السبت، 31 يوليو 2021

التفكر في آيات الله المشهودة في الآفاق

 التفكر في آيات الله المشهودة في الآفاق



لله آيات بثها في الكون منظورة للعيون، لكنها تحتاج الى قلوب تعقلها، والقلب لا يعقل إلا بتذكر وتعبد وأن يصل ما يراه بالمنهج الأصيل.


مقدمة

كما أنزل تعالى آيات تتلى؛ فإنه تعالى بث آيات تُنظر وتُشاهد، تدل عليه وعلى أسمائه وصفاته، وهي تسكب في القلوب يقينا وتعظيما ومعرفة بعظمة الخالق وضآلة المخلوق.

وقد أشار القرآن مرارا الى هذه الحقائق العظمى المبثوثة، وعاب على من مرّ عليها غافلا ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾ (يوسف:105)

فالشأن ليس شأن العين فقط؛ إذا الكل يرى.. لكن الشأن شأن القلب الذي يتلقى من العين ويوجهها، ويتلقى ليصل الى من فطر وبرأ.

آيات متلوّة تشير الى الآيات المنظورة

يقول الله عز وجل: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ (فصلت:53).

ويقول سبحانه: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ (آل عمران:190-191).

ويقول الله عز وجل: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ﴾ (الذاريات:20).

كم هي الآيات العظيمة التي نشاهدها في الآفاق، وعظيم صنع الله عز وجل فيها، وإتقانه سبحانه في خلقها، ولكن تكرار ذلك أمام الحِسّ والنظر جعلها مألوفة، وتعطل، أو قلَّ التفكير والتأمل في كونها آيات عظيمة توقظ الحس، وتملأ القلب رهبة وتعظيمًا لخالقها سبحانه.

ولكن ما أن ينتقل العبد بفكره من إلف العادة والتكرار إلى التفكير في هذه الآيات العظيمة، والمعجزات الباهرة حتى يكون له شأن آخر في تعامله مع هذه الآيات، وما تثمر في القلب من تعظيم ومحبة وإجلال وتعظيم وخشوع لخالقها جل وعلا.

يقول ابن الجوزي رحمه الله تعالى:

“عَرَضَ لي في طريق الحجِّ خوفٌ من العرب، فسِرْنا على طريق خَيْبَرَ، فرأيت من الجبال الهائلة والطُّرق العجيبة ما أذهلني، وزادت عَظَمَةُ الخالق عز وجل في صدري، فصار يعرض لي عند ذكر الطُّرُق نوع تعظيمٍ لا أجده عند ذكر غيرها.

فصحتُ بالنفس: ويحك! اعْبُري إلى البحر، وانظري إليه وإلى عجائبه بعين الفكر، تشاهدي أهوالًا هي أعظم من هذه.

ثم اخرجي إلى الكون والتفتي إليه؛ فإنَّك تريْنَهُ بالإضافة إلى السموات والأفلاك كَذَرَّةٍ في فلاةٍ.

ثم جولي في الأفلاكِ، وطوفي حولَ العرشِ، وتلمَّحي ما في الجنان والنيران.

ثم اخرُجي عن الكُلِّ، والتفتي إليه؛ فإنك تشاهدين العالم في قَبْضَةِ القادر الذي لا تقفُ قدرتُهُ عند حدٍّ.

ثم التفتي إليكِ، فتلمَّحي بدايتكِ ونهايتك، وتفكري فيما قبل البداية وليس إلَّا العدمُ، وفيما بعد البِلَى وليس إلَّا الترابُ.

فكيفَ يأنسُ بهذا الوجودِ من نَظَرَ بعين فِكْرِهِ المبدأَ والمنتهى؟! وكيف يغفُلُ أربابُ القلوب عن ذكر هذا الإله العظيم؟!

بالله لو صحت النفوس عن سُكْر هواها لذابت من خوفه، أو لغابت في حبّه؛ غير أنَّ الحسَّ غَلَبَ فَعَظُمَتْ قدرةُ الخالق عند رؤية جبل، وإن الفطْنَةَ لو تلمَّحت المعاني لدلت القدرة عليه أوفى من دليل الجبل”. (1)

الاقتران بين التفكر والتذكر

ويقول سيد قطب رحمه الله تعالى:

“وأولو الألباب؛ أولو الإدراك الصحيح، يفتحون بصائرهم لاستقبال آيات الله الكونية، ولا يقيمون الحواجز، ولا يغلقون المنافذ بينهم وبين هذه الآيات، ويتوجهون إلى الله بقلوبهم قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، فتتفتح بصائرهم، وتشفُّ مداركهم، وتتصل بحقيقة الكون التي أودعها الله إياه، وتدرك غاية وجوده، وعلّة نشأته، وقوام فطرته بالإلهام الذي يصل بين القلب البشري ونواميس هذا الوجود…

وإنه يقرن ابتداء بين توجه القلب إلى ذكر الله وعبادته: ﴿قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ﴾ وبين التفكر في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، فيسلك هذا التفكر مسلك العبادة، ويجعله جانبًا من مشهد الذكر، فيوحي بهذا الجمع بين الحركتين بحقيقتين هامتين”. (2)

التفكر عبادة

ويقول رحمه الله:

الحقيقة الأولى أن التفكر في خلق الله، والتدبر في كتاب الكون المفتوح، وتتبّع يد الله المبدعة، وهي تحرك هذا الكون، وتقلب صفحات هذا الكتاب هو عبادة لله من صميم العبادة، وذكر لله من صميم الذكر.

لو اتصلت العلوم الكونية التي تبحث في تصميم الكون، وفي نواميسه وسننه، وفي قواه ومدخراته، وفي أسراره وطاقاته؛ لو اتصلت هذه العلوم بتذكُّر خالق هذا الكون وذكره، والشعور بجلاله وفضله؛ لتحوّلت من فورها إلى عبادة لخالق هذا الكون وصلاة، ولاستقامت الحياة ـ بهذه العلوم ـ واتجهت إلى الله، ولكن الاتجاه المادي الكافر، يقطع ما بين الكون وخالقه، ويقطع ما بين العلوم والحقيقة الأزلية الأبدية؛ ومن هنا يتحول العلم ـ أجمل هبة من الله للإنسان ـ لعنة تطارد الإنسان، وتحيل حياته إلى جحيم منكرة، وإلى خواء روحي يطارد الإنسان كالمارد الجبار!”. (3)

من تتجلّى لهم حقائق الكون

يقول رحمه الله:

والحقيقة الثانية أن آيات الله في الكون لا تتجلى على حقيقتها الموحية إلا للقلوب الذاكرة العابدة، وأن هؤلاء الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم ـ وهم يتفكرون في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار ـ هم الذين تتفتح لبصائرهم الحقائقُ الكبرى المنطوية في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، وهم الذين يتصلون من ورائها بالمنهج الإلهي الموصل إلى النجاة والخير والصلاح.

فأما الذين يكتفون بظاهرٍ من الحياة الدنيا، ويصلون إلى أسرار بعض القوى الكونية ـ بدون هذا الاتصال ـ فهم يدمّرون الحياة ويدمرون أنفسهم بما يصلون إليه من هذه الأسرار، ويحوّلون حياتهم إلى جحيم نكد، وإلى قلق خانق، ثم ينتهون إلى غضب الله وعذابه في نهاية المطاف!..

إنها لحظة العبادة، وهي بهذا الوصف لحظة اتصال، ولحظة استقبال، فلا عجب أن يكون الاستعداد فيها لإدراك الآيات الكونية أكبر، وأن يكون مجرد التفكر في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، ملهمًا للحقيقة الكامنة منها، ولإدراك أنها لم تخلق عبثًا ولا باطلًا، ومن ثمَّ تكون الحصيلة المباشرة للخطة الواصلة”. (4)

ويقـول ابن كثـير رحـمه الله تعـالى عنـد قوله تعالى: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ﴾

“أي: فيـها مـن الآيـات الـدالة على عظمة خالقها وقدرته الباهرة، مما قد ذرأ فيها من صنوف النبات والحيوانات والمِهاد والجبال والقفار والأنهار والبحار، واختلاف ألسنة الناس، وما جُبلوا عليه من الإرادات والقوى، وما بينهم من التفاوت في العقول والفُهوم والحركات والسعادة والشقاوة، وما في تركيبهم من الحِكم في وضع كل عضو من أعضائهم في المحل الذي هو محتاج إليه فيه”. (5)

من ينتفع بهذه الرحلة والعجائب

“غير أنه لا يدرك هذه العجائب، ولا يستمتع بالرحلة هذا المتاع، إلا القلب العامر باليقين، ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ﴾.

فلمسة اليقين هي التي تحيي القلب فيرى ويدرك، وتحيي مشاهد الأرض فتنطق للقلب بأسرارها المكنونة، وتحدثه عما وراءها من تدبير وإبداع.

وبدون هذه اللمسة تظل تلك المشاهد ميتة جامدة جوفاء؛ لا تنطلق للقلب بشيء، ولا تتجاوب معه بشيء، وكثيرون يمرون بالمعرض الإلهي المفتوح مغمضي العيون والقلوب؛ لا يُحِسُّون فيه حياة، ولا يفقهون له لغة؛ لأن لمسة اليقين لم تُحْي قلوبهم، ولم تبث الحياة فيما حولهم! وقد يكون منهم علماء ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ (الروم: 7).

أما حقيقتها فتظل محجوبة عن قلوبهم؛ فالقلوب لا تفتح لحقيقة الوجود إلا بمفتاح الإيمان، ولا تراها إلا بنور اليقين، وصدق الله العظيم”. (6)

خاتمة

يمتليء العالم اليوم بالعلوم ومعطيات الحضارة المادية، لكنه منقطع عن الله تعالى، ومحارب له.

لم يسعد الانسان ولن يسعد بهذا القصور؛ إذ الشعور الذي وفّرته له هذه المعطيات العلمية والحضارية هو الشعور الحيواني والتلذذ الهابط، والحرمان من العلاقة بالله تعالى عُجبا بالنفس وعمىً عن ربه واستغناء عن خالقه ﴿أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى﴾ (العلق: 7).

في الاسلام هناك امتداد للنظرة البادية للكون، وهناك أصالة تبدأ من مشاهدة الآيات لتصل العبد بمنهج خالقه، ولقاء خالقه.. ثم ينعكس هذا على الانسان قيما وأخلاقا، تقوى وأحكاما، وميلاد إنسان جديد بمشاعر تقيّ. و”التقيّ” هو أفضل أنموذج يخرج للحياة.


الهوامش:

  1. «صيد الخاطر» (ص275-276).
  2. «في ظلال القرآن» (1/544-546).
  3. المصدر السابق.
  4. المصدر نفسه.
  5. «تفسير ابن كثير» عند الآية (20) من سورة الذاريات.
  6. «في ظلال القرآن» (6/3378) باختصار يسير.

اقرأ أيضا:

كنت أظنه ظاهرة جديدة -

 

كنت أظنه ظاهرة جديدة

إبراهيم بن عمر السكران


سمعته يلوم المقاومة ويتهكم بها بأنهم لو كانوا عقلاء وسمعوا نصيحتنا والتزموا الصمت لما وقع عليهم القتل والذبح .. فظننت أن مثل هذه المواقف إنما هي من الانتكاسات المعاصرة التي لاسابق لها .. حتى قرأت قوله تعالى:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا)

ورأيت عدداً من المتثيقفين يردد شعارات الوطنية ويقول أن غزة شأن فلسطيني لسنا مسؤولين عنه، بل يجب أن نركز ثروتنا وطاقتنا في الشأن السعودي فقط، نحن سعوديون أولاً، فتوهمت أن هذا التذرع بالوطنية للتنصل من المسؤولية الدينية في دعم المقاومة إنما هي انحراف معاصر.. حتى قرأت قوله تعالى:
(وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا)

ورأيت كاتباً آخر يلوّح بأن اختيار المقاومة فصل الشتاء القارس للتصعيد السياسي جريمة تجعل المسؤولية مسؤوليتها في ضخامة الأضرار .. فظننت أن هذا التعلل بالفصول الأربعة في التهرب عن نصرة المقاومة إنما هو تقليعة جديدة .. حتى قرأت قوله تعالى:
(وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ)

ورأيت كاتباً آخر ينهر المحتاجين في غزة، ويعلن في عنوان مقاله بكل فجاجة فيقول (وإذا تبرعنا فهل ستشكرون؟!) فتوهمت أن هذه المنة والأذية وتطلّب الامتنان والتقدير إنما هي مستوى قياسي جديد في التبذل الأخلاقي .. حتى قرأت قوله تعالى:
(قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ)

وسمعت أحد نظرائه يعتذر ويبرر ويقول: نحن ليس لدينا مشكلة في التبرع للإسلام، ولكن ليس لهؤلاء الفلسطينيين والإخوانيين والحمساويين القذرين، ففرق كبير بين الاسلام وأتباعه، فالاسلام مقدس أما أتباعه فهم للأسف بشرٌ منحطون، فظننت أن هذا تفصيلاً جديداً في التبرع.. حتى قرأت قوله تعالى:
(هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا)

ولطالما سمعت الليبراليين في وطني يتعللون في رفض الأحكام الشرعية والإصرار على تبديلها بحجة المخاطر الأمنية، فيقولون لك هذه الأحكام الشرعية ستسبب لنا إحراجات أمنية كبيرة مع العالم فيجب تبديلها ومحوها وتغييرها، ويشنعون على كل من همس بمثل هذه الأحكام بشماعة المخاطر الأمنية، فكنت أتوهم أن التذرع بالمخاطر الأمنية لرفض الشريعة إنما هي موضة سبتمبرية .. حتى قرأت قوله تعالى:  (وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا)

ورأيت كثيراً من الكتّاب الخائضين في تبديل الأحكام الشرعية إذا أنكر عليه العاملون للإسلام، ونهوه عن تبديل الأحكام الشرعية، وساقوا له نصوص الوحي في وجوب التمسك بها، يترك مناقشة الأدلة الشرعية ويلوذ باتهام المنكرين عليه بأنهم طلاب سلطة وطموحات سياسية، وأن دفاعهم ضد تبديل الشريعة ليس دفاعاً عقائدياً بل مجرد غطاء للمضمر المصلحي.. فظننت أن اتهام الرافضين للتبديل بأنهم مصلحيون إنما هي تهمة جديدة .. حتى قرأت قوله تعالى:
(يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا)

ولطالما لاحظت في النصوص الشرعية بعض المواضع الملتبسة على القارئ، إما لإشكالية ثبوت أو إشكالية دلالة، فكنت أدعها وأتمسك بالنصوص الواضحة الظاهرة، حتى رأيت ثلة جديدة من الكتّاب تتطلب هذه المواضع الملتبسة وتنقب عنها وتجمعها، وتستغلها في توهين التمسك بالأحكام الواضحة الظاهرة، فكنت أتعجب من جهودهم في تتبع المتشابه واستغلاله لتصديع المحكم والتمتع بفتنة الناس في دينهم، وكنت أظن أن هذه ظاهرة جديدة .. حتى قرأت قوله تعالى:
(فأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ )

وكنت أرى مجموعة من الكتاب يتطلبون الاختلاف والمفارقة عن عامة المتدينين، بل تشعر أحياناً أن معيارهم في إصابة الحق هو "مخالفة المطاوعة"، فيصعب عليهم اتباع الحكم الشرعي الذي يجمعهم بعامة المتدينين، لما امتلأ في قلوبهم من الغرور والزهو الزائف، بل بعضهم إذا أراد الاحتجاج على رد مفهوم معين قال لك: ومافرق كلامك عن كلام دراويش الصحوة؟! فصار المعيار (المفارقة) وليس (البرهان)، فكنت أتعجب كيف يتورط الانسان بترك الشريعة لأجل مخالفة من يزدريهم فقط؟! وكنت أتوهم ذلك أمراً جديداً .. حتى قرأت قوله تعالى:
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ)

بل لقد رأيت عدداً من كبار المثقفين الذين يكتبون في "إعادة قراءة التراث" ينادي بكل صراحة في عدد من كتاباته ومحاضراته بضرورة الاستفادة من التراث الاسلامي، فإن وافق المفاهيم الحديثة استعملناه في تأصيلها، وإن خالف المفاهيم الحديثة تجاوزناه. بمعنى أن العلاقة مع النص صارت علاقة مشروطة، السمع والطاعة إن جاءت بما نريده فقط، فكنت أتصور أن هذه انتهازية معاصرة .. حتى قرأت قوله تعالى:
(يحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا)

ورأيت شريحة أخرى لايرفضون الشريعة كلها، ويعلنون الالتزام بها، لكنهم يريدون أن يتوسطوا بين المتدينين الذين يأخذون الاسلام كله وبين العلمانيين الذي يرفضون الشريعة جملة، ويرى أن هذا من سبيل الوسطية والاعتدال بين الفريقين، فكنت أتعجب من هذا الفهم للوسطية! كيف تكون الوسطية هي التوسط بين الإسلاميين والعلمانيين؟! .. وكنت أتوهم هذا فهماً جديداً لمعنى الوسطية .. حتى قرأت قوله تعالى:
(وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا)

ولطالما التقيت بعدد من المتثيقفين تمتد أمسياتهم الفكرية إلى آخر ساعات الليل.. فإذا أقحم أحد الحضور نصوصاً شرعية تضايقوا وتبرموا وانقبضت وجوههم، ولمزوا المتحدث بأن مقصوده المزايدة ورغبة الهيمنة.. فإذا ذكرت أسماء الأعلام الغربية الرنانة ابتهجوا وانبلجت أسارير وجوههم واستزادوا المتحدث .. فكنت أتوهم ذلك سلوكاً جديداً .. حتى قرأت قوله تعالى:
(وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)

ورأيت شريحة أخرى تعلن الالتزام بالشريعة والإيمان بها، وأنها المقدس، وأنها عظيمة، لكن هؤلاء في كل دعوتهم وعملهم وخطابهم وكتاباتهم إنما يتحاكمون للثقافة الغربية والقوانين الغربية والدول الغربية .. فكنت أتعجب كيف يدعي الإيمان بالشريعة ويتظاهر بتعظيمها وهو لايتحاكم إليها؟! لم لايصرح ويكشف مرجعيته الحقيقية؟! وكنت أتصور أن هذا تناقض معاصر .. حتى قرأت قوله تعالى:
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ)

ورأيت طائفة من مثقفي إعادة قراءة التراث يبثون الارتيابات والتوجسات حول السنة النبوية، حيث يرون أن أحاديث الرسول كلها ليست تشريع، وإنما هي أمور تلقفها النبي من عصره ورددها، فكنت أظن هذا التنقص لمقام الرسول فكرة جديدة .. حتى قرأت قوله تعالى:
(ومِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ)

وشهدت عدداً من الكتّاب الشباب لازالت خصومتهم مع المتدينين تتجارى بهم، حتى بلغت بهم أن تورطوا في مقالات مليئة بمحادة النصوص ومشاقة الوحي. كل ذلك بدافع النكاية والمناكفة ومغاضبة المتدينين وإغاظتهم فقط، فكنت أتساءل بدهشة: كيف ينسى المرء ربه لأجل أن يسخر بخصمه فقط؟! وكنت أفترض أن هذه آثار صراعية جديدة .. حتى قرأت قوله تعالى:
(إنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ)

ورأيت طائفة من المثقفين يبالغون ويغالون في تعظيم القرآن، وقداسة القرآن، وشمولية القرآن، بصورة انبهارية لايقولها مفسروا أهل السنة أنفسهم! فكنت أتساءل مالمغزى ياترى لهذه التوقير المفاجئ للقرآن؟ فماعهدت القوم نصوصيين! وإذا بهم يتخذون هذه المغالاة في التوقير مجرد مقدمة لينفذوا من خلالها لنفي السنة واغتيالها .. فيجعلون قداسة الله ذريعة لإنكار نصوص رسول الله .. فظننت هذا المدخل المخاتل شيئاً جديداً .. حتى قرأت قوله تعالى:
(وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ)

ورأيت عدداً من الكتّاب يذكرون ماكان عليه أهل منطقتهم من رقص الرجال والنساء سوياً بكل نقاء وطهارة وصفاء نية، حتى جاءت الصحوة التي لوثت ذلك الصفاء ومنعت تلك المظاهر، فإذا قلت له: ولكن رقص الرجال والنساء سوياً لون من الفواحش التي نهى الله ورسوله عنها. فيستمر يحتج عليك بالماضي الذي دمرته الصحوة! .. فكنت أتوهم هذا التفكير الساذج لون جديد من التفكير .. حتى قرأت قوله تعالى:
(وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا)

وقرأت لعددٍ من المثقفين الذين يعلنون احترامهم لمرجعية الوحي ومفاهيم القرآن والسنة، لكنه كلما عرض له مفهوم شرعي رده وشنع عليه، فإذا ساءله الناس عن ذلك؟ قال لهم: أنا ليس لدي مشكلة مع "النص"، وإنما مشكلتي مع "تسييس النص"، وهذه الخطابات الدينية كلها خطابات باحثة عن السيطرة.. فصار يتعلل في رد كل حقيقة شرعية بتهمة التسييس وقذف العاملين للاسلام بالبحث عن الهيمنة والنفوذ!. فكنت أعتقد أن اتهام العاملين للاسلام بذلك بهدف التخلص من كلفة الانقياد إنما هي فكرة جديدة .. حتى قرأت قوله تعالى:
(قالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ)

وسمعت مرة من بعض الليبراليين حنقه الشديد على ابن باز وابن عثيمين، وكان يقول فيهما كلاماً لايقوله المرء في أخس المجرمين، فسألته: ولماذا لاتصرح بذلك؟ ولماذا تستتر بمثل هذا الموقف المتشنج ضدهما؟ فقال لي بكل صراحة: لولا نفوذهم الاجتماعي لأشعلتها عليهم.. فظننت أن ذلك حالة جديدة .. حتى قرأت قوله تعالى:
(وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ)

ورأيت كثيراً من المتثيقفين يفاضل بين الناس على أساس معيار مادي بحت، فالكافر العالم خير من المؤمن الجاهل، والكافر الثري خير من المؤمن الفقير، وكنت أتوهم أن هذا المعيار المادي فكرة جديدة لم تنبه إليها النصوص، حتى قرأت قوله تعالى:
(وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ)

وتلاحظ أنه حين تثور في المجتمع مسألة شرعية جهادية أو قضائية أو حسبوية أو دعوية أو غيرها فإن كثيراً من الكتّاب يتصدر للفتيا فيها وهو لم يبحثها أصلاً، ويذيع فتواه وينشرها، وينسب رأيه للشريعة بلا تردد، والاجتهاد في الشريعة ليس محصوراً على عرق أو نسب، وإنما هو مقيد بشروط علمية كغيره من التخصصات، فكنت أتعجب من تسابق هؤلاء الكتّاب على الفتيا دون علم.. فلاهم درسوا النصوص، ولا سألوا من يحسن الاستنباط منها، وكنت أظن ذلك شيئاً جديداً حتى قرأت قوله تعالى:
(وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)

وكنت أسمع هؤلاء المتثيقفين إذا أرادوا أن يحقروا أحداً سموه بـ"الواعظ" تقليلاً لشأنه، وهذا التحقير بهذا الوصف فرع عن كونهم يرون المواعظ أحط مراتب الخطاب وأنقصها قيمة، فتسرب إلى ذهني هذا التحقير للمواعظ بشكل غير مباشر، وصرت مثلهم أعتقد أن المواعظ لاتليق بالخطاب الراقي، حتى رأيت الله تعالى وصف كتبه السماوية بأنها "موعظة" فعلمت أنه من المحال أن يختار الله لأعظم كتبه أحط الأوصاف!
فسمى القرآن موعظة فقال (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ)
وسمى التوراة موعظة فقال (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلا)
وسمى الإنجيل موعظة فقال (وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)

ولطالما كنت أتوهم أن الاحتجاج على "صحة المبدأ بقوة أتباعه" إنما هي طريقة جديدة ساذجة في التفكير، وأن الناس كانت تدرك أن الحق لاصلة له بالقوة، حتى قرأت قوله تعالى:
(فأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟ )

ولطالما كنت أتوهم –أيضاً- أن الاحتجاج على "بطلان المبدأ بضعف أتباعه" إنما هي طريقة جديدة ساذجة في التفكير .. حتى قرأت قوله تعالى:
(قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ)

وكنت ألاحظ بعض المتثيقفين يستكبر عن الإنصات للخطاب الشرعي، وإذا عرض له شئ من ذلك، تظاهر باستكبار أنه لايفهم ماذا يقول هذا؟ وربما أخفى كبرياءه في سؤال استعلائي يقول فيه: ماذا يقول هذا الشيخ؟! وكنت أظن أن مثل هذه الأساليب الاستعلائية أساليب جديدة .. حتى قرأت قوله تعالى
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا؟)

تلاحظ أن كثيراً من المتثيقفين حين تنقل لهم في أصل شرعي كبير تواطؤ أقوال أئمة الإسلام الكبار كفقهاء أصحاب رسول الله، ومفتي التابعين، وأئمة الأمصار المتبوعين، يقول لك: هؤلاء كلهم بشر، حتى لو تتابعوا على أصل معين فإنه لايلزمني، قلت له: هذا يلزم عليه أنهم كلهم ضلوا في أصل كبير من أصول الاسلام، فيقول لك: هذه لوازم لست معنياً بالتفكير فيها، ويبقى أنهم "بشر" .. ويتطور الأمر سوءاً عند بعضهم فلايقبل مروياتهم ولافقههم بحجة أنهم "بشر" .. فكنت ألاحظ كثرة تردادهم لبشرية السلف لبرهنة عدم حجية ماتتابعوا عليه نقلاً أو فقهاً .. وكنت أتوهم أن التذرع بالبشرية لرفض الانقياد للشريعة شأن جديد .. حتى قرأت قوله تعالى:  (فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا)

في منتديات وصوالين المتثيقفين تتفاجأ بكثير من العلمانيين الجذريين الذين لايعولون على حاكمية الشريعة في دقيق ولا جليل، وإذا كتبوا في منتديات الانترنت بالاسم المستعار رأيتهم علمانيين جلدين، لكنهم إذا كتبوا للناس بأسمائهم الصريحة في الصحافة أكثروا من ذكر "مع مراعاة ضوابط الشريعة" ، والاستفادة من الفكر الغربي بـ"ما لايعارض الشريعة"، ونحو هذه العبارات.
ولطالما وقفت متأملاً هذا (النفاق الفكري) .. فكنت أتعجب منهم كثيراً كيف يبيتون مالا يرضاه الله من العلمنة ورفض حاكمية الشريعة، فإذا كتبوا للناس أظهروا احترام الشريعة ومراعاتها؟! .. وكنت أظن هذه الحالة شأناً جديداً حتى قرأت قوله تعالى:
(يسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ)

وكنت حين أرى متثيقفاً من أصحاب (النفاق الفكري) الذين يسرون في صوالينهم ومنتدياتهم الانترنتية بالعلمانية ويتظاهرون في الصحافة بمراعاة ضوابط الشريعة أقول في نفسي: هل من المعقول أن يكون يخشى من حمية الناس لدينهم أكثر من خشيته وخوفه من الله رب الناس؟ فرأيت الله تعالى يقول:
(لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ)

وكثير من المفكرين العرب اليوم يقرر بكل صراحة بأن القضية الفكرية في أكثرها (لعبة لسانية) أو بمعنى آخر (مهارة لغوية) .. بمعنى أن القضية هي تبديل ألفاظ فقط.. ولذلك ترى الليبراليين عندنا يحرفون النصوص تحت شعار (إعادة القراءة) ، ويبدلون أحكام الشريعة تحت شعار (تجديد الخطاب الديني) ، ويدخلون المحرمات تحت شعار (الانفتاح) ، ويلغون الحواجز الشرعية بين الجنسين تحت شعار (المساواة) ، ويهيجون أهل البدع لنشر بدعهم تحت شعار (الحقوق الوطنية) ، وهكذا .. ثم يجمعون هذا الإفساد كله تحت شعار (حقبة الاصلاح) و (عهد الإصلاح الميمون) و (ملك الإصلاح) الخ!
فكنت أتوهم أن هذا التلاعب اللغوي شأن جديد .. حتى قرأت قوله تعالى:
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)

ورأيت طائفة من الناس ليسوا بعلمانيين ولا شهوانيين، ولكن غالب وقتهم هو التهكم وانتقاص العاملين للإسلام، فيحصون النقير والقطمير على العاملين للإسلام ويشنعون عليهم بأقل أخطائهم، ولايبصرون الأفاعي في عيون العلمانيين والشهوانيين، بل تجدهم في مجالسهم في غاية اللطف واللين معهم، فكنت أتعجب ممن يمضي عمره في الرقابة على المصلحين وهو لم يقدم شيئاً، ويتلطف للعلمانيين ومروجي الشهوات، وكنت أظن انتقاص جهود العاملين للاسلام سلوك معاصر حتى قرأت قوله تعالى:
(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ)

بل إن بعض الأخيار في أنفسهم يجادل عن العلمانيين، ويبرر لهم، ويبحث عن التسويغات لأقوالهم، بحجة طلب هدايتهم، في الوقت الذي يتشنج فيه ضد أخطاء المحتسبين .. فكنت أظن افتراق المؤمنين في الموقف من المفسدين إنما هو شأن جديد .. حتى قرأت قوله تعالى:
(فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ)

ورأيت آخرين يشاركون في العمل الإسلامي والأنشطة الدعوية، ولكنه شديد التذمر والشكاية، وإذا تأملت محل تذمره ومحل رضاه؛ اكتشفت أنه ليس مبنياً على أساس عقدي رسالي، بل هو مبني على "حظ النفس"، فإذا كان التصرف الدعوي يراعي حظوظه الشخصية رأيته متبنياًً مدافعاًً، وإذا كان التصرف الدعوي ليس له فيه حظ ولاتشريف رأيت نياحته لاتنتهي .. فكنت أظن هذا الانتماء الدعوي المشروط على أساس حظ النفس إنما هو شئ جديد .. حتى قرأت قوله تعالى:
(مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ)

وتجد بعض الناس لم يستطع أن يحسم خياراته وسط معركة العقيدة والشريعة والفضيلة هذه .. بل هو يحب أن يكسب العلمانيين ويحب أن يكسب العاملين للإسلام .. ولايحب أن يكون في أحد الكفتين.. وهو صادق في محبته لكلا الطرفين .. فكنت أتعجب من هذه الشريحة التي لم تحسم خياراتها بعد .. وأتساءل عن موقف العاملين للإسلام منها .. حتى قرأت قوله تعالى:
(سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا)

وكنت ألاحظ أن بعض الأخيار يرخي أذنه إلى هؤلاء المحرفين ويستمع لهم، لكن استماعه مع الوقت يتحول من استماع فضول إلى استماع تأثر .. فتتشوش الأمور عنده وتهتز قناعاته.. فيطوح به ذلك الاستماع إلى غيوم الفتنة .. كما قال تعالى:
(يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ)

وكثير من الأخيار يبقى يتلظى بنيران الحيرة، فلا هو استطاع أن يحسم خياراته .. ولا هو استطاع أن يوقف سيل التساؤلات .. ويصبح انتماؤه كغصن عذبته تقلبات الرياح .. فلاهو استلقى على أحد جانبيه .. ولا هو انكسر فاستراح .. ومن جرب عذابات الحيرة والشكوك والارتيابات عرف أنها أكثر ألماً من الضلال ذاته.. ولذلك قال تعالى:
(مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا)

حين رأيت هذه الأمثلة السابقة كلها ..
وغيرها كثير كثير .. لايمكن الإطالة بذكره ..
علمت بالضبط ماذا يعني أن القرآن تبيان لكل شئ..
حينها وحينها فقط .. أدركت شيئاً من أسرار قوله تعالى:
(وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) ..

أمثال مضروبة في القرآن فيها الإجابة عن كل شئ في حياتك .. من شعائرك ومعاملاتك إلى دقائق الصراعات الفكرية والسياسية ..

دع عنك المظاهر والرسوم .. ورفرف بين أمثلة القرآن .. وتأمل المعنى المشترك بين (المثل القرآني) و (الصورة المعاصرة) وستنكشف لك سجف الحقائق ..

صدق القائل سبحانه:
(وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)

من كل مثل .. من كل مثل ..






الجمعة، 30 يوليو 2021

التغيير

د.سلمان العودة - محاضرة بعنوان : التغيير 

1434/9/13 هـ



ذكر الشيخ سلمان في بداية حديثه أن فكرة التغيير هي أن بالإمكان أبدع مما كان والاعتراف بأفضل مما أنت فيه فالاطراء فيه خداع لأنه يفضي إلى الانتهاء، والتغيير مرتبط بالحياة فالحي هو الذي يتغير والذي لا يتغير هو الميت أو الجاهل، وأضاف بأن العالم يغير رأيه والجسد يتغير والعقل يتغير ومن أعظم دواعي التغيير في العقل القراءة، فينبغي التربية العقلية القراءة النافذة الا النفي والتسليم وأكد على أن الإنسان يتغير ولعل من الصحيح أن نقول بأن كل شيء يتغير إلا الله سبحانه وتعالى، والنقص والخطأ من جبلة الناس فأفعال الناس تجاهنا ليست هي التي تؤثر فينا بقدر ما يؤثر فينا شعورنا نحو الآخرين، بعد ذلك تحدث الشيخ سلمان عن مسؤولية الفرد والأسرة والجماعة عن التغيير وأكد على أن تخلف المسلمين التقني والعلمي لا يغير إلا الاعتراف بالخطأ وعدم تعليق الأخطاء على الأعداء وهذه مشكلة إذا لم نتجاوزها فلا تغيير. وتناول الشيخ سلمان مثال الإساءة للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وذكر بأن سببها الشهادة السيئة التي نقدمها للعالم عن ديننا وأكد على أن التغيير واقع لا محالة فإما أن تكون ايجابياً أو سلبياً فلابد من الوعي من أجل تغيير ايجابي رشيد.

بعد ذلك تحدث الشيخ سلمان عن الثوابت والضروريات وأوضح بأن التغيير في الثوابت ليس تغييراً وإنما ذوبان سلبي وإنما التمسك بهذه الثوابت والضروريات عن طريق التغيير في احياء الروح الإيمانية من جديد فحينما نتحدث عن التغيير أن يكون هناك مرونة كافية في مجال المتطلبات وثبات في مجال الثوابت العلمية والعملية والأخلاقية.

وأضاف بأن جتمعنا بحاجة إلى تغيير وليس إلى انحدار أخلاقي أو اندماج في ثقافة الآخر والامتناع أو السكون والخوف وإنما تغيير نحو القدرة على استيعاب الأشياء الجديدة واغتنام الفرص ومدافعة الشر، فنحن لا نقدر أن نغير جميع الأشياء إلى ما نحب والذكاء في الصبر إلى ما يمكن تجاوزه.

واختتم الدكتور سلمان العودة حديثه بقوله: إن الإسلام أسرع الحركات تغييرا والذين حاربوا الإسلام هم الرافضون للتغيير وقفل باب الاجتهاد خطأ تاريخي فالإسلام جاء ليعزز العقل والعقل الصحيح لا يخطئ وإنما الذي يخطئ هو الهوى، وحث الشيخ سلمان على تغيير الخطاب الدعوي ودعا إلى حوار موضوعي جاد وشفاف.

فوق السلطة 244 – قيس بن سعيد ملك متوج فوق كل السلطات

 

برنامج: فوق السلطة

 قيس بن سعيد ملك متوج فوق كل السلطات



"قيس العابدين" يأكل الدستور على طبق إماراتي

تناولت حلقة (2021/7/30) من برنامج “فوق السلطة” المواضيع التالية: “هل أكل قيس سعيد دستور تونس؟ ومن قدمه له؟ قيس العابدين بن سعيد ملك متوج فوق كل السلطات.

كما تناولت: رئيس البرلمان التونسي يتهم الإمارات برعاية الانقلاب. عكاظ السعودية: تونس تطهرت من رجس الإخوان. ملك الأردن: للخارج يد في الفتنة، وتعاملنا معها كشأن محلي.

ففي صيف العام 2021 أصبح قيس العابدين بن سعيد حاكما مطلقا للجمهورية التونسية ومجلس النواب والحكومة والقضاء والجيش والقوات الأمنية والهلال الأحمر والكشافة، وذلك بعد أن جمد عمل مجلس النواب ورفع الحصانة عن كل نوابه وأقال الحكومة.

ويقول سعيد إنه استشار كلا من رئيس البرلمان راشد الغنوشي ورئيس الحكومة هشام المشيشي قبل اتخاذ القرارات، لكن الغنوشي رد في بيان رسمي بأن هذا ادعاء كاذب، ونفى وجود مشاورات، واعتبر ما حدث انقلابا.

كما أن الرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي وصف ما حدث بالانقلاب، وحذر من استمرار السير في المخطط ذاته، متهما الرئيس قيس سعيد بالحنث باليمين الذي أقسم عليه، كما أنه بتركيزه كل السلطات في يده يتحول إلى دكتاتور.

في المقابل، اتهم سعيد من يتحدث عن انقلاب بأنه لم يقرأ الدستور جيدا، وعليه أن يعود للصف الأول من التعليم الأساسي.

في المقابل، رحب الإعلام الإماراتي بخطوة الرئيس التونسي، ونقل صورا حية من الشارع لما قال إنها احتفالات التونسيين بقرارات الرئيس، لكن رئيس مجلس النواب خرج عن صمته وتحداهم بأن يأتوا بصورة عامة لهذه المظاهرات المحدودة حسب قوله، كما اتهم الإمارات بدعم الانقلاب.

كما اعتبر الإعلام المصري أن ما حدث في تونس كان نسخة مشابهة لما حصل في مصر عام 2013، واحتفى الإعلام ذاته بتهديدات الرئيس التونسي باستخدام العنف ضد من يحاول إثارة الشغب في الشارع.

تونس.. على خطى السلطويات العربية

 تونس.. على خطى السلطويات العربية

خليل العناني

يوم 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2012 أصدر الرئيس المصري الراحل محمد مرسي إعلاناً دستوريا يحصّن قراراته من الطعن أمام القضاء مما أدى إلى رفض وغضب القوى السياسية التي اتهمت مرسي بالسعي لإقامة حكم سلطوي ومستبد. وقد مهد هذا الإعلان الدستوري الطريق لاحقاً للإطاحة بالرئيس وإنهاء التجربة الديمقراطية الناشئة في مصر بعد انقلاب 3 يوليو/تموز 2013.

شيء أسوأ من ذلك بكثير حدث في تونس يوم 25 من الشهر الجاري وذلك حين قام الرئيس قيس سعيّد بتعليق البرلمان المنتخب ورفع الحصانة عن النواب، وإقالة الحكومة، وتعيين نفسه كنائب عام، وتهديد كل من يخالف هذه الإجراءات بالعقاب. وفي اليوم التالي تم فرض حظر التجوال، والاعتداء على الإعلام مثلما حدث مع مكتب قناة الجزيرة.

من الصعب عدم وصف ما فعله سعيّد منذ ٢٥ يوليو/تموز وحتى الآن بشيء آخر، غير أنه انقلاب على التجربة الديمقراطية الوليدة، وانقلاب على الدستور الذي تم استفتاء الشعب عليه في يناير/كانون الأول 2014. وقد استغل سعيّد تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية من أجل ترسيخ وضع جديد تكون الكلمة العليا فيه للرئاسة وليس للبرلمان والحكومة.

منذ ذلك الوقت انقسمت الآراء بين من يعتبرون أن ما قام به سعيد هو تصحيح مسار للثورة التي قامت قبل 10 سنوات ومحاولة إخراج البلاد من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الطاحنة التي تمر بها، ومن يعتبره انقلاباً دستورياً على الثورة حيث منح صلاحيات غير عادية للرئيس.

حقيقة الأمر، فإنه من الصعب اعتبار ما قام به سعيّد تصحيحاً لمسار الثورة وذلك لعدة أسباب. أولاً أنه قام بالانقضاض على أهم مكاسب الثورة وهو تمثيل إرادة الناس من خلال مؤسسات منتخبة كالبرلمان والحكومة. فالبرلمان الذي تم إيقافه جاءت من خلال انتخابات حرة ونزيهة عام 2019 شارك بها ما يقرب من 41.3% من الناخبين. وثانيها، أنه لا يمكن تصحيح مسار الثورة عبر إعطاء الرئيس لنفسه صلاحيات واسعة تجعله المتحكم في المشهد السياسي في ظل غياب البرلمان وعدم وجود المحكمة الدستورية. وبالتالي فلا يوجد رقيب أو حسيب على قرارات وأفعال سعيد. وثالثها، وهو الأهم فإن الخطوات التي اتخذها سعيد تتناقض مع الدستور. فعلى الرغم من أنه برر إجراءاته الأحادية وفقاً للمادة 80 من الدستور والتي تستدعي اتخاذ إجراءات استثنائية في حالة وجود خطر داهم يهدد كيان البلاد وأمنها واستقلالها، إلا أنها تنص أيضا على أن يظل البرلمان في حالة انعقاد دائم طيلة هذه الفترة. كما أنه يجب استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب بها. وهو ما لم يحدث حيث قام سعيد بتعليق عمل البرلمان في انتهاك صارخ للدستور.

وأخيراً، فإن أي ادعاء بدعم الثورة لا يكون من خلال تقويض الحياة الديمقراطية، ولكن عبر مزيد من الإجراءات الديمقراطية التي تضمن عدم تغول أي من السلطات على الأخرى، وألا يتم التعدي على إرادة المواطنين مهما كانت الأسباب. صحيح أن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في تونس وصلت إلى مستويات غير مسبوقة من التدهور خاصة مع تداعيات كوفيد-19 وارتفاع عدد الضحايا من المصابين والوفيات، ولكن هذا لا يكون بتقويض مؤسسات الدولة بل دعمها وتقويتها لمواجهة هذه الأزمة.

من الصعب عدم وصف ما فعله سعيّد منذ ٢٥ يوليو/تموز وحتى الآن بشيء آخر، غير أنه انقلاب على التجربة الديمقراطية الوليدة، وانقلاب على الدستور الذي تم استفتاء الشعب عليه في يناير/كانون الأول 2014. وقد استغل سعيّد تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية من أجل ترسيخ وضع جديد تكون الكلمة العليا فيه للرئاسة وليس للبرلمان والحكومة.

وقد تمت صناعة الانقلاب على مدار شهور عديدة سواء من خلال الصدام المستمر بين سعيّد من جهة، والبرلمان والحكومة من جهة أخرى، أو من خلال تعطيله للقرارات والتشريعات التي حاول البرلمان تمريرها ورفضها سعيّد مثل قانون تشكيل المحكمة الدستورية. وقد كشفت ميدل إيست آي" في مايو/أيار الماضي عن وثيقة مسربة أن الرئيس يخطط لعمل انقلاب دستوري لصالح مؤسسة الرئاسة واعتقال عدد من خصومه السياسيين خاصة حركة النهضة. وقد حدث بالفعل ما جاء في تلك الوثيقة بعد شهرين من تسريبها.

يسعى سعيّد بشكل دؤوب لتغيير موازين القوى في تونس، وإعادة تعريف قواعد اللعبة السياسية بحيث تكون اليد العليا له وليس لأية مؤسسات أخرى. فمنذ أن جاء للسلطة لم يبد ارتياحاً لطبيعة النظام السياسي الذي يوزع السلطات بين الرئاسة والبرلمان والحكومة.

ولذلك فقد عطّل تشكيل حكومتي كل من إلياس الفخفاخ وهشام المشيشي أكثر من مرة. كما أنه عبّر في أكثر من مناسبة عن امتعاضه و"قرفه" الشديد من الطبقة السياسية، وكان يتمنى التخلص منها بأي طريقة باعتباره العقبة في سبيل تحقيق برنامجه الإصلاحي.

من يتابع الخطاب والسلوك السياسي لسعيد منذ أن جاء للسلطة في أكتوبر/تشرين الأول 2019 يكتشف أنه مشروع سلطوي جديد في المنطقة، وأنه يسير على خطى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي قاد انقلاب 3 يوليو/تموز الذي أجهض التجربة الديمقراطية في مصر وارتكب انتهاكات مروعة لحقوق الإنسان.

وربما ليس مفاجئا زيارة سعيد للقاهرة ولقاء السيسي في أبريل/نيسان الماضي حيث أجريا محادثات منفردة لا يعلم أحد ماذا دار خلالها. بل الأكثر من ذلك، فتبدو بصمات الإمارات واضحة على انقلاب سعيد سواء من حيث الشكل أو المضمون. فعلى مدار السنوات الأخيرة موّلت الإمارات حملات الدعاية السلبية ضد الثورة التونسية، وساعدت بعض السياسيين الفاسدين المحسوبين على نظام بن علي مثل النائبة عبير موسي من أجل تخريب العملية السياسية خاصة في البرلمان وتعطيل عمله كي يبدو عاجزاً أمام الجماهير. فإسقاط الإسلاميين في الشرق الأوسط هدف أساسي وإستراتيجي لولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد الذي ينفق المليارات من أجل دعم الأنظمة السلطوية العربية. وتحاول الإمارات استنساخ تجربة "الحاكم السلطوي القوي" في تونس كما فعلت من قبل، ولا تزال، مع السيسي في مصر، وحفتر في ليبيا.

يقرأ سعيّد من نفس كتاب الاستبداد والانقلابات، ويستخدم نفس اللغة والتكتيكات التي استخدمها السيسي للوصول إلى السلطة وأهمها الخطاب الشعبوي وتضخيم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية من أجل تبرير إجراءاته الاستثنائية، الاستثمار في الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، تشويه الخصوم الأيديولوجيين خاصة الإسلاميين، تقوية مؤسسة الرئاسة، الاعتماد على المؤسسات الأمنية والاستخباراتية خاصة الجيش، التهديد باستخدام القوة والسلاح مع المخالفين، التحالف مع قوى الثورة المضادة كالإمارات والسعودية، إلخ.

وبالرغم من الاختلافات بين الحالتين المصرية والتونسية، إلا أن الهدف واحد وهو: ترسيخ صورة الحاكم القوي الذي يمكن أن يحكم منفرداً دون الحاجة لأية مؤسسات أخرى. وربما يجب التذكير بأن تاريخ تونس في الانقلابات والحكم الفردي السلطوي أكبر بكثير من تاريخها في الحكم الديمقراطي. فقد حكم الحبيب بورقيبة البلاد منذ منتصف الخمسينيات وحتى أواخر الثمانينيات من خلال حكم سلطوي قمعي. وعام 1987 قام الرئيس السابق زين العابدين بن علي بالانقلاب على الرئيس الذي كان مريضا في ذلك الوقت، وتولي السلطة وأسس واحداً من أكثر الأنظمة القمعية والسلطوية في المنطقة العربية حتى تم إسقاطه في ثورة الياسمين عام 2011.

لذا، فلِمَ الاستغراب من أن يقوم سعيّد بالعودة لنفس المسار القديم وإنشاء حكم سلطوي جديد بنكهة شعبوية؟!

المصدر: موقع "ميدل ايست آي

فقه النّبيِّ صلى الله عليه وسلم في التّعامل مع السٌنن

فقه النّبيِّ صلى الله عليه وسلم  في التّعامل مع السٌنن




د.علي الصلابي
إنَّ بناء الدُّول، وتربية الأمم، والنُّهوض بها يخضع لقوانين، وسنن، ونواميس، تتحكَّم في مسيرة الأفراد والشُّعوب، والأمم والدُّول، وعند التأمُّل في سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم نراه قد تعامل مع السُّنن، والقوانين بحكمةٍ، وقدرةٍ فائقةٍ.

إنَّ السُّنن الرَّبَّانيَّة، هي أحكام الله تعالى الثَّابتة في الكون على الإنسان في كلِّ زمانٍ، ومكانٍ، وهي كثيرةٌ جدّاً، والَّذي يهمُّنا منها في هذا الكتاب هو ما يتعلَّق بحركة النُّهوض تعلُّقاً وثيقاً.
«ولقد شاء الله ربُّ العالمين أن يجري أمر هذا الدِّين، بل أمر هذا الكون على السُّنن الجارية، لا على السُّنن الخارقة، وذلك حتَّى لا يأتي جيلٌ من أجيال المسلمين، فيتقاعس، ويقول: لقد نُصِر الأوَّلون بالخوارق، ولم تَعُد الخوارق تنزل بعد ختم الرِّسالة، وانقطاع النُّبوَّات».

إنَّ المتدبِّر لآيات القرآن الكريم يجدها حافلةً بالحديث عن سُنن الله تعالى؛ الَّتي لا تتبدَّل، ولا تتغيَّر، ويجد عنايةً ملحوظةً بإبراز تلك السُّنن، وتوجيه النَّظر إليها، واستخراج العبرة منها، والعمل بمقتضياتها لتكوين المجتمع المسلم المستقيم على أمر الله.والقرآن الكريم حينما يوجِّه أنظار المسلمين إلى سُنن الله تعالى في الأرض، فهو بذلك يردُّهم إلى الأصول الَّتي تجري وفقها، فهم ليسوا بدعاً في الحياة؛ فالنَّواميس الَّتي تحكم الكون، والشعوب، والأمم، والدُّول، والأفراد جاريةٌ لا تتخلَّف، والأمور لا تمضي جزافاً، والحياة لا تجري في الأرض عبثاً؛ وإنَّما تتبع هذه النواميس، فإذا درس المسلمون هذه السُّنن، وأدركوا مغازيها؛ تكشَّفت لهم الحكمة من وراء الأحداث، وتبيَّنت لهم الأهداف من وراء الوقائع، واطمأنُّوا إلى ثبات النِّظام الَّذي تتبعه الأحداث، أو إلى وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النِّظام، واستشرفوا خطَّ السَّير على ضوء ما كان في ماضي الطَّريق، ولم يعتمدوا على مجرَّد كونهم مسلمين؛ لينالوا النَّصر، والتَّمكين بدون الأخذ بالأسباب المؤدِّية إليه.

«والسُّنن الَّتي تحكم الحياة واحدةٌ؛ فما وقع منها من زمانٍ مضى سيقع في كلِّ زمان».



وهذه السُّنن هي الَّتي يُجْرِي الله - تعالى - عليها فَلَكَ الحياة، ويُسيِّرُ عليها حركَتَها، فليس هناك شيءٌ واحدٌ في حياة البشر يحدُث اعتباطاً، وإنَّما يجري كلُّ شيءٍ في هذه الحياة حسب سُنن اللهِ تعالى؛ الَّتي لا تتبدَّل، ولا تتخلَّف، ولا تحابي أحداً من الخلق، ولا تستجيب لأهواء البشر.

والمسلمون أولى أن يدركوا سنن ربِّهم المبرزة لهم في كتاب الله، وفي سنة رسول صلى الله عليه وسلم ، حتَّى يصلوا إلى ما يرجون من عزَّةٍ وتمكينٍ؛ «فإنَّ التَّمكين لا يأتي عفواً، ولا ينزل اعتباطاً، ولا يخبط خَبْطَ عشواء، بل إنَّ له قوانينه الَّتي سجَّلها الله تعالى في كتابه الكريم؛ ليعرفها عباده المؤمنون، ويتعاملوا معها على بصيرة».

إنَّ أوَّل شروط التعامل المنهجيِّ السليم مع السُّنن الإلهيَّة، والقوانين الكونيَّة في الأفراد، والمجتمعات، والأمم، هو أن نفهم، بل نفقه فقهاً شاملاً رشيداً هذه السُّنن، وكيف تعمل ضمن النَّاموس الإلهيِّ، أو ما نعبر عنه بـ «فقه السُّنن»، ونستنبط منها على ضوء فقهنا لها القوانين الاجتماعيَّة، والمعادلات الحضاريَّة.

يقول الأستاذ البنا - رحمه الله - في منهجيَّة التَّعامل مع السُّنن: «لا تصادموا نواميس الكون؛ فإنَّها غلابة، ولكن غالبوها، واستخدموها، وحوِّلوا تيَّارها، واستعينوا ببعضها على بعضٍ، وترقَّبوا ساعة النَّصر، وما هي منكم ببعيد».

ونلاحظ في هذا الكلام عدَّة أمورٍ مهمَّةٍ:

1 - عدم المصادمة.

2 - المغالبة.

3ـ الاستخدام.

4 - التَّحويل.

5 - الاستعانة ببعضها على بعضٍ.

6 - ترقُّب ساعة النَّصر.



إنَّ ما وصل إليه الأستاذ البنَّا يدلُّ على دراسته العميقة للسِّيرة النَّبويَّة، والتَّاريخ الإسلاميِّ، وتجارب الشُّعوب، والأمم، ومعرفةٍ صحيحةٍ للواقع الَّذي يعيشه، وتوصيفٍ سليمٍ للدَّاء، والدَّواء.

إنَّ حركة الإسلام الأولى؛ الَّتي قادها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في تنظيم جهود الدَّعوة، وإقامة الدَّولة، وصناعة الإنسان النموذجيِّ الرَّبانيِّ الحضاريِّ خضعت لسنن، وقوانين قد ذكر بعضها بنوعٍ من الإيجاز؛ كأهمِّيَّة القيادة في صناعة الحضارات، وأهمِّيَّة الجماعة المؤمنة المنظَّمة في مقاومة الباطل، وأهمِّية المنهج الَّذي تستمدُّ منه العقائد، والأخلاق، والعبادات، والقيم، والتَّصوُّرات. ومن سنن الله الواضحة فيما ذكر سنَّة التَّدرُّج، وهي من سنن الله تعالى في خلقه، وكونه، وهي من السُّنن المهمَّة الَّتي يجب على الأمَّة أن تراعيها، وهي تعمل للنُّهوض، والتَّمكين لدين الله عزَّ وجلَّ.

ومنطلق هذه السُّنَّة: أنَّ الطَّريق طويلٌ - لا سيَّما في هذا العصر الَّذي سيطرت فيه الجاهليَّة، وأخذت أُهْبَتَها، واستعدادها - كما أنَّ الشرَّ، والفساد قد تَجَذَّر في الشُّعوب، واستئصاله يحتاج إلى تدرُّج.

بدأت الدَّعوة الإسلاميَّة الأولى متدرجةً، تسير بالنَّاس سيراً دقيقاً، حيث بدأت بمرحلة الاصطفاء، والتَّأسيس، ثمَّ مرحلة المواجهة والمقاومة، ثمَّ مرحلة النَّصر والتَّمكين، وما كان يمكن أن تبدأ هذه جميعها في وقتٍ واحدٍ، وإلا كانت المشقَّة، والعجز، وما كان يمكن كذلك أن تقدم واحدةٌ منها على الأخرى، وإلا كان الخلل، والإرباك.

إنَّ اعتبار هذه السُّنَّة في غاية الأهمِّيَّة؛ «ذلك أنَّ بعض العاملين في حقل الدَّعوة الإسلاميَّة يحسبون أنَّ التَّمكين يمكن أن يتحقَّق بين عشيةٍ وضحاها، ويريدون أن يغيِّروا الواقع الَّذي تحياه الأمَّة الإسلاميَّة في طرفة عينٍ، دون النَّظر في العواقب، ودون فهمٍ للظُّروف، والملابسات المحيطة بهذا الواقع، ودون إعدادٍ جيِّدٍ للمقدِّمات، أو للأساليب، والوسائل»، وقد وجَّهالله تعالى أنظارنا إلى هذه السُّنَّة في أكثر من موقع، فالله - تعالى - خلق السَّموات والأرض في ستَّة أيام، يعلمها سبحانه، ويعلم مقدارها، وكان - جلَّ شأنُه - قادراً على خلقها في أقلَّ مِنْ لمح البصر، وكذلك بالنسبة لأطوار خلق الإنسان، والحيوان، والنَّبات، كلُّها تتدرَّج في مراحل حتَّى تبلغ نماءها، وكمالها، ونضجها، وَفْقَ سنَّة الله - تعالى - الحكيمة.
وسنَّة التَّدرُّج مقررةٌ في التَّشريع الإسلاميِّ بصورةٍ واضحةٍ ملموسةٍ، وهذا من تيسير الإسلام على البشر؛ حيث إنَّه راعى معهم سنَّة التَّدرُّج فيما شرعه لهم إيجاباً، وتحريماً، فنجده حين فرض الفرائض؛ كالصَّلاة، والصِّيام، والزَّكاة فرضها على مراحل، ودرجاتٍ؛ حتَّى انتهت إلى الصُّورة الأخيرة الَّتي استقرَّت عليها.

«ولعلَّ رعاية الإسلام للتدرُّج هي الَّتي جعلته لا يُقدم على إلغاء نظام الرِّقِّ الذي كان نظاماً سائداً في العالم كلِّه عند ظهور الإسلام، وكانت محاولة إلغائه تؤدِّي إلى زلزلةٍ في الحياة الاجتماعيَّة، والاقتصاديَّة، فكانت الحكمة في تضييق روافده؛ بل ردمها كلِّها ما وجد إلى ذلك سبيلاً، وتوسيع مصارفه إلى أقصى حدٍّ، فيكون ذلك بمثابة إلغاء الرِّق بطريق التَّدرُّج».

«إننا إذا درسنا القرآن الكريم، والسُّنَّة المطهَّرة، دراسةً عميقةً؛ علمنا كيف؛ وبأيِّ تدرُّج، وانسجامٍ تمَّ التَّغيير الإسلاميُّ في بلاد العرب، ومنها إلى العالم كلِّه على يد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم .. فلقد كانت الأمور تسير رويداً رويداً حسب مجراها الطبيعيِّ؛ حتَّى تستقرَّ في مستقرِّها الَّذي أراده الله ربُّ العالمين».

«وهذه السُّنَّة الرَّبَّانيَّة في رعاية التَّدرُّج ينبغي أن تُتَّبع في سياسة النَّاس، وعندما يُراد تطبيق الإسلام في الحياة، واستئناف حياةٍ إسلاميَّةٍ متكاملةٍ؛ يكون التَّمكين ثمرتها، فإذا أردنا أن نقيم مجتمعاً إسلامياً حقيقيّاً؛ فلا نتوهَّم: أنَّ ذلك يمكن أن يتحقَّق بقرارٍ يصدر من رئيسٍ، أو ملكٍ، أو من مجلسٍ قياديٍّ، أو برلمانيٍّ، وإنَّما يتحقَّق ذلك بطريق التَّدرُّج؛ أي: بالإعداد، والتَّهيئة الفكريَّة، والنَّفسيَّة، والاجتماعيَّة.

وذلك هو المنهج الَّذي سلطه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لتغيير الحياة الجاهليَّة إلى الحياة الإسلاميَّة، فقد ظلَّ ثلاثة عشر عاماً في مكَّة، كانت مهمَّته الأساسية فيها تنحصر في تربية الجيل المؤمن، الذي يستطيع أن يحمل عبء الدَّعوة، وتكاليف الجهاد؛ لحمايتها، ونشرها في الآفاق، ولهذا لم تكن المرحلة المكِّيَّة مرحلة تشريعٍ بقدر ما كانت مرحلة تربيةٍ، وتكوينٍ».

مراجع البحث:

علي محمد الصلابي، السيرة النبوية: عرض وقائع وتحليل أحداث، ص 136-132

يوسف القرضاويي، الخصائص العامَّة للإسلام ، ص 166.

محمد السيد، التَّمكين للأمَّة الإسلاميَّة ، ص 208.

يوسف القرضاوي، جيل النَّصر المنشود ، ص 15.

محمد قطب،واقعنا المعاصر ، ص 414.

سيد قطب، في ظلال القران (1/478).


الخميس، 29 يوليو 2021

أخطر أوهام العرب

 أخطر أوهام العرب

منصف المرزوقي


عندما أعلن الرئيس قيس سعيّد الاستيلاء على السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية وتجميد البرلمان؛ كان أهمّ شيء بالنسبة لي ردّ فعل الناس.

لم أستغرب الفرحة العارمة التي شهدتها شوارع البلاد لأنني كنت أعرف عمق كره الشارع للطبقة السياسية المتصارعة داخل معرّة البرلمانات.

إن هذه الجماهير التي نزلت للشارع تعبّر عن دعمها للانقلاب بعفويتها وبساطتها وتلقائيتها وحقها المشروع في الاحتجاج على الكابوس الذي تعيشه وحقها في الأمل بغد أفضل، وهي نفس الجماهير المخدوعة التي نزلت في كل المناسبات التاريخية من المحيط إلى الخليج لترحّب بحسني الزعيم وأديب الشيشكلي وعبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف وصدام حسين وعمر البشير وعلي عبد الله صالح ومعمر القذافي وعبد الفتاح السيسي ومحمد ولد عبد العزيز وغيرهم.

ولم أستغرب أيضا عمق الحقد المرضي التي نضحت بها وسائل التواصل الاجتماعي ضد حركة النهضة؛ الضحية الأولى للانقلاب. فقد استطاع " التكتيك" السياسي الذي أصبح علامة مسجلة لهذا الحزب أن يضيف لكره الاستئصاليين -للأسباب المعروفة- ضغينة الثوريين، وقد أصبحت النهضة العجلة الخامسة للثورة المضادة والحليف الثابت والشريك الحريص لأحزاب الفساد التي تتالت على الساحة السياسية، "نداء تونس" و" تحيا تونس" و"قلب تونس"، وكان من الأجدر أن تسمى "فساد تونس 1 و2 و3″.

ولتفسير هذه الفرحة؛ قال بعض الديمقراطيين إنها فرحة أنصار النظام القديم، وقال آخرون إنها شماتة في المنظومة الحاكمة ككل لا ترحيبا بالانقلاب.

لقد كانت فرحة وراءها أسباب عديدة ومجموعات متنافرة لم تلتق تلك الليلة إلا على موقف واحد؛ وهو الترحيب بنهاية برلمان مكروه وحكومة مهترئة، ولا يهمّ الآلية ولا المآل.

وربما غفل الديمقراطيون عن أخطر الأسباب أو ربما رفض عقلهم الباطني التوغل عميقا في تفسير الظاهرة.

إن هذه الجماهير التي نزلت للشارع تعبّر عن دعمها للانقلاب بعفويتها وبساطتها وتلقائيتها وحقها المشروع في الاحتجاج على الكابوس الذي تعيشه وحقها في الأمل بغد أفضل، وهي نفس الجماهير المخدوعة التي نزلت في كل المناسبات التاريخية من المحيط إلى الخليج لترحّب بحسني الزعيم وأديب الشيشكلي وعبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف وصدام حسين وعمر البشير وعلي عبد الله صالح ومعمر القذافي وعبد الفتاح السيسي ومحمد ولد عبد العزيز وغيرهم.

وعندما تحلّل هذا المشهد المتكرّر على مرّ تاريخنا الحديث تكتشف أن وراءه كل الأسباب الموضوعية من تفقير وظلم وتجهيل واحتقار واستغلال، لكن لو تتفحص عن قرب آمال هذه الجماهير التي سلبتها أقليات فاسدة وعنيفة -على مرّ التاريخ- كرامتَها وبقية حقوقها لاكتشفت تجدد وهْم حضور الحلّ النهائي لكل مشاكلها وهو في ذهن الأغلبية ليس منظومة ومؤسسات وقوانين؛ وإنما شخص طال انتظاره أخيرا جادت به الأقدار الرحيمة اسمه "المستبدّ العادل".

قلّ من ينتبه أن "المستبد العادل" هرطقة لغوية من نوع النار الباردة والثلج الساخن، فكما لا يكون الذكر أنثى لا يمكن للمستبد أن يكون عادلا. أليس الاستئثار بكل السلطة هو الظلم بعينه وهو يَحرم من نصيبهم منها -وما يتبعها من اعتبار وثراء- عددا هائلا من البشر؟ كيف يكون العادل مستبدا وهو بممارسته للاستبداد لا يستطيع إلا أن يكون عنيفا وظالما؟

ومع هذا، لنفهم تغلغل المفهوم في العقل الجماعي وقوة تأثيره إلى اليوم يجب التذكر أنه مقرون في تاريخنا بعمر بن الخطاب؛ مثلنا الأعلى في الحكم الرشيد، والمشكلة أن الجمع بين المستبدّ العادل والفاروق خطأ جسيم.

وإن الخاصية الأساسية للمستبدّ أن قراءته للقانون هي القانون وأحيانا لا حاجة له لأي قانون؛ إذ إرادته -حتى لا نقول أهواءه وشطحاته- هي كل القانون.

لكن عمر بن الخطاب لم يحكم أبدا بأهوائه ولم يضع إرادته فوق إرادة المسلمين وخاصة فوق ما يأمر به النصّ المقدّس.

إن ابن الخطاب أخضع نفسه لحق الآخرين في تقويمه بحدّ السيف إن أخطأ، وأخضع كل تصرفاته لأحكام دستور ذلك العصر، أي القرآن الكريم، ومن ثم لا مجال لوصفه بالمستبد في خلط واضح بين الحزم والعزيمة وبين الاستبداد، وبين قوة الشرعية وشرعية القوة.

من أين جاءنا إذن المفهوم المسموم؟

إن كانت جذوره عند عامة الناس سوء فهم داخل تاريخ مخيّل فإن جذوره عند المثقفين العرب هو الفكر التنويري الغربي للقرن الـ18.

وقد يكون محمد عبده (1848-1905) أول من أشاع مفهوما مترجما من اللغة الفرنسية (Le despote éclairé)، والترجمة الدقيقة له هي "الطاغية المستنير". وهذا المفهوم ندين به لكاتبين فرنسيين هما "فولتير" (Voltaire) (1778-1694) و"دالنبار" (D’Alembert) (1783-1717).

ولا يجب أن ننسى أن أوروبا عاشت لقرون عديدة تحت وطأة استبداد متجسد في الملكية المطلقة. هكذا خرجت -في أوجه المواجهة معها من أدمغة مفكرين إصلاحيين- هذه الخرافة عن الطاغية المستنير وفيها قبول ضمني بأن تحافظ الملكية المطلقة على صلاحياتها، لكن المطلوب منها أن تتفضل على الشعب المسكين بشيء من حسن السيرة وفتات من العدل.

وجاءت الثورات الأوروبية والأميركية متجاوزة هذه الإستراتيجية الجبانة والفاشلة لتفرض إلغاء الاستبداد لا تلطيفه، وذلك بخلق الأنظمة الديمقراطية. وجرّب أن تقول لغربي اليوم إن تجاوز أزمة الديمقراطية في الغرب -وهي أزمة عميقة ومتفاقمة- بالعودة للطاغية المستنير، وسينفجر ضاحكا في وجهك.

لكن أغلب شعوبنا -أمام خيبات الأمل بالديمقراطية في لبنان والعراق وتونس- على أهبة الاستعداد للقبول بالعودة لخرافة المستبدّ العادل، والدليل كثرة المتحسرين على عهود الاستبداد التي كانت تضمن على الأقل الاستقرار ولو في ظل الفساد والاستعباد.

ولا يطول الزمان بكل المخدوعين ليكتشفوا ما أثبتته -على الدوام- تجارب تاريخنا القديم والمعاصر أن "المنقذ" بعد تمكنه يزداد كل يوم استبدادا وينقص عدله المأمول لينتهي طاغية فاسدا مجرما يكلف شعبه ما كلفه الطاغية الذي سبقه والذي سيخلفه، والجماهير دوما على استعداد للتهليل لكل ممثل جديد يبرز من المجهول للعب دور جمع كل الكوميديا وكل التراجيديا.

هل ثمة أمل ليتوقف المسلسل يوما؟

لقد نسي الغرب مفهوم الطاغية المستنير، وانتقل المجتمع إلى دولة القانون والمؤسسات، ولم يكن ذلك بسبب تغيّر نوعية الإنسان الغربي الذي ارتقى ثقافيا للمستوى الذي لم يصله بعد الإنسان العربي. وإن انتقال الغرب من الحضارة الزراعية إلى الحضارة الصناعية -بجانب نضال المجتمعات وثوراتها العديدة- هو الذي مكن الديمقراطية من الظهور والبقاء.

ومعنى هذا أن الديمقراطيات التي نبنيها ما زالت هشة، لأن القاعدة الاقتصادية والاجتماعية التي نبني عليها مؤسساتنا العصرية لا زالت قاعدة نظام الحضارة الزراعية بفهمها المتخلف للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، وهي علاقة الراعي والرعية، وكل المطلوب من الراعي ألا يسرف على غنمه وألا يتمرد القطيع على وليّ الأمر.

ومن حسن الحظّ أن التطور المتسارع لمجتمعاتنا والطفرة التكنولوجية المعاصرة تجعل هذه المجتمعات تنخرط هي الأخرى في طريق يدير الظهر لوهم المستبد العادل حتى وإن كان لا يزال طاغيا عند أفقر قطاعات الشعب وأقلها وعيا وأكثرها عرضة للتجهيل والتضليل.

وهذا يعني أن كل هؤلاء الطامحين للدور الأزلي يسبحون ضدّ تيار تاريخي عاتٍ، وأنهم سيتعبون وسيغرقون قبل أن يتعب التيار ويسير في الاتجاه المعاكس الذي يريدونه للتاريخ.

إن مهمة الأجيال الجديدة التي ذاقت طعم الحرية أن تتصدى بكل قوة لهؤلاء المتخلفين الخطيرين حتى ننتقل نحن العرب أيضا من شعوب رعايا إلى شعوب مواطنين ومن دول مستبدة تملك شعوبا مستعبدة إلى شعوب حرة تملك دول مؤسسات وقانون. 

ويومها ستقول هذه الأجيال لا، لقد انتهينا من "لعنة" إيليا أبو ماضي:

نرجو الخلاص بغاشم من غاشم 

                         لا ينقذ النخاس من نخاس

ولا بدّ لليل أن ينجلي.