السبت، 31 ديسمبر 2022

السيسي والأزهر وقانون الزواج الجديد

السيسي والأزهر وقانون الزواج الجديد

قطب العربي

منذ العام 2016 فتح المشير عبد الفتاح السيسي معركة تجديد الخطاب الديني، وكان أحد نقاطها الحساسة عدم الاعتداد بالطلاق الشفهي، بدعوى مواجهة ارتفاع حالات الطلاق في مصر والتي ينجم عنها مشاكل اجتماعية كبيرة، لكن الأزهر تصدى مبكرا لتلك المحاولات، وأصدرت الهيئتان الكبيرتان في الأزهر واللتان يترأسهما شيخه الدكتور أحمد الطيب (هيئة كبار العلماء ومجمع البحوث الإسلامية) بيانين مطلع العام 2017 أكدتا فيه وقوع الطلاق الشفهي شرعا، ما اعتبره النظام موقفا مناوئا له.

حاول السيسي كثيرا خلال السنوات القليلة الماضية دفع الأزهر ترغيبا وترهيبا للعدول عن موقفه دون جدوى، فعمد إلى استخدام عضلاته التشريعية والتنفيذية مؤخرا لسن قانون جديد لا يعتد بالطلاق الشفهي، على خلاف الموقف الشرعي الذي أثبته الأزهر والذي أصدر بيانا جديدا قبل ثلاثة أيام فقط؛ جدد فيه تمسكه بموقفه وتنصل من أي قانون يصدر دون موافقته.

حاول السيسي كثيرا خلال السنوات القليلة الماضية دفع الأزهر ترغيبا وترهيبا للعدول عن موقفه دون جدوى، فعمد إلى استخدام عضلاته التشريعية والتنفيذية مؤخرا لسن قانون جديد لا يعتد بالطلاق الشفهي، على خلاف الموقف الشرعي الذي أثبته الأزهر والذي أصدر بيانا جديدا قبل ثلاثة أيام فقط


تضمن البيان الجديد للأزهر تأكيدا "للرأي الشرعي الثابت من وقوع الطلاق الشفوي المكتمل الشروط والأركان، والصادر من الزوج عن أهلية وإرادة واعية، وبالألفاظ الشرعية الدالة على الطلاق، وهو ما استقر عليه المسلمون منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم، حتى يوم الناس هذا".

كما أعاد الأزهر "التحذير من الاستهانة بأمر الطلاق، ومن التَّسرع في هدم الأسرة، وتشريد الأولاد، وتعريضهم للضياع وللأمراض الجسدية والنفسية والخلقية، وأن يتذكر الزوج توجيهَ النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ الطلاق أبغض الحلال عند الله، فإذا ما قرَّر الزوجان الطلاق، واستنفدت كل طرق الإصلاح، وتحتم الفراق، فعلى الزوج أن يلتزم بالتوثيق دون تراخٍ؛ حفظا للحقوق، ومنعا للظلم الذي يقع على المطلقة والأبناء في مثل هذه الأحوال".

وفقا للدستور المصري في مادته السابعة، فإن "الأزهر الشريف هيئة إسلامية علمية مستقلة، يختص دون غيره بالقيام على كافة شئونه، وهو المرجع الأساسي في العلوم الدينية والشئون الإسلامية، ويتولى مسئولية الدعوة ونشر علوم الدين واللغة العربية في مصر والعالم. وتلتزم الدولة بتوفير الاعتمادات المالية الكافية لتحقيق أغراضه. وشيخ الأزهر مستقل غير قابل للعزل، وينظم القانون طريقة اختياره من بين أعضاء هيئة كبار العلماء".

هذا النص يبطل دستوريا أي قانون خاص بالزواج أو الطلاق دون موافقة الأزهر عليه، وقد أكد الأزهر أن التشريع الذي تعده لجنة حكومية الآن لم يعرض عليه رغم أن وزير العدل ادعى غير ذلك، كما أن الأزهر نفسه أعد مشروع قانون يعالج مشكلة تراخي البعض في إثبات حالة الطلاق لكن الحكومة لم تكترث له.

يريد السيسي من خلال تدخله في قانون الأسرة الجديد تقديم نفسه للغرب باعتباره رسول الحداثة، وأنه الوحيد القادر على مواجهة الفكر الإسلامي المستقر منذ فجر الإسلام، ومواجهة الأزهر رغم ما يتمتع به من وضع دستوري أقسم السيسي نفسه على احترامه


يريد السيسي من خلال تدخله في قانون الأسرة الجديد تقديم نفسه للغرب باعتباره رسول الحداثة، وأنه الوحيد القادر على مواجهة الفكر الإسلامي المستقر منذ فجر الإسلام، ومواجهة الأزهر رغم ما يتمتع به من وضع دستوري أقسم السيسي نفسه على احترامه، وهذا الوضع الدستوري يجعل للأزهر الكلمة الفصل في القضايا الإسلامية، كما يحصن شيخ الأزهر من العزل.

كما يهدف السيسي من القانون الجديد أيضا إلى تأسيس صندوق جديد تحت مسمى "دعم الأسرة" لينضم إلى مجموعة صناديق أسسها منذ العام 2015، بدءا بصندوق تحيا مصر والصندوق السيادي وصندوق قناة السويس.. إلخ، وهي صناديق مغلقة لا يعرف الناس عنها شيئا، ولا تتمتع بشفافية، أو تخضع لرقابة الجهات المختصة، بل أعلن السيسي أكثر من مرة أنه الوحيد المسئول عنها، وعن الصرف منها.

وينطبق هذا الأمر على صندوق دعم الأسرة الجديد الذي مثل قيدا على عمليات الزواج (بفرض رسوم لصالح الصندوق)، على عكس ما تدعو قواعد الشريعة من ضرورة تيسير الزواج للشباب تحصينا لهم، وتحقيقا للاستقرار المجتمعي. وإذا كان النظام يدعي أن الصندوق سيكون مخصصا للإنفاق على الأسر والأطفال في حال وقوع الطلاق، أو في فترة الخلاف قبل وقوع الطلاق فعليا، فإن هناك ما يقوم بهذه المهمة، وهو بنك ناصر الاجتماعي الذي يتوفر على هذا البند في أعماله، وكان من الممكن لو حسنت النوايا أن يطلب من المتزوجين وضع نسبة من قيمة مؤخر الصداق في بنك ناصر لذاك الهدف، لكن النوايا الغامضة هي التي دفعت لتأسيس صندوق جديد، وهناك شكوك في أن هذا الصندوق وغيره من الصناديق ستصرف أموالها في سداد أقساط الديون الخارجية، أو على مشروعات غير مدروسة، وليس للغرض الذي أنشئت من أجله.

النوايا الغامضة هي التي دفعت لتأسيس صندوق جديد، وهناك شكوك في أن هذا الصندوق وغيره من الصناديق ستصرف أموالها في سداد أقساط الديون الخارجية، أو على مشروعات غير مدروسة، وليس للغرض الذي أنشئت من أجله


إصرار السيسي على تمرير قانونه رغم مخالفته الشرعية سيضع المؤسسات الدينية، ونقصد هنا تحديدا وزارة الأوقاف ودار الإفتاء، أمام اختبار ديني، خاصة بعد أن أعلن الأزهر موقفه وجدده أكثر من مرة، وحتى لو انحازت هذه المؤسسات لرؤية السيسي كونها جزءا من السلطة التنفيذية فإن ذلك لن يفيد السيسي في شيء؛ كون الأزهر هو المختص وحده بهذا الأمر وفقا للدستور.

قد لا يكون الوضع الدستوري عقبة كبرى أمام السيسي للتخلص من شيخ الأزهر (المحصن من العزل)، فقد سبق له أن عزل المستشار هشام جنينة، رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات وهو محصن من العزل بنص الدستور أيضا، كما أنه عدل قانون السلطة القضائية ليكون هو صاحب قرار تعيين رؤساء الهيئات القضائية بالمخالفة للنصوص الدستورية حول استقلال السلطة القضائية، ولكن العقبة هي المكانة الاجتماعية والدينية الكبيرة التي يتمتع بها الأزهر وشيخه لدى المصريين وعموم المسلمين. ومع ذلك يبقى الاحتمال واردا، وقد لا يعدم النظام حيلة لدفع الشيخ نفسه للاستقالة في نهاية المطاف.. والرهان الآن على إدراك الأزهر لما يتعرض له من مكائد، وقدرته على مواجهتها بفطنة، وتفويت الفرصة على المتربصين به، مع بقائه على ثغره منافحا عن صحيح الدين والخلق القويم.

twitter.com/kotbelaraby

صورة اليوم

 صورة اليوم

ضايقهم بِرُّنا بأمهاتنا فدعوا إلى عدم تمجيد الأمهات! ضايقتهم عِفَّتنا فدعوا إلى الدعارة والش/ذوذ! ألا يشعر الدنيويون بالخزي حين يخونون أمتهم ليكونوا عبيدًا أذلاء للغرب الذي يحتقرهم؟

فايز الكندري





“الكريسماس” وصراعُ الْهُوِيّات

 “الكريسماس” وصراعُ الْهُوِيّات

د. عطية عدلان

مدير مركز (محكمات) للبحوث والدراسات – اسطنبول

على الرغم من يقيني بصحة ما اتفق عليه العلماء من حُرْمَةِ تهنئة أهل الكتاب بأعيادهم، وعلى الرغم من رفضي القاطع للتأويلات والتعللات التي يبديها أصحاب الفقه المأزوم، الذين يجيزون هذا الأمر ويسوغونه، فلستُ مَعْنِيًّا بهذه المسألة ولا مهتمًا بها؛ لا لصغرٍ أو ضآلةِ شأنٍ أو غير ذلك مما تتسم به بعض الأمور، ولكن لأنّ هناك ما هو أكبر وأخطر، وهو ما يمكن أن نسميه: صراع الهويات، فهل هذا الصراع على جانب من الأهمية والخطورة؟ وهل يمثل الكريسماس رمزا لهويةٍ مُحادِدَةٍ للهوية الإسلامية؟

 الكريسماس يعني “ميلاد المخَلِّص” والمخَلِّصُ في عقيدة النصارى هو المسيح، الذي هو الربّ عند بعضهم، وابن الربّ عند آخرين منهم، هذا العيدُ عيدٌ دينيٌّ كبير، ففي إنجيل لوقا: (إنّي أبشركم بفرح عظيم يعم الشعب كله؛ إنّه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرَّبّ) (إنجيل لوقا 2/10-11)، ومن ثمّ فهو رمز لهويتهم لا يقل عن رمزية عيد القيامة، وذلك مثلما لعيد الفطر ولعيد الأضحى عندنا من رمزية تبرز الهوية الأسلامية، وقد اندمجت المناسبة الدينية تلك برأس السنة الميلادية بشكل كامل.


 وقد درج الناس على الاحتفال بهذا “الكريسماس”، وكثيرٌ من المسلمين لا يكتفي فقط بتهنة النصاري في عيدهم هذا، وإنّما يشاركونهم الاحتفال بالصور والأشكال ذاتها، لكنّ هذا على ضآلته في حسهم يُعَدُّ وِزْرًا كبيرا وانحرافا خطيرا؛ لأنّ الأمر هنا قبل أن يكون أفعالا محرمة في الإسلام أو ممارساتٍ مُجَرَّمةً في الشريعة هو قبل ذلك صورةٌ من صور التَّبَعِيَّة التي تطمس الهوية الإسلامية وتذيبها في الهويات المحاددة، وهم لا يبالون بصراع الهويات الذي يحتدم عند تخوم الحضارات والأديان، وهو الصراع الأكثر خطورة؛ لأنّه يمثل خط التماس الأول في جميع أصعدة الصراع بين الأمم المختلفة، وما وراءه متأثر به.


ولعل هذا الصنيع من أوائل ما يدخل في الحديث المتفق على صحته عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ»، قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ: اليَهُودَ، وَالنَّصَارَى قَالَ: «فَمَنْ» أي: من غيرهم يمثل خطرا عليكم ويكون حريصا على إضلالكم؟ واختيار جحر الضب هنا للإشارة إلى ما يشترك فيه سلوكُ طريقِهِم مع سلوكِ جحرِ الضَّبِّ من الدواهي، فجحر الضبّ يتميز بِنَتَنِهِ وضِيقِهِ وتَعَرُّجِهِ وظُلْمَتِهِ وانْسِدادِ أُفُقِهِ. 

وإذا أردنا كلمة قرآنية تساوي كلمة “هوية” فهي كلمة “صِبْغَة” وقد وردت في سورة البقرة في سياق ما تتميز به الأمة المسلمة على لَدُنْ إبراهيم عليه السلام من الإسلام والحنيفية السمحة، قال تعالى: (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) (البقرة: 138)، ثم جاء بعد هذا الوصف في نفس السورة ربع كامل يتحدث عن الهوية، بدءًا من قول الله تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (البقرة: 142).

وعلى الرغم من أنّ الأصل الذي تقرر من قَبْلُ في نفس السورة هو أنّ الجهات كلها لله وأنّ من صلى إلى أيّ جهة قاصدا وجه الله فَثَمَّ وجهُ الله: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) (البقرة: 115)، وعلى الرغم من عظمة بيت المقدس وعلو قدره، وما انتشر فيه وحوله من بركة النبوات وعبق التاريخ: (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) (المائدة: 21)، (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا) (الأعراف: 137)، (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) (الإسراءء: 1)، وعلى الرغم من أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون صلوا إلى بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا، كما روى البراء بن عازب؛ على الرغم من ذلك كله فقد صدر الأمر الإلهيّ بالتوجه في الصلاة إلى المسجد الحرام: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (البقرة: 144)، وصار من يومها استقبالُ المسجد الحرام شرطا لصحة الصلاة، لا تصح ولا تقبل بدونه.

  لماذا؟ لهذا السبب الوحيد: الهوية المميزة، فالأمّة الإسلامية أمّة قائدة رائدة يجب أن تكون متبوعة لا تابعة، لذلك جاء جواب القرآن على سؤال السفهاء البُلَهاء: (ما ولَّاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها)؟ جاء على هذا النحو: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (البقرة: 143)، فالأمة الإسلامية جعلها الله أمةً وسطًا عَدْلًا، وأعطاها المنهج الذي يُعَدُّ معيارا تُقَيَّمُ به الأفكار والأفعال والمواقف والأشخاص والمذاهب والأمم، فلا يصح أن تكون تابعة، ولا يحق أن تنطمس هويتها، ولاسيما مع أهل الكتاب الذين سيبقى صراعهم مع المسلمين ويدوم إلى يوم الدين.

ولأنّ مسألة الهوية على هذه الدرجة من الخطورة فإنّ الوضع الطبيعيّ والواقع التلقائيّ والموقف البدهيّ هو تمسك كل قوم بهويتهم، وإبرازهم لكل ما يرمز لهذه الهوية، من أجل ذلك قرر القرآن هذا الواقع الطبيعيّ البدهيّ: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) (البقرة: 145)، فلا يصح للأمّة الإسلامية أن تفرط في القبلة ولا في أيّ رمز للهوية الإسلامية المميزة؛ حتى لا يكون للناس عليهم حجة، وحتى يتم الله عليهم نعمته بالنصر والتمكين وتمام الهدى: (وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (البقرة: 150).

ولا ريب أنّ هذا كلَّه لا علاقة له بالبر والقسط مع أهل الكتاب وغيرهم من شعوب الأرض، فهذا مشروعٌ ومستحبٌ بل واجبٌ، وميدان المجاملة فيه هو الأمور الدنيوية لا الدينية، كالتهنئة بالأفراح والتعزية في المصائب، والمساعدة والنجدة وإغاثة الملهوف، وقد كان وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت له قبل البعثة وبعدها كما قالت خديجة: (إنّك لَتَصِلُ الرّحم وتَحْمِل الكَلَّ وتُكْسِبُ المعدوم وتُقْرِي الضيف وتُعِينُ على نوائب الحقّ)، فَهَلَّا وعينا الخطر المحدق بنا؟ وفَرَّقنا بين مواقف البر والإحسان والعدل والقسط والرحمة، ومواقف المفاصلة والمباينة والتَّميز، فأمّا الأولى فهي في الأمور الدنيوية، وأمّا الأخرى فهي في أمور الدين والشعائر وكل ما يتعلق بالهوية المميزة، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

أي أصدق امنية لسنة 2023؟

               أي أصدق امنية لسنة 2023؟

منصف المرزوقي الرئيس التونسي

 

ثمة بالطبع الأماني المعتادة والتي نحن بأمس الحاجة للتعلق بتحقيقها وكلها مرتبطة بصفة أو بأخرى بانتهاء المآسي التي نعيشها اليوم على صعيد الشعب والأمة.
اسمحوا لي بالقطع مع هذه التمنيات الكلاسيكية – على أهميتها-لأتمنى لكم تونسيون وعرب ما أراها أهم وأجمل أمنية: نهاية متلازمة فقدان الاحترام الحادة التي أصبحت السمة شبه الطبيعية في حياتنا اليومية وفي علاقاتنا ببعضنا البعض
*انظر فقدان احترام لغة الرسول الأعظم، لغة المتنبي وابن منظور والشابي وكيف أصبح الناس يكتبون في صفحات التخاصم الاجتماعي وكيف أن عتاة المثقفين أنفسهم لم يعودوا يخجلون من الكتابة بهريسة وعجينة ومسخ لغة وقارن بين احترام الصينيين والكوريين واليابانيين للغتهم ولا أتحدث عن الفرنسين والانجليز والألمان.
*انظر فقدان احترام مقدساتنا ومعتقداتنا، سحبنا القيم لم نحتفظ منها إلا بالطقوس.
*انظر فقدان احترام المنقلب لقسمه الدستوري ومنتخبيه (وأنا منهم) وكيف لا يتكلم في أي مناسبة إلا لسب وشتم وتخوين وتحقير كل من يخالفه الرأي.
*انظر فقدان احترام الشعب للمنقلب وهو اليوم مضغة كل الأفواه سخرية وازدراء وتندرا.
*انظر عمق انهيار احترامنا للنظام، للدولة، للإدارة، للإعلام ...وكيف أنهم هم أيضا لا يحترموننا في شيء.
اقرأ ما يكتبه الناس عن المخالف والمختلف في صفحات التخاصم الاجتماعي لتقدر انهيار احترام بعضنا البعض.
*انظر تعاملنا مع الذين لا نعرف والشعار ''احقروا قبل ما يحقرك '‘.
*لستَ بحاجة لأن تكون محللا نفسيا واجتماعيا بارعا لتدرك ما الموجود وراء النرجسية العامة المنتشرة عند أغلب الناس وأنها ليست إلا تعويضا سحريا عن فقدان احترام الانسان التونسي والعربي لنفسه وهو يغرق يوما بعد يوما في مآسي لا يقدر عليها شيئا.
*ومن ثمة أمنيتي أن تنتهي متلازمة عدم الاحترام الحادة أو بالأحرى أن يبدأ ويتسارع انحسارها في أقرب وقت.
كل هذا الاحتقار الذي نعاني منه ونظلم به الآخرين ليس إلا غضبنا من أنفسنا ومن الآخرين لأننا لم نحقق إلى الآن الأحلام التي وعدتنا بها الحياة،
لكن ابشروا، كل هذا إلى زوال طال الزمان أو قصر.
*سيكون لكم يوما رئيسا ودولة وإدارة واعلاما وطبقة سياسية ومجتمعا يحترمكم وتحترمونه لا خوفا أو كذبا وانما تلقائيا وبصدق.
*سيعود احترامكم لأنفسكم بلا تصنع وللآخرين دون اكراه.
*سيتكون تدريجيا احترام حقيقي لشعبكم وأمتكم وقد عدنا من صناع التاريخ لا من ضحاياه.
تقول كيف والمرض عميق ومستشري في كل القطاعات وأسبابه الموضوعية السياسية والاقتصادية والاجتماعية عميقة تبدو يوما بعد يوم مستعصية على كل حلّ؟
أقول ليس من قبيل الصدفة أن سميت ثورتنا ثورة الكرامة.
هي النقيض المطلق للاحتقار الذي عشنا في ظله طوال حكم الذين كانوا يتبجحون بأنهم ازالوا عنا القمل نحن غبار الافراد الذين أصبحنا بفضلهم شعبا.
منذ تلك الفترة ومسيرة انتقالنا من شعب رعايا الى شعب مواطنين ومن دولة فرد وعصابة الى دولة قانون ومؤسسات لم تتوقف متواصلة طيلة نصف قرن بكل ما نعرف ونجهل من تضحيات جسام،
ثم تعثرت مسيرتنا هذه ابان اجهاض الثورة،
لكنها ستعود مجددا بحيوية أقوى وقد نهضنا من العثرة،
وعما قريب...سنستأنف بناء المؤسسات وإعطاء القدوة وإشاعة القيم وتبجيل بعضنا البعض ليأتي يوم المفاخرة بوطننا وشعبنا وأمتنا.
لتسريع المسار العودة الى الحكمة الربانية ''إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ''
بجعل الاحترام قيمة القيم والاحتقار الرذيلة الكبرى التي لا تغتفر سنغير الكثير وبعمق داخلنا وحولنا.
كل سنة وأنتم محتَرمون ومحترِمون
ملاحظة هامة: حتى لا اتهم بالتناقض وأنني أدعو للاحترام ولا أظهره للمنقلب الذي وصفته بالمريض العقلي
لأذكّر بأن المنقلب وصف حقيقي وليس سبة،
بأنني طبيب والطبيب لا يعيّر مريضا بمرضه ولو كان – خاصة إذا كان – مريضا عقليا.
لكن احترامي لنفسي، للحقيقة ولشعبي هو الذي يجعلني أنبه لكون السيد سعيّد مصاب باضطراب عقلي صعب العلاج من مظاهره الانفصام عن الواقع والايمان بالقوة الخارقة والمهمة الربانية والاعتقاد بأن الشخص ضحية مؤامرات لا تتوقف وأنه مهدد بالاغتيال...كل هذا يراه الناس على المباشر ولا يجدون له تفسيرا لأن زملائي الأعزاء الذين يعرفون الحقيقة ويلتزمون الصوت ولا ينيرون الشعب بعلمهم .
لا شيء اهم من احترام الحقيقة والشرف المهني كلّف ذلك ما كلّف .
ولا بد لليل أن ينجلي

الصوابية السياسية

 الصوابية السياسية

خواطر صعلوك

فتحت نافذتي هذا الصباح، فغرقت صالة شقتي بالشمس وبفرحة عارمة وهياج عاطفي غير مفهوم... تصفحت الجريدة وكان عنوانها الرئيسي «كل شيء على ما يرام هذا اليوم»... وأوضاع البلد مستقرة.

كان محتوى الخبر عن يوم إيجابي في الشارع، والعمل وبين الأزواج وعن إنتاجية الموظفين في المؤسسات، وتناغم المجلس والحكومة، وعن فرحة عارمة لقطاع الشباب والمتقاعدين، وعن تقرير سنوي منشور يُوضح إلى أي مدى نجحت مؤسسات الدولة في تحقيق «رؤية الكويت 2035».

وفي التفاصيل، أنه تم الانتهاء من الملفات السياسية العالقة منذ سنوات طويلة، في إنجاز ملحوظ لقيادات شبابية تتمتع بمهارات وغايات تأخذنا لاقتصاد مُتنوع ومستدام، وبيئة معيشية تنموية، ورعاية صحية عالية الجودة، وبنية تحتية متطورة، وإدارة حكومية فاعلة، ومكانة دولية مميزة...

هذه القيادات الشبابية تم تعيينها واختبارها وإعطاؤها الفرصة ونجحت في ذلك.

وفي ظاهرة إيجابية انتشرت في مواقع التواصل، اختفى القائل الباغٍ، والسامع العيّاب، والسائل المتعنت، والمجيب المتكلف، الواعظ غير المحققٍ لقوله بالفعل، والموعوظ غير السليم من الهزء والاستخفاف.

وحققت الكويت ميداليات أولمبية، وحصدت مراكز متقدمة في التعليم وفي دراسات التنمية، وأصبحت مركزاً إعلامياً يتمتع بقيم الديموقراطية والتنوع على المستوى الإقليمي، ودولة رائدة في الثقافة والفنون والصناعات الإبداعية.

وفي تفاصيل الخبر أيضاً، أنه تم إبعاد وإقصاء كل الذين ما تركوا فضة في الوطن إلا فضّوها، ولا ذهباً إلا ذهبوا به، ولا غلة إلا غلوها، ولا ضيعةً إلا أضاعوها، ولا دقيقاً إلا دقوه... جميعهم خارج إطار البرواز الذي يضم رجال الدولة.

وضعت الجريدة جانباً، ذهبت للمطبخ وأعدت كوباً من الشاي، بحبتي هيل وورقة نعناع، وضعته أمامي متأملاً الدخان المتصاعد والرائحة التي تملأ المكان... ما زال نور الشمس وفرحتها يزيحان البقع المظلمة في الغرفة... تمتمت بدعاء مُتذكراً كل الأجيال القادمة، أبناؤنا وأبناؤكم، وبناتنا وبناتكم في وطن سينهض يوماً محمولاً على أكتافهم...

وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر.

@moh1alatwan

قدح مقامات عليا

قدح مقامات عليا

حلمي الأسمر

السؤال الذي يدور في خلد الكثيرين في البلاد التي تحكمها أنظمة شمولية، وتكاد تغيب عنها الشفافية والحوكمة هو: لماذا يحرص القانون في هذه البلاد على إبقاء رأس النظام في منأى عن المساءلة، بل تصبح أي أسئلة توجه له، أو أي انتقاد بمثابة مخالفة للقانون، ومس بهيبة الدولة، قد تصل عقوبتها إلى عقوبة الخيانة العظمى، أو تهديد استقرار البلاد وإشاعة الفوضى!

والجواب في خبر جديد يثير شلالا من الأسئلة عن الحياة التي يعيشها المسؤولون الكبار وحاشياتهم، في الدول "الرخوة" فيما تغرق بلادهم في المديونية والجوع، فقد تناقلت منصات الأخبار تصريحات مثيرة لوزير العدل الجزائري على هامش جلسة التصويت في الغرفة السفلى للبرلمان (المجلس الشعبي الوطني) على مشروع جديد للوقاية من تبيض الأموال وتمويل الإرهاب ومكافحتهما، حيث قال إن السلطات الجزائرية استرجعت ما قيمته 20 مليار دولار من الأموال المنهوبة في عهد الرئيس الجزائري الراحل عبد العزيز بوتفليقة الذي حكم البلاد لعشرين عاماً!

تفصيلات الخبر المخيفة تثير أسئلة أكثر مما تجيب عن أسئلة، فقد نقلت وسائل إعلام محلية، عن الوزير الجزائري عبد الرشيد طبي، قوله إن مسار استرداد الأموال المنهوبة كان على الصعيد الوطني والدولي، بعد التواصل والتنسيق بين السلطات القضائية الجزائرية والفرنسية، الإيطالية والأميركية. مبرزاً أن المبلغ المسترد مؤقت ومرشح للارتفاع!

فإضافة إلى استرداد مبلغ 20 مليار دولار، تم استرجاع 211 فيلا، و281 بناية في طور الإنجاز،21 عقاراً سياحياً، 596 محلاً تجارياً، 229 عقاراً فلاحياً، 23774 ملكية منقولة كطائرات خاصة وسفن استجمام، بواخر نقل سلع، و40203 مركبات بين شاحنات وحافلات، إضافة إلى 821 سيارة تجارية، 1330 آلة خاصة في الأشغال العامة، 236 عتاداً زراعياً، 7000 سيارة فاخرة، وحجز أموال في 6447 حساباً مصرفياً، إضافة إلى شركات خاصة بتسيير قنوات تلفزيونية!

طبعا كل هذه الأموال ـ والمخفي أعظم! ـ والعقارات المصادرة والممتلكات المحجوزة، والمصانع والشركات كانت على ذمة رجال أعمال ومسؤولين نافذين في عهد الرئيس السابق وحصلوا عليها بطرق غير قانونية، إذ أصدر القضاء الجزائري أحكاماً نهائية بشأن تأميمها، وتقرر وضعها تحت سلطة الدولة للتصرف فيها!

تخيلوا معي لو وقع أمر خارج عن المألوف، وكشف الغطاء عن ممتلكات ثلة ممن يحكمون شعوب العالم المنكوبة بالكبت وتكميم الأفواه واقتصار تطبيق القانون على الضعفاء الفقراء أبناء السبيل، ماذا سنرى من عجائب كانت بحوزة تلك الثلة، والطبقة الحاكمة من الحبايب والمحاسيب والأنسباء والأعوان؟

الدولة الرخوة: الدولة التي تضع القوانين ولا تطبقها، ليس فقط لما فيها من ثغرات، ولكن لأن لا أحد يحترم القانون، الكبار لا يبالون به، لإن لديهم من المال والسلطة ما يكفي ليحميهم منه، والصغار يتلقون الرشاوي لغض البصر عنه
ربما سيجيب كشف كهذا عن أسرار فقر البلاد التي تحكمها هذه الثلة، وجوع شعبها، فالرزق في هذه الدنيا موزع بعدالة بين البشر حسب تقديرات رب العزة جلت قدرته، ولا يجوع جائع إلا بإسراف غني أو آكل مال حرام، فعلى هذه الأرض ما يكفي لكل البشر من حاجات لمعيشتهم، لكن قلة من القوم يمتلكون معظم الموارد، وما ينطبق على الحاكم "المنزه" عن المساءلة، "المعصوم" من كل حساب، ويعتبر كل مس به قدحا في المقامات العليا، ينطبق على تلك الدول "الكبرى" التي وضعت "قانونا دوليا" يضمن لها أن تفعل ما تشاء بشعوب الأرض الضعيفة، من نهب لخيراتها واستعبادها، مع حماية تامة يغطيها ما يسمونه ال "الفيتو" في مجلس الأمن، وما هو بمجلس أمن، بل هو صورة مصغرة لقصور بوتفليقة وما دار فيها، فهذه الدول المسماة كبرى، فوق المساءلة وفوق القانون، وأي تهديد لسلطتها المطلقة تشهر في وجهه "الفيتو" في حين أنها تستطيع وفق البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة معاقبة أي دولة "مارقة!" تهدد "السلم الدولي!" بالضبط كما تفعل تلك القوانين في الدول الرخوة التي تعاقب من يخطر بباله مساءلة رأس النظام!

إن تهمة "قدح المقامات العليا" في الأنظمة الشمولية، ونظام الفيتو في القانون الدولي، هو لحماية الظالم وإعطائه تفويضا مفتوحا بفعل كل ما يشاء، دونما حساب، أما قصة حقوق الإنسان واتفاقيات جنيف من واحد لمليون، بما فيها السابعة والسادسة والألف، فهي ضحك على الذقون، وذر للرماد في العيون، ففي سجل كل دولة "عظمى" مظالم لا يمكن حصرها، كما استعصى حصر الأموال التي استولى عليها الراحل بوتفليقة وأعوانه ومن هم على شاكلته من حكام الدول الرخوة!

يذكر أن أول من استخدم مصطلح الدولة الرخوة هو الاقتصادي السويدي كوننر مردال، المتوفي عام 1987، الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام ١٩٧٤، في كتابه "الدراما الأسيوية ـ بحث في فقر الأمم" الذي نشر عام 1968 ويقصد بـ "الدولة الرخوة: الدولة التي تضع القوانين ولا تطبقها، ليس فقط لما فيها من ثغرات، ولكن لأن لا أحد يحترم القانون، الكبار لا يبالون به، لإن لديهم من المال والسلطة ما يكفي ليحميهم منه، والصغار يتلقون الرشاوي لغض البصر عنه" هو وصف ينطبق على ما يحدث في الأنظمة الشمولية بقدر ما ينطبق على ما يسمونه المجتمع أو النظام الدولي!َ

صراع الولاءات والوطنيات: التناقض بين الفلسطينيين والسوريين

 صراع الولاءات والوطنيات: التناقض بين الفلسطينيين والسوريين

محمد الأحمري 

شهدنا كلّنا موجة النقد الشديدة الموجهة لحركة حماس حين استجارت من الرمضاء بالنار، وذهبت إلى بشار الأسد وأعادت العلاقة به وبنظامه، رغم أنه قتل ودمر سكان مخيم اليرموك، بحجة أن فلسطينيي سوريا كانوا متفقين مع الثوار السوريين ضد ما هو مشهور من إرهاب بشار ومجازره. وقال قومٌ إن هناك شواهد على أن ذهاب حماس والجهاد، الفصيلين الفلسطينيين، وغيرهم إلى جزار دمشق كان بإرغام إيراني، ولم يكن صادرًا عن مصلحة ولا رغبة ذاتية؛ ذلك لأن سياسة إيران القومية جدًّا، الوطنية جدًّا، والتي تنفذها تحت شعارات أممية إسلامية لا تؤمن بها، تبرر تفريقها بين عمل جيشها وعصاباتها والبراميل القاتلة للسوريين، وبين ما توفره من دعم عسكري ومالي للمقاومة الفلسطينية. وقد تقدم أحيانًا دعمًا أمنيًّا لقيادات فلسطينية في إيران ولبنان، كل ذلك بحسب استراتيجيتها ومندرج تحت ترتيب مصالحها وخلافاتها الدولية.

أما الناقدون السوريون فقد شعروا أن إخوانهم المناضلين الفلسطينيين قد غدروا بهم علنًا، وذهبوا إلى عدوهم في مشروع مصالحة ولقاءات ودية، فيما يفهم منه بأن موقف الفلسطينيين انحياز لحاكم دمشق ضد الشعب السوري، خاصة أن كثيرًا من دول العالم تقف مع الشعب السوري حقيقة أو تظاهرًا في مأساته التي لا مثيل لها في العصر الحديث إلا المحارق النازية. أما بقية حكومات العالم فلا ترى أهمية لسوريا ولا لشعبها ولا تختلف من أجلها مع بشار ولا إيران، وقد تتقي وراء شعارات حقوق الإنسان.

كل من الطرفين خطابه منسجم من داخله إلى حد كبير، ومختلف مع غريمه في الخارج، وكل من الطرفين أعلن وجلّى موقفه وظروفه؛ إذ يحتج الفلسطينيون بأننا لم ننتقدكم رغم ذهابكم إلى الأمريكان وتحالفكم معهم، وأنتم تعلمون أن أمريكا تعادي الفلسطينيين نصرة للإرهاب الصهيوني ضد أبرياء فلسطين، وسلاحها موجه لصدورهم العارية، بل قد تجاهل السوريون في اندفاعهم إلى أمريكا فلسطين والعراق وأفغانستان وما ألحقته أمريكا بالمسلمين في كل مكان، حين وضعت من الإسلام هدفًا لها وأخفت عداوتها للإسلام والإسلاميين تحت شعار محاربة الإرهاب، حتى أصبح مصطلح الإرهاب عندهم يعني مطاردة المسلمين واتهامهم بكل مصيبة تحل بهم، وكأنهم يقولون إنكم تقبلون بواقع الخطاب الأمريكي المتناقض ولا تقبلون منا قبول خطاب إيران المتناقض.

هذه مقدمة، وإن طالت للضرورة، بين يدي فكرة المقال، وفكرته أن كلَّ طرفٍ محقٌّ في نقده للآخر، ولكن لماذا هذا التنافر رغم أن خطاب الطرفين ينطلق من مرجعية إسلامية، بل ربما بعض من الطرفين يشتركون في أساس جماعي واحد وهو الإخوان المسلمون، فهل المشكلة في تصوراتهم للمبادئ الإسلامية، أم تنافر حاجاتهم السياسية؟

هناك حقيقة يحب الطرفان تجاهلها وتغييبها عن النقاش، وهي أنهما يعانيان من مشكلات راسخة في العمل والتفكير، سواء شاءوا الحديث عنها أم أغفلوها لظروفهم السياسية المعروفة والمقدرة، ومنها:

أولًا: مشكلة واقعية، وهي عدم استقلال أي من الحركتين سياسيًّا، فحماس قرارها السياسي الخارجي وموقفها وتمويلها، كل ذلك مرهون بمزاج دولة أخرى (إيران) ورغبتها واستراتيجيتها، وزعم الاستقلال عن الضغوط الإيرانية مجرد شعارات لا قيمة لها ولا شاهد لا من الواقع ولا من خطاب الطرف الداعم، ولا نناقش الآن لماذا تدعم إيران الفلسطينيين، فهي لا تفعل شيئًا لوجه الحق رغم ما تنثره على الآذان من مبادئ.

ثانيًا: لم يلاحظ كثير من الإسلاميين أن الخطاب الإسلامي الأممي قد سقط منذ زمن من قلوب وممارسة الإسلاميين أنفسهم، تمامًا كما سقط من واقع القوميين واليسار من قبلهم. ورغم تشبث القوميين واليساريين بالألفاظ القومية والقطرية، ولكن ممارساتهم في واقع الأمر قد أسقطت فكرة العروبة والأمة العربية، وقضوا في الواقع بأنفسهم على شعاراتهم، فهم يفكرون كوطنيين لبلد محدد، من خلاله يعملون وينفذون ولا يبالون بغيره. وإذا كانت الحكومات بوحي خارجي ملزم رفعت شعارات بلدكم “أولًا”، كمصر أولًا أو الأردن أولًا أو سورية أولًا، فإن القلوب والعقول قد حسمت لصالح هذا الموقف قديمًا. فحزب البعث حين أدار نظامه تحت نظام “القومي والقطري” كان يستسلم لنظام وواقع الإدارة الاستعمارية بوعي أو بدونه، وحل دين الوطنية محل الدين الأممي، فدين الوطنية هو دين السياسة في العالم الإسلامي الذي دخل فيه منذ قرن واستسلم له إلى اليوم، ولا يعرف كيف يخرج من دين الوطنية إلى دين الأمة، هذا لو كان قد فكر في ذلك. وكلا الحركتين، حركة التحرر السورية “الثورة” وحركات المقاومة الفلسطينية، أنموذجان لواقع هذا الدين أو الواقع الجديد المتحكم واقعًا والمنكر لفظًا في الوقت نفسه، كلاهما تؤمنان في واقع حالهما بدين الوطنية الذي فرضه الاستعمار منذ نحو قرن من الزمان، وهذا الدين يسري في المجموعتين سريان الدماء في الأجساد، ولم يعد في الواقع مستغربًا وإن كان في الألفاظ مكروهًا.

ثالثًا: بسبب من الهيمنة الغربية والشرقية على المنطقة وتفكيرها، فإن من السهل انتقاد طرف دولي أجنبي ومتخلف إعلاميًّا مقارنة بطرف آخر، فانتقاد روسيا وإيران أسهل من انتقاد أمريكا وحزبها في المنطقة، وأذكر أن أحد الصحفيين العراقيين ضج من اهتمام العرب بغزة أكثر من الاهتمام بالعراق، مقارنًا ما هي غزة مقارنة بالعراق؟ ولم ينتبه لسهولة نقد الصهاينة عربيًّا وصعوبة انتقاد أمريكا وعواقب ذلك، لأن المنطقة العربية تحت الهيمنة الغربية المباشرة، ونقد الغرب فيها يزعج الناقد مهما تكن الجريمة، بعكس إيران وروسيا، إذ إن نقدهما سهل على المقيمين في مناطق النفوذ الغربية أو بلاد الناتو، وينسى الناقدون الثقافة السياسية القاهرة لأي شخص من قبل توجهات البلد الذي يقيم فيه.

رابعًا: هناك الدور الوظيفي لأي دولة أو جماعة، من الصعب أن يتخلص منها أحد في زمن النظام العالمي القائم، وإذا كنت قد تخيلت كغيري أن حماس، خاصة غزة، تستطيع أن تكون كيانًا مستقلًا فإن هذا يبدو بعيدًا، ومن ثمّ فإن أمريكا وإسرائيل أصرتا على مشاركة حماس في  الانتخابات عام 2006، لتكون تلك المشاركة الضعيفة مبررًا لخضوع السلطة الفلسطينية التابعة للمحتل، ولكن ولسوء حظ الجميع، بمن فيهم حماس، فازت حماس بالأغلبية تحت الاحتلال، وهذا لا يعني إلا مشقة مضاعفة، ورددتُ وقتها على الآذان في جمع سياسي خطأ الانتصار، متمنيًا أنهم خسروا الانتخابات:

وللسهم الشرود أخف عبئًا   على الرامي من السهم المصيب

فليتهم لم يفوزوا؛ لأن الفوز يعني مواجهة البؤس منفردين، ومواجهة الحصار والتمزق، ثم تنازلوا عن انتصارهم في المجلس التشريعي؛ فالمحيط والعالم ضدهم، وحكومات العرب أشد حقدًا عليهم من الصهاينة، وذلك كراهية لأي كيان ينوي أن يتحرر فيفضح عبوديتهم، إنه منطق: “ودت الزانية لو زنى النساء كلهن”. وقد صنع انتصارهم مزيدًا من التماسك بين الحكومات العربية الوظيفية وبين سادتهم في تل أبيب، وكله بحجة إعاقة حماس والإسلاميين عن أي نجاح، وكذلك خوفًا من حماس أن تنافسهم فتدخل سوق العمل الوظيفي لأي الأطراف. وكان خوفنا أيضًا من أن تقوم حماس بنفس دور الحكومات، ولم يغن التخوف من حصوله واقعًا، إذ إن منصب الحكم أو بعضه في المنطقة العربية المحتلة كلها في الواقع يلزمها أن تقوم بدور وظيفي لأي جهة من جهات النزاع، وقد وقعت فيه حماس شاءت أم أبت، سواء أقر أحدهم أم حاول ألا يقر، أما لماذا يستسلمون لهذا الدور؟ فمن الجواب: لأنهم لا يملكون أرضًا ولا منافذ ولا اقتصادًا ولا سلاحًا يخصهم.

ثم إن حماس شق عليها جدًّا أن تنقسم إلى كيانين منفصلين: أحدهما يقبل شروط الإدارة المملاة على منظمة التحرير، وقسم يناضل بالممكن. وبدت الفكرة حين عرضت عليهم وقتها غريبة بعيدة، إن لم تكن مكروهة؛ لأنها ستقسم الموحد، وقد تصنع فريقًا جديدًا يرتبط بالمكاسب التي يمنّ بها المحتل أو عماله في المنطقة، لكنها كانت فكرة للتخفيف من التناقض الذي وقعت فيه، وسوف يكبر هذا التناقض.

فإذا كانت الثورة السورية قد انتهت إلى دور وظيفي، سياسة ونضالًا، رغم العدد والمساحة والحدود والمشروعية، فكيف لا تنتهي حماس الأكثر حاجة وضعفًا ووضوحًا إلى دور وظيفي في صراعات منطقة ضعيفة تابعة، ليس لسكانها وحكامها إلا سلاح المناورة الضعيفة بالاستقلال والتبعية.

وللتوضيح، ليس هذا الخلاف كله كما يظهر للمستمعين من كل الجهتين، فهناك مسكوت عنه كثير عند الطرفين يحدد مواقفهما، ولو رجعتم لأيام سعيد حوى والقيادة الإخوانية السورية عام 1979 وما بعد ذلك، وكيف انحازوا في البداية لإيران باندفاع شديد، ولما بدأت الحرب العراقية الإيرانية وتحالف بشار مع إيران ضد العراق، غيّر الإخوان موقعهم وذهبوا لبغداد. رغم أن العدو هو البعث في البلدين. إن ضعف المعارضات وعدم استقلالها يرمي بها كل وقت في مكان، ولا معنى للكلام عن استراتيجيات ذاتية، بل الضعف يملي الإكراهات.

وكان الإخوان يرددون دائمًا عبارة: “نعمل فيما اتفقنا فيه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه”، فماذا حصل لهم حتى تنافروا هذا التنافر في عمل فلسفته مشتركة ومنكرة عند الطرفين؟ ذلك لأن التسامح أصبح كلامًا أو شعارًا بلا حقيقة، ثم إن الواقع والمشاهد المؤلمة التي وقعت على السوريين لم تعد تسمح بالتساهل مع المجرم خطابًا، فضلًا عن زيارته. وللحق فإن قطاعًا كبيرًا من الفلسطينيين يشاركون السوريين في الاستياء، ولكن هل هؤلاء الناقدون للفصائل التي زارت بشار ممن مستهم السياسة، أم لهم حياة بعيدة عن ظروف فلسطين المحاصرة؟ يحسن بنا أن نعرف الواقع وليس الأماني.

أخيرًا..

أردت كشف جانب من تحولاتنا الفكرية، التي نصمت عنها، فنقرها واقعًا ونتحاماها لفظًا وتصريحًا، وننسى أنها تنخر في العقول وتستخدم الألسنة، وننسى أيضًا أن الحال الصعبة تملي علينا أفكارًا لا نحب أن تظهر أننا نقبلها. وإذا كانت الحكومات الوظيفية تقبلها وقد تعلنها كما تغطي على الحقيقة المملاة عليها بغشاء نفاق ضعيف ووطنيات مدعاة، فإن الحاجة أكبر أن نعرف كيف نفكر أكثر من حاجتنا إلى تجاوز سطحي سريع، فهل كانت الثورة السورية تملك خيار اختيار من يناصرها؟ وهل كانت حماس تملك اختيار من يناصرها؟ لا يبدو أن أحد الفريقين كان يستطيع العمل في مناطق النفوذ الاستعماري دون هذه الولاءات الإكراهية المتناقضة، مهما بررها بمثاليات الاستقلال والاختيار الحر الموجود على الألسنة، والبعيد جدًّا عن كل واقع، فإن سلاح المقاومة الفلسطينية أغلبه إيراني، كما أن سلاح الثورة السورية أغلبه أمريكي، وعليك أن تنظر إلى آثار ذلك وليس إلى الخطابات المثالية. إن الإيمان بمشروعية الثورة السورية كالإيمان بمشروعية الثورة الفلسطينية، فهل يمكن التخفيف من اللوم المتبادل والعذر بظروف القهر عند الطرفين، ويتم الاعتراف أو الاستسلام لدين الوطنيات والعمل من خلاله، كما استسلم له كثيرون، أم يبقى مثقفونا من إسلاميين وغيرهم داخل نفاق وشعارات أممية إسلامية أو عربية، رغم سيادة دين الوطنيات في عقولهم وقلوبهم ودواخلهم، والذي ينعكس على تفكيرهم وممارساتهم؟ إن كان هناك من خيار مرحلي وطني فهو كريه مهما كان ممارسًا، وإلا فما على الجميع إلا البحث عن خطاب أممي بديل، إذ الواقع هو نتيجة لأمرين: أولهما: عدم الاستقلال عند الطرفين، وثانيهما سياسة وخطاب الوطنيات المحلية التي تنطوي على الذات، وتتساهل في النظر إلى المظالم الواقعة بالآخرين.

برنامج موازين ـ الدعاة الجدد.. الانتشار والانحسار

 
برنامج موازين ـ الدعاة الجدد.. الانتشار والانحسار



استضافت حلقة برنامج “موازين” الداعية الإسلامي الدكتور طارق السويدان للحديث عن ظاهرة الدعاة الجدد من حيث مواقفهم المتشابكة وتقييم تجاربهم، بالإضافة إلى أسباب تراجع تأثيرهم على الشباب العربي..
تقديم: علي السند

الجمعة، 30 ديسمبر 2022

انقلاب تونس مات سريريًّا لكن ليس هناك من يدفنه


انقلاب تونس مات سريريًّا لكن ليس هناك من يدفنه


أتحدث عمّا بعد الانقلاب كما لو أنه حقيقة واقعة لا ريب فيها. نعم مؤشرات كثيرة تدفع إلى رؤية نهاية مرحلة قيس سعيّد والأمر الآن مسألة وقت. والأمر يتعلق بترتيب المشهد بعده.

لقد انطلقت معركة مرحلة تعويضه في الداخل بتنسيق كامل مع الجهات الراعية، أو بالأحرى قوى الهيمنة المحيطة بالبلد، والتي اعتبرتُها ولا أزال هي الفاعل الرئيسي في ترتيب المشهد التونسي بعد الثورة، وأخصّص على الدور الفرنسي الفعّال في تونس.

من هنا مأتى سؤالي/ العنوان، هل سنشهد تغييرًا في المشهد السياسي وإعادة توزيع السلطة بين فرقاء الوطن على قاعدة الديمقراطية؟ وكأني أجبت ضمنًا أن لا جديد تحت شمس تونس، فالتونسيون لم يقرأوا كارثة الانقلاب قراءة ديمقراطية. سأشرح: إن الأفكار والتكتيكات والتحالفات ما قبل الانقلاب لا تزال تعيد إنتاج نفس المشهد القائم أصلًا على معركة استئصال مدمّرة ولا ترغب في حلّ.

المنظومة الفرنسية في تونس لا تزال تحكم

ما أسميه بالمنظومة الفرنسية هي منظومة حكمَ بن علي بأجهزتها الصلبة وأموالها وإعلامها، لقد استبشرت مكوناتها بالانقلاب بل ساهمت تهيئة الأرضية له، فصنعته وحمته من المعارضة منذ أعلنت المعارضة أنه انقلاب.

مكونات هذه المنظومة هي طبقة رأس المال الريعي التي خلقها بن علي ومكّنها من رقبة الاقتصاد، تعاضدها الأجهزة الأمنية ذات العقيدة المحافظة، والتي قيّدت التجربة الديمقراطية أيديها.

أما عصاتها الغليظة فهي أولًا جهاز إعلامي متمرّس بالتضليل والتحريف ربّته وكالة الاتصال الخارجي، وثانيًا النقابة المنحرفة عن العمل النقابي، والتي عملت على تكسير كل محاولات النهوض بعملية اقتصادية منذ الثورة بعدد لم يعد يحصيه أحد من الإضرابات الوحشية في القطاعات المنتجة والإدارة العمومية.

وفي الإعلام والنقابة سكن اليسار الاستئصالي ودعمه القوميون وواصلوا مهمتهم الوحيدة، وهي العمل على تحطيم حزب النهضة خاصة، وكل من اقترب منه متعاطفًا أو متحالفًا على قواعد الديمقراطية منذ انتخابات 2011.

تجمعت هذه المنظومة في حزب النداء مستفيدة أولًا من حنكة الباجي قائد السبسي السياسية، ومن أخطاء كثيرة ارتكبتها منظومة الثورة التي حكمت بين عام 2012 وبداية عام 2014.

وقد دعمتها فرنسا باغتيالَين سياسيَّين أوشكا أن يحطما الدولة نفسها، وفرضت على التونسيين حوارًا وطنيًّا مغشوشًا خرجت منه المنظومة على الحكم ثانية في انتخابات 2014. لكن حتى نهاية الدورة النيابية ظلت الديمقراطية في المشهد محتفظة بشرعية دستور 2014، وعلى أساسه نظمت انتخابات 2019، لكن القوس الديمقراطي المفتوح ظلَّ يهدد المنظومة حتى انقلبت عليه.

تفكُّك حزب النداء وعودة النهضة كحزب أول في البرلمان، ولو بتراجع حجمه ورصيده الشعبي، لم يكفها لتقبل بنتائج اللعبة، فأجهزت على التجربة بالانقلاب.

لكن أخطاء الانقلاب، وخاصة إصداره لقانون مالية، أشعرها بضرورة الحركة، فالقانون يمسّ كثيرًا من بحبوحتها المالية التي ظلت تستفيد خفية من وراء الرغاء الديمقراطي السائد.

من هنا تولَّد سؤال إلى متى يمكنها الصبر على الانقلاب، وقد بدأنا نقرأ التململ في أوساط المال والأعمال وفي قطاع الإدارة والمهن الصغرى المستهدفة في مداخيلها (لا يجب أن نغفل هنا أن مكوّنًا هامًّا من هذه الطبقة هو رأس مال فرنسي يشتغل في الغالب بواجهات تونسية)، كأن قانون المالية جاء انقلابًا من داخل الانقلاب على من أنجز الانقلاب وحماه.

فرنسا تعيد تشكيل منظومتها

عواء هذه الطبقة بدأ يُسمَع بوضوح، لكن دون حديث عن الرجوع إلى الديمقراطية، بل إعادة التشكُّل على قاعدة غير دستور 2014، ومكوناته تتنادى إلى حلول سريعة محتفظة بمشروعها الاستئصالي نفسه. فكل الحلول ممكنة إلا حلًّا يعود فيه حزب النهضة ومن معه إلى مشهد ما بعد الانقلاب.

هنا مرة أخرى نجد فرنسا تتحرك من وراء ستر المنظومة وتعيد تجميع أنصارها بالداخل، فمعركة الاستئصال ليست معركة تونسية بل معركة فرنسية في تونس تجد لها أنصارًا في الداخل.

أنصارها هم أنفسهم وفي مقدمتهم عصاها النقابية الغليظة التي استعادت صوتها المهدِّد بالويل والثبور فجأة، بعد أن كانت مركوب الانقلاب وسلاحه، أما جهازها الإعلامي فلم يزده الانقلاب إلا قوة وحيلة.

يغيب عن المشهد شخص في قيمة الباجي قائد السبسي يمكنه أن يُتّخَذ ستارًا للتجميع، فالمنظومة تعاني فعلًا من غياب شخصية جامعة (زعامة). لم تتبيّن لنا بعد ملامح هذه الشخصية البديلة، لكننا لا نرى فرنسا عاجزة عن اقتراح شخص من دوائرها القريبة ممّن تربّى في جامعاتها ومؤسساتها، فقد سبق لها أن أرسلت لنا وزراء (مفتاح في اليد) في حكومة 2011.

ليس لدينا علم دقيق بالبديل المحتمل، خاصة أن صراعات جهوية عميقة تشقّ منظومة المال والأعمال بين كتلة الساحل وكتل العاصمة، وكلها تعتبر أنها صاحبة حق تاريخي في السلطة، وهذه نقطة ضعف المنظومة حتى في زمن الباجي نفسه، والتي كان من نتائجها سرعة تفكُّك حزب النداء وانقساماته.

انفجار الدعوات للحوار الوطني

المنظومة قوية لكنها بلا رأس موحّد (والبأس من مكوناتها شديد)، وتستشعر وعورة الطريق بعد الانقلاب وتحتاج غطاء تمسح فيه عجزها. نراها مذهولة من بقاء حزب النهضة متماسكًا رغم الهرسلة الطويلة، ونعتقد أنها تشعر باستحالة التقدم دونه، لكننا نسمعها تقول كيف نستدرجه ونستعمله دون أن نمكّنه من أي جزء من السلطة.

لأن بقاءه في المعارضة (في صورة تشكُّل حكومة طوارئ أو حكومة إنقاذ) سيجعل الحكم عسيرًا، بل سيمنح الحزب موقع المزايد المرتاح من خارج السلطة، ويفتح له باب استقطاب شعبي بخطاب اجتماعي سهل التأليف، ولو لم يكن الحزب ميّالًا إلى ذلك في ما تابعنا من حديثه الاقتصادي الضنين.

لقد بدأت الاقتراحات تتوالى متخلية عن الرئيس المنقلب (فهو لم يعد على أجندة أحد)، وتسلط ضغطًا هائلًا على حكومته ضمن مناورة بعض فصولها حصار الرئيس في قصره حتى نهاية مدته، وإسقاط حكومته وتعويضها بغير إرادته، دون أية إشارة إلى استعادة العمل بشرعية دستور 2014، وإنما الاكتفاء بالتخلي عن نتائج انتخاباته المهزلة، والتقدم بلا دستور ولا برلمان ولا محكمة دستورية ولا هيئات دستورية رقابية.

في هذه الترقيعات المناورة، نستشعر اضطراب المنظومة وقلّة حيلتها (رغم قوتها على الأرض) أمام عدوها الداخلي الماكث في مكانه لا يتزحزح. إنها لا تتخلى عن غطرستها ولا تتنازل لتقبل به شريكًا في أية مرحلة.

هل تنظّم الجزائر لقاء باريس الثاني؟

خرج الرئيس تبون بخطاب هادئ يمجّد النخبة التونسية وقدراتها التفاوضية العقلانية، ولم يمجّد الانقلاب كما اعتاد، وقد رأينا في ثنايا كلامه ضمنًا لا صراحة شعورًا بخطر فوضى تونسية محتملة تعكّر صفو أمنه، بما يجعل حلّ أزمة الحكم في تونس أولوية جزائرية.

ولأننا نعرف ارتباط حكم الجزائر، وخاصة جنرالاتها، بفرنسا، فإننا نرجّح أو نتوقّع دعوة غير بعيدة لمائدة حوار بإيعاز فرنسي في الجزائر، تكون بمثابة مائدة حوار كالتي جرت في فرنسا في صيف 2013 بين الغنوشي والباجي، وتكون مخرجاتها في تونس إنهاء الانقلاب بشكل غير عنيف (لا يمسّ الجزائر بسوء)، وإعادة تقسيم السلطة طبقًا لهوى فرنسا وجنرالات الجزائر أولًا، مع هامش شكلي للاستهلاك الإعلامي يوحي بأن الاتفاق تونسي-تونسي وليس إملاءات فرنسية.

ما زال الغنوشي هنا مفاوضًا يلوح بالحوار بدوره، لكن من يكون مقابله على الطاولة؟ لقد أرخى الحبل مرة أخرى بتصريحه لموقع "عربي 21"، بأن النقابة شريك محترم في الحوار، فهل تمثّل النقابة رأس حربة المنظومة في التفاوض على ما بعد الانقلاب؟

لا يجب أن يغيب عن البال أن المنظومة نفسها لا تحمل التقدير نفسه للنقابة، فهي عندها مجرد عصا غليظة لضرب النهضة فكيف تسلّم لها الحديث باسمها؟ كما لا يجب أن نغفل أن التفاوض مع النهضة يطلق أجنحتها بشرعية الحل القادم، فتصير شريكًا أو أكثر في ما بعد الانقلاب، بعد أن كان ينتَظر منه إنهاء وجودها السياسي والتنظيمي (وهذا مطلب فرنسا الأول).

ما زال المشهد على حاله مقسّم في الداخل ومحكوم بأزمته الاستئصالية، عاجز عن تخريج وجوه سياسية ديمقراطية تقدّم الحل الوطني على الخضوع للإملاءات الخارجية.

لذلك نعود إلى السؤال/ العنوان: الانقلاب يتجه إلى أزمة وجود (وهو ميت سريريًّا)، خاصة بعد الانتخابات المهزلة وقانون المالية الذي سلّطه على الناس، لكن بديله عاجز عن الحلول محلّه، لأنه لم يقرأ خطر غياب الديمقراطية ذات المرجعية الثابتة، ولا يريد أن يقرأ.

هنا سنعتبر أن المسارعة إلى التفاوض معه أو مع المكونات التي ساندته ستمثل إنقاذًا له ولحزامه الاستئصالي، وهي اللحظة (لحظة عضّ الأصابع) التي يكون فيها الصبر على المكاره أفضل من المسارعة إلى حلّ لا يكون حناء ولا حندقوقة (الحندقوقة نبات مرّ يشبه البرسيم لا تأكله السوائم إلا في سنوات المَحل).

لو سألت رأيي في الأمر، لفضّلت أكل الحندقوقة على أن أخضع من جديد لحكم النقابة المجرمة، عصا الجريمة التي خربت الثورة.

وقفات ضرورية مع قوانين الأحوال الشخصية

 وقفات ضرورية مع قوانين الأحوال الشخصية

د.عبدالعزيز كامل


★.. مصطلح (الأحوال الشخصية) هو مصطلح حادث في العهود الأخيرة، لم يكن له استعمال بين أهل العلم على مر العصور الإسلامية الطويلة ، لكنه مع ذلك يتعلق مقصوده بقضايا مصيرية لا تخص الأفراد في دوائرهم الشخصية فحسب؛ بل تعم ماحولهم من أسرهم وعوائلهم، لينسحب أثرها على سائر مجتمعاتهم .
★ .. هذه الأمور ليست مسائل هامشية في حياة المسلمين كما يوحي تعبير ( أحوال شخصية)؛ بل لها أحكام في صلب شريعة الإسلام ، ولا يوجد نظير لها في سائر الأديان ، فهي تنظم من خلال نصوص الوحي المعصوم علاقة الأفراد فيما بينهم من عقود الزواج وصحتها وما يترتب عليها من أنساب ومصاهرة وولادة وولاية وحضانة وحقوق زوجية ، وواجبات متبادلة شرعية، تتعلق باستمرارها أو بانحلالها حقوق في النفقة والحضانة والإرث والوصية ونحو ذلك من القضايا الضرورية ..
★.. البت في التشريع والتقنين لهذه الأحوال الأسرية ذات الطبيعة المجتمعية؛ ليس سبيله الآراء والأهواء المتقلبة، لأنها في الأساس أمور تشريع ودين، لا حق لأحد أن يقطع في شأنها بقول أو فعل أو تقنين إلا من خلال مصادر التشريع المعتمدة والمعتبرة دون غيرها في الإسلام ، وهي : ( القرآن والسنة والإجماع والقياس والاجتهاد، غير المتعارض مع شئ من ذلك) فلا تدخل في تلك المصادر قطعا إملاءات المؤسسات الدولية الأممية، ولا منظماتها النسوية الماسونية، ولا قرارات البرلمانات المحلية، ولا توجيهات الجهات ذات الأجندات التي تتخطى مستوى الشبهات بمسافات ..
★.. الشروط المذكورة في قوانين (الأحوال الشخصية الجديدة) بمصر؛ أنكرتها قلوب العامة قبل عقول الخاصة، ومن غير دخول في تفاصيلها التي ذاعت وشاعت، لا نرى ردا عليها أوضح ولا أفصح من قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي صح باستفاضة : ( ما بالُ أقوامٍ يشترطون شروطًا ليست في كتابِ اللهِ ؟ من اشترطَ َشرطًا ليس في كتابِ اللهِ فهو باطلٌ ، وإن كانَ مائةَ شرطٍ ، كتابُ اللهِ أحقُ وشرطُ اللهِ أوثقُ)..
★.. المؤسسات العلمية الدينية في كل بلد ؛ هي المسؤولة الأولى أمام الله ثم أمام الأمة في إصدار أو إقرار أي نظام أو تقنين في أي شأن من شؤون المسلمين العامة أو الخاصة ، باعتبارها المخولة _ افتراضا _ بالفصل بين ما يحل وما يحرم، وما يصح وما لايصح أو يصلح، في ضوء المحكمات ودلائل البينات.
★..أما إذا سكتت تلك الجهات الرسمية أو دلست أو داهنت أو شاركت في التبديل والتغيير ووسائل التغرير؛ فلا عذر أمام أهل العلم المستقلين المتحررين من قيود الرسميات والشكليات أن يصدحوا بالحق ويصرحوا به، فالله تعالى قال فيمن يكتمون ما يعلمون : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [ آل عمران/ ١٨٧] .