الثلاثاء، 31 يناير 2023

ضريبة الأستاذية (2) حوارات الدين والطب و السياسة

ضريبة الأستاذية (2)

حوارات الدين والطب و السياسة


دكتور محمد الجوادي

حين أصبح أستاذي عضوًا في هيئة التدريس التزم بالاشتراك في دورية علمية كانت في الوقت الذي عين فيه في الجامعة (1972م) كافية لاطلاعه على الاتجاهات الحديثة في العلم والبحث العلمي، والطب والعلاج الطبي، والتقدم الهندسي والتكنولوجيا في مجالات الأجهزة الطبية المساعدة على التشخيص والعلاج، ولم يكن للأجهزة في ذلك الوقت دور كبير في العلاج على نحو ما أصبح لها فيما بعد.

وكان أستاذي حريصًا على الاحتفاظ بأعداد هذه المجلة الدولية في عيادته، ثم إنه وجد بعدما كثرت أعدادها وتعددت الموضوعات المهمة في هذه الأعداد أن الأولى به أن يحتفظ بها في الدولاب الرئيسي في مكتبه في القسم، وفيما بعد فإن القسم توسع توسعات كثيرة، وأصبحت المكتبة التي في حجرة الأستاذ غير قادرة على الاحتفاظ بكثير من الأوراق الإدارية والعلمية في الوقت نفسه، ومن ثم فإن أستاذي سألني الرأي بطريقة موحية، وهكذا كلفني بأن أحصر هذه الأعداد وأسجلها في قوائم، وأن أطلب إلى العميد قبولها كهدية في مكتبة الكلية، وقد تفضل العميد فأشر على هذا الطلب بالعرض على لجنة المكتبات، وكان يرأسها رئيس قسم الأطفال في ذلك الوقت، وقد وافقت اللجنة على قبول أعداد متفرقة من مجلات متعددة كانت مكتبة أستاذي تحتويها، وقد بلغ عدد هذه الأعداد قرابة مائة وخمسين عددا، ولازلت أحتفظ في أوراقي بالقوائم التي سلمت بها هذه الأعداد المتفرقة من المجلات.

وكان لتوجه أستاذي هذا أثر القدوة في أول تلاميذه حصولا على درجة الدكتوراه، وكان ذا أخلاق جيدة، فقد ظل هو الآخر مشتركا في مجلة علمية دولية، لكن تلميذه الثاني الذي تولى رئاسة القسم من بعده مباشرة كان يرى في مثل هذا التصرف سفها لا ينبغي لماله أن يضيع فيه، ولم يكن هذا هو السفه الوحيد في نظره، وإنما كانت هناك تصرفات مفيدة وكريمة كثيرة جدًا لا ينظر إليها ذلك الرئيس إلا على أنها نوع من السفه الذي لا يليق به، وهو الذي تعود على توفير كل مليم، وعلى عدم الإنفاق مطلقاً.

ولما كان أستاذي قد حصل على درجة الدكتوراه من قصر العيني الذي حصل منه أيضا على البكالوريوس وعلى دبلومي الباطنة والقلب، فإنه كان مشتركا في مجلة قصر العيني الطبية، وقد اكتشفت بنفسي من مراجعة قوائم اشتراكات المجلة أنه كان ضمن عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة من المشتركين في هذه المجلة من خارج قصر العيني، وقد ظل أستاذي يحتفظ باشتراكه في هذه المجلة حتى عهد قريب، بينما دفعه ارتفاع تكاليف الاشتراك في المجلة الدولية (كما دفع غيره) إلى أن يتكاسل عن تجديد هذا الاشتراك.

ومن الإنصاف أن أوضح للقارئ أن قرار الأستاذ بالتوقف عن الاشتراك في المجلة جاء بعد حوار عن تكاليف الاشتراك في مجلة علمية طبية، ولتصوير الأمر بطريقة بسيطة ، فإننا إذا افترضنا أن هذا الاشتراك يكلف مائة دولار في العام (كرقم قياسي) فإن المائة دولار في عام اثنين وسبعين (حين بدأ أستاذي الاشتراك فيها) كانت تكلف أستاذ القلب المصري أربعين جنيها في المتوسط، أما اليوم فإنها تكلف نفس الشخص ستمائة جنيه مصري، أي أن التكلفة تضاعفت 15 ضعفاً، فإذا افترضنا أن التكلفة العالمية (أي تكلفة الاشتراك في المجلة والبريد) تضاعفت ثلاثة أضعاف فإن التكلفة المصرية تضاعفت تسعين ضعفاً، وعلى حين كان أجر كشف المريض في ذلك الوقت المبكر خمسة جنيهات، فإنه اليوم يوازي ثلاثين جنيها في المتوسط، أي ما يعادل ستة أضعاف قيمة الكشف منذ ثلاثين عاما.

وهكذا أصبح الأستاذ مطالبا بأن يدفع ما يكلفه تسعين ضعفا من دخل تضاعف ستة أضعاف فقط!

على هذا النحو كان يدور الحوار بيني وبين أستاذي، فإذا به يستدرك ويقول: لكنك يا محمد نسيت أهم عنصر في الموضوع.

قلت: وما هو ؟

قال: معدل تدفقات المرضى على الأطباء.. ألا تذكر ما رويته لك عن الفارق بين معدلات هذه الأيام ومعدلات الأيام التي بدأت فيها العمل في عيادتي.

***

كان أستاذي محبا للبحث العلمي وقادرا عليه وراغبا فيه، لكن ظروف المؤسسة الجامعية لم تكن لتسمح له بأن ينجز فيها أكثر مما أنجز من بحوث تقليدية متعددة تدور حول ما تدور عليه بحوث الجامعة المصرية في عهدها الحالي، الذي يتميز في المقام الأول بصفة أنها جامعة الأعداد الكبيرة فحسب.

على سبيل المثال، وليس الحصر، لاحظ أستاذي في أثناء عمله في عيادته أن بعض مرضاه المصابين باضطراب في نظم القلب، ضمن أمراض أخرى، يتحسنون بدون سبب منطقي ظاهر، فلما كثّف دراسته على مرضاه وأخذ يفحص الخصائص الخاصة لكل مجموعة منهم، وجد ارتباطا بين تعاطي أحد عقاقير الملاريا وبين التحسن في اضطراب نظم القلب، وهكذا بدأ دراسته على الآثار المحتملة لهذا العقار فيما يتعلق بعلاج اضطراب نظم القلب، لكن هذه الدراسة كانت بحاجة إلى دراسات واسعة المدى وأخرى طويلة الأمد، فضلا عن معامل قياسات دقيقة ثم دراسة أخرى للآثار الجانبية المحتملة لمثل هذا العقار إذا ما استخدم كعلاج لاضطراب نظم القلب.. وكما يعرف معظم القراء فإن هذه الدراسات ينبغي أن تجري في البداية على ما يسمي «حيوانات التجارب»، وبالطرق العلمية الدقيقة لمثل هذه الدراسات. وقد تستمر الدراسة الواحدة أكثر من عشر سنوات حتى تصل إلى نتيجة علمية ذات قيمة، ولكن النظام الجامعي المصري لا يتيح (في المتوسط) للبحث الواحد إلا عاما واحدا فقط، أو عامين على أكثر تقدير، ويطلب عددا مناسبا من البحوث للترقية الأولى إلى أستاذ مساعد، وعددا آخر للترقية الثانية إلى أستاذ.

ولأن أستاذي كان مؤمنا بالبحث العلمي ومدركا لمتاعبه وتكاليفه، فإنه كان على خلاف كثيرين من تلاميذه لا يكلف الباحثين (من طلاب الدكتوراة والماجستير) من أمرهم رهقا، فإذا وجد العدد الذي حدده المشرفون الآخرون لعينة البحث كبيرا اقترح تخفيضه، وإذا وجد القياسات أو المعاملات أو المعدلات التي ستجري كثيرة اقترح الاكتفاء ببعضها دون البعض الآخر، بل إنه كان ممن يشجعون الأخذ بالفكرة التي تجعل الجداول الكبرى الرئيسية للرسالة على هيئة ملاحق، وتكتفي في تسجيل النتائج بجداول المقارنات العمومية.

وأذكر بهذه المناسبة حوارا دار بيني وبين أستاذي حول رسالة لم تحظ بقبوله، فما كان منه إلا أن انسحب من أن يكون عضوا في لجنة مناقشتها، وقد انسحب مبكرا عند تحديد لجنة الحكم، ومال علىّ في مجلس القسم وقال: ليبوء بها غيري.

قلت: أو تظن أحدا سيبوء بها أو بصاحبها؟

قال: وما تظن؟

قلت: سيتفرق دمه بين القبائل.

قال: نعم هو ذاك، أردفت: وسيكون لك نصيب.

قال: لكنه سيكون ضئيلا.

قلت: هل تعرف أن هذا خلاف فقهي قديم.

قال: زدني.

فقصصت عليه (مع مقدمات حافلة بالادعاء) قصة الخلاف الفقهي الذي نشب في خلافة عمر بن الخطاب حول جماعة اشتركوا في قتل طفل صغير لامرأة، وكان منهم المرأة وعشيقها ومَنْ عاونوهما على هذا الإثم، وكان بعض الفقهاء من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم يرون أن النفس بالنفس، وأنه لا يجوز قتل جماعة في مقابل قتلهم فردا واحدا، لكن عمر بن الخطاب بما جبل عليه من حاسة العدل والحق، وبما ألهمه الله اعترض على مثل هذا التفسير وقال قولته المشهورة التي لا تزال ترن في آذاننا جميعا: لو أن أهل اليمن كلهم اشتركوا في قتله لقتلتهم جميعا به.

قال أستاذي في حب بالغ: إني أحفظ مقولة عمر ومعناها ودلالتها العبقرية، لكني لم أكن أعرف القصة التي وراءها.

أردفت عائدا إلى موضوعنا الأصلي وقلت: لو أننا أخذنا بروح عمر ما وصل العلم والبحث العلمي في بلادنا إلى ما وصل إليه.

قال أستاذي: أتذكر قول عمر وهو بعيد عنا ولا تذكر قول سعد باشا وهو قريب منا؟ كان أستاذي يريد أن يلفت نظري إلى قول سعد باشا: «مافيش فايدة»، وهو ما تروي بعض الروايات أنه قال يوم حضرته الوفاة فأدرك أنه مقبل على نهايته وقال هذه المقولة لزوجته صفية زغلول، لكن المتشائمين انسحبوا بالقول على مجمل الحياة السياسية في مصر.

قلت: يا سيدي لو كان الأمر أمر قرب وبعد، فالأولى بنا أن نتذكر قول مَنْ مات بعد سعد زغلول بخمس سنوات وشهرين.

قال: ومَنْ هو؟

قلت: أمير الشعراء.

قال: وماذا قال؟

قلت: قال: سلموا لي على محمد (وكان يقصد الموسيقار الأستاذ محمد عبد الوهاب) الذي تبناه وصنع منه ما صنع.

وكان أستاذي يعرف هذه القصة بالطبع وهو المعجب المتيم بكل من عبدالوهاب وشوقي!! فلما انتهيت قال: مادام الأمر أمر قرب وبعد فإني أدلك على قول لمَنْ هو أحدث من هؤلاء جميعا.

قلت: ومَنْ القائل؟ قال: ليس يهمك أن تعرف مَنْ القائل لأنه فولكلور.

قلت: وما القول إذاً؟

قال: أو لم تدركه؟ ألم تسمعهم يقولون: سلم لي على المترو!!

قلت: إن هذا القول قديم من قبل أن يعرف الفلكلور أن هناك مترو.

قال: فليكن، فلن يبلغ القول أبلغ من هذا في الدلالة على العبث!!

وأردف أستاذي مباشرة يسألني: هل كان صديقك توفيق الحكيم يدرك أن هذا السلام على المترو هو المعادل الموضوعي لمسرح العبث؟

وكان أستاذي إذا جاء ذكر توفيق الحكيم لا يتحدث عنه إلا بهذه الصفة، فقد كان في تحليله لأحاديثي المطولة قد استنتج أني متيم بالحكيم إلى أبعد حد، وهو المعنى الذي لا يتحدث عنه العلماء من أمثال أستاذي إلا بأنه «الصداقة».

قلت: أو تستخدم حضرتكم مصطلحات من قبيل المعادل الموضوعي؟

ضحك أستاذي وقال: لا تظنني أستاذك بعيدا تماما عن الأدب، إنما هو يتواضع في حضرتك فحسب.

ألجمتني الإجابة فاعتذرت فقال: لا يهمني أن تعتذر، ولكني أحب أن أعرف هل كان الحكيم يؤمن بمثل هذا؟

قلت: أظنه كان كذلك.

قال: وما دليلك؟

قلت: يا طالع الشجرة؟

قال: أويكفي هذا دليلا؟

قلت: بلي.

قال: فلم؟

قلت: لأنه يدل على اتجاه كبير، ومادام المرء قد فضل الاتجاه الكبير فإنه يعرف طريقه.

قال: وإن لم يفعل؟

قلت: فإنه يكون باحثا عن طريق بعينه، أما الاتجاه أو الطريق الكبير فإنه بكبره دال على نفسه.

قال: أتظن الحكيم فعل هذا في مسرح العبث الذي تظاهر بالانضمام إلى ركابه؟

قلت: نعم.

قال: كنت أنا الآخر أظنه كذلك قبل أن ألقاك.

قلت: أتأذن لي في سؤال خبيث؟

قال: افعل! لكن لا تتهم نفسك مقدما.

قلت: أشكرك شكرين، لكني أحدس أنك كتبت أدبا في وقت من الأوقات.

قال: ما دليلك؟

قلت: لا يسأل عن التقنيات الأدبية بمثل هذا التعمق إلا مَنْ مرّ بالتجربة.

قال: هو ذاك.

قلت: هل لي أن أسألك أن تطلعني على بعض ما أنجزت؟

قال: بل الأولى أن أقص لك طرفة.

قلت: ألها هذه القيمة؟

قال: وأكثر.

قلت: فإني مشوق، فقص علىّ أنه كانت له محاولات شعرية فجاء لفظ «الرفيق» فيها عرضًا على هيئة منادي فتحمس لها زملاؤه اليساريون تحمسا فاق الوصف بسبب كلمة واحدة.

وسرعان ما أردف أستاذي فقال: ومن يومها عرفت المعاني الحقيقية للانتماء والنقد المذهبي.

قلت: لكن يبدو أن الأمر في إبداعك يفوق هذا.

قال: دعك من هذا جميعه، فإني قد حاولت مرة أخرى فلم أفلح.. وحاولت ثالثة فوجدت أني أكون كاذبا لو قلت: فلم أيأس.



ضريبة الأستاذية (1) حوارات الدين والطب و السياسة


بقعة ضوء (8)

 بقعة ضوء (8)

فاتن فاروق عبد المنعم 

فتح مصر:

يرى كينيدي أن مصر بالنسبة للعرب لم تكن مثل الشام والعراق، لأن الشام والعراق كان بها قبائل عربية كما أن حركة التجارة على مر العصور بين عرب شبه الجزيرة والشام والعراق كانت متصلة دائما، بينما تواصل العرب مع مصر كان شبه منعدم، وهذا هو عين الافتراء حتى وإن لم يكن بنفس قوة التواصل مع الشام والعراق، لأنه يجافي المنطق.

كانت مصر قبيل الفتح العربي واقعة تحت نير الحكم البيزنطي الذي استوقف مده حقبة الفرس الذين لم يبشروا بدينهم بين المصريين، ولكنهم فقط مدفوعين من قبل هرقل الذي كان يرغب في إخضاع الكنيسة المصرية للكنيسة البيزنطية في محاولة لفرض مذاهب الخلقدونية التي تعتبرها الكنيسة المصرية هرطقة (خلاف حول طبيعة المسيح)، وهذا الاختلاف العقائدي أحدث صدعا بين الطبقة الحاكمة العسكرية الناطقة باليونانية بالأسكندرية وجموع السكان من نصارى ووثنيين لما نالهم من بطش النخبة الحاكمة، كما واجه رجال الكنيسة اضطهادات وحشية منظمة من البيزنطيين نظرا لرغبتهم في الحفاظ على معتقدهم الذي يوقنون به.

وبلغ حنق المصريين من ظلم النخبة اليونانية الحاكمة حدا غير مسبوق، ومع تمكن الفتوح الإسلامية في الشام والعراق بات القلق مسيطرا على النخبة الحاكمة بمصر، ودون سرد تفاصيل متشعبة فإنه يعنيني ما قاله كينيدي (وقبله ألفريد باتلر) أن جيش عمرو بن العاص كان يتألف من ثلاثة آلاف إلى خمسة آلاف من الجند أغلبهم من بدو اليمن وهم جسديا أقصر قامة وأكثر نحافة من بدو الاستبس ويتميزون بالخشونة والصلابة (وهذا يدحض ادعاء من يقول بأن كل المسلمين بمصر أصلهم عرب)

ولنا هنا وقفة:

 المولى عز وجل تخير من بين البشر على تنوعهم وامتدادهم «البدو العرب الأجلاف» كما وصفهم الفرس ليبلغوا الناس دعوته ويبشرون بدينه الحق ويحملون هم هذا الدين ويمحقون الطغاة الذين يسومون البشر سوء العذاب (هو الذي خلقهم ويعلم من هم رجال المرحلة لذلك تخيرهم)

﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾14 الملك

 بعد أن حرفت الكتب السماوية التي قبل القرآن وبعضها اختفى، وامتلأت الأرض ظلما وعدوا من أساطين الكفر والنفاق فلا يألون فيمن يليهم إلا ولا ذمة، الجند الذي اختارهم الله كانوا من رقة الحال شكلا وموضوعا وكينونة وكيانا ما يجعلنا نوقن أنه فقط النصر من عند الله

(وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ ۗ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) 126 آل عمران

وهو لا يطلب من المؤمنين الذي أقروا وأيقنوا بصدق إيمانهم ومن ثم قبلوا التكليف سوى الصدق والإخلاص له، وأن يتقدموا ليدحضوا الظلم ويقيموا العدل بكل ما أوتوا من قوة حتى ولو كان الفارق بينهم وبين عدوهم بحجم الفارق الذي بين السموات والأرض، فهو يشتري منهم أنفسهم وهم قبلوا فربح البيع.

﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾

[ التوبة: 111]

وكلما تفكرت في البون الشاسع بين المسلمين الأول وبين الفرس والروم توقف عقلي، فماذا لو أعلنت دولة أفريقية فقيرة بائسة أنها ستغزو أمريكا أو الصين مثلا، فلا يمكننا أن نصدق إلا أنهم أصيبوا بلوثة عقلية جماعية، لذا ما كانت قوة المسلمين يوما ما سوى في الإسلام نفسه، الإسلام نفسه قوة في ذاته، كم حورب بصور شتى وما زال، ما يعني أن ضعف المسلمين هو ضعف إيمان ورقة في الدين وعدم الصدق مع الله، وهن حالهم من وهن إيمانهم، الدين الذي خرج المسلمون الأول ليبشروا به هو نفسه الدين الذي بن أيدينا ولكن العطب هو عطبنا نحن وليس شيء آخر، نحن الذين أصخنا السمع لشياطين الإنس والجن فأصابنا ما أصابنا، وإن لم نعد إلى صحيح الدين ونتمسك بأهدابه كما الأول سنظل من سيء إلى أسوأ، والأسوأ متعدد التأويل، سنظل يذيقنا الله من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلنا نرجع وننيب إليه

﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾[ سورة السجدة: 21]

علينا أن نوقن بتقصيرنا في جنب الله وأن لا ملجأ لنا سواه، فكل الأسباب التي نبحث فيها ونوعز إليها الكدر الذي نعانيه جديرة بالدراسة والفحص، ولكن علينا أن نوكل الأمر كله إلى الله بمعنى أن كل منا يقف على ثغر من ثغور الإسلام فهو يعمل به ويقضي به حتى ولو كان هذا الثغر هو أسرتك فقط، كل منا راع مسئول عن رعيته ، كلنا مسئولون، سوء حالنا الآني هو من سوء حالنا مع الله فمتى نستفيق؟

يصف كينيدي إقدام العرب على فتح مصر بقوله:

“لقد كانت تلك مهمة جسورة إلى أبعد الحدود، وكان على هذا الجيش الضئيل أن يعبر سيناء، ثم أرض الدلتا غير المألوفة، وأن يهزم الجيش البيزنطي المحلي ويستولي على المدن جيدة التحصين، وكانوا بعيدين عن النجدة إذا ما ساءت الأمور”

وهناك قصة معروفة بأن عمرو وصله خطاب من الخليفة عمر بن الخطاب وهو على مشارف الدخول إلى مصر، رفض أن يفتحه لتكهنه بما فيه، وفي 12 ديسمبر عام 639م وصل جيش المسلمين إلى العريش ففتح عمرو الخطاب وفيه يقول له عمر إن لم يكن دخل مصر فعليه بالرجوع وإن كان دخلها فليواصل المسير.

واصل الجيش الصغير «البائس» كما وصفه (كينيدي وباتلر) على حد سواء زحفه إلى الفارما شرق بورسعيد وقد حاصروها مدة شهر ثم واجهوا الجيش البيزنطي واستولوا عليها ثم وصلوا بلبيس وحاصروها شهرا آخر أبدى فيه الجيش البيزنطي بعض المقاومة حتى استولوا عليها ثم واصلوا الزحف إلى أم دنين شمال القاهرة ، كان البيزنطيون قد حصنوا أنفسهم بخنادق وبوابات وبعثروا حسك الحديد في المساحات المفتوحة وكان القتال صعب والنصر بطيئا، كانت عين عمرو وجيشه على حصن بابليون والذي كان يحافظ عليه الجيش البيزنطي بقوة فتجاوزه عمرو بن العاص إلى الفيوم ريثما يصله الإمداد من الخليفة عمر بن الخطاب.

ويقول يوحنا النقيوسي:

«أن الفيوم كانت خصيبة مشهورة بغلالها ولابد أنها كانت هدفا لعمرو وجيشه»

فكيف علم عمرو بخصوبة الفيوم وهو الجيش الذي تندر عليه كينيدي بأنه لا يعرف أي شيء عن مصر ومدنها وقراها؟!

المؤرخ عبد الرحمن بن الحكم يقول شيء آخر نقيض لما قاله يوحنا النقيوسي:

«المسلمون ظلوا عاما كاملا يجهلون وجود الفيوم أصلا ، فلما علموا بها أرسل إليها عمرو حامية استولت عليها صلحا، بينما ظل عمرو بجيشه مرابطا عند حصن بابليون في انتظار المدد الذي سيرسله الخليفة» وهذه الرواية أكثر منطقية.

وصل الإمداد لعمرو، جيش مكون من اثني عشر ألف من الجند وعلى رأسهم الزبير بن العوام ولكن ظل عمرو هو القائد الأعلى، ويبدو أن التحقير من شكل وسمت الزبير بن العوام يعالج شيئا ما في صدر كينيدي، حيث وصفه نقيض ما وصفه به عبد الرحمن بن الحكم، وأيا كان فلن أتوقف عند هذا الذي يعد بلا قيمة تذكر، فالمهم هو سيرة الرجل وسلوكه ومواقفه ولا يهمنا في شيء ملامحه الشخصية.

حصن بابليون:

كان نتاجا ضخما من نتاج الهندسة العسكرية الرومانية، بناه الإمبراطور تراجان ردا على التمرد اليهودي بالإسكندرية، سمى بهذا الاسم نسبة إلى المستعمرين الذين جاءوا من بابل وكان معروفا عند العرب باسم قصر الشمع.

في سبتمبر عام 640م بدأ عمرو بن العاص بالهجوم على الحصن، سور الحصن كان بارتفاع 12 متر وبعرض ثلاثة أمتار ولم يكن أمام جيش المسلمين سوى أن يحشدوا بعض آلات الحصار البدائية وحاولوا أن يصعدوا إلى الشرفات مستخدمين السلالم، وفي إحدى الروايات قيل أن البيزنطيين غافلوا الزبير بن العوام وعبادة بن الصامت أثنا صلاتهما ولكنهما وثبا على فرسيهما وساقا المهاجمين الذين تقهقروا إلى الحصن، وفي أثناء تقهقر البيزنطيين ألقوا أحزمتهم الثمينة وزينتهم الفاخرة على أمل أن يتوقف المسلمان كي يلتقطاها ولكنهما أبديا احتقارهما المعتاد للثروة (قال ذلك كينيدي ساخرا مستنكرا) وطاردا أعدائهما حتى أسوار المدينة حيث جرح أحدهما بحجر ألقي من شرفات الحصن ثم عاد البطلان إلى صلاتهما تاركين الغنائم الثمينة بلا مساس (إنها الدنيا التي تأتي مهرولة إلى الصادقين)

مات هرقل وانقطع المدد عن الجيش البيزنطي فأصابهم اليأس وفي 9 أبريل عام 641م صعد الزبير بن العوام السلم متسلقا سور الحصن وصاح «الله أكبر» فأعقبه الجيش الذي دخل الحصن واستسلم البيزنطيون ورحلوا بذهبهم تاركين خلفهم معداتهم العسكرية الثمينة.

الزبير بن العوام بنى بيتا ورثه ابنه ومن بعده أحفاده الذين احتفظوا بالسلم الذي صعد به سور الحصن ثلاثة قرون ونصف حتى أتلفه حريق حدث للبيت.

وللحديث بقية إن شاء الله


بقعة ضوء (1)


بقعة ضوء (2)


بقعة ضوء (3)


بقعة ضوء (4)

بقعة ضوء (5)


وسقط ملوك الطوائف !

 وسقط ملوك الطوائف !

ا.د.عبد الحليم عويس

الذين يخشون الموت سيموتون قبل غيرهم، والذين يحسبون للفقر حسابه مضحين بكرامة دينهم، ووجود أمتهم.‏‏.‏ سوف يصيبهم الفقر من حيث لا يشعرون.‏

وسقط ملوك الطوائف !

عندما أوشكت الخلافة الأموية في  الأندلس على السقوط، لم تسقط دفعة واحدة.
لقد جرى عليها ما جرى على  الفاطميين بعد ذلك في مصر، وما جرى على المماليك أيضًا.‏‏.‏ لقد ضاعت الزعامة منهم عبر انقلاب سلمي لم ترق فيه قطرة دم (بالمعنى المباشر للانقلابات الدموية)!‏‏!‏


لقد ولي أمر الخلافة طفل في السابعة من عمره يدعى ‏"‏هشامًا‏"‏، ولما لم يكن بإمكانه حكم البلاد، فقد كانت أمه ‏"‏صبح‏"‏ وصية عليه، ولم تستطع صبح هذه أن تنفرد بالسلطة، فقد أشركت معها في الأمر رجلاً من أغرب الرجال وأقدرهم، يدعى ‏"‏ المنصور بن أبي عامر" ‏.‏‏.‏

وقد نجح هذا المنصور في أن يعبر الانقلاب السلمي بنجاح، ويحول الخلافة الأموية في الأندلس إلى ملكٍ ينتسب إليه، ويرثه أبناؤه من بعده‏!‏‏!‏ وإن كان لبني أمية الاسم الرمزي، والخلافة الصورية.‏

ولم يمض أكثر من أربعين سنة حتى كانت دولة العامريين قد أصبحت آخر ومضة تمثلت فيها دولة الخلافة الأموية في الأندلس، وبسقوط دولة العامريين التي قامت على غير أساس، انفرط عقد الأندلس، وظهر بهذه الأرض الطيبة عصر مِن أضعف وأردأ ما عرف المسلمون من عصور الضعف والتفكك والضياع.‏

لقد ورث خلافة الأمويين أكثر من عشرين حاكمًا في أكثر من عشرين مقاطعة أو مدينة، وقد انقسم هؤلاء الحكام إلى بربر وصقالبة وعرب، وكانت بينهم حروب قومية لم يخمد أوارها طيلة السنوات التي حكموا فيها، ولقد ترك هؤلاء الملوك المستذلون الضعاف الملوك النصارى يعيشون بهم ويتقدمون في بلادهم، وانشغلوا هم بحروبهم الداخلية، وباستعداء النصارى بعضهم ضد بعض، وتسابقوا على كسب  النصارى، وامتهنوا في ذلك كرامتهم وكرامة الإسلام، فدفعوا الجزية وتنازلوا طوعًا عن بعض مدنهم للنصارى، وحاربوا في جيوش النصارى ضد المسلمين من إخوانهم في المدن الأخرى من أرض الأندلس الإسلامية!!‏

ولا يستطيع المرء أن يزعم أن باستطاعته أن يحصي كل مساوئ الفترة المسماة بفترة ملوك الطوائف
ولقد أدى التنافس بين هؤلاء الملوك إلى رفعة منزلة الشعراء والأدباء والمطربين، ولم يكن ذلك حبًّا في الأدب، ولا إعجابًا بفن الطرب، وإنما كان ذلك من جملة أساليبهم في حرب بعضهم مع بعض، وفي محاولة تحصيل المجد والشهرة المزيفين‏.‏


وقد اشتهر من بين هؤلاء الملوك المتنافسين أسرة بني عباد، التي نبغ فيها المعتمد بن عباد كأمير مشهور عاطفي، وكشاعر كبير ذي قلم سيال‏!‏‏!‏
ولقد استفحل الخلاف والتنافس بين هؤلاء الملوك، كما استفحل كذلك ضعف كلٍّ منهم، وكان من نتائج ذلك طمع النصارى في  اشبيلية  وفي المدن الأندلسية الأخرى.‏

ولئن كان للمعتمد بن عباد من فضل، فإن ذلك الفضل لن يكون إلا في محاولته مقاومة هذا الخطر حين رأى دنوه من أبواب المسلمين.
ولم يكن أمامه من مخرج غير الاستعانة بقوة المغرب العربي.‏‏.‏ فاستعان بالمرابطين في المغرب الأقصى، وعندما كان بقية ملوك الطوائف يبدون خشيتهم من المعتمد، قال لهم كلمته المشهورة‏:‏ ‏"‏لأن أرعى الجمال في صحراء العرب خير من أرعى الخنازير في أرض الصليبيين‏"‏.‏


ولقد تقدم زعيم المرابطين يوسف بن تاشفين  فعبر البحر و‏(‏جبل طارق‏)‏ لنجدة المسلمين في الأندلس، وحقق في ‏(‏معركة الزلاقة‏)‏ سنة 479هـ/‏ 1086م انتصارًا كبيرًا ساحقًا على النصارى، كان من أثره مدّ عمر الإسلام في الأندلس فترة أخرى من الزمن.‏

ولقد تبين ليوسف بن تاشفين بعد ذلك أن ملوك الطوائف هؤلاء ليسوا أهلاً للبقاء في مراكز السلطة في الأندلس، وجاءته النداءات والفتاوى من العلماء كالغزالي بوجوب الاستيلاء على الأندلس، فاستولى على الأندلس وأعاد إليها وحدتها، وطرد هؤلاء الطائفيين الذين كانوا يخشون قدومه، ويفضل بعضهم النصارى عليه.‏


وفي مدينة ‏(‏أغمات‏)‏ بالمغرب الأقصى عاش ‏(‏ابن عباد‏)‏ أشهر ملوك الطوائف بقية أيامه فقيرًا ذليلاً لا يجد ما يكفيه‏!‏‏!‏
إن هذه هي النتيجة الطبيعية لكل ملوك طوائف في كل عصر؛ فالذين يخشون الموت سيموتون قبل غيرهم، والذين يحسبون للفقر حسابه مضحين بكرامة دينهم، ووجود أمتهم.‏‏.‏ سوف يصيبهم الفقر من حيث لا يشعرون.‏

ولقد نسي ملوك الطوائف هذه الحقائق؛ فنغَّص الله كل شيء عليهم حتى الموت، كما قال ابن صمادح الطائفي حاكم ‏(‏المرية‏)‏ وهو يحتضر ويسمع أصداء الهجوم على قصره، (فليبحث ملوك الطوائف في كل عصر عن الحياة، حتى لا يبحثوا ذات يوم عن الموت فلا يجدوه، وحتى لينغص الله عليهم كل شيء حتى الموت.‏‏.‏ فتلك سُنَّة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً).

كِتابُ (الفَرائِد) "مقالات مفردة في الدين والحياة"

 كِتابُ (الفَرائِد)

 "مقالات مفردة في الدين والحياة"


 كِتابُ (الفَرائِد)

 الدكتور علي محمد فريد

تقديم


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على سَيِّدِ الأنبياءِ والمُرسَلين، وعلى آله وصَحْبِهِ الطيبينَ الطاهرين.. ثم أمَّا بَعْد..
فهذه مَقالاتٌ فَرائدُ -مِن الإِفرادِ لا التَّفرُّدِ- لم يَكتبْها القَلمُ بِقَدْرِ ما كَتبتْها الأَحداثُ، ولم يَخُطَّها البَنانُ بِقَدْرِ ما خَطَّهَا الجَنانُ.. جَاءَ بَعضُها عَفْوَ الخَاطِرِ في سَاعةٍ أو بَعضِ سَاعةٍ، وجَاءَ بَعضُها الآخَرُ كَدَّاً للذِّهنِ في أَيَّامٍ وأَسابيعَ.
ولأنَّها بِنتُ زَمَنِهَا وأَحداثِهِ؛ فَفيهَا مِن أَلَمِ الأَيَّامِ وأَمَلِهَا بَعضُ ما فِي الأَيَّامِ مِن أَلمٍ وأَملٍ، ومِن اسْتواءِ الفِكرةِ والْتوائِها بَعضُ ما أَحدَثَتْه الأَيَّامُ في النَّفْسِ مِن اسْتواءٍ والْتواءٍ.. وقد كُتِبتْ كُلُّها عَقِبَ ما سُمِّيَ بالرَّبيعِ العَربيِّ، وما أَكثرَ ما أَحدَثَ هذا الرَّبيعُ مِن أَلمٍ وأَملٍ اسْتوتْ بهما النُّفوسُ حِيناً والْتوتْ بِهمَا أَحياناً!!
ولأنَّها مَقالاتٌ مُفرَدةٌ؛ فلن تَجِدَ بَينَها تِلكَ الوَحدةُ المَوضوعيَّةُ التي تَجدُها في الكُتُبِ ذاتِ المَوضوعِ الوَاحدِ، ولكنَّك -مَعَ هَذَا- لن تَعدَمَ رَابطاً خَفِياً بَينَ غَالِبِ مَوضوعاتِها أو خَيطاً نَاظماً بَينَ جُلِّ أَفكارِها؛ وما ذَاكَ إلَّا لِتقارُبِ الزَّمنِ وتَشابُكِ الأَحداثِ وَهَمِّ الفُؤادِ وانْشِغالِ الخَاطِرِ.
وقد كُنتُ زَوَّرتُ في نَفسِي أن أَعودَ على هذه المَقالاتِ -بَعدَ نَشرِها على شَبكاتِ التَّواصُلِ الِاجتماعِيِّ- بالتَّعديلِ والتَّبديلِ، أو بالزِّيادةِ والنُّقصانِ؛ تَبعاً لتَجدُّدِ حَدَثٍ، أو تَكذيبِ خَبرٍ، أو خَطأِ تَصوُّرٍ؛ بَيْدَ أَنِّي عَدَدْتُ ذلك خِيانةً لرُوحِ الكَاتبِ آنَ كَتَبَ، وتَشويهاً لِجسَدِ المَكتوبِ حِينَ كُتِبَ؛ فآثرتُ أنْ أُمِرَّهَا كما جَاءَتْ أَوَّلَ تَحريرٍ، وأُبْقِيَها كما نُشِرَتْ أَوَّلَ تَحبيرٍ؛ لِتَكُونَ صُورةَ حَالٍ، ورَصْدَ واقعٍ، وَقَيدَ آبِدَةٍ..
وما أَظُنُّنِي وَجدْتُ فيها -حِينَ هَيَّأتُها لِلنَّشرِ- شَيئاً يُمكِنُ أنْ يُبدَّلَ تَبَعاً لذلك، ولو وَجدْتُ لأَثْبَتُّ المَقالَ كما نُشِرَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وأَشرْتُ إلى الخَطأِ أو التَّكذيبِ في الهَامِشِ..
اللَّهُمَّ إلَّا خَطَأً لُغَويَّاً أَحدَثَهُ السَّهْوُ واحتَاجَ إلى تَصويبٍ، أو سَبْقَ قَلمٍ أَحدَثَتْه العَجلةُ واحتَاجِ إلى تصحيح، أو بَعثَرَةَ جُمَلٍ أَحدَثَها التَّردُّدُ واحتَاجَتْ إلى تَرتيبٍ؛ مِمَّا لا يَكادُ يَسلمُ مِنه كَاتبٌ أو يَتنَزَّهُ عنه مَكتوبٌ.. والكَمالُ للهِ وَحدَهُ جَلَّ وعَلَا.
وقد رَتَّبْتُها مُتَتَابِعةً حَسَبَ تَاريخِ نَشْرِها لا حَسَبَ قُرْبِ مَوضوعاتِ بَعضِها مِن بَعضٍ؛ لِتكُونَ مُسلْسلةً زَمناً لا مَوضوعاً؛ فيَستعينَ القَارئُ الكَريمُ بِمَعرفةِ أَجواءِ المَبنَى على الإِحاطةِ بالمَعنَى، وبِمَعرفةِ السِّياقِ على فَهْمِ المَساقِ!!
ثُمَّ إِنِّي لا أَكادُ أَجِدُ دُعاءً أَدعُو بِهِ بَينَ يَدَيْ كِتَابِي هَذَا أَمْثَلَ مِن دُعاءِ الجَاحظِ حِينَ صَدَّرَ كِتابَه (البَيانُ والتَّبَيُّنُ) بِقَولِهِ: "اللَّهُمَّ إِنَّا نَعوذُ بِكَ مِن فِتنةِ القَولِ، كَمَا نَعوذُ بِكَ مِن فِتنةِ العَملِ، ونَعوذُ بِكَ مِن التَّكلُّفِ لِمَا لا نُحسِنُ كما نَعوذُ بِكَ مِن العُجْبِ بِما نُحسِنُ، ونَعوذُ بِكَ مِن السَّلاطةِ والهَذَرِ، كما نَعوذُ بِكَ مِن العِيِّ والحَصَرِ".
علي فريد
8 / جمادى الآخرة /1444هـ
2023 / 1/1


*************************************
حَمِّل الكتابَ مِن هــــنـا إن أردت.. وسأكونُ لكَ مِن الشاكرين إنْ خَصَصْتَنِي بدعوةٍ في ظهر الغيب..

ملوك ينزحون من شعوبهم "فوق الشجرة"

 ملوك ينزحون من شعوبهم "فوق الشجرة"

أحمد عمر

 طُردت شعوب عربية كثيرة من ديارها؛ نزح الشعب الفلسطيني، تلاه العراقي، ثم السوري والليبي واليمني. 

فقد نزح ملوك وهاجر رؤساء قبل نزوح الشعوب من أوطانهم، وقديماً قال المتنبي: "إذا ترحلت عن قومٍ وقد قدروا.. ألا تفارقهم فالراحلون همُ". والترف أعلى منازل الهجر والترحّل والنزوح. ينزح الناس إذا نزح ملوكهم، ونزوح الملوك نزوح فردي، فوق الشجرة، على خطوط "يا مسافر وحدك وفايتني" الجويّة، هو نزوح العدل والعقل. ويوصف الملوك الذين يحكمون شعوبهم بقوانين غريبة بأنهم مفصولون عن الواقع، وهو تعبير مترجم شائع في الصحافة والإعلام.


وكان سبب انطلاق نيران ثورات الربيع العربي من مستصغر الشرر، وهو أنَّ شرطة تونس حرمت بائع خضار على عربة متجولة من مكان في بلده، فضاقت به الأرض بما رحبت، فأحرق نفسه غيظاً وكمداً وثورة، والحرق عقوبة الله، فلا يحرق بالنار سوى رب النار. وفي الآثار أن حصين بن عمران، الملقب بمصافح الملائكة، هجرته الملائكة بعد أن اكتوى. ثم كان أن فرّ زين العابدين بن علي خوفاً من غضبة الشعب التونسي إلى جدّة، منفى الزعماء ومنتجع الملوك الظالمين.

أغلب الناشطين السياسيين يغردون في هذه المدن الحديثة بالرموز والإشارات والإيماءات، والنزوح من المدن إلى الدول المجاورة فرع من نزوح الملوك السياسي والعقائدي والشعبي، القصد من البناء الجديد هو الهدم، برهان ذلك ما تقدمه حكومات مصر وسوريا والإمارات من غزوات ليلية فكرية وعقائدية على البخاري ومسلم والشعراوي على برامج التلفزيون يقدمها مفكرون "متبولون" بالحداثة

أما أحد أسباب انطلاق الثورة السورية واستقرارها في حمص، التي سمّيت بعاصمة الثورة، فهو أنَّ حكّام حمص بشّروا بالنزوح الرسمي والعمراني من المدينة القديمة، وبناء مدينة جديدة على الطرف العلوي منها باسم "حلم حمص"، فذعر أهل المدينة القديمة، وكان ذلك إيذاناً بقتل المدينة القديمة، وإيلائها الوافدين من القرى والأرياف والغزاة من أصحاب الأموال المغسولة من دماء الشعوب. فالمدينة القديمة مدينة سنّة، وهي مثوى الصحابة، ومدينة خالد بن الوليد الذي زحف مائة زحف ولم يهزم قط!

وقد انطلق سباق عمراني في عواصم العالم العربي بعد القضاء على الربيع العربي لبناء مدن فضائية، مدن "يوفو"، على غرار "إرم ذات العماد" و"مدينة النحاس" في الحكايات، مدن ينطبق عليها قول المغني المصري في أغنية دقّوا الشماسي: "لابني لك قصر عالي".

النهاية المعلنة للسباق هي سنة 2030، وقد أعلن ولي العهد السعودي بناء مدينة نيوم على البحر الأحمر، التي تبشر التقارير الحالمة بأنها أول مدينة فضائية على الأرض، وتوصف بأنها ستكون أذكى مدينة في الكوكب، وسيكون سكانها من الأذكياء. ستكون أكبر من نيويورك بـ33 مرة، وأحدث من برلين بعشر مرات. ستكون مدينة أفقية ممتدة مثل الثعبان وسكة القطار، مسوّرة بسورين مانعين للعواصف الرملية والحرافيش، يسكنها مليون نسمة لا غير، بحسب عدد "المقاعد والركاب"، نصف مقاعدها بجانب النافذة. وستبنى في البادية على "بلاج" البحر الأحمر، الأحمر من لون المرجان في الماء وليس من لون العذاب في الشرايين.

وليست مدينة الأحلام الوحيدة، فكل زعيم عربي له حلم مثل حلم حمص "الرائد"، يريد توقيعاً وأثراً يذكر به في التاريخ، غير السجون والمقابر، أما الغرض من هذه المدن، فهو محو الذاكرة، فهي مدن على الطراز الغربي، ولا يفلّ المدن القديمة إلا مدن جديدة.

ومِن العجائبِ، والعَجائبُ جَمَّة، أن نيوم اسمها إغريقي مركّب، فيه حرف عربي واحد يتيم مكتوب بالأحرف اللاتينية، ومؤخر إلى ذيل الاسم، في العتبة، قيل إنه من لفظ المستقبل وقيل إنه من اسم ولي العهد.

والغاية منافسة المدن القديمة العريقة والازراء بها على غير معهود عربي. ونذكر أن عبد الرحمن الداخل بنى مدن الأندلس على الغرار الأموي في دمشق، حتى أنَّ زائر إسبانيا يلحظ انتشار النخيل فيها، فقد استجلب الأمير الأموي عمته إليها. وزائر المدن الأندلسية يلحظ ضيق الأزقة ودورانها، وقد وجد الكاتب والمحامي نجاة قصاب حسن في كتابه حديث دمشقي، أنّ سببين كريمين وراء دوران الشوارع في الأحياء العربية القديمة وعدم استقامتها؛ الأول غايته الوقاية من الغزو، والثاني أخلاقي أدبي، فالدوران يحجب حركة النساء ويمنحهن حرية الحركة من العين المتلصصة، وهناك سبب ثالث؛ جمالي غايته الدهشة والمفاجأة.

القدس مدينة مهددة بالانتقاض والهدم، لكنها ما تزال صابرة وصامدة، وتذكر تقارير إخبارية ما جرى لآثار النبوة وحجرات أمهات المؤمنين، التي هُدمت كلها في مكة خوفاً من الشرك على ما يزعمون. والحفر يجري من تحت القدس بحثا عن آثار مزعومة، وقد صدرت آراء لشيوخ المداخلة تصف قبة الصخرة بالوثن، فالمداخلة يتورعون عن الشرك بالملك وولي عهده خوفا من النار.

في مصر التي دخلت سباق رالي المدن الفضائية، فقد أنفق رئيس مصر الانقلابية مليارات الدولارات على العاصمة الإدارية الجديدة، وفيها ناطحات سحاب في منطقة مفتوحة، وهي مبنية في الصحراء أيضاً ليس على معهود المدن قريبا من مياه الأنهار أو البحار. سينزح إليها الزعيم الوسيم والموظفون الكبار، مخلفين الشعب في القاهرة القديمة في الفقر والجوع والمرض والجهل

أما في مصر التي دخلت سباق رالي المدن الفضائية، فقد أنفق رئيس مصر الانقلابية مليارات الدولارات على العاصمة الإدارية الجديدة، وفيها ناطحات سحاب في منطقة مفتوحة، وهي مبنية في الصحراء أيضاً ليس على معهود المدن قريبا من مياه الأنهار أو البحار. سينزح إليها الزعيم الوسيم والموظفون الكبار، مخلفين الشعب في القاهرة القديمة في الفقر والجوع والمرض والجهل.

وقد غدت مدن الإمارات الكبرى مثل أبو ظبي ودبي مدناً عمودية، والامتداد الأفقي أولى وأكرم، وكان العمود قد صار مبغوضاً في القصيد والشعر، وسبّة، لكنه أمسى مستحباً في البنيان والحجر، وهي مدن بوليسية على غرار بيونغ يانغ، تراقب فيها المخابرات همسات العصافير على وسائل التواصل، خوفا من زلازل تعصف بالمدينة مع أنها خالية من عربات خضار.

أغلب الناشطين السياسيين يغردون في هذه المدن الحديثة بالرموز والإشارات والإيماءات، والنزوح من المدن إلى الدول المجاورة فرع من نزوح الملوك السياسي والعقائدي والشعبي، القصد من البناء الجديد هو الهدم، برهان ذلك ما تقدمه حكومات مصر وسوريا والإمارات من غزوات ليلية فكرية وعقائدية على البخاري ومسلم والشعراوي على برامج التلفزيون يقدمها مفكرون "متبولون" بالحداثة

وأغلب الناشطين السياسيين يغردون في هذه المدن الحديثة بالرموز والإشارات والإيماءات، والنزوح من المدن إلى الدول المجاورة فرع من نزوح الملوك السياسي والعقائدي والشعبي، القصد من البناء الجديد هو الهدم، برهان ذلك ما تقدمه حكومات مصر وسوريا والإمارات من غزوات ليلية فكرية وعقائدية على البخاري ومسلم والشعراوي على برامج التلفزيون يقدمها مفكرون "متبولون" بالحداثة، و"متبول" على ما يقول "الفيلسوف" المطبول صاحب "عزازيل": أي متبّل بالبهارات، من غير أن يرفَّ له جفن أو يهتز له غبغب. حملات إعلامية على الأئمة، وليس على نتنياهو وبن غفير ومودي الذين يهدمون الديار أيضا؛ ديار سلمى وعبلة وأميمة.

في كل حضارة جديدة قصة مدينتين؛ أسبرطة وطروادة، مكة والمدينة، باريس ولندن، قندهار وكابل، برلين وبون، كييف وموسكو، دمشق والكوفة. وكان ولي العهد السعودي قد توعّد بمحاربة التطرف حتى صفقت له المذيعة الإنجليزية، في مخالفة لشروط مهنة الإعلام وحيادها. وقد صارت مدائن صالح -مساكن الذين ظلموا- مثابة لعروض الرقص والحفلات.

تدمير الذاكرة هو القصد والغاية: "ماما وبابا دقة قديمة دقة قديمة دقة قديمة، ماما وبابا دقة قديمة".

مدن السكّر والزجاج، و"دقّوا الشماسي" واعدة بالكوابيس، شامخة القضاء، القاضي فيها يؤجل العدل للصيف الماضي!

twitter.com/OmarImaromar