الأربعاء، 30 نوفمبر 2022

البيتكوين وأخواتها.. حلال أم حرام؟!

البيتكوين وأخواتها.. حلال أم حرام؟!

د. عطية عدلان

مدير مركز «محكمات» للبحوث والدراسات – اسطنبول

البيتكوين (Bitcoin) عملة افتراضية إلكترونية ليس لها وجود فيزيائي، ولا تخضع لسلطان أي بنك من البنوك المركزية أو أي مؤسسة مالية أو سياسية، يتم تداولها عبر شبكة إلكترونية لا رقابة عليها ولا سلطان، وهناك عملات أخرى إلكترونية، ولكنها ليست بشهرتها، مثل: الداش والريبل والإيثريوم وغيرها، وقد بدأ سعرها بسنتات، وما لبث أن ارتفع إلى آلاف الدولارات؛ مما أغرى الكثيرين بشرائها والمضاربة والاستثمار فيها.

وتختلف البيتكوين وشقيقاتها عن العملات المتداولة في ثلاثة أمور رئيسية: أنّها افتراضية إلكترونية ليس لها وجود فيزيائي، وإنّما تُصنع إلكترونيًّا بمجموعة معقدة من الخوارزميات، وأنّ التعامل بها لا يُشترط فيه معرفة اسم العميل ولا معلومات عنه، وإنما يكون عبر مركزه المُشفَّر في الشبكة، وأنّها متحررة من جميع أنواع الرقابة، فلا سلطان عليها من البنوك أو وزارات المالية.

طموح وجموح

البعض يَعُدُّ العملاتِ الرقمية وسيلةً للخلاص من هيمنة الدولار ومن الأنظمة المالية التي تفرض سلطة اقتصادية مستبدة لدول تمارس (البلطجة)، وفرصةً للفكاك من أسر النظام الدولي الواقع في قبضة حفنة من المرابين يملكون الشركات المتعددة الجنسيات، ويمارسون من خلال حيازة الدولار عملية السيطرة على الأسواق، والابتزاز لمقدّرات الشعوب، والتركيع للدول التي تأبى الخضوع للنظام الدولي الذي تقبض أمريكا وحلفاؤها على أَزِمَّته، وهي إلى جانب ذلك وسيلة لنقل المال دون الخضوع لسلطان الأجهزة التي تمارس الظلم في كثير من الأحيان، ثم هي تتيح الفرصة للاستثمار البعيد عن السوق المتوحشة التي يهيمن عليها الحيتان.

وعلى الجانب الآخر، يراها البعض عملة غامضة وهمية، غير موثوقة ولا محمية، فهي لا تستند -مثل الذهب والفضة- إلى قيمة في ذاتها، ولا تعتمد -كالعملات الورقية- على قيمة مستمَّدة من قوة القانون، وليست سلعًا حتى تقع بها مقايضة، ولا نقودًا حتى يقع بها بيع أو صرف، فإذا أضفنا إلى ذلك أنّ المنشئ لها مجهولٌ وأنّ القائمين عليها مجاهيل؛ ازداد الخطر في التعامل بها؛ إذ لا يستطيع أحد أن يجيب عن سؤال محتم: ماذا لو حدث انهيار في المنظومة الإلكترونية لسبب ما مِن داخلها أو خارجها؟ ثم إنّ كثيرًا من الخبراء الاقتصاديين حذروا من وقوع أزمة اقتصادية عالمية بسبب هذا التعامل المنفلت من كل قيد.

بين الطموح والجموح

إنّ تفكير الناس خارج صندوق النظام الدولي، ورغبتهم في التحرر من الهيمنة الدولارية، وتوجههم إلى التعامل والتداول خارج النظام المالي الذي فرضته أمريكا؛ هذا التوجه يحرك فينا الطموح والأمل الوثّاب؛ في نيل الحرية والاستقلال الحقيقي، فنحن أمّة لا ينقصها لتبلغ الرشد والتمكين والخلاص من التبعية المُذِلّة، إلا الاستقلال في أمرين: القرار السياسي والأداء الاقتصادي، وهذان لا يتحققان إلا بخلق منظومة رشيدة، متحررة من أسْر العولمة التي تستعمل سلطان الدولار في نهب الثروات وابتزاز المنكوبين.

وهذا لا يكون -قَطُّ- بالدخول تحت هيمنةٍ من نوع جديد؛ فالذي يتخلص من قيد ظاهر ليضع نفسه في قيود غامضة لم ينل حريته في الحقيقة، وإنّما انتقل من عبودية إلى عبودية، فما هذه العملات الوهمية؟ ومن المهيمن عليها؟ وما القُوى الدولية التي ستبادر إلى اعتمادها لتُدخلها في منظومتها الاقتصادية وتُخضعها وجميع المتعاملين بها لهيمنتها؟ إنّ الطموح لا يتحقق بالنَّزَق والجموح، إنّما يتحقق ويحقق لأمتنا التحرر الحقيقي؛ بتحرك الجميع -حكامًا ومحكومين- نحو استثمار إنتاجي، وبالعمل على استعادة الأموال المسافرة والعقول المهاجرة.

حلال أم حرام؟

ونحن جميعًا ندرك أنّنا عبادٌ لله محكومون بشرع الله، وأنّنا يجب أن نبحث في كلّ جديد عن الحكم الشرعي، لكنّ القصور يكون في حصر الخطاب الشرعي في الإفتاء بالحِلّ أو الحرمة، دون نظر إلى البواعث والأبعاد، ودون وضع حلول عملية للخلاص من الأزمات التي تسببت في وقوع النازلة؛ ذلك السلوك الذي يؤدي إلى تقزيم القضية الضخمة، وإلى ضمور التفكير الاستراتيجي الذي يذهب إلى جذور المشاكل ولا يقف عند المسكنات الوقتية.

وقد اختلفت أقوال العلماء المعاصرين في الحكم على التعامل بهذه العملات والمضاربة فيها، فبعضهم أباحها باعتبارها عند المتعاملين بها عملة تجري عليها أحكام النقود، واشترطوا فقط مراعاة شروط الصرف عند مبادلتها بعملات أخرى، أهمها التقابض الفوري، بينما قال الجمهور بحرمتها؛ لِما يشوبها من غرر ومقامرة، وتوقف البعض حتى يتبين أهي عملة مستقرة أم لا، بينما فَصَّلَ البعض فقالوا: هي اليوم ممنوعة، ولا يمنع أن تكون في الغد مشروعة؛ لأنّ مدار الأمر على استقرار التعامل بها في الأسواق، فلئن كانت اليوم غير مستقرة بسبب قلة من يعترف بها فإنّه بالإمكان أن يتغير الواقع فيتغير معه الحكم، وقد قال الفقهاء في مثل هذه المتغيرات: “لا ينكر اختلاف الأحكام باختلاف الأزمان”.

من الحكم إلى الحكمة

وليس هذا موضع الترجيح وإنّما موضع الترشيد، ففي اعتقادي أنّ هناك معصية يقع فيها الجميع حكامًا ومحكومين، وهو الاستسلام للتبعية السياسية والعبودية الاقتصادية، وعدم التفكير في الخلاص بصورة جماعية تعلي من مصلحة الأمة، وإنّه لمِن الأنانية أن يفكر المرء في استثمار أمواله في ميدان لا نفع فيه للخلق ولا إنتاج فيه ولا تثمير، ولا شيء إلا خلق النقود بلا رصيد من السلع أو الخدمات، وربما كان هذا -قبل الدخول في أسباب الحرمة الجزئية كالغرر والمقامرة- هو سبب التحريم الأول، فإذا أضفنا إلى ذلك أنّ هذا الأنانيّ سلك طريق الاستثمار هذا دون أن يتثبت: أهذه العملة الوهمية تتوافر فيها شروط النقد والأثمان أم لا؟ أهي -مثل سائر العملات- تصلح وسيطًا للتبادل مقبولًا قبولًا عامًّا، وتطمئن النفس بتمولها، وتصلح مستودعًا آمنًا للثروة، ومعيارًا ثابتًا للقيم؟ أم إنّها لا يتوافر فيها شيء من ذلك فتزداد مرجحات التحريم، وتزداد معها الأزمات التي تحيق بالأمة كلها؟! وإنّه ليحضرني هنا تأويل بعض المفسرين لقول الله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} أنّ التهلكة في الإمساك عن الإنفاق؛ بما يترتب عليه من ضعف، وكذلك الانجفال عن التثمير الحقيقي إلى تلك الصور الأنانية التي تغلب عليها روح المقامرة.

خريف الغضب العربي

خريف الغضب العربي


كانت الثورة المضادة رؤية جيوسياسية بامتياز، استهدفت الثورات، فحرفتها وأربكتها ثم فككتها 

عاشت منطقتنا 10 سنوات صاخبة، كانت بدايتها مع انتفاضة تونس شتاء 2010، وتحولت مع بداية 2011 إلى ثورة، أطاحت بالنظام وفرار الرئيس خارج البلاد. عقد ويزيد من الزمن، طُويت معه حقبة من تاريخ العرب المعاصر، والمنطقة، بآلامها وأحلامها.

حصل انطباع عام أن حصاد عقد لم يكن سوى خيبات بعضها معطوف على بعض، أُبرزت فيها الانكسارات وطُمست فيها الانتصارات، واحتفى مناهضو التغيير والإصلاح بخيبات الربيع العربي، تعثرات وخيبات، وهلل الكثير للخروج السريع من ربيع العرب إلى شتائه، ردة عن مسار التغيير والديمقراطية، إلى مسار للاستبداد والدكتاتورية.

10 سنوات أو أكثر بقليل شاع في بداياتها أمل كبير وتفاؤل بأن المنطقة العربية من محيطها إلى خليجها، تدخل مرحلة جديدة عنوانها الإصلاح السياسي، من نظام ديمقراطي تشاركي وحكم رشيد ونهضة اقتصادية وعدالة اجتماعية، انتهت بخيبة عامة، أشاعت حالة من الإحباط والتشاؤم والسلبية والانكفاء والاستقالة. أما الانتكاسة التي عاشتها تونس التي ظل فيها المسار الديمقراطي صامدا أكثر من غيره من المسارات، فبدت صادمة ومخيبة لآمال الكثير؛ انتكاسة وصفها البعض بأنها لحظة أغلق فيها قوس التجربة الديمقراطية في المنطقة.

بيد أنه لا أحد يمكنه اليوم أن يزعم أن المنطقة هي ذاتها قبل 10 أعوام؛ فقد أطيح خلالها بأنظمة عاتية، من ابن علي تونس إلى قذافي ليبيا، مرورا بمبارك مصر وصالح اليمن. ولئن فشلت هذه التحولات في بناء وترسيخ أنظمة ديمقراطية، فإنها لم تبق المجال فسيحا أمام الدكتاتوريات لاستعادة نفوذها المطلق.

تبدو "منظومة الاستقرار والاستمرارية"، تسلطا وتحكّما، حسمت المعركة لصالحها، داعمة لبعضها بعضًا. وقد أدركت بعض الأنظمة أن السبيل الوحيد لمنع أي إرباك لحكمها أو تهديد مصالحها لا يكون بالتصدي لمحاولات التغيير ووأدها في المهد فحسب، بل بالعمل والإصرار على تقويض تجارب التغيير والتحول الديمقراطي، التي حصلت في بعض دول الجوار في المنطقة.

كانت الثورة المضادة رؤية جيوسياسية بامتياز، استهدفت الثورات، فحرفتها وأربكتها ثم فككتها. واستفاد محور الثورات المضادة من ارتياب وتخوف القوى الدولية الغربية من عدم الاستقرار أو المس بمصالحه، ليمضي في هجومه المضاد ضد حركة التغيير مشرقا ومغربا حتى أنهكها ثم قوّضها.

عادت جميع أنظمة العرب اليوم إلى النادي التقليدي، نادي الدكتاتوريات أو منظومة "الاستقرار والاستمرارية"، مديرة ظهرها لفكرة التغيير والتحول. عادت رغم ما يبدو عليها من إعياء وإنهاك، وما تتسم به من رخاوة غير مسبوقة. ولم تقرأ نخبة الحكم في المنطقة أن رافعتها المتمثلة في "الدولة الوطنية"، دولة ما بعد الاستقلال، قد تآكل مشروعها، واهتزت بنيتها، وضمرت فكرة ومشروعا.

لا تكاد دولة اليوم في المنطقة العربية، الغنية منها والفقيرة، تحمل رسالة واضحة، أو تؤطر مواطنيها ضمن رؤية نهضوية محددة، أو تعبئهم خلف أهداف معلومة. دولة بدون رسالة ولا فكرة ولا مشروع، وبنية سياسية متهالكة، وأجهزة بدون روح.

إنه مشهد غير عادي أن ترى مئات المواطنين في دول عربية -في مصر وسوريا ولبنان واليمن وتونس والمغرب والعراق وموريتانيا- يصطفون في طوابير طويلة من أجل رغيف الخبز أو الحليب أو السكر أو الطحين

تبدو نخب الحكم المبثوثة في نسيج منظومة الحكم التقليدية معاندة للتاريخ، مصرّة على تجاهل المعطيات والتحولات في الواقع. موقف متصلب يخلق تدريجيا حالة من الانفصال الكامل عن الواقع والقطيعة مع تعقيدات المشهد على الأرض، فإذا بدا مستعصيا على التحكم والضبط، بادرت باللجوء للقوة الصلبة لإخضاعه وتطويعه والحقيقة أن المشهد في المنطقة اليوم يختلف تماما عن ما تراه وما تريده أنظمة المنطقة ونخبها.

سياسيا، لم تعد منظومة الحكم السائدة في المنطقة قادرة على القيام بدورها الوظيفي الأساسي في الإدارة المعقولة والمقبولة للشأن العام، حتى في حدوده الدنيا. ويتعمّق عجزها بشكل صارخ عن التعبير عن الإرادة الدنيا لمواطنيها أو تقديم الخدمات الأساسية التي تستجيب لمقتضيات التطور الذي يعرفه العالم. عجز يكاد يهز المرتكزات الأساسية للاجتماع السياسي، ويفكك العقد الاجتماعي الذي يمثل ميثاق المجتمع ورابطته الأساسية.

دول بعد أكثر من نصف قرن على قيامها تآكلت على جميع المستويات، فكرة وأهدافا ورسالة ومؤسسات، ولم يبق منها غير القوة الصلبة أو الجهاز القمعي الذي يحتكر الضغط المسلح، لا للدفاع عن سيادة ولا لحماية حدود ولا لبسط أمن وإنما لتأمين نخبة حكم، تحكم وهي متوارية عن الأنظار. دولة بلغت من الضعف والفشل التنموي حدا جعلها تفرض على مواطنيها الاصطفاف في طوابير للحصول على السلع الأساسية.

قد يمر مرور الكرام، ولكنه مشهد غير عادي أن ترى مئات المواطنين في دول عربية -في مصر وسوريا ولبنان واليمن وتونس والمغرب والعراق وموريتانيا- يصطفون في طوابير طويلة من أجل رغيف الخبز أو الحليب أو السكر أو الطحين، بل الأمر أخطر من ذلك حيث يجد المودعون أموالهم في البنوك أنفسهم غير قادرين على التصرف فيها إلا قليلا، فاضطر البعض من أولئك المواطنين المغلوبين على أمرهم في لبنان، لاقتحام تلك البنوك، لاسترجاع ما أمكن من أموالهم.

الحقيقة أن مشهد البنوك المقتحمة أو الطوابير أمام رغيف الخبز هي عناوين لمشهد دام لواقع منطقة، أدمنت أنظمتها الفشل والعجز والفساد، فتحولت الأوطان الحاضنة إلى أوطان طاردة. فيركب البحر على متن الزوارق السرية للهروب من المنطقة باتجاه الضفة الشمالية حيث الجنة الأوروبية المتخيلة، عشرات الآلاف من الشباب والعائلات، يصل بعضهم آمنين إلى مراكز الاحتجاز. أما سيئو الحظ وما أكثرهم، يبتلعهم البحر إلى الأبد، بينما يلفظ المئات منهم جثثا هامدة، كثير منهم تطمس ملامحهم وهوياتهم فيدفنون في "مقابر مجهولة".

تلك بعض من ملامح منطقة تدمن جل أنظمتها الفشل في توفير العيش الكريم لمواطنيها، أو في تنمية معقولة تعطي الأجيال الأمل في المستقبل، بل تفعل أكثر من ذلك إذ تعطف ذلك الفشل الشامل على استبداد وتسلط، بقمع الحريات وحقوق الإنسان.

تعتقد أنظمة المنطقة أنها إذ تنجح موقتا في طمس جذوة الانتفاضات العربية وإجهاض حلم الشعوب العربية في التغيير، فقد يستقر لها الأمر، وتتحول كل الأمور تحت سيطرتها هيمنة وتسلطا. غير أن المتأمل في مشهد المنطقة الدامي، سيقف عند حجم الإحباط وخيبة الأمل التي عمت شعوب المنطقة. إحباط بات يعبر عنه البعض عبر الاندراج في كل أشكال الجريمة المنظمة ردا على "الحقرة"، وآخرون عبر ركوب البحر والهجرة السرية "الحرقة".

هذا الغضب والإحباط، وفي ظل غياب وسائط لتأطير القوى المجتمعية الفاعلة -لا سيما الشبابية منها- بسبب القمع المسلط على الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، سيتحولان إلى قنبلة موقوتة، تنتظر لحظة الانفجار. حيث كل المعطيات تشير إلى أن المنطقة تندفع بشكل متسارع نحو موجة غاضبة، تعكس حجم الإحباط والخيبة واليأس من قدرة الأنظمة القائمة على تقديم الحد الأدنى أو الاستجابة للاستحقاقات الاجتماعية والاقتصادية لمجتمعاتها، بينما تبدد الثروات الوطنية اختلاسا ونهبا.

فمثال العراق صارخ، إذ يعاني شعبه من التفقير وغياب الخدمات الأساسية، بما في ذلك العجز عن توفير الماء والكهرباء، بينما توثق التقارير نهب وتبديد منظومة الحكم منذ الإطاحة بنظام صدام حسين، لأكثر من 450 مليار دولار. وفي كل مرة تعيد منظومة الحكم هي ذاتها نفسها، مستقوية بمليشيات مسلحة، ونظام سياسي طائفي.

إذ يصنف العراق اليوم من أكثر الدول فسادا ويتأرجح بين قائمتي الدول الفاشلة والأخرى شبه الفاشلة. ولا تبدو سوريا ولا اليمن ولا السودان ولا الصومال ولا مصر ولا ليبيا ولا تونس ولا موريتانيا بالبعيدة عن هذا السياق الكارثي. فسوريا المقسمة بين النفوذ الأميركي من جهة والروسي الإيراني من جهة أخرى، المتحولة إلى ميدان للقصف الإسرائيلي الدوري، بات نظامها الصوري بعد أن شرّد مواطنيه وهجّرهم، مجرد كيان يستمر بحراب إيرانية روسية قوة وبتجارة المخدرات تمويلا.

أما اليمن المنقسم على نفسه، والمقسم نفوذا بين الدول الإقليمية الكبرى فيعيش أسوأ مجاعة في تاريخه، تتفاقم وتنعطف على احتراب أهلي يغذّيه الخارج ويتحكم به. بينما السودان الواقع تحت حكم العسكر المستحكم، تتفلّت أطرافه انفصالا ولا يكاد يطوي أزمتها حتى يعود إليها.

أما مصر، فهي تبدو اليوم واهنة قلقة منطوية ومنكفئة فاقدة لكل ألقها ولا تكاد تبين. فلا وضعها السياسي على ما يرام بسبب النظام الحاكم الجديد بها ووجود عشرات الآلاف من المعتقلين السياسيين في السجون، ولا حالتها الاقتصادية الاجتماعية بخير في ظل غلاء المعيشة وتراكم ديون خارجية وداخلية بأرقام غير مسبوقة تقدر بأكثر من 400 مليار دولار. مصر لم تعد رافعة العالم العربي ووجهته، بل باتت هامشا تُصاغ المنطقة بعيدا عنها، وتوضع ترتيباتها دون اعتبار لها.

وإذا ولّيت وجهك منه مشرقا إليه مغربا، يبدو الوضع صورة أخرى من الأول، ربما لا تكون حال المنطقة المغاربية هي الحال المشرقة تماما، لكن المؤكد أنها صورة من صوره الرثة، وصدى من أصدائه.

اللافت أنه حتى الدول التي تنعم بموارد طبيعية وثروات معتبرة لا تمضي في المجمل في الطريق الصحيح، ولا تعكس سياساتها التنموية إن وجدت تطلعات شعوبها. فالموارد يتم تبديدها في مخططات، ظاهرها تنموي، وجوهر استعراضي، يتم تبديد موارد ضخمة في الإنفاق عليها دون عوائد تذكر ولا آثار ملموسة في حياة المواطن. وهو وضع تدرك شعوب المنطقة حقيقته وتفاصيله جيدا.

وهنا فحال المنطقة حتى إذا أخذت بعين الاعتبار كل العناصر الموضوعية، لا يسعفك بأي أدوات للدفاع عنه، أو تبريره لأن التفريط والتقصير والفشل والعجز عميق؛ "أنظمة متعفنة" (Rotten Regimes) كما وصفتها صحيفة "إيكونوميست" (Economist) البريطانية، لا وجود لأي إرادة لديها للخروج من مأزقها، بل هناك اندفاع نحو تعميق فشلها وإدمان خيباتها.

إن هذا الوضع العربي الدامي لا يبدو قابلا للاستمرار، فهو يراكم أمراضا مزمنة وظواهر خطيرة تبدو بمثابة حالة احتجاجية على تعفن هذا الوضع من فساد ضرب العمود الفقري للدولة واستفحل في مفاضلها. نسيج مجتمعي بات أوهن من بيت العنكبوت، احتقانا وتفككا وعنفا فرديا منفلتا من عقاله وجماعيا عبر جريمة منظمة تكاد تكون التعبير الصارخ للتمرد الجرائمي على الدولة، وانتقاما منها، ولوبيات متقابضة على المؤسسات الحيوية ومتحكمة بها.

لا يمكن لمنطقة يطغى على ديمغرافيتها الشباب أن تقبل بأوضاع كهذه متردية وآفاق مسدودة. كما تشير كل الدلائل إلى أن شعوب هذه المنطقة باتت تواقة إلى التغيير وممتلئة به أكثر من أي وقت مضى. شعوب لم تتردد أن تختار الحرية والتغيير كلما سمحت لها الفرصة لفعل ذلك، شعوب تشاهد بغضب واستياء الخراب الذي لحق بالحواضر العربية تباعا من بغداد والموصل إلى حلب ودمشق ثم القاهرة وصنعاء. شعوب سئمت من حالة الدونية التي أغرقتها فيها أنظمة متآكلة.

لم تعد الدولة الوطنية المتآكلة تعبّر عن الإرادة الجماعية لمواطنيها، ولا عن الاجتماع السياسي العربي، ولا هي قادرة على ضمانه، بل باتت كيانا في خريف العمر، سببا في تفكيكه وتقويضه، مما يؤجّج غضبا متصاعدا. ومن وقف متآمرا على ربيع العرب سيواجه اليوم خريف الغضب.

بقعة ضوء (3)

بقعة ضوء (3)

فاتن فاروق عبد المنعم 

الجهاد في سبيل الله:

هيو كينيدي الإنجليزي بلا خجل ينتقد عقيدة الجهاد في الإسلام كما ينتقد الجزية

 (التي كانت ومازالت دين وديدن البشرية جمعاء، من الاستيلاء على خيرات الشعوب ومقدراتها وحرمانها خيرات بلادها، فجاء الإسلام وقننها لعلتها، والآن نحن الذين ندفع الجزية بطرق أخرى ملتوية (مثل تصدير المواد الخام بثمن بخس وإعادة استيرادها مصنعة بأغلى سعر والأمثلة كثيرة نعجز عن حصرها) وإن كانت مرئية لكل ذي بصيرة وإلا لماذا نعاني شظف العيش ونحن بلاد حباها الله بالخير العميم؟!!)

 ويرى هيو كينيدي الإنجليزي أن القرآن هو الحاض على العنف ضد الآخرين ويسوق الآيات الدالة على ادعائه، بالطبع وهو من دين وبيئة مختلفة، تربى على مفاهيم معينة في مرابعه تفوق بكل أسف أدلة بحثه كمؤرخ والتي يلوي عنقها، فهل لمثلي أن تسوق له آيات من إنجيله الذي بين يديه (والذي هو في عقيدتنا محرف) حاضة على ما ادعاه على القرآن، غير أني لن اتبع هذا الأسلوب الدال على الإفلاس، ولكني سأناقش فقط ادعائه على القرآن

(فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 5) التوبة

اعتبر كينيدي هذه الآية هي المؤسس للفتوح الإسلامية وهي التي تلخص فلسفة الجهاد أو التعامل مع غير المسلمين بعامة، ولا بد أن يعذر كونه غير مسلم فلا يفهم الدين في مجمله.

لم يبعث نبي من الأنبياء إلا بين أساطين الكفر وعتاة الظلم، باستثناء سيدنا عيسى عليه السلام الذي بعث في اليهود وهم أصحاب كتاب بها شريعة الله كاملة وليسوا بحاجة إلى نبي بشريعة جديدة، لذا أرسله الله إليهم ليذكرهم بالشريعة التي يتنكرون لها ويحرفون الكلم عن مواضعه بدليل أن الإنجيل الحالي مقسم إلى جزئين العهد القديم (التوراة) والعهد الجديد وهو الإنجيل بمحتواه الذي يؤكد شريعة الأنبياء بعامة والبشارة بسيدنا محمد ، فكان فقط لتذكير الظالمين (اليهود) الذين يجحدون بآيات الله.

أما بعثة سيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه فكانت بعد أن بعدت الشقة بين الناس ورسالات الأنبياء بعامة، منها ما غاب تماما ومنها ما حرف، فكان القرآن بالشريعة الإلهية الشاملة الجامعة لدعوات كل الأنبياء السابقين عليه، وتعهد الله جلا وعلا بحفظه

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ 9) الحجر

بمجرد دعوة أساطين الكفر ورعاته سواء داخل شبه الجزيرة العربية (دول الخليج الحالية مجتمعة) أو خارجها عندما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم الرسائل للملوك ورؤساء القبائل، تجمعوا وتكتلوا في “تحالف”للقضاء على الدين الجديد الذي يفرق بين المرء وزوجه، وسن للعبيد قانون في التعامل معهم بما يحفظ حقوقهم وأكثر من هذا نظام اجتماعي كامل شامل للقضاء العبودية، ذلك النظام الاجتماعي المتجذر في البشر بعامة، لذا تكالب الظالمون لوأد الدين الذي يجعل من الناس سواسية كأسنان المشط، وهنا واجب التصدي لتجبرهم، فمن لها سوى جماعة المؤمنين، القوة لحماية الدعوة الوليدة، ولتبليغها لعوام الناس لأن الملوك يمنعون وصولها إليهم.

ولي أن أسأل المؤرخ المعاصر ماذا كانت تفعل بلده في القرن 18، 19، 20، عندما كانت لا تغيب عنها الشمس، بأمر الملك الذي هو رأس الكنيسة؟

كانوا يسومون سكان البلاد التي احتلوها سوء العذاب وأكل أموال الناس بالباطل وإفقارهم، والعيث في بلاد الآخرين الفساد، وساقوا خمسة ملايين من العبيد من أفريقيا وشحنوهم في السفن لتعمير الأمريكيتين يعملون في ظروف غاية في السوء، منهم من كان يموت جوعا ويلقون به في البحر، ومن قبلها الحروب الصليبية وهي حروب دينية صريحة دون مواربة، ومؤخرا قبل أن يذهب بوتين بجيشه لحربه المقدسة بسوريا عام 2014 ذهب بجنده وأسلحته إلى الكنيسة ليباركهم رأس الكنيسة، وعلى الدبابة صليب كبير، فهل هناك شك من أن هذه الحروب دينية، وهؤلاء الجنود مدفعون بنصوص دينية صريحة؟!

ثم يشكك كينيدي في حقيقة ما يثار في المصادر العربية عن الخلفاء الراشدين بعامة ويرى أن حالة المثالية التي أضفوها عليهم بها الكثير من المبالغة، وهذا انحياز لا ينبغي لعالم أن يقع فيه فتتغلب عليه قناعاته الشخصية (أيديولوجيته) وعدم الركون إلى الوثائق والمخطوطات التي بين يديه، ثم أين هي المثالية التي يتحدث عنها كينيدي في ظل نشوء أحداث الفتنة الكبرى في زمن الخلفاء الراشدين؟! والذين قتلوا جميعا في أحداثها عدا أبو بكر الصديق.

ويستمر في منهج التشكيك فيقول عن الخلفاء الراشدين أنهم كانوا مقطوعي الصلة بقادة الجيوش أو أنهم ليسوا القيادات العليا لهذه الجيوش الذين كانوا يقودون فتح البلاد، فهل هذا يعد من قبيل اختلاف لمجرد الاختلاف؟ بالقطع القائد الفعلي في الميدان هو صاحب القرار وهو المحرك الذي يقود الجيوش طبقا لرؤية الأحداث على الأرض ولا شك ولا عيب في ذلك في زمن كانت الرسائل من وإلى تأخذ بالشهور حتى تصل.

مسوغات الفتوح العربية لدى كينيدي:

يرى كينيدي أن حروب الردة في زمن الخليفة الراشد أبو بكر الصديق كانت هي بداية حركة الفتوح العربية، وحروب الردة التي أطلق شرارتها أبو بكر الصديق رضي الله عنه كانت بسبب امتناع بعض المسلمين عن دفع الزكاة فارتأى الصديق أن إهدار ركن أصيل من أركان الإسلام يعد ارتداد يوجب إعلان الحرب عليهم، وبعد انتصار جيش المسلمين في هذه الحروب التي استمرت سنتين وعودة لحمة الداخل واصل جيش المسلمين الفتوحات التي بدأت في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، ارتأى كينيدي أن الخروج لهذه الفتوحات لجأ إليها قادة المسلمين لاستيعاب طاقة بدو الصحراء العسكرية وحبهم للتفاخر بمآثرهم في الحروب والتغني بانتصاراتهم في أشعارهم وسبق أن قلت أنه يعمل إسقاط على المسلمين لأن مسوغ الحروب الصليبية كان للتخلص من خلافات أمراء المقاطعات في أوروبا الذين كانوا يغيرون على بعضهم البعض مما أرهق العوام.

صفات رجال الفتوح الإسلامية:

عند فتح العراق أحد القادة العرب ألقى خطبة لملك الساسان فقال (مجتزأ منها):

«إنك وصفتنا صفة لم تكن بها عالما، فأما ما ذكرت من سوء الحال فما كان أسوأ حالا منا، وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع، كنا نأكل الخنافس والجعران والحيات، فنرى ذلك طعامنا، وأما المنازل فإنما هي ظهر الأرض، ولا نلبس إلا من غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم، ديننا أن يقتل بعضنا بعضا، ويغير بعضنا على بعض، وإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهي حية كراهية أن تأكل من طعامنا، فكانت حالنا قبل اليوم على ما ذكرت لك، فبعث الله إلينا رجلا معروفا، نعرف نسبه ومولده، فأرضه خير أرضنا وحسبه خير أحسابنا، وبيته أعظم بيوتنا، وقبيلته خير قبائلنا، وهو بنفسه كان خيرنا في الحال التي كان فيها أصدقنا وأحلمنا، فدعانا إلى أمر فلم يجبه أحد قبل صديق له وكان الخليفة من بعده، فقال وقلنا، وصدق وكذبنا، فلم يقل شيئا إلا كان فقذف الله في قلوبنا التصديق له ولاتباعه، فصار فيما بيننا وبين رب العالمين، فما قال لنا فهو قول الله، وما أمرنا فهو أمر الله»

سبق أن وصفت واحدا من الذين فتحوا مصر ولم يكن يختلف عن هذا التوصيف، رجال المهام الصعبة تربوا تربية خشنة وهذا دليل على أنه مقصد إلهي، هذا التجويع آنف الذكر، كان إعداد وتهيئة لأمر جلل لا يقدر عليه إلا مصقولي الداخل، النفوس تربى كما الأجساد، فماذا عنا ونحن الموغلون في فتنة «السراء» نحن الذين لا ننتج أي شيء ولو حبست عنا الدول المصدرة منتوجاتها لصرنا في درك وكدر أكثر من الذين كانوا يأكلون الجعران والحيات، إن الذين ينتحرون ويقتلون أبناءهم خشية إملاق، والذي ينتحر لأنه لم يفز بمحبوبته، هم جبناء ضعفاء ونفوسهم خواء، لا يقدرون على شيء، ولا يلوون على أهداف كبرى، وهم عرض لمرض المجتمع بكل فئاته بيد أن المرض سرعان ما يلتهم الأضعف على اختلاف نوع ضعفه، لكن الثابت والأكيد أننا كلنا معيبون، وقد يقول قائل ممن قلوبهم في أكنة وفي آذانهم وقرا أن هؤلاء كانوا فاتحين فهل نحن سنخرج للفتوح؟

كلا، ولكن في الوقت نفسه أنت معتل لا تستطيع أن تدرأ عن نفسك أي خطر، وأن تعرضنا لأي كارثة ستكون ماحقة لا مرد لها، رجال الفتوح آنفي الذكر تربوا تربية خشنة خلفت نفوسا صلدة لا تؤثر فيها النوائب، أما الموغلون في فتنة «السراء» تربيتهم ناعمة خلفت نفوسا خربة تذروها الرياح، أي رياح.

رجال الفتوح كانوا موغلين في الجاهلية والقسوة والغلظة، جاء الدين فهذبهم وأعاد صياغتهم ليفوزوا بالحسنيين، التربية الخشنة في جاهليتهم، وتعاليم الدين الحنيف الآتية من لدن حكيم خبير بعد إسلامهم، الدين هو طوق النجاة ومفتاح الحياة الذي يفك كل الشفرات، الدين ليس خطبة جمعة تسمعها وبيدك الهاتف، ولا حفظ أصم عقيم للقرآن الكريم «الذي هجرناه» وإنما حفظ ودراسة وفهم وتدبر وعمل، وكل من يقترب من حياضه الريانة يقرب ويظل طالبا لمزيد من الارتواء.

وللحديث بقية إن شاء الله



بقعة ضوء (2)

رسالة من مدينة ألمانية.. هل يزعج الأذان سياح القاهرة؟!

 رسالة من مدينة ألمانية.. 

هل يزعج الأذان سياح القاهرة؟!

في مدينة كولونيا الألمانية، قررت البلدية هذا العام رفع الأذان في أكبر مساجدها كل يوم جمعة عبر مكبرات الصوت، وجاء القرار بعد اتفاق بين المدينة والجالية المسلمة على تخفيف القيود المفروضة عليهم بموجب مبادرة مدتها عامان ستسمح لكل المساجد في كولونيا -وعددها 35 مسجدا- برفع الأذان لمدة تصل إلى خمس دقائق أيام الجمعة، وهي مبادرة قابلها الألمان بدون انفعال، ورآها البعض الآخر أمرا منطقيا لجالية مسلمة كبيرة تعيش في المدينة،  لم يحتجّ أحد على رفع الأذان بحجة الإزعاج، فالأمر تم تنظيمه في هدوء، وكما قالت رئيسة بلدية المدينة هنرييت ريكر “القرار هو إحدى علامات الاحترام لأهل هذه الديانة”.

لا شك أن احترام الثقافة والديانة هو مؤشر على قبول الآخر وعدم التحيز ضده، وكما ترى رئيسة بلدية كولونيا أن التعددية الحقيقة يجب أن تكتمل بقبول الآخر، وأن انطلاق صوت الأذان عبر مكبرات الصوت مؤشر على القبول المتبادل للأديان، والالتزام بالحرية الدينية التي يحث عليها الدستور الألماني، كما أن كثيرين يعتقدون أن المسلمين في هذا البلد جزء لا يتجزأ من النسيج المجتمعي، وأن كل من يشكك في ذلك، إنما يشكك في هوية البلاد وروح التعايش السلمي فيها.

الكاتب والوزير يهاجمان صوت الأذان

لقد أعاد ذلك إلى الأذهان ما ذكره وزير الآثار المصري الأسبق الدكتور زاهي حواس، في حوار له مع قناة صدى البلد، أن صوت الأذان في مساجد القاهرة يزعج السياح، ولا يشجع على السياحة، وقال “إنها شكوى عامة وظاهرة لا توجد في العالم غير مصر”!!

مبرر الدكتور حواس في ذلك أن الدول السياحية مثل مصر، يجب الاهتمام فيها براحة السائح وعدم إزعاجه، لكن الغريب في هذا الأمر أن يتم التغاضي فعلا عن الأسباب الحقيقية التي تزعج السياح في بلد مثل مصر ويتم إلصاقها بصوت الأذان!!

كان الكاتب الصحفي إبراهيم عيسى أيضا قد سبق حواس في هذا الطرح، وشن هجوما على رفع الأذان في المساجد القريبة من أماكن إقامة السياح في فنادق القاهرة وقال “الأذان والميكروفونات الصاخبة من أهم الأسباب التي تؤثر على السياحة في مصر”!!

الحقيقة أن هذا ليس صحيحا، فكل من رافق سياحا أجانب إلى مصر يعرف أن أحدا لم يشتك من صوت الأذان قط، بل أيضا بإلقاء نظرة على كتيبات دليل السياحة إلى مصر، التي تهتم بالتفاصيل، وتنبه السياح إلى ما يجب توخي الحذر منه، لا نجد أثرا إلى صوت الأذان كعامل إزعاج.

السياح يزورون المساجد التاريخية

السياح والضيوف الأجانب أكثر ذكاء وثقافة مما يعتقد إبراهيم عيسى والدكتور حواس، فهم يعرفون أن السياحة في البلاد الإسلامية لها خصوصيتها بسبب المعتقد والثقافة المختلفة، كذلك رغبة السائح بشكل عام في معايشة أجواء وثقافة ذلك البلد بكل تفاصيلها حتى يستمتع فعلا بالزيارة. على سبيل المثال، يهتم بزيارة المساجد الأثرية والأحياء الشعبية، ويختار الأكلات المشهورة كالفلافل والكشري، ويحتسي أكواب الشاي في مقهى الفيشاوي، ويتجول في أحياء القاهرة القديمة العامرة بالمساجد، ولا يعزل نفسه في فنادق وسط البلد ذات الطابع الغربي وسط الأجواء التي جاء منها، بل ينطلق يخالط الناس ويتعرف على ثقافة الشارع، لأن هذا هو المعنى الحقيقي المرادف للرحلة السياحية الثقافية!

صحفيو مونديال قطر يثنون على صوت الأذان

في قطر وقبل ساعات من انطلاق المونديال، حصلت تغريدة على تويتر للصحفي الرياضي الشهير “هنري وينتر” -مصحوبة بفيديو لصوت الأذان الذي انطلق من مساجد قريبة من استاد الوكرة- على الكثير من الثناء، إذ كتب الصحفي الإنجليزي أنه تأثر كثيرا بسماع صوت الأذان، وتساءل أحد المعلقين عما إذا كان يجب التوقف عن التدريب احتراما لصوت الأذان.

أما الصحفي البرازيلي كارتر باتيستا، فقد أعرب أيضا عن تأثره بسماع صوت الأذان، ووصفه بأنه أحد أجمل الأشياء التي رآها في دولة قطر.

تلك هي الأشياء المختلفة عادة التي تسعد السائح في زيارته للخارج، أن يرى كل مختلف، حتى ضجيج القاهرة، وصخب شوارعها، والبؤر الفقيرة فيها، كلها أشياء لا تزعج السياح، ولا تضر بسمعة مصر، فالسلبيات في كل دول العالم، وتسجيل أي شيء بالكاميرا سواء كان سلبيا أو إيجابيا إنما هو شعور وليد للحظة اندهاش، وليس له علاقة بثقافة البلد، ولا ينبغي أن يزعج أحدا.

الأسباب الحقيقية لإزعاج السياح

السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا لم ينتقد إبراهيم عيسى والدكتور حواس تلك البدع ومعتقدات بعض الطوائف من السياح؟ التي تأتي لممارسة طقوس غريبة في أرض مصر، مثل “طائفة عبدة الأهرامات” التي تأتي سنويا لممارسة نوع من الهرطقة الدينية الخاصة بها داخل الهرم الأكبر، وهم يدفعون أموالا مقابل ممارسة شعائرهم دون أن يمنعهم أحد!

إذا كان هناك من يتقبل هذا الأمر بين المصريين أو المسؤولين بهدف عدم التحكم في رغبات السائح ومعتقداته، فمن المهم أيضا عدم جلد الذات ورفض شعائرنا وعقائدنا وفنوننا بحجة أن ذلك يزعج السائح.

في النهاية، لا خوف على السائح، فهو يعرف إلى أين يذهب، لكن الخوف كل الخوف من الأسباب الحقيقية التي تتسبب في “تطفيش” السياح، مثل النصب والتحرش والمضايقات الأمنية وتفتيش الكاميرات وحذف الصور، واعتبار أن السائح كنز دولارات يجب تفريغه منها قبل عودته إلى بلاده.

في سيرة الحمير...!

في سيرة الحمير...!

 خواطر صعلوك


قرأت رواية ممتعة للكاتب المغربي حسن أوريد وكانت بعنوان «سيرة حمار»، وأقول رواية ممتعة لأن الكاتب لديه أفكار ممتعة.

وتحكي تحول إنسان مثقف يدرس الفلسفة والقانون والسياسة وعاشق للفن والحكمة والجمال إلى مسخ «حمار» فعلياً وليس مجازياً، حمار ولكنه يحمل القدرات البشرية في التفكير والتحليل والربط والإسقاط، بل واصطياد المغالطات المنطقية... كيف حدث ذلك؟ كيف لإنسان بهذا الفكر أن يُمسخ إلى حمار؟

السبب عزيزي القارئ وحسب تحليلي للرواية - والتي يختلف معها قراء الـ goodreads - وهي أن هذا الإنسان كانت لديه ثقة عالية بالنفس، فانساق وراء رغباته حتى وقع في غرام امرأة متزوجة... ثم أراد أن يهربا معاً فأعطتهم الخادمة شراباً يحولهم إلى طيور تطير بعيداً ولكن لخطأ في الخلطة أو الحبكة تحول صاحبنا إلى حمار يسير على أربعة حوافر وله أذنان طويلتان، وينهق إذا تكلم!

بعيداً عن مسيرة ورحلة الحمار في الرواية والذي يطرح مسائل حول الاعتقاد والسياسة وتوزيع الثروة، والصفوة والنخبة مع ذرات ولمحات حول المسؤولين والتجار وحقوق الحيوان والحريات، فبالنسبة لي لم أكن مقتنعاً حول ما يطرحه الحمار من فلسفة حارة وآراء حكيمة ومقاربات للخلاص والعدالة، ليس لأن ما يطرحه غير جيد ولكنه لأنه هو الذي يطرحه، فطوال الطريق في الرواية كنت أتساءل، طالما أنك بهذا الذكاء والحكمة فلماذا تحولت إلى حمار، وكيف أصبحت حماراً يحمل أسفاراً من الحكمة ولكنك لم تستفد منها في حياتك وحكايتك؟ وطالما أنك بهذه القدرات العقلية كيف سقطت في حب امرأة متزوجة؟

بالتأكيد، هناك ذلك القارئ العميق الذي يقول «لا تحاكم بطل الرواية، ولكن انظر للسرد والأسلوب وما يُطرح»... أتفق معك تماماً أيها القارئ، ولكني أعتقد أيضاً أنه من المهم أن نحاكم الرواية والقيم التي تنادي بها تماماً مثلما يفعل أبطالها بالواقع الذي يتناولونه، وهذا تفاعل محمود وليس من الشر في شيء.

أذكر أني قرأت رواية لأيمن العتوم بعنوان «صوت الحمير»، بالنسبة لي كانت أكثر إمتاعاً وإقناعاً من رواية حسن أوريد... رغم أني أحب الكاتبين. 

وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر.

قصة قصيرة:

أما بعد:

فإنك لن تنال ما تريد، إلا بتركِ ما تشتهي،

ولن تنالَ ما تأمل، إلا بالصبر على ما تكره.

فليكن كلامك ذكراً، وصمتك فِكراً، ونظرك عِبراً.

*رسالة من سلمان الفارسي إلى أبي الدرداء «رضي الله عنهما».

Moh1alatwan@

مصر وتركيا.. خطوات تقارب حذر

 مصر وتركيا.. خطوات تقارب حذر


"تحدثت مع السيسي لمدة 45 دقيقة وكان سعيداً جداً بلقائنا، وقد عبرنا أيضا عن سعادتنا لذلك. عملية بناء العلاقات مع مصر سوف تبدأ باجتماعات على مستوى الوزراء، وبعدها يتم تطوير العلاقات، فلا توجد خصومة دائمة في السياسة". هكذا تحدّث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان -قبل أيام- عن لقاء جمعه مع نظيره المصري عبد الفتاح السيسي، ومصافحته له على هامش افتتاح كأس العالم، وذلك بحضور أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني.

وحقيقة الأمر، فإنه خلال العامين الأخيرين حدثت تحولات لافتة في العلاقات المصرية التركية والتي عانت على مدار عقد تقريباً من التوتر والفتور والخصومة بين الطرفين، وذلك على خلفية الأحداث التي وقعت في مصر صيف عام 2013، وما لحق ذلك من توترات إقليمية ساهمت في تعقيد العلاقة بين البلدين.

تعود جذور الأزمة بين القاهرة وأنقرة إلى رفض الأخيرة الإطاحة بحكم الرئيس الراحل محمد مرسي، وما تبع ذلك من أحداث ومآسٍ كان أبرزها مذبحة رابعة العدوية التي راح ضحيتها ما يقرب من 800 شخص وهو ما أدانته تركيا وقتها بشكل قاطع، مما دفع القاهرة إلى استدعاء سفيرها في أنقرة عشية وقوع المذبحة في أغسطس/آب 2013. وفي نوفمبر/تشرين الثاني من نفس العام، قامت القاهرة بطرد السفير التركي مما أدى إلى إحداث قطيعة في العلاقات بين البلدين بشكل غير مسبوق.

ولعل أبرز الملفات التي أدت إلى توتر العلاقة بين القاهرة وأنقرة تتمثل أولاً في ملف العلاقة بين تركيا وجماعة الإخوان المسلمين، حيث وفرت أنقرة ملاذاً آمناً لأعضاء وقيادات الجماعة. كما سمحت لبعض النشطاء ورموز المعارضة المصرية بإنشاء منصّات إعلامية تعارض النظام المصري طيلة السنوات الماضية. وهو ما أثر سلباً على نظرة القاهرة لأنقرة معتبرة ذلك تدخلاً في شؤونها الداخلية.

أما الأمر الثاني فهو الملف الليبي حيث يقف البلدان على طرفي نقيض من الصراع هناك. ففي الوقت الذي دعمت فيه القاهرة -ولا تزال- جبهة الشرق في بنغازي والتي يقودها العقيد المتقاعد خليفة حفتر، دعمت أنقرة -ولا تزال- الحكومة الليبية في طرابلس التي كان يترأسها فايز السراج سابقاً، ويقودها حالياً عبد الحميد الدبيبة. ولم يتوقف الأمر عند الدعم السياسي والدبلوماسي فقط، ولكن الطرفين وفّرا أيضا دعماً عسكرياً واستخباراتياً ولوجستيا لحلفائهما داخل ليبيا.

أثار الدور التركي في المنطقة العربية، خاصة منذ بدايات الربيع العربي، حفيظة العديد من البلدان خاصة مصر والسعودية اللتين تحالفتا مع الإمارات من أجل الحد من تداعيات ذلك الدور على مصالحهما ونفوذهما الإقليمي

أما الملف الثالث فهو ملف غاز شرق المتوسط. فعلى مدار السنوات الخمس الماضية تم اكتشاف كميات هائلة من النفط والغاز شرق البحر المتوسط، وهو ما أدى إلى زيادة حدة الصراع والتنافس بين دول تلك المنطقة، وإعادة تشكيل التحالفات الإقليمية بها.

فعلى سبيل المثال، قامت مصر أوائل عام 2019 بإنشاء ما يسمى "منتدى غاز شرق المتوسط" الذي يضم دولاً من جنوب وشرق البحر المتوسط كالأردن وفلسطين وإسرائيل ولبنان وقبرص واليونان وإيطاليا وفرنسا، وتم استثناء تركيا رغم أنها من الدول المهمة في حوض البحر المتوسط، وهو ما فهم من جانب أنقرة باعتباره تحديا وإقصاء لها، خاصة وأن المنتدى يضم دولاً في حالة خلاف سياسي وجيوإستراتيجي مع أنقرة مثل قبرص واليونان.

لذلك ردت تركيا على هذه الخطوة بتوقيع اتفاقية لترسيم الحدود البحرية مع ليبيا أواخر عام 2019، الأمر الذي أثار حفيظة مصر ودفعها لترسيم حدودها البحرية مع اليونان، الخصم اللدود لأنقرة في منطقة المتوسط.

أما الملف الرابع فهو النفوذ الإقليمي للقاهرة وأنقرة في المنطقة. فقد أثار الدور التركي في المنطقة العربية، خاصة منذ بدايات الربيع العربي، حفيظة العديد من البلدان خاصة مصر والسعودية اللتين تحالفتا مع الإمارات من أجل الحد من تداعيات ذلك الدور على مصالحهما ونفوذهما الإقليمي. وهو ما وضح بجلاء خلال الأزمة الخليجية التي شهدت تحالفات إستراتيجياً بين قطر وتركيا في مواجهة دول الحصار.

هذه الملفات لعبت دوراً مهماً في توتر العلاقات بين القاهرة وأنقرة على مدار السنوات الماضية. ولكن مع قدوم الإدارة الأميركية بقيادة جو بايدن أوائل عام 2021 وإتمام المصالحة الخليجية، بدأت العلاقات بين مصر وتركيا تشهد نوعاً من التقارب الحذر، وذلك من خلال محاولات تقليل مساحات الاختلاف وزيادة مساحة التلاقي بينهما. فعلى مدار العام الماضي، أرسل الجانب التركي إشارات إيجابية عديدة حول الرغبة في تحسين العلاقات مع القاهرة. وقد تُرجمت هذه الإشارات في عقد أول لقاءات رسمية بين الطرفين.

ففي مايو/أيار الماضي، زار وفد من وزارة الخارجية التركية القاهرة حيث التقى نظراءه في الخارجية المصرية، وذلك لإجراء ما أسماه الطرفان "مشاورات استكشافية" من أجل النظر في تحسين العلاقات بين الجانبين. بعدها بشهور قليلة، وتحديداً في السابع من سبتمبر/أيلول الماضي، زار أنقرة وفدٌ من وزارة الخارجية المصرية يترأسه السفير حمدي لوزا مساعد وزير الخارجية، والتقى بنظرائه الأتراك لاستكشاف كيفية تطوير العلاقات.

في نفس الوقت، أخذت أنقرة عدة خطوات إيجابية لإبداء حسن نيتها وجديتها في تحسين العلاقات مع مصر، منها على سبيل المثال وقف البث الإعلامي لقناة "مكملين" المحسوبة على جماعة الإخوان المسلمين، والطلب من بعض الوجوه الإعلامية المعارضة التوقف عن انتقاد النظام المصري، وهو ما اضطر بعضهم لمغادرة البلاد.

أما اللافت فهو أن العلاقات التجارية والاقتصادية بين القاهرة وأنقرة لم تتأثر كثيراً بسبب الأزمة بين الطرفين. بل على العكس من ذلك، فقد تطورت وازدادت هذه العلاقات خلال الفترة الماضية، وهو ما يتضح من زيادة حجم التبادل التجاري بين البلدين متجاوزا 11 مليار دولار خلال العقد الفائت. وهناك زيارات مستمرة لرجال الأعمال الأتراك للقاهرة، وبالعكس.

ورغم هذا التحسن الملحوظ، إلا أن ثمة ملفين لا يزالان عالقين أمام تطوير العلاقات المصرية التركية. الأول هو الملف الليبي، حيث لا يزال الطرفان يدعمان جبهات متصارعة في ليبيا. والثاني هو ملف ترسيم الحدود البحرية بين البلدين. ولكن تظل فرص التوصل لتفاهمات لحل هذين الملفين أمراً ممكناً خلال الشهور المقبلة.

لذلك، فإن التطورات الأخيرة -على مستوى القاهرة وأنقرة- تشي بأن تحقيق (عودة/تحسين) العلاقة بينهما باتت اليوم أقرب بكثير مما كانت عليه طيلة العقد الماضي، وأن تطبيع العلاقات بشكل كامل لم يعد سوى مسألة وقت. ولن نستغرب كثيراً إذا ما قرأنا في الأخبار أن الرئيس أردوغان قرّر زيارة القاهرة خلال الشهور القليلة المقبلة، وهو ما يعني فتح صفحة جديدة في العلاقات بين تركيا ومصر.

الثلاثاء، 29 نوفمبر 2022

22/23.. هل آن الأوان؟

 22/23.. هل آن الأوان؟
جمال الجمل


(1)

نقترب من نهاية عام 2022، والاقتراب من النهايات عموما يحرك في الإنسان غريزة مراجعة الزمن، وبرغم ازدحام العام بالأحداث، إلا أن الحدث الأبرز كان وسيظل هو استئناف المواجهة المباشرة بين الغرب وروسيا في أوكرانيا. وإذا أهملنا التفاصيل اليومية للعملية العسكرية وفكرنا في الخطوط الرئيسية للمواجهة ونتائجها، يمكننا أن نعثر بسهولة على مقدمات واضحة لنتائج لا مهرب منها (إذا لم تحدث مفاجآت مدهشة خارج التوقعات)، وأبرز النتائج تتمثل في موت مرحلة الحرب الباردة وعدم عودتها مجددا بين الشرق والغرب، وفي مستويات تالية يحق لنا أن نناقش بجدية ترتيبات جنازة العالم أحادي القطبية وما يلي الجنازة من صراعات الوارثين المتوقعين لعرش العالم، وطبيعة القوى الحاكمة في مرحلة ما بعد الهيمنة الأمريكية المطلقة التي استمرت لأكثر من ثلاثة عقود.

وهذا التصور المبسط للمرحلة الانتقالية التي نعيشها يفرض علينا التفكير في مسارات عدة، في مقدمتها: موقف العرب مما يحدث في العالم، ومدى استعداد الأنظمة والشعوب للعالم الجديد. وهذا هو الشاغل الأساسي الذي يركز عليه هذا المقال من خلال طرح الأسئلة وإثارة العواصف الذهنية بين المهتمين، خاصة وأن دواوين الأنظمة ومستودعات التفكير العربية تضع نفسها دائما في الطابور المتأخر الذي يكتفي بتتبع خطى الآخرين والسير في الدروب التي يشقها رعاة الأنظمة.

(2)

من المعلوم أن العالم لا يتغير فجأة ولا يضع تواريخ محددة للتغيير، لأن التغيير يظل عملية دينامية تتخلل الحياة ببطء وتتقدم بشكل غير
محسوس إلا للمدققين.

على المستوى الدولي تبدو ملامح وأسئلة التغيير عريضة وبارزة، وعلى مستوى الأدوات والمؤسسات يبدو واضحا أن الأمم المتحدة لم تعد مقبولة كمرجعية دولية نزيهة، حتى أن قراراتها وتصويتها صار أقرب إلى "ورقة غربية" يتم استخدامها


على المستوى الدولي تبدو ملامح وأسئلة التغيير عريضة وبارزة، وعلى مستوى الأدوات والمؤسسات يبدو واضحا أن الأمم المتحدة لم تعد مقبولة كمرجعية دولية نزيهة، حتى أن قراراتها وتصويتها صار أقرب إلى "ورقة غربية" يتم استخدامها في الإعلام والقضايا التي يتفق عليها طرفا الصراع.

وبعيدا عن ذلك تبدو المنظمة في حالة عجز واقعي عن تقديم أية حلول لمشاكل العالم، لهذا كثرت المقارنات بين دور المنظمة كغطاء لأمريكا وحلفائها في حربي أفغانستان والعراق، وكذلك في المقارنة بين الدعم الغربي لأوكرانيا في مقابل التواطؤ الدولي ضد فلسطين لصالح العصابة الصهيونية، كما انكشفت خديعة التشكيلات العسكرية الخاصة التي يصفها الغرب بالإرهاب إذا خرجت عن طوعه، ويضعها تحت عناوين براقة مثل "فيالق الحرية" إذا كانت تخدم توجهاته.

ولا ننسى نوعية التحفظات والأسئلة التي أثيرت في عام 2022 عن ضمانات العولمة الغائبة، حيث تابعنا مصادرات الأموال الخاصة وتسييس قرارات المؤسسات المصرفية والرياضية، وتابعنا تقييد حركة السفر، وازدواجية المعاملة مع المهاجرين، ومجاهرة الدول بتقديم السلاح للمساعدة في تمديد وإشعال حرب مستعرة، في مقابل قرارات نقيضة تندد بدول أخرى تبيع السلاح أو تمنحه لحلفائها. ولعلكم تتابعون تهويل الغرب في قضية بيع "مسيرات" إيرانية إلى روسيا، ولا يخفى عليكم حجم الأخبار والتقارير التي تكشف هوس الغرب بتتبع حركة السلاح في الصين وكوريا الشمالية؛ لضمان عدم تغذية روسيا بأسلحة تساعدها في التفوق على إمدادات الناتو!

(3)

الترجمة العربية لازدواجية الغرب في مجال التسليح تتمثل بوضوح في حالة فلسطين، حتى أنني ألمحت في مقال سابق إلى أن أوكرانيا تكاد تتحول إلى "إسرائيل الشرق الأقصى". ويمكنكم المقارنة مع ما يحدث في "إسرائيل الشرق الأوسط" بطرق متعددة، أذكر منها الآتي كمثال:

دولة صاحبة أرض وشعب وحق يتم الاستيلاء عليها وتهجير أهلها قسرا، بينما الغرب يمد المعتدي بالسلاح، مع أنه غيّر هو الدولة ولغتها وأسماء مدنها وقراها ويسعى أمام أعين العالم كله لإقامة دولة دينية يهودية ذات طابع عنصري يقسم سكان الأرض إلى "مواطنين" و"أغيار"، فاليهود القادمون من الشتات صاروا أصحاب كل شيء، بينما "السكان الأصليون" مجرد "أغيار" يتم هدم بيوتهم وترحيلهم قسرا لتشييد مستوطنات (يرفضها معظم الغرب في التصريحات، ويسكت عنها في الواقع).

بالتوازي يرفض الغرب ما يحدث لأوكرانيا ويسميه بصوت عال "عدوانا"، ويتبرع بسخاء لتسليح كييف لتدافع عن أرضها، وهو حق مقبول إذا كان الغرب قد منح هذا الحق للفلسطينيين والعراقيين وحركة طالبان في أثناء حكمها الأول لأفغانستان، لكن الواقع يقول إن فلسطين يتم خنقها بتواطؤ غربي، مع أن البكائية التي ينوح بها الغرب على أزمة الكهرباء في أوكرانيا ظلت واقعا يوميا تعايش معه سكان غزة طوال سنوات الحصار الذي فرضه الاحتلال وساعدت فيه الغرب ودول جوار؛ مثل مصر التي تعاونت مع الأعداء في استكمال "طوق الخنق"، عن طريق المعابر التي تتحكم من خلالها في حركة الفلسطينيين ومعيشتهم!

(4)

أوردت هذه المقارنة لأوضح موقف الأنظمة العربية الذي انتقل بسهولة من "تحرير كامل التراب الفلسطيني" و"لا اعتراف.. لا صلح.. لا تفاوض"، إلى النقيض الفاضح الذي تجاوز سياسة التفاوض إلى الولاء المعلن لإسرائيل والمساعدة في حلم "إسرائيل الكبرى"، مرورا بقبول حل الدولتين والأرض مقابل السلام، ثم السلام مقابل الرضا الصهيوني وفتح أجواء الملاحة والهرولة في إجراءات التطبيع الانبطاحي غير المشروط..

هذه الإشارة تذكرنا بأننا غفرنا للأمم المتحدة التغافل عن حماية قراراتها السابقة المتعلقة بحفظ الحق الأدنى للحق الفلسطيني، منذ قرار التقسيم وحتى القرارات المتتالية لإدانة سرقة التراث وتهويد الأرض وتكريس الأبارتايد والترانسفير وشن الغارات على المدنيين ومجاهرة "دولة عضو في الأمم المتحدة" بالتوسع في أسلوب الاغتيالات والمفاخرة به! فيا أيتها الأمم المتحدة شكرا لك عجزك وانقيادك، فنحن في العجز والانقياد سواء، والعدل أن نتغير أو نزول.

(5)

السؤال الذي يطرح نفسه بعد ذكر هذه النبذة التاريخية هو: ما مصير المخطط الأمريكي الغربي الصهيوني المسمى بالشرق الأوسط الكبير في ضوء المتغيرات الجارية في العالم؟

روسيا أعلنت رفض الهيمنة الأحادية، والصين أيدتها بصوت مسموع بعد قمة العشرين الأخيرة، والهند وجنوب أفريقيا ودول صامتة أخرى تتريث لترتيب خطواتها وفق المتغيرات المقبلة، بينما الميزانسين السياسي العربي يراوح في مربع القسمة بين المعسكرين: هؤلاء أتباع سايكس، وهؤلاء موالي بيكو!

هذا لا يعني إحساس العرب أجمعين بما يحدث من تغير دولي، فالسعودية لعبت خارج التعليمات الأمريكية في واحد من القرارات النادرة التي تخبرنا بأن استقلالية القرار العربي ليست مستحيلة، والجزائر تعلن ما تخفيه النوايا في أقطار عربية أخرى فتمسك العصا من المنتصف في علاقتها بروسيا والصين إلى جانب الولاء المزمن لأمريكا والغرب.

مشهد أعلام فلسطين الذي تبنته الجماهير العربية في الجمعية العمومية لشعوب العالم (مونديال كرة القدم) يخبرنا أن قضية فلسطين تبهت في القصور الرسمية وقرارات الأنظمة، لكنها لا تزال القضية المركزية في الوجدان العربي الحائر


كما أن مشهد أعلام فلسطين الذي تبنته الجماهير العربية في الجمعية العمومية لشعوب العالم (مونديال كرة القدم) يخبرنا أن قضية فلسطين تبهت في القصور الرسمية وقرارات الأنظمة، لكنها لا تزال القضية المركزية في الوجدان العربي الحائر. لكننا بنظرة المتفائل نستطيع القول إن هناك "فطرة عربية" تحتفظ بالسلّم الصحيح لقضايا الشعوب وأولوياتها، لذلك أسعدني إشهار العلم الفلسطيني في تحرك شعبي ضد التحرك الغربي في قضية المثليين، ومحاولة بيعها باعتبارها قضية "حقوق إنسان" في الوقت الذي تنتهك فيه حقوق الإنسان العربي كاملة، ولا يتذكرها الغرب إلا كاستثناء لأفراد بعينهم وفي مواقف سياسية تستخدم للضغط، أو لتمرير المعونات وفق شروط المؤسسات الغربية.

(6)

أحلّق بعين الطائر على كثير من القضايا المتداخلة، لأنني (كما قلت) لا أسعى لتقديم معلومة نهائية ولا نصيحة قاطعة، ولكنني أسعى لفتح العيون وتنشيط الأذهان من أجل التفكير واستبيان موقعنا من العالم المتغير. فعلى سبيل المثال إذا كان مصير الأمم المتحدة قضية دولية، فإن مصير جامعة الدول العربية قضية إقليمية تستحق الاجتهاد والمحاسبة لكي نتمكن في وقت قريب من إصلاحها أو إغلاقها، فقد أضرت الجامعة بالعرب أكثر مما أضيروا من الاتحاد الأوروبي مثلا، حتى أنها منحت تفويضا (لم يكن يلومها أحد لو سكتت عنه) لتدمير دول عربية من أعضائها! ولا ننسى أنها لم تقدم للقضية الفلسطينية إلا قرارات لا تروي شجرة زيتون ولا تطعم لاجئا ولا تشفي مريضا ولا تحرر أسيرا.

(7)

إشارتي الأخيرة في هذا المقال تنبه إلى أننا جزء من العالم، ولا نبتغي الانفصال عنه، ولا ندعو لانكفاء وقطيعة، أو حتى إلى "كتلة ثالثة" بين الشرق والغرب، كما كانت تحلم كتلة عدم الانحياز، أو كما رسخت فكرة "الشرق الأوسط المعتدل"، لكننا يا سادة يجب أن نخلع رداء البهاليل ونتعامل بقواعد العقل والعدل في عالم واحد، وأفاجئكم فأقول: ليس عندي مانع في أن يستمر أتباع أمريكا في تبعيتهم لها وانبهارهم بها، لأن هذا يقتضي تقليد المتبوع في تقدمه كما في سقطاته، لكنني أتعجب من أننا نتبع الغرب الذي يفرض الديمقراطية ودولة القانون، لكن أنظمتنا تنتهك القوانين وتمارس القمع. وتشير المؤشرات الغربية إلى معدلات عربية متدنية في الشفافية وتداول المعلومات والحريات وأمان الاستثمار، بينما تعلو مؤشرات الفساد والعنف والتدهور الاقتصادي، فأين التبعية التي يحاكي فيها الضعيف أسياده ويتشبه بهم؟

هذه الإشارة تضعنا أمام "تحدي البزرميط".. علينا أن نهرب من مرحلة البزرميط ونفكر في صيغة شاملة للحياة، نرتضي بها، أو يرتضيها حكامنا ويطبقونها في سياق منتظم:

المهم يا سادة أن نتعرف على هوية ما، ونتفق على قواعد ما تسري على الجميع، وحينها يمكن أن نضع الثوابت التي نحترمها ونتحاسب على أساسها


رأسمالية؟.. لا يهم..

اشتراكية؟.. لا مانع..

اقتصاد سوق؟.. ليكن..

عرب؟.. خير..

شرق أوسطيون؟.. أوكيه، بس نقفل الجامعة العربية وندعو إيران وتركيا للعضوية..

المهم يا سادة أن نتعرف على هوية ما، ونتفق على قواعد ما تسري على الجميع، وحينها يمكن أن نضع الثوابت التي نحترمها ونتحاسب على أساسها.

فلنفكر إذن..

التفكير ليس عيبا أو جريمة..

فلنفكر..

فلنفكر..

فلنفكر..

tamahi@hotmail.com