقبة اللصيقة لمنظمات المجتمع المدني ولجان حماية الثورة في كل محافظات وقرى الوطن المحرّر.
بالطبع، هذا لن يلغي لا الفساد ولا الظلم ولا طموح المرضى للتأله والعيش على حساب الآخرين، وإنما سيمكننا من آليات قطع أعشاب ضارة تنبت باستمرار ولم ينفع في استئصالها يوما لا دين ولا نظام سياسي، لأنها الجزء المظلم القار في كل نفس بشرية.