الثلاثاء، 28 فبراير 2023

المستوطنون يصحّحون كتابة تاريخ فلسطين

 المستوطنون يصحّحون كتابة تاريخ فلسطين

وائل قنديل 


يعيد المستوطنون الصهاينة، لا المؤرّخون العرب الجدد، كتابة تاريخ فلسطين على الوجه الصحيح، ويُسقطون قشرة الأوهام التي يضعها إعلام العربية على غلاف الرواية لصياغة وعي الأجيال الجديدة.

إقدام مجموعات من المستوطنين الصهاينة على مهاجمة بلدة حوارة وقرى فلسطينية أخرى جنوبي مدينة نابلس يعيد الصراع على فلسطين إلى جذوره في بدايات القرن الماضي: عصابات من اللصوص الغرباء القادمين من الخارج يهجمون على أراضٍ ومنازل لانتزاعها بالقوة من سكّانها الأصليين وطردهم منها واتخاذها وطنًا وسكنًا لهم.

الحرق عقيدةٌ عند المستعمر الصهيوني، يحرق البشر والشجر والحجر، كما فعلوا أخيرا، مساء يوم انعقاد قمّة العقبة، بالهجوم على بلدات وقرى حوارة وبورين وقريوت وزعترة جنوبي نابلس، وسط حراسة وإسناد كاملين من جيش الاحتلال.

تبعث صور المحرقة الأحدث لقطات المذابح والمحارق الصهيونية القديمة من أرشيفها، لتجد تطابقًا تامًا بين فظائع عصابات شتيرن والهاغاناه والأرغون ضد الشعب الفلسطيني في دير ياسين والطنطورة في أربعينيات القرن الماضي قبيل إعلان قرار تقسيم فلسطين الذي كافأ المعتدين على جرائمهم ومنحهم واقعًا جغرافيًا وتاريخيًا مسروقًا، ثم بعد ذلك في سلسلة من مذابح التطهير العرقي الأخرى التي لم تنقطع حتى اليوم.

هذا الذي يحدث يعيد تعريف الكيان الصهيوني على الوجه الصحيح، عصابات احتلال يقودها مجرمون وليس دولة يحكمها سياسيون، هكذا بدأت إسرائيل، وهكذا تحيا، وهكذا سوف تنتهي، حيث يعتبر المستعمرون  فلسطين كلها ساحة حرب، يتقدم فيها المستوطنون على الجنود، ويتفوقون في الكراهية والرغبة في الاجتثاث والإبادة، بحيث صار المستوطن (المدني البريء بمقاييس الملهاة) أكثر شراسةً في القتال والعدوان، ثم يصبح مطلوباً منك أن تدين فعل المقاومة وتجرّمه، لتحصل على شهادة متحضر ومستنير.

يقول التاريخ إنه في البدء لم يكن ثمّة جيش إسرائيلي، بل مجموعات من المدنيين المستعمرين هجموا على البلاد وافترسوها وطردوا أهلها، واستولوا على البيوت والمزارع، بحيث صار كل شبرٍ على أرض فلسطين مغتصباً ومسروقاً بقوة الإجرام، وقوة التواطؤ السياسي، المتخفّي في شعارات الباحثين عن شهادات الاستنارة الممهورة بالختم الصهيوني.

كل مستوطنةٍ إسرائيليةٍ هي قرية فلسطينية منتزعة، وكل مسكنٍ لإسرائيلي هو بيت فلسطيني مسروق، وكل مدني هو محاربٌ أكثر وحشيةً وشراسةً ضد الحقّ وضد العدل وضد المنطق، ومن ثم يبقى كلّ مترٍ من الأرض الفلسطينية دار حرب، فرضها المحتلون، ووضعوا قوانينها وشروطها الهمجية.

لكن هل يتحرّك المستوطنون في حماية قوات جيش الاحتلال النظامية فقط؟ وهل يقتلون بمباركة وإسناد وزير الأمن الصهيوني بن غفير، الذي انتقل من زعامة هذه العصابات إلى منصبه الحكومي هذا العام فقط؟

الشاهد أنّ حائط الحماية الأول لعصابات الاستيطان هو النظام العربي الذي يحضر بعد كلّ فعل إسرائيلي إجرامي ليحاصر رد الفعل الفلسطيني، حاملًا حقيبة التهدئة متحدثًا عن ضرورة وقف التصعيد، وتشاركه هذا الدور سلطة محمود عبّاس التي تقوم باعتقال المقاومين الفلسطينيين بالتزامن مع هجمات المستوطنين ... 

حتى الحياد بين المجرم والضحية لا تُمارسه سلطة رام الله، إذ تدفعها عوائد وأرباح التنسيق الأمني إلى الانحياز، عمليًا، للمعتدي، مردّدة كلامًا مكرّرًا حدّ الملل لا يقدّم ولا يؤخر.

كل ما يشغل الأنظمة العربية التي تتربّح من وظيفة التهدئة هو تفتيت الغضب الشعبي الفلسطيني المتصاعد ضد الهمجية الصهيوني، بحيث لا يتراكم ويؤدي إلى اندلاع انتفاضة فلسطينية شاملة، بمواجهة انتفاضة عصابات المستوطنين، هكذا يعلنونها صريحةً في وجه الشعب العربي، الذي بات محرومًا من التظاهر تضامنًا مع فلسطين.

ذات يوم، قال الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا

"نعلم جيداً أن حريتنا منقوصة من دون الحرية للفلسطينيين"
، وواقع الحال يقول إن العكس أيضًا صحيح:
ستبقى حرية فلسطين مخطوفة ما بقيت حريات الشعب العربي مقتولة.

في مثل هذا اليوم: وفاة أسد الأزهر.. الإمام “مُحَمّد الخضر حُسَين”

في مثل هذا اليوم: وفاة

أسد الأزهر.. الإمام “مُحَمّد الخضر حُسَين”



(محمد الخضر حسين علي عمر)

(16 أغسطس 1876م – 28 فبراير 1958م)

– عالم دين جزائري الجذور، تونسي المولد والنشأة، مصري الإقامة والعمل والوفاة.

تولى مشيخة الأزهر، من 1952م – 1954م.. ولم يقدر عليه (جنرالات يوليو 1952م)

– وُلدَ الشيخ محمد الخضر حسين، بمدينة نفطة التونسية، في (16 أغسطس 1876م)، فحفظ القرآن الكريم، وتعلَّم مباديء القراءة والكتابة، ثم انتقل مع أسرته إلى تونس العاصمة، سنة 1887م، والتحق بجامع الزيتونة، وكانت الدراسة فيه صورة مصغّرة من التعليم في الجامع الأزهر في ذلك الوقت.

– من أسرة كريمة، أصلها من الجزائر، تنتمي إلى قبيلة الأدارسة التي حكمت المغرب العربي فترة من الزمان،

– كان الخضر حسين، غزير العلم، واسع الأُفق، فصيح العبارة، محبًّا للإصلاح، فأنشأ مجلة (السعادة العظمى) سنة 1902م، وهي أول مجلة عربية ظهرت في تونس، لتوقظ الغافلين من أبناء أمته، وتفضح أساليب الاستعمار، وترشد الناس إلى مباديء الإسلام وشرائعه.

– بعد جولة في العديد من الدولة العربية والإسلامية ومطاردة فرنسا له، جاء محمد الخضر الحسين للقاهرة سنة 1920م، واشتغل بالبحث وكتابة المقالات، ثم عمل محررًا بالقسم الأدبي بدار الكتب المصرية، واتصل بأعلام النهضة الإسلامية في مصر، وتوثقت علاقته بهم، وحصل على الجنسية المصرية، وتقدَّم لامتحان شهادة العالمية بالأزهر، وعُقدت له لجنة الامتحان برئاسة العلّامة عبد المجيد اللبّان، مع نخبة من علماء الأزهر الأفذاذ، وأبدى الطالب محمد الخضر حسين من رسوخ القدم ما أدهش الممتحنين، وكانت اللجنة كلما تعمَّقت في الأسئلة وجدت من الطالب عُمقًا في الإجابة وغزارة في العلم، وقوة في الحُجة، فمنحته اللجنة شهادة العالمية، وبلغ من إعجاب رئيس اللجنة بالطالب العالم أن قال: “هذا بحرٌ لا ساحل له، فكيف نقف معه في حِجاج”.

– اتجه الشيخ إلى تأسيس الجمعيات الإسلامية، فاشترك مع جماعة من الغيورين على الإسلام سنة 1928م، في إنشاء جمعية الشبان المسلمين، ووضع لائحتها الأولى مع صديقه “محب الدين الخطيب”، وقامت الجمعية بنشر مباديء الإسلام، ومحاربة الإلحاد العلمي.. وأنشأ أيضا “جمعية الهداية الإسلامية” وكان نشاطها علميا أكثر منه اجتماعيا، وضمَّت عددا من شيوخ الأزهر وشبابه وطائفة من المثقفين، وكـوَّن بها مكتبة كبيرة كانت مكتبته الخاصة نواة لها، وأصدر مجلة باسمها كانت تحمل الروائع من التفسير والتشريع واللغة والتاريخ.

– تولّى رئاسة تحرير مجلة نور الإسلام (الأزهر الآن) التي أصدرها الأزهر في 1931م، ودامت رئاسته لها 3 أعوام، كما تولّى رئاسة تحرير مجلة “لواء الإسلام” سنة 1946م، وتحمّل إلى هذه الأعباء؛ التدريس بكلية أصول الدين،

– عند تأسيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة، سنة 1932م، كان من الرعيل الأول الذين اختيروا لعضويته، كما اختير عضوا بالمجمع العلمي العربي بدمشق، وأثرى مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة ببحوثه القـيّـمة عن صحة الاستشهاد بالحديث النبوي، والمجاز والنقل وأثرهما في حياة اللغة العربية، وطرائق وضع المصطلحات الطبية وتوحيدها في البلاد العربية.

مشيخة الأزهر:

– حصل على عضوية هيئة كبار العلماء برسالته “القياس في اللغة العربية” سنة 1950م، ثم اختير شيخا للأزهر في 16 سبتمبر 1952م، بإجماع العلماء

– كان في ذهن الشيخ حين وُلّي المنصب الكبير؛ وسائل لبعث النهضة في مؤسسة الأزهر، وبرامج للإصلاح، لكنه لم يتمكن من ذلك، بسبب الفكر العلماني الكاره للإسلام من ضباط ثورة يوليو 1952م..

– قدم استقالته احتجاجًا على اندماج القضاء الشرعي في القضاء الأهلي، وكان من رأيه أن العكس هو الصحيح، فيجب اندماج القضاء الأهلي في القضاء الشرعي؛ لأن الشريعة الإسلامية ينبغي أن تكون المصدر الأساسي للتشريع، وكانت استقالته في يناير 1954م،

ويُذكر له في أثناء توليه مشيخة الأزهر قولته: (إن الأزهر أمانة في عنقي أسلّمها حين أسلمها موفورة كاملة، وإذا لم يتأت أن يحصل للأزهر مزيد من الازدهار على يدي، فلا أقل من أن لا يحصل له نقص).. وكان كثيرا ما يردد: (يكفيني كوب لبن وكسرة خبز وعلى الدنيا بعدها العفاء).

أرسـل جمال عبـد الناصـر يستفتيه فـى وصف جمـاعة الإخـوان المسلمـين “علـى أنّها جماعة إرهابيّة ومـن الخـوارج”، فصعد الإمام الجليـل علـى منبـر الأزهـر وخطب فـى النّـاس قائلا:

(لقد عشتُ خادمًا لدينـي لا مستخـدما له..ويكفـى العبد الفقيـر كسرة خبـز وشربة مـاء، وما أكثـر الفضاء فـي ملكـوت الله .. وإنّى أُشْهِد الله أنّ الإخـوان المسلميـن دعـوة ربّانية، عرفتهُم مياديـن البـذل والعطاء والجهـاد والتضحية..لم يخونـوا ولم يغـدروا بما علِمتُ عنهم.. وها أنا ذا أُعلـن استقالتي من كلّ منصبٍ يحُول بينـي وبيـن إرضاء ربي)

حروب الخضر حسين الفكرية:

الكتاب الأول ظهر في سنة 1926م، (الإسلام وأصول الحكم) لـ علي عبد الرازق، وقد أثار ضجة كبيرة، وانبرت الأقلام بين هجومٍ عليه ودفاع عنه، وقد صدم الكتاب الرأي العام المسلم حين زعم أن الإسلام ليس دين حُكم، وأنكر وجوب قيام الخلافة الإسلامية، ونفى وجود دليل عليها من الكتاب والسنة، وكانت الصدمة الثانية أن يكون مؤلف هذا الكتاب عالمًا من علماء الأزهر.

نهض الشيخ محمد الخضر حسين لتفنيد دعاوى الكتاب فأصدر كتابه: (نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم) سنة 1926م، تتـبّع فيه أبواب كتاب علي عبد الرازق، فكان يبدأ بتلخيص الباب، ثم يورد الفقرة التي تعبّر عن الفكرة موضوع النقد فيفنّدها، ونقد استخدام المؤلف للمصادر، وكشف أنه يقتطع الجُمل من سياقها، فتؤدي المعنى الذي يقصده هو، لا المعنى الذي يريده المؤلف.

وقد كشف الخضر حسين في هذا الكتاب عن علم غزير، وإحاطة متمكنة بأصول الفقه، وبصيرة نافذة بالتشريع الإسلامي، ومعرفة واسعة بالتاريخ الإسلامي ورجاله وحوادثه.

أمَّا الكتاب الآخر فقد ظهر سنة 1927م، وأحدث ضجة هائلة، (في الشعر الجاهلي) لطه حسين، وكان الشيخ محمد الخضر حسين واحدًا ممن خاضوا هذه المعركة بالحُجة القاهرة، فقد جاهر مؤلفه الدكتور طه حسين بالاحتقار والشك في كل قديم دُوِّن في صحف الأدب، وزعم أن كل ما يُعد شعرًا جاهليًا إنما هو مختلق ومنحول، ولم يكتفِ بهذه الفرية، فجاهر بالهجوم على المقدسات الدينية حيث قال: (للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، ولكن هذا لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي…). وقد انبرت أقلام غيورة لتفنيد ما جاء في كتاب “الشعر الجاهلي” من أمثال الرافعي، والغمراوي، ومحمد فريد وجدي، ومحمد الخضر حسين الذي ألَّف كتابا شافيا في الرد على “طه حسين” بعنوان: (نقض كتاب في الشعر الجاهلي) فنَّد ما جاء فيه، وأقام الأدلة على أصالة الشعر الجاهلي، وكشف عن مجافاة طه حسين للحق، واعتماده على ما كتبه المستشرق الإنجليزي مرجليوث دون أن يذكر ذلك.

من مؤلفاته:

1- رسائل الإصلاح (3 مجلدات)، أبرز فيها منهجه في الدعوة الإسلامية ووسائل النهوض بالعالم الإسلامي.

2- الخيال في الشعر العربي.

3- القياس في اللغة العربية.

4- ديوان شعر (خواطر الحياة).

5- نقض كتاب الإسلام وأصول الحُكم.

6- نقض كتاب في الشعر الجاهلي.

7- آداب الحرب في الإسلام.

8- أبحاث ومقالات عديدة نشرها في مجلة الأزهر (نور الإسلام)، ولواء الإسلام، والهداية الإسلامية، وغيرها.

9- تعليقات على كتاب الموافقات للشاطبي.

بالإضافة إلى أبحاثة في المجمع اللغوي، وكان أشهرها:

1- المجاز والنقل وأثرهما في حياة اللغة العربية

2- الاستشهاد بالحديث في اللغة

3- وصف جمع العاقل بصيغة فعلاء

4- اسم المصدر في المعجم

5- طرق وضع المصطلحات الطبية وتوحيدها في البلاد العربية

6- شعر البديع في نظر الأدباء

7- من وُثِّقَ من علماء العربية ومن طُعِنَ فيه

وفاته:

بعد استقالته من المشيخة، تفرغ للبحث والمحاضرة حتى لبى نداء ربه في مساء الأحد (13 من رجب 1377هـ = 28 من فبراير 1958م)، ودُفن بجوار صديقه: أحمد تيمور باشا، بوصية منه، ونعاه العلامة محمد علي النجار بقوله: (إن الشيخ اجتمع فيه من الفضائل ما لم يجتمع في غيره إلا في النّدْرَى، فقد كان عالما ضليعا بأحوال المجتمع ومراميه، لا يشذ عنه مقاصد الناس ومعاقد شئونهم، حفيظا على العروبة والدين، يردّ ما يوجه إليهما وما يصدر من الأفكار منابذًا لهما، قوي الحجة، حسن الجدال، عف اللسان والقلم …).


المصدر:

(موسوعة “شموسٌ خلفَ غيوم التأريخ” – الجزء الأول – يسري الخطيب)




الإطـراق الأخـير

الإطـراق الأخـير

إبراهيم بن عمر السكران
@iosakran


بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله وبعد،،
إنسان هذا العصر منهمك في دوامة الحياة اليومية..أصبح الواحد منا كأنه ترس في دالوب المهام والتفاصيل الصغيرة التي تستلمك منذ أن تستيقظ صباحاً حتى تلقيك منهكاً فوق سريرك في أواخر المساء..

دوامٌ مضني، ورسالة جوال، ورسالة إيميل، وتعليق فيسبوكي، وخبر تويتري، ومقطع يوتيوبي، وتنقل بين الفضائيات، وصراخ منبهات في طرق مكتظة، وأعمال مؤجلة كلما تذكرتها قرصك الهم، الخ الخ

هل نظم الاتصالات المتقدمة هذه مشكلة، لا، قطعاً، بل هي نعمةٌ من الله يجب تسخيرها فيما يرضيه، لقد جنينا منها الكثير، نعم ربحنا، لكن لا أدري، أشعر أننا خسرنا"الصفاء"..صفاء الذهن، وخلو البال، والتأمل الرقراق حين يتطامن السكون من حولك..

حين يكون الإنسان في فلاةٍ من الأرض، وتناديه عشرات الأصوات تتناهشه من كل جهة؛ فإنه لا يزداد إلا تيهاً وذهولاً..

ومع ذلك، ومع ذلك كله؛ فإن المؤمن تعتريه لحظات مفاجئة بين فينةٍ وأخرى تنتشله من هذا المسلسل المتماسك، فيخرج من مدارات التفاصيل الصغيرة، ويستعيد وعيه بالحقائق الكبرى..

لحظة الصدمة تقع دوماً حين يتذكر المؤمن لحظة لقاء الله، وقرب هذه اللحظة..وقد أشار القرآن إلى مفارقة مؤلمة، وهي شدة قرب لقاء الله، مع كون الإنسان يغفل كثيراً عن هذه الحقيقة، لقاء الله قريب ولا زلنا غافلين، كما قال تعالى: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ)[الأنبياء،1].

والقرآن أخبر عن المعاد بطرق كثيرة متنوعة جداً، ولا أظن باحثاً يستطيع أن يستوعب الآيات القرآنية التي شرحت بعض مشاهد القيامة، وهذه الكثافة الهائلة لهذه الآيات التي تربط العقل المسلم باليوم الآخر ليست عبثاً، ولم تكن كثرتها مصادفةً أو اعتباطاً، ولكنها لأغراض لا تخفى على المتأمل..

والحقيقة أنه من بين الآيات التي تحدثت عن اليوم الآخر لفت انتباهي وشدني كثيراً طائفةٌ من الآيات صورت الناس لحظة القيام من قبورهم، صورت تلك الآيات مشهد الذهول البشري، بالله عليك انظر كيف يصوِّر القرآن مشاعر المقصِّرين في ذلك اليوم:
(وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ*مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ)[إبراهيم،42-43].

انظر كيف سنقوم من قبورنا شاخصةٌ أبصارنا، مهطعين أي مسرعين، ومقنعين رؤوسنا ننظر من شدة الأهوال، ومن شدة التحديق بحيث لا تطرف العين وصف القرآن هذه الحالة بأنهم"لايرتد إليهم طرفهم"، ومن شدة الفزع والرعب وصف الله القلوب بأنها كأنها فارغة فقال"وأفئدتهم هواء"..

ومن التصويرات القرآنية الأليمة لتلك اللحظات، تصوير لحظة الانكسار والذل والضعة التي تعتري المقصِّر، يقول تعالى:
(وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ)[السجدة،12].

بالله تخيل نفسك منكساً رأسك في ذلك اليوم تتمنى العودة لدار العمل..وافجيعتاه.
بل وصف الله الخجل والذل في ذلك اليوم وصفاً آخر يجعل الإنسان ينظر مسارقةً كما يقول تعالى:
(وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ)[الشورى،45]

والإنسان الذليل الخائف يسودّ وجهه، وتعلوه القتامة حتى كأن الليل البهيم يعلو محياه، كما قال تعالى:
(كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا)[يونس، 27]

أرأيت وجهاً كأنه الليل؟!يالذلِّ ذلك اليوم..

ومن الصور القرآنية التي تنخلع لها القلوب صورة الجثو على الركب في ذلك اليوم، فترى الناس مستوفزين لا يصيب الأرض منهم إلا ركبهم وأطراف أقدامهم، كما قال تعالى:
(وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ* هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[الجاثية،28-29].

وكما وصف الله القلوب أنها من شدة فزعها كأنما هي خالية"وأفئدتهم هواء"، فإنه في موضع آخر وصف الله القلب من شدة الرعب بأنه من شدة خفقانه كأنما صعد للحنجرة مع الصمت المطبق:
(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ)[غافر،18].

وثمة آيات أخرى كثيرة تصف الذعر الشديد، وذهول الناس في ذلك اليوم..
ولا يقطّع نياط القلب مثل علمنا بأن هذه الأحوال التي وصفها كتاب الله لا يفصل بيننا وبينها إلا مجئ ملك الموت في الساعة المقدرة اليوم أو غداً، ومع ذلك لا زالت الغفلة تكبلنا..
وفي ست مواضع من كتاب الله وصف الله ذلك اليوم بأنه "بغتة"أي مفاجئ..فياليت شعري على أي حالٍ سيباغتنا ذلك اليوم..

واللافت في الأمر-أيضاً- أن علماء الإلهيات يؤكدون أن القرآن أكثر من ذكر اليوم الآخر بما لايوجد مثله في الكتب السماوية، كما يقول ابوالعباس ابن تيمية:
(وفي القرآن من ذكر المعاد وتفصيله، وصفة الجنة والنار، والنعيم والعذاب؛ ما لا يوجد مثله في التوراة والإنجيل)[الجواب الصحيح، ابن تيمية].

بل إن الله تعالى تمدَّح بتعظيم نفسه بإلقاء الوحي على الرسل لكي ينبهوا الناس على اليوم الآخر، فجعل الله من أعظم وظائف الوحي تذكير الناس بقرب لحظة لقاء الله، كما قال تعالى:
(رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ)[غافر، 15].

والله إنه لأمرٌ محرج أن يكون الله يوضح لنا أن من أغراض الوحي تنبيه الناس على لقائه، ونحن غافلين عن هذه الغاية القرآنية العظيمة، هل نحن حين نتلو القرآن نستحضر أن من مقاصد القرآن تعميق استحضار اليوم الآخر في النفوس؟ هل منحنا الآيات التي تصور مشاهد اليوم الآخر منزلتها التي تستحقها؟

حين ننشغل بدنيانا ونغفل عن هذا اليوم القادم، فنحن لا نغفل عن يومٍ عادي بتاتاً، إننا نغفل عن يوم وصفه كتاب الله بقوله:
(إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا)[الإنسان،27]

هذا الإطراق، وخشوع الأبصار، وتنكيس الرؤوس، وفراغ القلوب من الرعب، والجثو على الركب، في ذلك اليوم العصيب، ماسببه؟ لماذا تتيبس الأعصاب وتتجمد الأطراف؟ لا شك أن ذلك بسبب هول العذاب، وخجل الأعمال، ولكن ثمة أمر آخر أعظم من ذلك كله، وهو جلال وهيبة الله تعالى إذ يتجلى لذلك اليوم، سبب الإطراق إدراك الجميع لـ"عظمة الله"، إنه الرحمن -جل وعلا- تخشع له الأصوات في ذلك اليوم المهول:
(يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً)[طه،108]

وقال جل شأنه عن ذلك اليوم (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً)[طه،111]

ومعنى عنت أي خضعت وذلّت واستسلمت كما قال أهل التفسير.

حسناً .. كلما استطاع المسلم التخلص من الضباب الكثيف الذي يصنعه الانهماك في الدنيا، ومنح نفسه ساعة تأمل في لحظة صفاء، وتذكر قرب لقاء الله؛ فإنه سيتفاجأ بحيوية جديدة تدب في نفسه، سيشعر كأنما قام قلبه باستحمام إيماني يزيل عنه العوالق والأوضار، ستتغير نظرته لكثير من الأمور..

ومن أهم ما يصنعه استحضار لقاء الله في النفوس الزهد في الفضول، فضول النظر، وفضول السماع، وفضول الكلام، وفضول الخلطة.

ومما يصنعه استحضار لقاء الله في النفوس الإقبال على القرآن، فيعيد المثقف المسلم صياغة شخصيته الفكرية على ضوء القرآن، لأن الله في هذا اللقاء العصيب القادم سيحاسبنا على ضوء هذا القرآن، كما قال تعالى (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ*فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ)[القصص،65-66]

وإنه والله لغاية الخسارة أن يبني المثقف المسلم شخصيته من كتب فكرية منحرفة، هل رأيت أخسر ممن يترك النبع ويترشف المستنقعات؟!

ومما يصنعه استحضار لقاء الله في النفوس إقبال المرء على نفع إخوانه المسلمين في دينهم ودنياهم، في دينهم مثل: تعليم الناس معاني كلام الله ورسوله، ودنياهم مثل: حاجات المسلمين الطبية والهندسية والسياسية والاقتصادية ونحوها، وأي تهييجٍ لهذه المنزلة أشرف من قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في صحيح مسلم:
(من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه فى الدنيا والآخرة، والله فى عون العبد ما كان العبد فى عون أخيه)[صحيح مسلم،7028]
 

فمن استحضر لقاء الله هل يستطيع أن يتجاهل دماء إخوانه المسلمين في ليبيا واليمن وسوريا؟ هل يستطيع أن يتجاهل إخوانه السنة في البحرين؟
ومما يصنعه كثرة استحضار لقاء الله الاستخفاف بالجاه في عيون الخلق، والتعلق بالجاه عند الله جل وعلا، وماذا يغني عنك ثناء الناس وأنت تعرف من خطاياك مالو علموه لما صافحوك؟! من وضع بين عينيه لقاء الله، والمنزلة عند الله، وكيف ستبدِّل الآخرة من منازل الناس بشكل انقلابي كما قال تعالى عن الآخرة (خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ)[الواقعة،3]، من استحضر ذلك كله؛ علم رخص الشهرة والظهور والرياسة، وكسد سوقُها في قلبه، وأيقن أنها أهدافٌ في غاية التفاهة بحيث لا تستحق دقيقة جهد، فضلاً عن أن يذهب عناء السنين في العلم والعمل لأجل مديح الناس.

يا ألله ..كيف يدع الإنسان جبار السموات والأرض، وينصرف قلبه لمخلوق ضعيف مثله يتوسل مديحه ويتزين لثنائه؟!وأين الله من الناس؟!ولذا فوصيتي لنفسي وأخي القارئ أنه كلما اصطدت نيتك وقد التفتت إلى المخلوقين فتذكر مباشرة قوله تعالى(آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ)[النمل،59]..

والله أعلم،،

المصدر : رؤى فكرية


كيف فرط شهبندر التجار”السيسي” في أصول مصر الاستراتيجية

كيف فرط شهبندر التجار”السيسي” في أصول مصر الاستراتيجية

تقرير إعداد رئيس التحرير

سمير يوسف

رئيس منظمة “إعلاميون حول العالم”

لماذا لاتستجيب السماء لدعاء الشعب المصرى ؟؟؟

في 14 أغسطس 2013، عندما فضت قوات الجيش والشرطة اعتصامي “رابعة والنهضة” للرافضين لما وصفوه “انقلابًا عسكريًا”، شهدت أم الدنيا “أسوأ واقعة قتل جماعي غير مشروع في تاريخ مصر الحديث” وفقا لتقرير مشترك أصدرته منظمتا العفو الدولية وهيومان رايتس ووتش ، حيث قتل ما يزيد عن 1000 قتيل في تصريح لرئيس الوزراء حينها حازم الببلاوي، في الوقت الذي أكد فيه “التحالف الوطني لدعم الشرعية” أن عدد القتلى 2600، ذلك بالإضافة إلى آلاف المصابين، أرقام مفزعة دفعت محللين إلى القول بأن ذلك اليوم يعتبر أعلى عدد قتلى  شهده العالم الحديث في “يوم واحد”، وبالرغم من تلك الأرقام، لم تجف دماء المصريين  وعاشت مصر أيامًا دموية أخرى.

أحداث مسجد الفتح: دماء التضامن مع ضحايا «الفض»

تنديدًا بالدماء التي سالت في  فض اعتصامي “رابعة والنهضة”، انطلقت -في 16 أغسطس- تظاهرات ضخمة قصدت ميدان رمسيس أمام مسجد الفتح، سميت المظاهرات من قبل القائمين بها “جمعة الغضب” في استدعاء لذكرى جمعة الغضب التي عاشت فيها الداخلية حالة من الفوضى العارمة يوم 28 يناير 2011، مظاهرات واجهتها قوات الأمن المصرية  ما أدى إلى سقوط ضحايا اختلفت المصادر في تحديد عددهم بشكل دقيق، مصادر رسمية صرحت أن الأحداث أسفرت عن مقتل 44 شخصًا وإصابة 59 آخرين بينهم 22 من قوات الأمن، فيما أكدت منظمة “العفو الدولية” أن الشرطة قتلت ما لا يقل عن 121 متظاهرًا في محيط ميدان رمسيس، في الوقت الذي أصدر “التحالف الوطني لدعم الشرعية” بيانه الـ66 الذي أكد فيه أن حصيلة القتلى في كافة المحافظات المصرية 213 متظاهرًا، في الوقت الذي تجاهلت فيه لجنة “تقصي حقائق الـ30 من يونيو” أحداث مسجد الفتح بالأساس.

أثناء الاشتباكات اتجه مئات المتظاهرين والمصابين إلى  “مسجد الفتح”  الذي تحول إلى مستشفى ميداني، وتعذر الخروج منه لمحاصرة قوات الأمن له، تزامنا مع بدء ساعات حظر التجوال، وفي صباح 17 أغسطس اقتحمت قوات الأمن المسجد واعتقلت ما يزيد عن 600 متظاهر بينهم مصابون، ووجهت إليهم تهم ارتكاب جرائم تدنيس مسجد الفتح وتعطيل إقامة الصلاة به، بالإضافة إلى ما ذكرته النيابة في تحقيقاتها “أن مرتكبي الأحداث هاجموا قسم شرطة الأزبكية، وألقوا تجاهه العبوات الحارقة “مولوتوف” والقنابل المفرقعة والمسيلة للدموع، ثم أطلقوا نيران أسلحتهم النارية الآلية بكثافة صوب قوات تأمين القسم ، فقتلوا 210 مواطنين من بينهم أمين شرطة، وأصابوا 296 من بينهم 47 ضابطا وفرد شرطة”، في الوقت الذي صرح فيه اللواء مدحت المنشاوي- مساعد وزير الداخلية ومدير الإدارة العامة للعمليات الخاصة المكلف بفض تظاهرات مسجد الفتح  عقب اعتقال المتظاهرين:  “بعدم  وقوع أي إصابات من الجانبين”.



سيارة ترحيلات أبو زعبل: الإعدام البطيء بدمٍ بارد

انهار أهالي المعتقلين بمنظر أجساد ذويهم التي بدت منتفخة وعليها تشوهات في مختلف أنحائها

ولم تختلف المصادر الرسمية والحقوقية والحزبية في عدد القتلى فأجمعوا على مقتل 37 معتقلًا، و على إثر تلك الواقعة تم تقديم 4 من رجال الشرطة إلى المحاكمة  من أصل 15 رجل شرطة رافق السيارة بتهمة الإهمال، وكان من اللافت للنظر أن تلك الواقعة تم تصنيفها على أنها جنحة وليست جناية ما يعني أن أقصى عقوبة لتلك الواقعة كجنحة هي الحبس 3 سنوات كحد أقصى وغرامة لا تزيد عن 100 ألف جنيه!  وليست جناية، التي يمكن أن تصل العقوبة فيها إلى الحكم بالمؤبد أو الإعدام، وفي 7 يونيو  2014 ألغت محكمة جنح مستأنف الخانكة الحكم الصادر ضد عمرو فاروق نائب مأمور قسم مصر الجديدة بالسجن 10 سنوات، وكذلك ضباط القسم الثلاثة على حكم حبسهم سنة مع إيقاف التنفيذ.

أحداث 6 أكتوبر 2013: “ناس بترقص وناس بتموت”

بعد أحداث”الفض” مرورًا بأحداث مسجد الفتح وصولا لواقعة “ترحيلات أبو زعبل”، ظهر أنه بمرور الوقت ينخفض مؤشر القتلى حتى جاءت أحداث 6 أكتوبر 2013 ذلك اليوم الذي دعا فيه “التحالف الوطني لدعم الشرعية” لتظاهرات تحت اسم “اليوم الأخير للانقلاب” وأعلن عن نيته للدخول إلى ميدان التحرير-حيث تجمهر مؤيدو السيسي استعدادًا للاحتفال بالذكرى الـ40 لنصر أكتوبر- وعلى وقع نغمات الأغنية المؤيدة للسيسي”تسلم الأيادي” و الأضواء والألعاب النارية  في ميدان التحرير، قامت قوات الأمن بالاعتداء على المظاهرات  المعارضة وخصوصًا تلك التي كانت على بعد كيلومتريْن تقريبا من ميدان التحرير بجوار محطة مترو الدقي، واختلفت حصيلة الضحايا بين المصادر بفروق طفيفة، حيث أعلنت وزارة الصحة وقتها وصول عدد القتلى إلى 53 بالإضافة إلى 271 مصابًا، فيما ذكرت العفو الدولي في بيانها أن الشرطة قتلت ما لا يقل عن 57 متظاهرًا .

وقامت قوات الأمن باعتقال 423 متظاهرًا، وبعد عام من الحبس الاحتياطي  تم إخلاء سبيل 123 معتقلًا منهم، وكانت المحكمة قد قضت بالحكم 3 سنوات على المتهمين، تم تخفيفه لسنة واحدة، فيما قضت محكمة جنايات القاهرة، بمعاقبة 63 متهمًا بالسجن المشدد 15 سنة وغرامة 20 ألف جنيه ، وعاقبت 5 متهمين آخرين بالسجن

خطوة تلو الأخرى، تعلن عنها السلطات المصرية منذ تولي شهبندر التجار”عبدالفتاح السيسي”، تحيط السرية تفاصيل أغلبها، تثبت مع مرور الوقت تفريط القاهرة في أصولها الاستراتيجية.

التفريط فى مياه نهر النيل شريان الحياة للمصريين

في ربيع 2015، وقع “السيسي”، في العاصمة الخرطوم، اتفاق مبادئ مع كل من إثيوبيا والسودان، يعتبره المصريون بوابة سمحت لأديس أبابا لتمويل بناء سد النهضة من البنوك والمؤسسات الدولية.

اتفاق المبادئ الذي وقعته الدول الثلاث، قوى ظهر إثيوبيا ولهجتها في الحديث عن ملء السد، بغض النظر عن التوصل إلى اتفاق ثلاثي مع مصر والسودان.

وفي كل مرة تفشل فيها المفاوضات الثلاثية أو تلك التي تدخلت فيها بعض البلدان أو الكيانات الإقليمية والدولية بنوع من الوساطة والرعاية، ومع كل تصريح إثيوبي يعتزم تخزين المياه أمام السد، كانت جميع الأنظار تعود إلى مشهد توقيع اتفاق إعلان المبادئ.

ووفق تصريحات إثيوبية عديدة، فإن أديس أبابا تستند إلى هذا الاتفاق لشرعنة إتمام ملء سد النهضة بدون الرجوع إلى كل من القاهرة والخرطوم، رغم فشل جميع المفاوضات.

في الوقت نفسه، تلوم المعارضة المصرية “السيسي” كونه وقع على اتفاق تعتبره إهدارا لحقوق مصر التاريخية في نهر النيل، بينما يقول مؤيدون للسلطة إن الاتفاق يخلو من أي شرعنة تدعيها إثيوبيا أو إهدار لحقوق مصر التاريخية في مياه نهر النيل.

ووفق المعارضة المصرية، سعت أديس أبابا عبر الاتفاق للوصول إلى مبادئ إرشادية عامة تمنحها الحق في البناء دون مقابل ولا ضمانات، كما رفضت احتفاظ القاهرة بحصتها التاريخية في مياه النيل (55 مليار متر مكعب) بدعوى أن ذلك سيؤثر على الحصة الإثيوبية وقت الجفاف المتوسط والممتد أثناء الكوارث الطبيعية.

وفي مايو/أيار الماضي، تحدث مدير السد “كيفلي هورو”، عن مخاوف مصر والسودان من التأثيرات السلبية لعمليات الملء.

وتعتبر مصر سد النهضة الإثيوبي تهديدا كبيرا لمواردها من المياه العذبة، والتي يأتي أكثر من 90% منها من نهر النيل.

تيران وصنافير

في 24 يونيو/حزيران  2017، صادق “السيسي” على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع السعودية، والتي انتقلت بمقتضاها جزيرتي تيران وصنافير لحوزة المملكة، وذلك بالتزامن مع إعلان الرياض منح القاهرة مبلغ 2 مليار دولار.

هذه الخطوة جعلت “تيران” م ضيقا دوليا يحق للاحتلال الإسرائيلي وغيره من دول العالم المرور به، بعدما كان مصريا خالصا.

ووفق مراقبين وناشطين، فإن تنازل مصر عن الجزيرة كان خطأ استراتيجيا أثر على أمن البلاد القومي، وعلى اقتصادها وتجارتها وعلى عبور السفن لقناة السويس، وذلك لما منحه ذلك التنازل للاحتلال من حق المرور الحر في مضيق “تيران” كممر ملاحي دولي.

ومنح التنازل المصري للاحتلال فرصة عقد اتفاقيات نقل البترول من الإمارات عبر سفن عملاقة إلى ميناء إيلات مرورا بمضيق تيران، والتي كانت أول شحنة لها في 28 أيار/ مايو 2021، ما يؤثر على مستقبل قناة السويس.

وتفصح صفقة النظام المصري على نقل تبعية جزيرتي تيران وصنافير للسعودية عن حجم التحوّلات، التي تمضي فيها سياسة البلدين، والتوافقات الجديدة والتحالفات التي ترسّم سياسة الشرق الأوسط وموقع إسرائيل منها، التي تتخفى في تفاصيله كـ”الشيطان”، فيما تبدو القاهرة في موقع التبعية للرياض.

دعم حفتر

عقب الإطاحة بنظام “معمر القذافي” في ليبيا عام 2011، كانت مصر أحد رعاة الحل السياسي للأزمة الليبية، لكنها مع الوقت دأبت بجانب الإمارات على دعم الجنرا ل المتقاعد “خليفة  حفتر”، وبفضلهما تحسّنت حظوظه العسكرية.

ورغم تأكيد القاهرة الالتزام بما سمته “مبدأ البحث عن تسوية سياسية للصراع الليبي” فإنها اعتبرت قوات حكومة الوفاق المعترف بها دوليا “إرهابية مدعومة من تركيا ولا مفاوضات معها”، لتبقى مصر في خانة “حفتر”، والتي لا تزال مصرة عليه عبر معاداة حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس.

ومنذ 2014، قدم نظام “السيسي” دعما سياسيا وعسكريا ولوجستيا وإعلاميا كبيرا لـ”حفتر”، وكثيرا ما تم استقباله في القاهرة بصفته “قائدا للجيش الليبي”، لكن محاولات “حفتر” للسيطرة على العاصمة الليبية بالقوة وإنشاء نظام عسكري موال للقاهرة باءت بالفشل.

اللافت أنه في مقابل الدعم السخي لـ”حفتر”، لم تحصد مصر على مدار نحو 8 سنوات، مكاسب تذكر، تعوضها بعضا من فاتورة الدعم الذي قدمته لقوات الشرق الليبي.

وجراء هذا التدخل، فقدت مصر حيادها تجاه الأزمة الليبية، وجرى تصنيفها من قبل حكومة طرابلس ضمن “محور الشر”، وسط مطالبات بمحاكمة الأطراف الإقليمية الضالعة في تأجيج النزاع الليبي المستمر منذ 2011.

ومن الخسائر الاستراتيجية التي ستؤثر على الدور المصري لاحقا، تضرر علاقاتها بدول الشمال الإفريقي مثل تونس والجزائر والمغرب، والتي تعتبر سقوط طرابلس خطا أحمر، وترى في مشروع “حفتر” تهديدا لأمنها القومي.

كما أن “حرب الوكالة” التي تشهدها الأراضي الليبية، فتحت الباب لموطئ قدم أمام قوات غربية من دول عدة، وهو ما قد يتطور لاحقا في إقامة قواعد عسكرية لقوى أجنبية بما في ذلك قاعدة لروسيا في شرق ليبيا وقاعدة لحلف الشمال الأطلسي، الناتو، في الجنوب، ما يهدد الأمن القومي لمصر.

كما تسببت الهزائم المتتالية لـ”حفتر”، في منح تركيا فرصة ذهبية لتحويل قاعدة الوطية (غربي البلاد) إلى قاعدة عسكرية تركية دائمة في ليبيا، وهو ما كانت تخشاه مصر.

وتأتي كعكة إعمار ليبيا، كأبرز الخسائر التي تكبدها الجانب المصري، جراء تورطه في حرب بالوكالة في البلد المجاور، غير عابئ بعلاقات حسن الجوار، وفق مراقبين ليبيين.

كما أن عدد العمالة المصرية في ليبيا تراجع إلى 10 آلاف فقط، مقارنة بنحو مليوني و200 ألف مصري كانون يعملون في ليبيا قبل سقوط “القذافي”.

وتتضمن فاتورة الخسائر المصرية في ليبيا، خروج العديد من الشركات المصرية العاملة هناك، أهمها شركتي “بتروجيت” و”إنبي”، وتوقف عدة مشاريع في قطاع النفط والغاز.

غاز المتوسط

في 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2014، عقدت قمة “كالاماتا” بين مصر وقبرص واليونان، تخلت عبرها مصر عن آبار الغاز لقبرص وإسرائيل، وامتثلت لخريطة البنية التحتية الإسرائيلية التي نشرتها في 2011، وتجعل آبار الغار المتنازع عليها بينها وبين مصر في شرق البحر المتوسط، حكرًا لتل أبيب.

حتى أنه في 18 مارس/آذار 2015، أعلن عن تحول مصر من دولة مصدرة للغاز إلى دولة تستورد الغاز من إسرائيل.

وفي 2019، توصلت القاهرة إلى اتفاق ودي مع تل أبيب تدفع بموجبه 500 مليون دولار تعويضا لإسرائيل، في إطار التحكيم الدولي الذي جرى بعد انهيار اتفاق تصدير الغاز المصري إلى إسرائيل في أعقاب ثورة يناير/كانون الثاني 2011.

وفي أغسطس/آب 2020، وقعت مصر واليونان اتفاقية ترسيم الحدود البحرية في منطقة شرق البحر المتوسط، وهو ما وصف بأنه تنازل جديد من “السيسي” عن مواقع تحوي ثروات ضخمة من الغاز.

وفي يوليو/تموز 2022، أثار التفاوت في ردود الأفعال حول عوائد اتفاقية الغاز المبرمة بين مصر وإسرائيل والاتحاد الأوروبي تساؤلات حول مدى استفادة مصر من الصفقة، في ظل تأكيد مراقبين أن تل أبيب هي الرابح الأكبر منها، وأن هناك مبالغة في ما أثير عن مكاسب مصر منها.

أصول مصر الحيوية أمام رياح الاستثمارات الخليجية
بيع الشركات

أمام أزمة اقتصادية حادة، تتسابق دول خليجية في الاستحواذ على شركات مصرية، في خطوة يروج لها على أنها تهدف لإنقاد الاقتصاد المصري الذي يواجه أزمة قد تصل به لحد الانهيار.

ولا تزال الحكومة المصرية تعمل على طرح الشركات الرابحة وعرضها للبيع من أجل حل أزمة اقتصادية متفاقمة تستدعي سداد نحو 30 مليار دولار، بحلول العام الجاري.

وتركز السعودية والإمارات على الاستثمار بدلاً من تقديم مساعدات للميزانية، مع إحباطهما بسبب عدم وجود خطة إصلاح جادة لتقليص العجز العام المصري، رغم النصح بالإصلاح في عام 2014 دون جدوى.

وفي الوقت الذي أنشئ صندوق أبوظبي السيادي، صندوق استثمار مشترك بقيمة 20 مليار دولار مع الصندوق السيادي المصري في عام 2019، وقعت السعودية في مارس/آذار الماضي، اتفاقية تستهدف استثمارات بـ10 مليارات دولار بالتعاون بين صندوق مصر السيادي وصندوق الاستثمارات العامة السعودي.

وعلى الرغم من الانتقادات التي وجهها البعض فإن عمليات الاستحواذ تبدو حتمية، فقد وجهت الحرب في أوكرانيا ضربة خطيرة للاقتصاد المصري من جوانب عديدة تتراوح ما بين ارتفاع أسعار الغذاء والوقود إلى تراجعات كبيرة في الإيرادات السياحية.

وطرحت الحكومة المصرية، قبل أشهر، مسودة سمتها “وثيقة ملكية الدولة” التي تعلن من خلالها التخارج من بعض الأنشطة الاقتصادية في البلاد، وتوسعة دور القطاع الخاص في الناتج الإجمالي القومي.

وتستهدف مصر استثمارات أجنبية بقيمة 10 مليارات دولار خلال العام المقبل، في خطة تقوم على جذب عدد من الصناديق السيادية العربية، في الإمارات والسعودية وقطر والبحرين، وجهات أخرى، بحسب وزيرة التخطيط المصرية.

إلا أن الخصخصة وبيع ممتلكات الدولة تحظى تاريخيا بسمعة سيئة في مصر؛ وذلك نظرا لارتباط هذه العملية بالفساد الذي وصم برنامج الخصخصة الوطني في تسعينيات القرن الماضي.

فقد بيعت أعداد ضخمة من الشركات والمصانع المملوكة للدولة في عهد الرئيس الأسبق “حسني مبارك” بأسعار أقل بكثير من قيمتها الحقيقية في السوق؛ ما أثار سخطا شعبيا في ذلك الوقت.

وثمة مخاوف من أن دولا عربية قد تستغل حاليا الأحوال الاقتصادية المتردية في مصر للاستحواذ على الممتلكات العامة بأسعار أدنى بكثير من قيمتها السوقية، وأن إيرادات البيع ستستخدم لسداد الديون المتراكمة على البلد.

ونجم عن ذلك، القلق من أن مصر ستقايض هذه الإيداعات بممتلكات محلية أو قد تستخدم العائدات لسداد الديون

قناة السويس

وعلى الرغم من قبول البعض لبيع أصول في شركات مملوكة للحكومة، إلا أن الحديث عن بيع أصول قناة السويس، كان له الوقع الأكبر بين المصريين.

فقد جاء الدور عل ى قناة السويس، درة أصول مصر، والتي تدر على موازنة الدولة نحو 7 مليارات دولار سنويا، حيث تقدمت الحكومة للبرلمان بمشروع قانون يقضي بإنشاء صندوق سيادي خاص جديد للهيئة يجري تمويله من إيرادات الهيئة وفائض أرباحها، ويعتبر من أشخاص القانون الخاص وليس العام.

هذا الصندوق بصلاحياته الواردة في القانون يعد بابا خلفيا لخصخصة قناة السويس وبيع أصولها وربما إعادتها مرة أخرى للأجانب، فالصندوق يضع يده على أصول وأموال واستثمارات وشركات أهم ممر مائي في العالم ويتصرف في تلك الأصول سواء بالاستثمار أو التأجير أو البيع.

كما أن المخاوف من استغلال القناة في الاستدانة الخارجية، تأتي وسط معاناة مصر من أزمة ديون متفاقمة، حيث اضطرت في السنوات العشر الأخيرة للاستدانة من منظمات مالية دولية ودول عربية ما يقارب 120 مليار دولار.

ويبلغ حجم الدَّين الخارجي للبلاد نحو 157.8 مليار دولار، وفق تقرير البنك المركزي المصري لشهر سبتمبر/أيلول الماضي، ما يعني أنه زاد بنحو 5 أضعاف مقارنة بحجمه قبل 10 أعوام، حيث بلغ في نهاية عام 2012 نحو 34.4 مليار دولار.

والمخاوف تجاه مستقبل قناة السويس لا تقتصر على البعد الاقتصادي، فثمة أبعاد جيوسياسية وتاريخية واجتماعية تخص الممر الملاحي المصري.

وكان للحكومة المصرية 15% من الأرباح السنوية للقناة، لكن في عام 1880 وأمام ضغوط الديون تنازلت القاهرة للبنك العقاري الفرنسي عن حقها في الحصول على نسبتها؛ وبذلك أصبحت الشركة تحت السيطرة المالية لفرنسا وإنجلترا، للأولى 56% من الأسهم وللثانية 44%.