الخميس، 31 مايو 2018

دكتور مرسي رئيس مصر وصاحب مشروع النهضة.. كفَّيتَ ووفيتَ

دكتور مرسي رئيس مصر وصاحب مشروع النهضة.. كفَّيتَ ووفيتَ


الشيخ الدكتور جاسم بن محمد بن مهلهل الياسين

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيد الشهداء حمزة، ورجل قال كلمة حق عند سلطان جائر فقتله».
أسأل الله ان يكتب لك بهذه الكلمة الرُّتبة التي خبَّرنا عنها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق، فقد وفّيتَ كلمة الحق في مؤتمرٍ أمَّل القائمون عليه ان يذبحوا الشعب السوري بمقترحٍ صَفَوي يُصدِّق عليه المُجتمعون في مؤتمر عدم الانحياز، ولكنْ يأبى الله الا ان يُتمَّ نوره.
لقد كفيتَ ووفيتَ بخطاب عربي فصيح، خرج من القلب فوصل الى القلب.
لقد كفيت ووفيت بخطاب أثلجت به صدور محبيك، ومسحت دموعهم التي خرجت حين قررتَ الذهاب الى المؤتمر.
لقد كفيت ووفيت بكلمة مُؤصّلة قائمة على وعيٍّ سياسي، وأصالة عربية وعمق اسلامي، كلمة تُكمل فيها ما اقترحْتَه في مؤتمر مكة في ليلة السابع والعشرين من رمضان في حق اخوانك في سورية.
لقد كفيت ووفيت حينما صورتَ الواقع في سورية بصورته الحقيقية، ببيان حقيقة الطغيان من حاكمٍ اجتمعت معه عصابات من الداخل والخارج لذبح شعب أصيل، تاريخه في نصرة الاسلام من بدايات الدولة الاسلامية التي انطلقت من المدينة لتكمل المشوار في الشام بعد ذلك.
لقد كفيت ووفيت برباطة جأشك وأنت تقول كلمة الحق في شأن الشعب السوري العظيم!! مع علمك ان في الصفوف الأولى هناك من يستمع اليك من القتلة الذين قارب مَنْ قتلوه بدم بارد أكثر من مائة ألف، وهدموا المنازل، ودمَّروا المآذن، وأجاعوا الشعب، وأشاعوا الفزع في النساء والأطفال.
لقد كفيت ووفيت وأنت تقول هذه الكلمة القوية في مؤتمر أمل فيه الماكرون ان يكون اجتماعهم غطاءً جماعياً لذبح شعب بكامله في سورية العربية.. في هذا الوسط انْحَبستْ الأنفاس المؤمنة خوفاً من ان تنطلق رصاصة غادرة من مجرم سفاح يجلس في الصفوف الأولى، أو بعد الكلمة.. ولكن الله سلم، نعم انها قوة الايمان بالقضاء والقدر.
لقد كفيت ووفيت وأنت تستشعر أمانة المسؤولية في رئاستك للأمة المصرية التي تتعلق بها آمال العرب في ارجاع هذه الأمة الى سُؤْددها ومكانتها وقوتها.فالتاريخ علّمنا ان العالَم لا يعرف للضعيف مكاناً، وكلمة الحق هي بداية القوة التي بدأها النبي صلى الله عليه وسلم عندما تحدَّى الشرك المتأصل في الجزيرة العربية بقوله: «قولوا لا اله الا الله تفلحوا» فهي وان كانت كلمة، الا أنها كانت مِعْوَل هدم لكل صنم وطاغوت على وجه الأرض.
لقد كفيت ووفيت حينما حمَّلت كل من في المؤتمر من زعماء دول عدم الانحياز أمانة حماية دماء المسلمين وأعراضهم في سورية الثابتة الحرة، كما قال أبو هريرة رضي الله عنه عمن قال كلمة الحق فيمن غير ترتيب الصلاة والخطبة في العيد: «أما هذا فقد أدى الذي عليه».
لقد كفيت ووفيت حينما استمعت لكلمات اخوانك المحبين بعدم الركون الى الذين ظلموا، نعم لقد حطمتَ جميع الأعراف السياسية وأسقطتها حينما كان الأمر متعلقاً بدماء المسلمين وأعراضهم في سورية، فصدعتَ بكلمة الحق وأن تعرف ان في هذا المؤتمر من يده ملوثة بكل الجرائم التي يعرفها العالم والتي حصلت على المسرح السوري: من ذبحٍ للأطفال، وهتكٍ للأعراض، وهدمٍ للبيوت، وتقتيل للشباب، وتدمير للاقتصاد.
لقد كفيت ووفيت باستعانتك بالله على مواجهة الباطل بصورة قوية حضارية، ووضَّحت المراد، ووضعت النقاط وعلامات الترقيم في كلمات وأسطر تاريخ مصر العروبة وذلك في ارجاع الحق الى أهله في سورية الجريحة.
لقد كفّيتُم معاشر الدعاة بنصيحتكم لأخيكم، ودعائكم له بظهر الغيب ان يوفقه الله ويحفظه من مزالق الفتن.وبفضل الله رأينا أثر ذلك من خلال كلمات الدكتور مرسي بقوتها ومعانيها- والله حسيبنا جميعاً.
وهكذا عندما يتمثَّل الدعاة بقيمهم الاسلامية التي أخذوا بكتابتها، طوال فترة الدعوة، وأن يقوموا بتجسيدها على أرض الواقع في مجال السياسة والممارسات الحياتية من المناصحة التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم «الدين النصيحة»، وأخبر فيها عمر بن الخطاب- رضي الله عنه «لا خير فيكم ان لم تقولوها، ولا خير فينا ان لم نسمعها».
ان حكامنا اليوم في عالمنا العربي والاسلامي لفي حاجة ماسَّة الى هذه القيم والمناصحة معهم بها، فهي النجاة للأمة جمعاء.وما دمَّر الأمم على مر التاريخ الا النفاق السياسي والاجتماعي القائم على المصالح والدنانير.
فقرات منقولة من مذكرات بريمر الذي حكم العراق من 2003/5/12 – 2004/6/28م لعلها تُبين حقيقة المعركة في عالمنا العربي والاسلامي:
يقول في مذكراته المنشورة بعنوان (عام قضيته في العراق) والذي قام بترجمته عمر الأيوبي عام 2006 في 496 صفحة:
1 - ان القادة الصفويين، بمن فيهم آية الله العظمى....، قد شجعوا أتباعهم على التعاون مع الائتلاف منذ التحرير.
2- ويقول في ص253: (ان آية الله يخشى التهديد الذي يشكله مقتدى الصدر.. وان الخيار المفضل لآية الله.. هو ألا يبقى مقتدى.. وعلمنا أنه قد أرسل 200 مسلح الى كربلاء لمواجهة قوات مقتدى الصدر).
3 - يقول في ص 279 في مكالمة هاتفية مع وزير الخارجية الأمريكي «كولن باول»: (عليك ان تحصل على مباركة آية الله.. أرسِلْ أحدهم الى النجف، أو توجه اليه بنفسك اذا دعت الضرورة.. لا يمكن ان أطلب من حكومتي المصادقة على مسار بدون بعض الضمانات بأن النجف موافق عليه)!!
4- يقول بريمر: لقد تبادلت مع آية الله.. الرسائل بشكل منتظم حول الوضع الأمني في النجف ولاسيما في أغسطس سنة 2003 حين أصبح مقتدى الصدر يمثل تهديداً لنا).
فقرات منقولة من مقال للدكتور محمد عمارة المفكر الاسلامي:
1 - يقول الدكتور محمد عمارة: ان الاحتلال الأمريكي قد استعان بالأحزاب الصفوية التي تكونت في ايران.. والتي تدربت ميليشياتها وتسلحت في ايران.. بل والتي حاربت لحساب ايران ضد العراق لثماني سنوات (1988/1980م) أي ضد الجيش العراقي.. استعان الاحتلال «بالتشيع الصفوي» ومرجعيته العظمي ضد أهل السنة وضد «التشيع العربي» لتدمير العراق وتفتيته.. باعتبار هذا القصد هو المحقق لمخططات الفرقاء المختلفين: أمريكا.. والصهيونية.. وايران!!!
2 - وفي سنة 564هـ/ 1168م تمت الاستعانة بالصليبيين من قبل الوزير الفاطمي «شاور» (564هـ/ 1169م) الذي سمى الصليبيين بـ«الفرج» بدلاً من «الفرنجة»، ورأى فيهم «الفرج.. والانقاذ» من دخول مصر تحت سلطان الدولة السنية المجاهدة.. دولة نور الدين الشهيد (569/511هـ/ 1174/1118م).
وبعد ان انتهت هذه الصراعات وهذه الخيانات الفاطمية بزحف جيش الدولة النورية بقيادة أسد الدين شيركوه (564هـ/ 1169م) وصلاح الدين الأيوبي (589/532هـ/ 1193/1137م) على مصر، وتخليصها من مراكز الخيانة الفاطمية، وتوحيدها مع المشرق العربي.. وطيّ صفحة الدولة الفاطمية من التاريخ- شرعت بقايا هذه الدولة في التآمر مع الصليبيين ضد السلطة السنية- الأيوبية التي حكمت مصر في ذلك التاريخ.
لقد تحركت أصابع الخيانة الفاطمية- ممثلة في بقايا جند وقيادات هذه الدولة الذين كانوا «مخالفين في المذهب» لجمهور الأمة – فأرسل قائدهم «جوهر الخصى مؤتمن الخلافة» رسالة سرية الى الصليبيين يستعين بهم ويستنجد بجيوشهم ضد الدولة السنية وجيشها.وقد ضبط صلاح الدين الأيوبي هذه الرسالة، وقبض على مؤتمن الخلافة وأعدمه في 25 من ذي القعدة سنة 564هـ/ سبتمبر 1168م.. وأتبع ذلك بهزيمة جند «مؤتمن الخلافة».
3- كان ابن العلقمي (656/593هـ/ 1258/1197م) وزيراً شيعياً في دولة الخلافة العباسية.. وكان خبيراً بأدوات السياسة، ومحباً للرياسة.
ولقد ولي الوزارة (642هـ/ 1244م) وتربع عليها أربعة عشر عاماً، ثم انتهى به المطاف الى خيانة الدولة والخلافة والأمة، بل والحضارة الاسلامية كلها.. فتآمر مع التتار، وفتح أبواب بغداد لهولاكو، وذلك طمعاً في ان يحكم الشيعة بغداد والعراق بدلاً من السنة، بعد فتنة طائفية وقعت بين السنة!!
رسالة بعثتها تعليقاً على مناشدة الدكتور موفق ابن الدكتور مصطفى السباعي أرسلها الى رئيس مصر الدكتور مرسي عندما تناقلت وسائل الاعلام عزمه على الذهاب لمؤتمر عدم الانحياز في ايران، فقد قرأها عليّ في التليفون الابن العزيز أبو عبدالله المطوع متأثراً، ويريد ان نشفع رسالة ابن الدكتور السباعي ببعض الكلمات، فأمليت عليه هذه الرسالة: «جزى الله المجاهد موفق ابن المجاهد مصطفى السباعى رحمه الله على بيانه للحق المبين، يقبل من يقبل فينجو ويعرض من يعرض فيهلك ودخول الناس الى الجنة أو النار حسابٌ فردي كما قال الله تعالى: (وكلهم آتيه يوم القيامة فردا).
فان صح ان د.محمد مرسي حافظ القرآن، وابن مدرسة الاخوان انه سيذهب الى ايران فهذه جريمة اسأل الله ان يعافيه منها وان يبصره بأمر دينه والأمر كما ذكر ابن عباس (وهل الدين الا الحب في الله والبغض في الله).
وأنى لاضم صوتي لصوت ابن المجاهد وان كنت لم التق به ولم أتعرف عليه ولكنها عقيدة الولاء والبراء نجتمع معه فيها والله حسيبنا جميعا كما أنني أهيب بمن له علاقة مباشرة مع د.محمد مرسي كأمثال د.محمد بديع مرشد الاخوان الى اصغر واحد من معارفه ان يبلغه هذه الرسالة لعل الله سبحانه وتعالى ان يصرفه عن الذهاب الى ايران وعن مصافحة من قتل أكثر من مائة ألف مسلم سني في الشام وأكثر من ذلك في العراق، وسجن وتشريد ما يضعف على هذا العدد منذ ان تسلط الطاغية حافظ أسد على رقاب المسلمين.
كما أنني أدعو أهل الصلاح بأن يدعوا الله ان يصرف الدكتور محمد مرسي عن السقوط في هاوية الفتنة، قال تعالى {ولا تركنوا الى الذين ظلموا فتمسكم النار} وكما قيل فمعظم النار من مستصغر الشرر.
والفتنة لا يعرف الانسان من ان تأتي والى أين تنتهي وكلنا يعلم كيف سقط حسون مفتي سورية بوحل النصيرية والبعثية وأفتى على ذهبهم ودولاراتهم، والا كيف سقط من كتب بالفقه والسلوك والتربية وقد وصل من العمر عتيا (د.البوطي).
وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم «ان أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يظهر للناس فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها».
نسأل الله العفو والعافية للجميع وأن يعجل بنصر اخواننا في سورية فانهم يتحملون اليوم محاربة المشروع الايراني الشيعي في المنطقة العربية والاسلامية ونحن على يقين بالنصر كما نصر الله صلاح الدين على الفاطميين ثم انتقل بعد ذلك لتحرير المسجد الأقصى وفلسطين.
والله أكبر ولله الحمد
والحمد لله رب العالمين ان جعل من سلالة العلامة المجاهد مصطفى السباعى رحمه الله من يقول كلمة الحق في زمننا هذا الذي كثر ت فيه التبريرات والمجاملات.
قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (153).
وأخيراً تظل أمة الاسلام ولادة لرجال كبار يقدمون الحق على النفس، متمثلين قول الله تعالى: {قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا}، حقا انها أمة الخير التي أخرجت للناس {والبلد الطيب يخرج نباته باذن ربه}.

الشيخ الدكتور جاسم بن محمد بن مهلهل الياسين
نشر في الجمعة، 31 أغسطس 2012

المليشيات الكردية السورية.. من الكفيل الأمريكي إلى الكفيل العربي


المليشيات الكردية السورية.. 
من الكفيل الأمريكي إلى الكفيل العربي


د. أحمد موفق زيدان 
أتت زيارة الوفد الإمارتي ـ السعودي إلى قاعدة عسكرية كردية في عين العرب" كوباني من أجل دعم المليشيات الكردية المتحالفة مع العصابة الأسدية ليكشف المستور والغموض عن دور الدولتين إزاء الثورة السورية، فهذه المليشيات الكردية معروفة للقاصي والداني بتحالفها العضوي مع العصابة الطائفية في الشام، ومعروفة بأن قادتها من الطائفيين النصيريين الأتراك الأشد عداوة للثورة ولتركيا. 
ولكن للأسف كل هذا لم يمنع الدولتين من التحالف مع المليشيات الكردية نكاية بتركيا ولو كان ذلك على حساب الثورة السورية وتثبيت الاحتلال الإيراني في الشام الذي صدّعونا بمقاومته الشفهية واللفظية..
اللافت أن هذا الدعم يأتي بعد أن نفض الداعم الأمريكي والروسي يديه من المليشيات الكردية، ورأينا جميعاً كيف تخلى الأمريكيون عن المليشيات الكردية في عفرين ليتم تحريرها من قبل الجيشين الحر والتركي، فتندحر المليشيات الكردية من المدينة، وحتى أن منبج التي تعد من معاقل المليشيات الكردية تخضع للمساومة اليوم بين الأتراك والأمريكيين، وصل الأمر إلى أن يكشف وزير الخارجية التركي مولود جاوييش أوغلو عن اتفاق بين الطرفين يقضي بانسحاب القوات الأمريكية منها..
الأغرب أن كثيراً مما يتم تداوله اليوم هو أن القوات الأمريكية تخطط لنقل قواتها وقواعدها إلى العراق بدلاً من سوريا، وهو الأمر الذي فرض على المليشيات الكردية كالعادة نقل البندقية من كتف إلى آخر، وفرض على الكفيل أن يسلم المليشيات الكردية إلى كفيل آخر، ولعل نظام الكفالة تتقنه الدول المعنية ..
لا شك أن الضحية الأولى والأخيرة المباشرة لهذه المناكفات البعيدة كل البعد عن المنطق والمصلحة، حتى مصلحة الدول المعنية المتدخلة، الضحية هو الشعب السوري وثورته، وبالتأكيد تشمل الضحية أن تكون المصالح العربية للكفيل الجديد كون العدو التاريخي والمتربص بها وهو إيران التي بالمحصلة ستكون أكثر المستفيدين من هذا الصراع الذي يريحها كثيراً، فهو يستنزف أعداء ومنافسين اقليميين كبار لها، بالإضافة إلى استنزاف الثورة السورية ملعبها الرئيسي والأساسي اليوم...
وبينما كان الوفد الإماراتي والسعودي يجري مفاوضاته في عين العرب مع المليشيات الكردية الانفصالية كانت القبائل العربية في الرقة وضواحيها تعلن موقفها الواضح والجلي من هذه العصابات عبر مظاهرات ضخمة ترفض حكمها، وهي مظاهرات ذكرتنا بالمظاهرات التي بدأت سلمية ضد العصابة الطائفية الأسدية، والتساؤل هو كيف يتم دعم مليشيات ملفوظة شعبياً؟!، وهل مجرد النكاية بتركيا سيدفع ثمنها الشعب السوري وقبائله العربية في الرقة وغيرها مما يعني بالمؤكد صبُّ كل ذلك في مصلحة الاحتلال الروسي والإيراني وأعداء الثورة السورية والأمن القومي العربي.. 
أخيراً نجح الأمريكي والروسي والإيراني مجدداً فيما أسس له لورنس العرب أحد مخططي هادمي الخلافة العثمانية حين قال في كتابه ثورة في الصحراء:" إن أخطر وأعظم ما نجحنا فيه هو وضع مكة في مواجهة اسطنبول، فهل يعيد التاريخ نفسه؟!"


الأربعاء، 30 مايو 2018

جفاف النيل.. حينما أكل المصريون لحوم البشر!

جفاف النيل.. حينما أكل المصريون لحوم البشر!

فريق التحرير
تواجه مصر منذ سبع سنوات وحتى اليوم إحدى أخطر التحديات الكبرى التي قد تتسبب في خسائر فادحة على مستوى البشر والعمران والزراعة في مصر، تلك الخسائر التي تذكرنا بكوارث التاريخ الكبرى مثل المجاعات والطواعين والأوبئة التي كان لها أثرها الفادح على مسيرة الحضارة، بل إن مصر مرت ببعض هذه الخسائر حين جف النيل وتوقف عن الجريان في حوادث عدة، لعل أشهرها تلك التي وقعت في زمن الخليفة الفاطمي المستنصر بالله الذي عُرفت سنوات محنته بـالشدة المستنصرية ولا يزال العقل الجمعي في مصر مستحضرا تلك المحنة بعد ألف سنة من حدوثها نتيجة بشاعتها وقسوتها.

يؤكد التاريخ لنا أنه لا يمكن للعقل البشري أن يصدق أن تحيا بلد مثل مصر دون النيل، وقد ورد أنه لما فتح عمرو بن العاص مصر "عرف عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما يلقي أهلُها من الغلاء عند وقوف النيل عن حدّه في مقياسٍ لهم فضلا عن تقاصره، وإن فرط الاستشعار يدعوهم إلى الاحتكار، وأن الاحتكار يدعو إلى تصاعد الأسعار بغير قحط، فكتب عمر إلى عمرو يسأله عن شرح الحال، فأجابه: إني وجدتُ ما تُروى به مصر حتى لا يُقحط أهلها أربعة عشر ذراعا، والحدّ الذي يُروى منه سائرها حتى يفضلَ عن حاجتهم، ويبقى عندهم قوت سنة أخرى ستة عشر ذراعا، والنهايتان المخوّفتان في الزيادة والنقصان وهما الظمأ والاستئجار اثنا عشر ذراعا في النقصان وثمانية عشر ذراعا في الزيادة"[1].

واستمر الوضع على ذلك في مصر مع النيل، أربعة عشر ذراعا الحد الأدنى الذي إن نقص كانت المجاعة وغلاء الأسعار، وإن زاد أغرق مصر وأنتج أيضا المجاعة وغلاء الأسعار لغرق المحاصيل، من أجل ذلك ارتبطت الحياة في مصر بالنيل، فلا حياة دون نيل.
والأمثلة على ذلك من التاريخ لا تُحصى لعل أشهرها تلك الحادثة الشنيعة التي وقعت سنة 597هـ/1201م والتي ذكرها المقريزي وابن تغري بردي والبغدادي في تواريخهم، حين انخفض النيل عن الجريان لثلاث سنوات كاملة، وعم مصر القحط والغلاء الشديد في تلك المحنة اضطر أهل مصر لفعل أشياء ما كان يمكن أن يصدقها العقل البشري لولا تواترها في التواريخ بتفاصيل دقيقة من مؤرخين على درجة كبيرة من الموضوعية لا سيما المقريزي وابن تغري بردي.

ومن المهم أن نأتي بنص المقريزي كاملا لنرى أثر النيل في حياة المصريين وهو سبب سعادتهم ورغدهم واطمئنانهم وأيضا السبب الرئيسي في تكوين سيكولوجيا الإنسان المصري ونفسيته عبر التاريخ، وكيف تتغير أخلاق المصريين بانخفاض النيل وقلة المياه.

يقول المقريزي في تلك المأساة التي استمرت منذ سنة 596 - 598هـ/1200- 1202م: "وفيها تعذَّرَت الأقوات بديار مصر وتزايدت الأسعار وعظم الغلاء حَتَّى أكل النَّاس الميتات وأكل بَعضهم بعضًا وَتبع ذلك فنَاء عظيم وابتدأ الغلاء من أول العام وتمَادى الحال ثلاث سنِين مُتَوَالِيَة لا يمد النيل فيها إلا مدا يسيرا حَتَّى عدمت الأقوات وخرج من مصر عالم كبير بأهليهم وأولَادهم إِلَى الشَّام فماتوا في الطرقات جوعا.

وشنع الموت في الأغنياء والفقراء فَبلغ من كفنه السلطان العادل (الأيوبي) من الْأموات - في مدة يسيرة - نَحوا من مائتي ألف إِنسان وعشرين ألف إنسان، وأكلت الكلاب بأسرها، وأُكل من الأطفال خلق كثير فكانَ الصغير يشويه أبوَاهُ ويأكلانه بعد موته، وصار هذا الفعل لكثرته بحيث لا يُنكر ثمَّ صار النَّاس يحتال بعضهم على بعض ويُؤخَذ من قدر عليه فيؤكل، وإِذا غلب القوي ضعيفا ذبحه وأكله، وفُقد كثير من الأطباء لكثرة من كان يستدعيهم إِلى المرضى فإِذا صار الطبيب إلى داره ذبحه وأكله.

ويسوق المقريزي قصة مفجعة لطبيب تمكن من النجاة بأعجوبة في تلك الكارثة بقوله: "واتفق أن شخصا استدعى طبيبًا فخافه الطبيب وسار معه على تخوف فصار ذلك الشَّخص يكثر فى طريقه من ذكر الله تعالى ولا يكاد يمر بفقير إلا ويتصدق عليه حتى وصلا إلى الدار فإذا هي خربة. فارتاب الطبيب مما رأى وبينا هوَ يُريد الدُّخُول إليها إِذ خرج رجل من الخربة وقال للشَّخص الذي قد أحضر الطبيب: مع هذا البطء جئتَ لنا بصيد واحدة. فارتاع الطَّبِيب وفر على وجهه هاربا. فلولا عناية الله به وسرعة عدْوِه لقُبض عليه".

ويكمل المقريزي سرده لمشاهد الخراب التي حلت في القاهرة الكبرى، حتى صار الناس يأكلون أولادهم فعليا دون مبالغة، بقوله: "خلت مدينة القاهرة ومصر (الفسطاط) أكثر أهلهَا، وصار من يموت لا يجدُ من يواريه فيصير عدَّة أشهر حَتَّى يُؤْكَل أَو يبلى، وقدم إلى القاهرة ومصر من أهل القرى (الريف) خلق كثير، وكثر الجوع، وعدم القوت حتى أكلت صغار بنى آدم، فكان الأَب يأكُل ابنه مشوياً ومطبوخاً، وكذلك الأم، وظفر الحاكم منهم بجماعة فعاقبوهم حتَّى أعياهم ذلك وفشا الأمر: فكانت المرأة توجد وقد خبأت فِي عبها كتف الصغير أو فخذه، وكذلك الرجل وكان بعضهم يدخل بيت جاره فيجد القِدر على النَّار فينتظرها حتَّى تنزل ليأكل منها فإذا فيها لحم الأطفال، وأكثر ما كان يوجد ذلك فى أكابر البيوت ويوجد النّساء والرّجال فِي الأسوَاق والطرقات ومعهم لحوم الأطفال، وأحرق في أقل من شهرين ثلاثون امرأة وجد معهن لحوم الأطفال، لما فشا ذلك حتى اتخذه النَّاس غذَاء وعشاء وألفوه، وقل منعهم منهُ؛ فإنهم لم يجدوا شيئا من القوت لا الحبوب ولا الخضروات".

كان لهذا البلاء العظيم أثره على التعداد السكاني للمصريين حيث قل بصورة كبيرة للغاية، فضلا عن تأثيره الاقتصادي على حياة من تبقى من الناس، فقد "كان الناس قد فنوا بحيث بقي من أهل القرية الذين كانوا خمسمائة نفر إما نفران أو ثلاثَة فلم تجد الجسور من يقوم بها ولا القرى من يعمل مصالحها، وعدمت وجافت الطرقات بمصر والقاهرة وقراهما، ثمَّ أكلت الدودة ما زُرع، فلم يوجد من التقاوى، ودخلت سنة سبع وتسعين وخمسمائة، والنَّاس تأكُل الأطفال، وقد صار أكلهم طبعا وعادة، وضجر الحكَّام من تأديبهم، وأبيع القمح - إِن وجد - بثمانية دنانير ذهبية الأردب، والشعِير والفول بستة دنانير ذهبية، وعدم الدَّجاج من أرض مصر فجلبه رجل من الشَّام وباع كل فروج بمائة درهم وكل بيضتين بدرهم. هذا وجميع الأفران تُقد بأخشاب المساكن حتى دخلت سنة ثمان وتسعين وكان كثير من المساتير يخرجون ليلا ويأخذون أخشاب الدّور الخالية ويبيعونها نهَارا، وكانت أزقة القاهرة ومصر لا يوجد بها إلا مساكن قليلة ولم يبق بمصر عامر إلا شط النيل وكانت أهل القرى تخرج للحرث فيموت الرجل وهو ماسك المحراث"[2].

هذه بعض من المشاهد المروّعة التي ساقها مؤرخ ثقة كالعلامة تقي الدين المقريزي تبين مقدار الكارثة التي حلت بمصر في نهاية القرن السادس الهجري جراء توقف النيل عن الجريان لثلاث سنوات متوالية، وهي حقيقة تاريخية تؤكد انعدام الحياة في مصر بمجرد انخفاض النيل عن جريانه الطبيعي.


علاقات مصر وأثيوبيا

في عام 1941م أعلن استقلال الحبشة، واستعادت أثيوبيا السيادة الكاملة بعد توقيع الاتفاق الأنجلو إثيوبي في ديسمبر 1944، وارتقى هيلا سيلاسي الحكم (1941 - 1974م).

كانت العلاقات الأثيوبية المصرية على درجة من القوة والمتانة في عصر عبد الناصر- سيلاسي، ولعل هذه المتانة تعود إلى ارتباط الكنيسة الحبشية حتى عام 1959م بالكنيسة المصرية قبل أن ينفصلا، لكن بدأ الصدام مبكرًا في الخمسينيات حين علم المصريون أن أثيوبيا ستشرع في بناء سد "تيس أباي"، فأرسل عبد الناصر وزير خارجيته محمود فوزي إلى أثيوبيا محذرًا إياها من المساس بحصة مصر من مياه النيل، الأمر الذي قبلته أثيوبيا لضعف مواردها ولقوة العلاقات مع مصر حينذاك[3].

على أن هذه العلاقات بدأت في التغير في عهد أنور السادات حين انضمت مصر إلى تحالف سفاري المضاد سنة 1975، والذى اعتبره منجستو مريام الزعيم الجديد المنقلب على سيلاسي آنذاك مؤامرة مصرية ضد أثيوبيا، وحين رأى السادات بعض المحاولات الأثيوبية المضادة لبناء عدد من السدود، خرج بتصريحه الشهير: "إننا لن ننتظر حتى نموت من العطش بل سنذهب لنموت هناك في اثيوبيا"[4]. واستمرت بعد ذلك العلاقات المصرية الأثيوبية شكلية فقط حتى حدوث بعض التوترات في عهد حسنى مبارك[5].

قصة بناء السدود الأثيوبية

كانت المحاولة الأولى والحقيقية لإنشاء خزان يحول دون تدفق مياه النيل إلى مصر والسودان قد بدأت مع القرن العشرين، فقد شغل مشروع بناء خزان بحيرة تسانا الحكومة المصرية والرأي العام المصري فترة طويلة بلغت أقصاها سنة 1933 عندما عُقد مؤتمر في أديس أبابا ضم مصر وأثيوبيا والسودان والشركة الهندسية الأمريكية التي أُسند اليها بناء مشروع هذا الخزان. وكانت بريطانيا وراء هذا المشروع التي اهتمت به كثيرا لأمور سياسية بحتة هي الحفاظ على نفوذها ومصالحها في أثيوبيا وحماية منابع النيل الأثيوبية من أطماع الدول فيها[6].


ظلت بريطانيا تحرص دائما على أن تظل منابع النيل الأثيوبية في مأمن من وقوعها في أيدي أجنبية قد تكون معادية لها وبالتالي يضر بمركزها في مصر والسودان كما تضر الزراعة وسكان هاتين البلدين، على أن اعتراض مصر والسودان على هذا المشروع لاقى آذانا مصغية لدى الجانب البريطاني الذي كان يحتل هاتين الدولتين، ومن ثم وئد المشروع في حينه، لا سيما مع تكلفته الباهظة للغاية.

منذ عام 1981م سعت أثيوبيا لاستصلاح 227 ألف فدان في حوض النيل الأزرق بدعوى "عدم وجود اتفاقيات بينها وبين الدول النيلية"، وقامت بالفعل بتنفيذ عدد من المشروعات مثل مشروع سد "فيشا" - أحد روافد النيل الأزرق - والذي يؤثّر على حصة مصر من مياه النيل بحوالي 0.5 مليار متر مكعب سنويًا، ومشروع "سنيت" على أحد روافد نهر عطبرة، ومشروع "خور الفاشن" الذي يقع أقصى شرق أثيوبيا، ويُؤثّر في المياه التي تصل إلى مصر بمقدار 4.5 مليارات متر مكعب، ومشروع "الليبرو" على نهر السوباط، وأخيرًا قامت باستكمال إنشاء أعلى سدّ في القارة الأفريقية على منابع النيل، وهو سد تيكيزي الذي يبلغ ارتفاعه 188 مترًا وذلك في شهر فبراير 2009م، والذي يقوم بحجز 9 مليارات متر مكعب من المياه[7].

على أن أخطر تلك الأزمات التي وقعت بين دول المنبع ودول المصب بدأت في الظهور تدريحيا على السطح في مايو 2009م بعد المؤتمر الذي عقده وزراء مياه دول حوض النيل في "كينشاسا" عاصمة الكونغو الديمقراطية، عندما طالبت مصر بالالتزام بمبدأ التشاور والإخطار المسبق في حالة إقامة أية مشروعات مائية علي ضفاف النيل، وذلك بالاتفاق مع ما ينص علية القانون الدولي من ضرورة التزام دول المنبع بعدم إحداث أي ضرر لدول المصب، و بما يتفق مع حقوق مصر التاريخية في حصة مياه النيل، لكن تلك الدول لم تهتم بالاعتراض المصري، وكانت ولا تزال حجتها في ذلك أن مصر لم ترجع إلى هذه الدول حين بنت السد العالي وخزان أسوان وقناة توشكي.

السد القاتل!

كان اجتماع كينشاسا بين دول حوض النيل ما عدا مصر والسودان بداية الصعوبات والتحديات الكبرى التي انفجرت في وجه السياسة المصرية في العقد الأخير والتي سيكون لها تأثيرها المباشر على الحياة في مصر في العقود القادمة، ففي أثناء الثورة المصرية في 2011م، وانشغال المصريين بأنفسهم، بدأت أثيوبيا في بناء أكبر سد على النيل الأزرق، والذي سمي أولا سد الحدود ثم سد الألفية العظيم وأخيرًا سد النهضة.

تعود فكرة إنشاء السد حين وافقت الحكومة الأمريكية على الطلب الأثيوبي في إمكانية التعاون معها للقيام بدراسة شاملة لحوض النيل الأزرق خاصة بعد عزم مصر على إنشاء السد العالي في ذلك الوقت، وجرى التوقيع على اتفاق رسمي بين الحكومتين في أغسطس 1957م، ثم كُلِّف مكتب الاستصلاح التابع لوزارة الداخلية الأمريكية للمشاركة في المشروع المشترك بعنوان "البرنامج التعاوني للولايات المتحدة الأمريكية وإثيوبيا لدراسة حوض النيل الأزرق"، واستمرت تلك الدراسة المكثّفة للمشروع لمدة خمس سنوات (1958- 1964م)، وكان ذلك إبّان بناء السد العالي في مصر (1960- 1970م)، وانتهت تلك الدراسة بتقديم تقرير شامل عن الهيدرولوجيا ونوعية المياه، وشكل سطح الأرض، والجيولوجيا، والموارد المعدنية، والمياه الجوفية، واستخدام الأرض، وأخيرًا الحالة الاجتماعية والاقتصادية[8].

قام المكتب الأمريكي بتحديد 26 موقعًا لإنشاء السدود أهمها أربعة سدود على النيل الأزرق الرئيسي: كرادوبي ومابيل وماندايا وسد الحدود النهضة بإجمالي قدرة تخزين 81 مليار متر مكعب[9].

استفادت أثيوبيا من تلك الدراسات الأمريكية السابقة، وبدأت بالفعل في بناء السد على بعد عشرين كيلو متر من الحدود السودانية الأثيوبية، واضطرت مصر منذ العام 2011م إلى الدخول في مفاوضات مضنية ولا تزال مع الجانب الأثيوبي تشترك فيها السودان باعتبارها دولة مصب، وفي مارس 2015م تم الإعلان عن اتفاق المبادئ بين الدول الثلاث والتي كان مضمونها عدم إيقاع أية أضرار تمس أيا من الدول الثلاث.

وبحسب بعض الخبراء فإن "اتفاق المبادئ" المبرم بشأن سد النهضة لا يرقى إلى مستوى التعاقد القانوني بين مصر وإثيوبيا، نظرًا إلى وجود اتفاق سابق للتفاهم بين البلدين عُقد عام 1993م ولم يتم العمل به، وكانت إثيوبيا قد تعهّدت فيه بعدم المساس بحصة مصر المائية أو بناء سدود من دون إخطار مسبق ولم يتم التزام هذا الاتفاق[10].

إن واقع الحال يؤكد أن سد النهضة سيكون قادرًا على تخزين ما مقداره 74 مليار متر مكعب من مياه النيل الأزرق الأمر الذي سيؤثر بصورة مباشرة على حصة المياه القادمة إلى مصر ومقدارها السنوي 55 مليار متر مكعب، والتي لم تعد تلبي كافة التحديات والمتطلبات المصرية وعلى رأسها الزيادة المطردة في السكان والبالغة 92 مليون نسمة في إحصاء هذا العام.

في حوار له على قناة "سكاي نيوز عربية" في فبراير/شباط 2014م عدّد وزير الري المصري الأسبق محمد علام خطورة سد النهضة على مصر، يأتي على رأسها تبوير مساحات هائلة من الأرض الزراعية تزيد على 2 مليون فدان في السنوات الثلاث الأولى من ملء سد النهضة وترتفع إلى4 مليون فدان في السنة الرابعة والخامسة، كما سيؤدي بناء سد النهضة إلى تفريغ المياه من بحيرة السد العالي ووقف توربينات توليد الكهرباء في جسم السد العالي وخزان أسوان، فضلاً عن التدهور الكبير في المزارع السمكية حيث من المتوقع القضاء على ما نسبته 50 إلى 75% من المزارع السمكية في مصر، وفي غضون السنة الثالثة من ملء سد النهضة سينتهي مخزون مياه السد العالي الذي ستلجئ إليه مصر لتعويض النقص من حصتها السنوية التي ستتناقص من 55 مليار متر مكعب إلى 30 مليار متر مكعب سنويا.

والأخطر من هذا - بحسب علام - فإن سنوات الجفاف ستؤثر بشدة على مصر وسترتفع نسبة بوار الأرض الزراعية إلى 3 مليون فدان أخرى، وستعاني مصر في أثناء التخزين أو التشغيل طويل المدى لسد النهضة من عجز دائم في الحصة المائية، وسيقل منسوب المياه الجوفية في صعيد مصر من 2 إلى 3 متر، وبالنسبة لدلتا مصر في الشمال ستعاني من ملوحة شديدة تدمر نسبة كبيرة من رقعة الأرض الزراعية في شمال مصر نتيجة انخفاض منسوب مياه النيل ودخول مياه البحر المتوسط إلى فرعي دمياط ورشيد[11].
       


1-المقريزي: المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار 1/110
2-المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك 1/270
3-"اثيوبيا ما بين عبد الناصر والسادات"،الأهرام، 25 ديسمبر، 2015م
4-المصدر السابق
5-إبراهيم يسري: النيل وسد النهضة: العلاقات المصرية الإثيوبية
6-أنتونتي سوريال: العلاقات المصرية الأثيوبية
7-محمد سلمان:"ورقة خلفية حول الوضع المائي في حوض النيل"
8-عباس محمد شراقي:سد النهضة الأثيوبي الكبير وتأثيره على مصر_ص4
9-Collins,R.O:The Waters of the  Nile:Hydropolitics and the Jonglei Cana
10-السابق، ص23
11-حلقة برنامج حوار القاهرة بتاريخ 15 فبراير 2014م
12-أماني الطويل: سد النهضة الإثيوبي الكبير الواقع والآفاق

الشذوذ الجنسي والفاتيكان



"ليتمّ تلجيم الحق مدى الحياة" !
ذلك هو الشعار وتلك هي كلمة السر التي يتصرف الفاتيكان بمقتضاها.. فما من احدٍ يجهل اليوم الى أيّ مدى تمثل الاستقالة الجماعية للأساقفة الشيليين مرحلة جديدة في صراع الكنيسة ضد الشذوذ الجنسي. فلم تعد المسألة بضعة أفراد سقطوا تحت إغراء الشيطان، وإنما مسألة الكنيسة بأسرها، بداً من البابا نفسه. فالفضيحة الكبرى التي تمس كنيسة شيلي لها جوانبها الداكنة المحبطة. فحتى وإن أشارت الى الشعور بالتعالي الذي يتم تلقينه لرجال الكنيسة في بداية إعدادهم، والذي يمكن ان يتحول الى تصريح بإباحة كل شيء، بفضل تآمر الصمت، فذلك لا يمنع من ان البابا يتعامل مع هذه القضية بمكاييل جد متفاوتة.
تنظيم الجريمة
لقد قام الفاتيكان سنة 1929 بصياغة خطاب رسولي بعنوان "تناول الجريمة"، وينص على الإجراءات التي يجب اتخاذها في حالة اتهام القساوسة بأخطاء جسيمة أيا كانت، بحيث تصبح أي تهمة غير مؤثرة على الجاني ولا يمكن مطاردته قانونيا، ابتداء من ذلك التاريخ ولمدة قرون قادمة.. وأيا كان الأمر فالبابا فرانسيس وحتى يومنا هذا يلوّح بهذا الخطاب الفاتيكاني ليمنع أي تحقيق قانوني، خاصة في نطاق القساوسة الشواذ..
ذلك هو المعيار المخزي لآلة فرض الصمت لتغطية الجرائم. وتدور الخطة بانضباط تام: فما أن تبدأ أولى الاتهامات حتى يقوم القس المعني بأخذ أجازه ويبتعد. وتقوم الكنيسة بالتعتيم حتي يمكنه مواصلة مهنته كرجل دين في إبراشية أخرى، أو حتى بنقله في بلد آخر. ومثل هذه التصرفات من قِبل الكنيسة التي اعتذرت رسميا يوم 7 نوفمبر الماضي "عن صمتها الطويل الإجرامي" جد فاضحة. فلقد تم ترتيب كل شيء حتى لا يدان رجل كنيسة ولا يحاكم أبدا بمحكمة مدنية.
وهذا الانفلات الجنسي الذي يمس أغلبية الهيكل الكنسي، منذ قرون، أدى الى ان هذه المؤسسات، الفاتيكان والكنائس، انتهى بها الأمر لأن تكون "مفرخة شواذ" تلوّث مجتمعات العالم.. وأيا كانت الأسباب التي يقدمونها فهناك سبب أساسي شديد المنطق ولا يذكره أحد، بل ولا يقترب منه أي مسئول: وهو لا يعني العلاقة بين التبتل الكنسي والشذوذ، ولكن السبب الذي من أجله تم فرض التبتل على الكنيسة بأيدي المؤسسة الكنسية.
سبب الجريمة
ما من إنسان يجهل اليوم ان الحواريين كان منهم متزوجون، وأن السيد المسيح كانت له مريم المجدلية التي تعتم عليها الكنيسة. إلا ان السياسة المغرضة والنهم الكنسي قد أديا الى صياغة عدة وثائق ابتداء من القرن الرابع، الذي كانت تتشكل فيه المسيحية وتتكون، أديا الى صياغة عدة وثائق ابتداء من القرن الرابع، تفرض فيه العزوبية لأسباب مختلفة. وكان هناك دوما استثناءات وخروج عن القاعدة، فالقائمة معروفة حتى الباباوات الذين كانوا متزوجون ولديهم أطفالا. غير أنه لم يتم فرض التبتل رسميا إلا في مجمع لاتران سنة 1123، وتم فرض التبتل نهائيا على الكنيسة بأيدي الكنسيين. وهو ما يعني ان هذا القانون المزعوم لا يمت الى القوانين الإلهية بصلة، مثله مثل كل تاريخ العقيدة المسيحية، ويمكن إلغاؤه بكل بساطة.
والحقيقة المؤسفة الناجمة عن تعليق أوتُيّ على رسالة كوزّ يشرح كيف ان قرار العزوبية هذا قد تم اتخاذه لتفادي ضياع الممتلكات الكنسية في حالة وفاة أي كنسي، ومنعها من أن تضيع في عملية الميراث وتذهب للأطفال وامهم المدنيين. أو بعبارة أخرى لكيلا تتسلل أموال الكنيسة للمجتمع المدني، فالجشع كان يمنع التنازل عن أية دراهم أو حتى عن أي حزمة خضار من مزارعهم وتذهب للأبناء الشرعيين وأمهم. أي ان اصدار وفرض قانون العزوبية لم يكن من أجل الرب أو المسيح كما يقولون، وإنما حماية لأموال الكنيسة. لذلك يمكن إلغاؤه بكل بساطة وإنقاذ العالم من الشواذ..
بعض النماذج المؤسفة
ان تصرفات كل ذلك البنيان الشيطاني متعددة الأوجه، فهو من ناحية يتحدث عن التبتل وحب السماء، ومن ناحية أخرى يُدخل الانفلات الجنسي في كيانه بصخب فاضح. فكل هذه الفضائح المتعمدة الا تبدو وكأنها تمهد لإباحة الشذوذ وغيره بأمر من السلطة الفاتيكانية العليا ؟ وفيما يلي بعض أحدث الفضائح في هذا المجال:
1 ـ جيمس مارتان الذي عينه البابا فرانسيس كمستشار في أمانة الكرسي الرسولي للاتصالات، وهو جوزيتي أمريكي يرأس تحرير مجلة "أمريكا"، ومشهور بمحاولاته المتكررة لصالح عالم الشواذ بأنواعه. كما أنه ينتقد بشدة تعاليم الكنيسة المتحفظة فيما يتعلق بالشواذ. وقد أصدر العام الماضي كتابا بعنوان يفضح الكثير من النوايا الخفية: "تشييد الجسور: كيف يمكن للكنيسة الكاثوليكية ومجتمع الشواذ إقامة علاقة احترام متبادل ومتعاطف وشديد الرهافة".. واللهم لا تعليق، سوى ان كلمة "الجسور" و"تشييد الجسور" من كلمات البابا الشهيرة في الكثير من خطبه..
2 ـ التعليق الفاضح الذي قاله البابا فرنسيس للمدعو خوان كارلوس كروز، أحد ضحايا القس كاديما. فبينما كان يحكي قصة اغتصابه لجريدة "الجارديان" البريطانية، ولقائه الخاص مع البابا فرانسيس، ذكر التعليق الذي قاله البابا: "يا خوان كارلوس، كونك من الشواذ فلا أهمية لذلك. إن الرب قد خلقك هكذا ويحبك بما انت عليه، وذلك لا يعنيني. البابا أيضا يحبك كما انت. وعليك ان تكون سعيدا كما انت" !!
وهل لي أن أضيف وأذكّر ذلك البابا أن الرب لا يصنع الشواذ وإنما الكنسيون المنحرفون في كل رتب ودرجات الفاتيكان الذي يلوث المجتمعات على الصعيد العالمي ؟.
3 ـ في إيطاليا، وعلى مقربة من مقر البابوية، أقيمت في عيد العنصرة، يوم 20 مايو 2018، احتفالية حاولوا التعتيم عليها لكن العديد من الصحف نشرت خبرها ونشرت إعلان الدعوى لذلك القداس. وقد قام بترتيبها مسيحيون منحرفون في عدة إبرا شيات، بالتعاون مع القساوسة المحليين.  وفي مدينة ردجيو إيميليا وقف الشواذ بأنواعهم والوانهم القوس قزحية، داخل الكنيسة، ومعهم الأسقف مسيمو كاميزاسكا الذي ترأس الصلاة الشاذة التي أرادها رئيس إبراشية رچينا باسيس القريبة من أوساط الشواذ. ويلاحظ الإعلان عن هذا القداس المسخرة في اعلى المقال، حيث الصليب محاط وغارق في ألوان رمز الشواذ..
فهل ممكن لكنيسة، أيا كانت، ان تكون أكثر انفلاتا وإباحية ؟
السبب الحقيقي لهذا الخلط الفاضح
منذ مجمع الفاتيكان الثاني وقراره الشهير "تنصير العالم" نتابع سباقا مهووسا وغير إنساني، قاده الباباوات الثلاث التالين لذلك المجمع. فكل ما يعنيهم هو كيفية زيادة عدد الأتباع وكيفية تنصير العالم بأي وسيلة وبأي ثمن. يلملمون أي ناس حتى وإن كانوا مجرمين، أو بلا مأوى، او من كافة طبقات المجتمعات المختلفة الدنيا، لا يعنيهم. وخاصة لا يعنيهم ان كان اعتناقهم المسيحية بفضل الرشاوي التي يقدمونها لهم أو مختلف الخدمات الأخرى مقابل تغيير العقيدة. المهم هو تزايد العدد.
ان هؤلاء الباباوات يبدو أنهم لا يدركون ان ما يحصلون عليه هو "عقيدة" مشتراه، نعم، مشتراه بالمقابل وبالخدمات والمزايا.. لكن المهم بالنسبة لهم هو المساهمة في تنصير العالم. يجمعون حثالة المجتمعات ليصلوا الى هدفهم النهائي: عالم بديانة واحدة هي "المسيحية" فقط لا غير.
وهو أيضا نفس السبب الذي من أجله نعايش ذلك الجنون المفتعل بكافة الوسائل، السياسية والحربية وغيرها كثير، لاقتلاع الإسلام والمسلمين. إذ ان محاولة اقتلاع دين منزّل من عند الله، ولم يتغيّر نصه على الإطلاق منذ أن تم تنزيله، ليتم فرض عقيدة كل نصوصها عبارة عن "نسيج من الرقع"، فتاريخ تكوينها ثابت ومسجل، فذلك أكثر وأكبر من عبارة "مهزلة إجرامية"، أنه اقتلاع أكثر من مليار ونصف مسلم من دينهم.


زينب عبد العزيز

26 مايو 2018

                                                                                      
                                                                        


الثلاثاء، 29 مايو 2018

جماعة هل من مزيد؟

جماعة هل من مزيد؟

 وائل قنديل
يا عزيزي: لم يعد ثمّة شيء يوقف اندفاع آلة البطش في مصر، فلا تهدر طاقتك في اللهاث حول تعويذةٍ لم تعد صالحةً للاستهلاك، ولم تعد قادرةً على أن تعبر بأحد إلى شاطئ النجاة من المقصلة.

صار باعثاً على الأسى أن يتوهم أحدٌ أنه يستطيع الإفلات من المقصلة، باستئناف قصف من لا حول لهم ولا قوة، في الزنازين، أو في جوف القبور، أو في عراء المنافي.. لم يعد مجدياً أن تعاود الاستئساد على "الإخوان"، كي تنجو من طوفانٍ يبتلع كل من في طريقه من الأطياف المختلفة، ذلك أنه يتجاور في قيظ المعتقلات الآن الإسلاميون وخصوم الإسلاميين، وقد يحدث أن يجد حازم عبد العظيم، مثلاً، نفسه وجهاً لوجه مع عصام سلطان ومحمد البلتاجي، من دون ترتيب، فالقصة لم تعد، عند النظام، الحرب على "الإخوان"، إذ لم يبق منهم أحد لم يسجن أو يُنفى أو يُقصى من الحياة.

لا داعي، والحال كذلك، لاجترار مزيد من الأكاذيب والأوهام، فتلك التعويذة لم تعد صالحةً للنجاة من فيروس الطغيان الفتاك، وهذه الأعشاب لم تعد صالحةً للمضغ، ولا تُطرب أحداً، إذ ملّتها الأذن، وباتت نغمةً ممجوجةً، لا تفيد أحداً إلا النظام، ولا تضرّ أحداً إلا ضحاياه، إخواناً كانوا أم ضد الإخوان، لأنك، ببساطة، تمنح السلطة وفرةً من المفردات والعبارات التي تنفعها في اختراع الاتهامات، وتكييف قرارات الاعتقال العشوائي، لتبدو، وهي تبطش، وكأنها تستجيب لما يقوله الناشطون السياسيون، المصابون بفوبيا الإخوان، فتجد حلولاً مجانيةً بتصنيف كل من تريد تجريده من حريته إخوانياً أو متعاوناً، أو متصلاً بالإخوان.
على الناحية الأخرى، يقدّم أصحاب توكيلات التوبة ومتعهدو صكوك الغفران الخدمة ذاتها للسلطة، من خلال إعلان الفرح باعتقال خصومهم، وطرح عبواتٍ ونوعياتٍ جديدة من منتجات الشماتة والتشفي، وكأنهم يصيغون برقيات الشكر للمستبد، على شفاء صدور القوم بتصعيد الإجراءات الوحشية ضد خصوهم، ويطلبون المزيد.
هؤلاء، ومن حيث لا يدرون، يضعون رؤوسهم على المقصلة، ويبرّرون للسلطة أن تنهشهم، فإذا كانت تفعل ذلك مع خصومهم الأشداء، بتهمة التواصل معهم، فلماذا لا تفعلها معهم شخصياً، وبتوحشٍ أشد؟.

وسط هذه الأجواء الرائعة، من البطش والفزع والتشفّي، يتحلل المجتمع ذاتياً، فتقدّم روابط مشجعي فرق الكرة على حل نفسها، في مشاهد تشبه انتحار الدببة على الشواطئ البعيدة، أولتراس النادي الأهلي، ثم أولتراس الزمالك، ومعهما وقبلهما أحزابٌ قديمةٌ تتفكك وتتخلخل، وتنسف أرضياتها وحوائطها، وتضع على وجهها مساحيق عسكريةً، وشخصياتٍ عامةً تعلن اعتزال السياسة والعمل العام، ظناً منها أن في الاختباء في الظل نجاةً من الغول.

غير أن الغول ماضٍ في طريقه، يلتهم كل ما في طريقه، ليس لأنه يمثل خطراً أو تهديداً له، وإنما لأنه، كما قلت قبل أيام، دخل مرحلة الانتقام الممتع، وكأنه يقتل الملل باصطياد فريسةٍ كل يوم، يمارس عليها طغيانه واستكباره، ويمعن في التنكيل بكل من شارك أو شجّع أو أيد تلك الخطيئة الكبرى التي تسمى ثورة الخامس والعشرين من يناير، مستهدفاً محوها من الذاكرة، وتجلياتها الحية على أرض الواقع.

وليست المسألة قمعاً استباقياً لإجراءات اقتصادية جديدة، تثقل كاهل المصريين برفع الدعم عن مزيدٍ من السلع الرئيسية، فالنظام بات يسلك، وكأنه مطمئن تماماً لحجم ردود الأفعال ومستواها على سياساته الوحشية، وصار مدركاً أنه وصل بالناس إلى درجة الخوف من التعبير عن الألم والقهر، ومن ثم لا يمارس البطش بالمعروفين، لأنهم قادرون على تحريك المجهولين، بل يفعل ذلك من باب تصفية الحسابات القديمة، الممتدة من إرهاصات الفعل الجماهيري، قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير وخلالها وبعدها.

هنا لم يعد تقديس جريمة يونيو 2013 ولعن الإخوان، بمناسبةٍ ومن دون مناسبة، يكفيان طوق نجاةٍ من المذبحة، فقد مضت مرحلة "الانتقام على الأخونة"، وبدأت مرحلة العقاب على ثورة يناير.
وبمواجهة كارثةٍ من هذا الحجم، لا عاصم من الفناء إلا قيم "يناير" وروحها. وعلى ذلك، لا يفهم من حفلات التناوش والتشفي إلا أنها بمثابة دعوة للباطش كي يضاعف كميات بطشه.. أو كأنها دعوة إلى إعلان رابطة الشعب المصري حل نفسها، إذ لا تفعل سوى التهام كل احتمالات الوصول إلى مجتمعٍ يتمتع بالحد الأدنى من القيم الإنسانية، بعد أن فقد كل أدوات المقاومة، ولم يعد لديه سوى ظلال مقاومةٍ روحيةٍ للظلم والطغيان.

المفكر الإسلامي الدكتور محمد عباس:


المفكر الإسلامي الدكتور محمد عباس:
MULTI-SYSTEM FAILURE
نداء إلى كل من في مصر .. وأولهم الجيش .. فهو القادر الآن على منع الانزلاق والتحطم والتشظي والتقسيم.
***
وإلى القارئ الذي ستدهشه المقالة .. أرجو أن تكملها .. وستدرك المغزى ..
***
***
***
فشل الأجهزة المتعدد:
--------------------
من أكثر الأيام ترويعا في حياتي، تلك الأيام التي كنت أعد فيها للحصول على شهادة الزمالة البريطانية، في عام 1975.
ربما لم تتأجج مشاعري مروعة مذهولة مبهورة كذلك إلا لحيظات من قراءة القرآن في الكعبة، ومع السيرة النبوية، ومع ابن تيمية وابن القيم ..
ومع محمود شاكر وسيد قطب والرافعي
في هذه المرة لم يكن الترويع مع كتاب من هذه الكتب.
كان - ويا للدهشة- مع كتاب:
GANONG PHYSIOLOGY!!
وهو كتاب في علم وظائف الأعضاء (الفسيولوجيا)
.. وكان الموضوع هو: الصدمة العصبية SHOCK
وكان التركيز بالذات على دور جدار الخلية في الصدمة العصبية ..
وتذكر وأنت تقرأ ذلك أنك حين تحك جلدك تسقط منك آلاف الخلايا وأن المليارات منها يتجدد كل يوم ..
وتذكر أنك لو أنفقت ملء الأرض ذهبا ما تمكنت من صناعة خلية واحدة..
كنت أقرأ مروعا مذهولا مرعوبا متأملا في رعب ذلك العقل الجبار-مع الاعتذار للتجاوز في التسمية- الذي وضعه الله في جدار الخلية وفي أدق الشعيرات الدموية.
كنت أقرأ وأبكي بكاء لم أبكه إلا في الصلاة في الكعبة والروضة الشريفة وفي مسجد التوحيد خلف الشيخ فوزي والشيخ نشأت ..
وكنت أخط بالقلم تحت السطور وأتمتم:
فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ...
مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ
...
...
...
الموضوع بالغ الصعوبة والتعقيد، وسأختصره اختصارا مخلا كي أوصله للقارئ غير المتخصص.
تبدأ الصدمة العصبية لآلاف الأسباب، وعادة تكون هي العتبة الأخيرة التي يعبرها الإنسان قبل ولوجه إلى الدار لآخرة، ما لم يكن موته بالسكتة القلبية أو الدماغية.
تبدأ الصدمة بسبب نزيف أو نقل دم من فصيلة مختلفة أو تسمم أو حادث، أو فشل جهاز من الأجهزة، أو ألم فائق، أو جوع وعطش أو تسلط مجرمين في المعتقلات تخصصوا في القتل عن طريق الغذاء، وقد يكون ذلك بسبب مرض متقدم أو شيخوخة أو حتى حساسية، أو لحظة رعب، أو..أو.. أو.. مليون سبب ..أو.. أو....
يستجيب الجسم لمسبب الصدمة على الفور عن طريق المخ والإشارات العصبية والكيماويات والهرمونات بإعلان حالة طوارئ لا يستطيع أي حاسوب (كمبيوتر) في العالم أن يضاهيها أو يقاربها، تُفرز مئات المواد والهرمونات لعلاج الكارثة، مع الصدمة وانخفاض ضغط الدم يزيد القلب سرعة نبضاته للتعويض ثم تضيق الشرايين إلى أقصى حد فيرتفع ضغط الدم وقوة اندفاعه ويُحجب الدم جزئيا عن بعض الأماكن للأماكن الأهم، يحجب الدم عن الجلد فيبرد، وعن العضلات فيتهاوى الإنسان ويسقط، وعن الأمعاء فيتوقف الهضم، وهكذا، ويتدفق إلى المخ والقلب، أعظم كمبيوتر في العالم لايستطيع تنظيم التدفق والضيق والاتساع وقوة الاندفاع والكيماويات والهرمونات بهذه الطريقة.
***
وكنت أقول لنفسي:
إن خلق جدار خلية واحدة لا يقل إعجازا عن خلق المجرة ولخلق السماوات والأرض أعظم .. وفي المجرات مليارات النجوم ...
عقل جبار يحرك كل شيء ..
لخلق السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ
سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ...
تحكم مذهل ..
الله يبدأ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ...
سرعة خارقة
سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ...
تناغم مروع
سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ...
***
تعالج كثير من الحالات في المرحلة الأولى والتي يمكن فيها تدارك الأمر وتسمى:
Reversible Shock
وتعقبها المرحة الثانية والأخيرة والتي لا يمكن فيها تدارك الأمر مهما أعطي من علاج
Irreversible Shock
***
في المرحلة الأولى سوف يذهلك، ليس فقط تداعي كل عضو في الجسد بالسهر والحمى من أجل باقي الجسد، صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم .. لكنه حدّث الناس أيام البعثة بما يفهمون، كل عضو على مستوى من المستويات، لكنه في الواقع على مستوى كل خلية، لا، ليس كل خلية فقط بل على مستوى كل جزيء، ليس على مستوى كل جزيء فقط، بل على مستوى كل ذرة، وهذا ما يمكننا فهمه الآن بالميكروسكوب الإليكتروني ووسائل أخرى، بعد خمسين عاما قد يدخل الأمر في تفاصيل مذهلة أخرى. نعم قلت لكم على مستوى الذرة، حيث يتصرف جدار الخلية كالمزلاج والرتاج والقفل والكالون الإليكتروني
هل تذكرون دهشتنا عندما استعملت البطاقات الإليكترونية الذكية لفتح أبواب الفنادق لأول مرة..؟
ما يحدث على مستوى جدار الخلية أعقد وأذكى من ذلك مليار مرة..
تخيل فندقا فيه مليار غرفة وجهاز حاسوب (كمبيوتر) جبار يتحكم في مفاتيحها في ذات اللحظة، وليس ذلك فقط، بل إنه يستطيع تغيير الشفرة مئات المرات في فترة بالغة القصر.
يتشكل الجدار ويعيد التشكل ليسمح مثلا لذرة الصوديوم بالدخول ولا يسمح لها بالخروج .. أو ذرة البوتاسيوم، أو الكاليوم أو المغنسيوم أو المنجنيز..أو..أو..أو.. فإذا حدث تغيير فإن المخ يرسل إشارات تفرز كيماويات وهرمونات تغير شفرة المفاتيح في ثوان معدودة فتنعكس الوظائف ويخرج ما لم يكن ليخرج ويدخل ما لم يكن ليدخل ..
كنت أقرأ وأبكي .. وكنت أمارس الطب فأرى ما أقرأ ..
لم تكن علوم عالم الغيب بل كانت علوم عالم الشهادة ..
وكانت لا تقل روعة مروعة وإبهارا ..
وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً
كان يذهلني تداعي الجسد لبعضه خلية خلية وذرة ذرة ..
كيف يدرك القلب وهو لا يعقل..
كيف تضحي الكليتان والكبد بنصيبهما من الدم....
كان يبدو لي المخ على سبيل المثال كما لو كان أما لكل الخلايا .. أما مروَّعة مذهولة خائفة على الخلايا وعلى الكبد والكلى التي حجب عنها المخ معظم مخصصاتها من الدم ..
أقول كان المخ كالأم المذعورة، ذعر السيدة هاجر رضي الله عنها وابنها الطفل الرضيع إسماعيل عليه السلام إذ يوشك على الموت من أجل جرعة ماء..
أم؟؟
أمٌّ ترعى مليارات الخلايا؟
أمٌّ تقوم مسيَّرةً لا مخيَّرةً بالدفاع عن أبنائها حتى الموت..
في ملحمة هائلة تصبح إزاءها كل ملاحم التاريخ عبث أطفال
أم؟؟
ومليارات الخلايا؟؟!!
لا والله .. فما أقل أدبي وما أفقر خيالي
ليست أما ..
ولا ذلك العقل الجبار ينتمي لعقولنا ..
ولا تلك الرحمة رحمة أم ..
بل هي الرحمة الإلهية ..
رحمة الرحمن لا أحد سواه ..
ساعتها فهمت حديث: أترَونَ هذه طارحَةً ولدَها في النارِ
وفهمت كيف قسم الله الرحمة مائة جزء استبقى منها تسعة وتسعين وأنزل جزءا واحدا فمن ذلك الجزء تتراحم الخلق ، حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه وتعطف الوالدة على ولدها ، والوحش والطير بعضها على بعض ..
هذا المخ وهذا القلب في نضال رهيب مروع لا يعقلانه ولا يفهمانه إنما ينفذان الأوامر عبيدا خاضعين، فإذا انقطعت عنهم الإشارة والمدد تحولا خلال ساعات إلى جيفة نتنة يأكلها الدود.
***
في المرحلة الثانية من الصدمة العصبية ينقلب كل شيء ..
مرحلة الــ: Irreversible Shock
الجسد المتناغم يبعثر .. الجهود المتضافرة تتبحثر .. والأعضاء التي كانت تفتدي الأعضاء الأخرى تضخ فيها السموم .. كأنه يوم القيامة ..
سوف ألمس لكم جانبا وحيدا من الانقلاب وهو ضغط الدم..
بعد محاولات المخ والقلب المستحيلة في رفعه والمحافظة عليه يبدأ الانهيار ..
تضطرب أوامر المخ ..
ويعجز القلب عن أداء واجباته فينخفض ضغط الدم وتعجز الكلية والكبد التي حرما من نصيبهما من الدم عن تنقية السموم التي تتراكم في الأنسجة فتتسبب في توقف انقباض الأوعية الدموية، بل وتبدأ في الانبساط والاتساع مما يؤدي إلى زيادة انخفاض ضغط الدم فيحاول القلب بذل مجهود أكثر فيزداد فشله فيحاول الطبيب ضخ الدم أو السوائل في الأوردة لكنها تضيف عبئا إضافيا على القلب يزيد من فشله وعجزه، ويعطي الطبيب محلول الجلوكوز كي يغذي المخ، لكن البنكرياس المحروم من الدم يتوقف عن إفراز الأنسولين فيعجز المخ عن حرق الجلوكوز.
تفشل أجهزة الجسم جماعة .. تفشل جماعة .. أو جهازا بعد جهاز ..
كجيش مهزوم تبعثرت قواته وراح الباقي من طيرانه يقصف قواته في جنون أعمى وفوضى شاملة .. هذه المرحلة تسمى فشل الأجهزة المتعدد
Multi-system failure
يصبح الجسد كله كجواد مرهق يُجلد بالسياط كي يتسلق جبلا بينما هو عاجز عن السير على الأرض المنبسطة.
سيحاول الجواد ويفشل .. وسوف يموت وأنت كطبيب تجلده بالسوط .. ولن يصعد ..
***
الأوعية الدموية التي تتسع لخمسة لترات من الدم، وهي الكمية التي يعجز القلب الآن عن ضخها، تتمدد لتتسع لخمسين لترا .. لكنك كلما ضخخت المزيد كلما فشل القلب وازداد تدهور الحالة بدلا من أن تتحسن.
طول الأوعية الدموية في الجسد يمكن أن يصنع خيطا متصلا للقمر ..
عندما يصل الأمر إلى هذه الدرجة .. في هذه اللحظات .. لا جدوى ولا أمل ....
يشبه المخ المذعور أما فقدت عقلها ..
أو أما تسعل في أربعة أركان الدنيا لإنقاذ ولدها
كالسيدة هاجر ..
وتشبه منظومة الخلايا بكائية هائلة وملحمة نواح كل خلية تبكي مصيبتها .. وكأنه يوم القيامة .. بل هو يوم قيامتها فعلا ..
تفقد وحدات الجيش الجرار تحكمها في بعضها بعضا .. وتقصف طائراته الناجية من السقوط فلوله..ويزداد التهاوي فتختنق الخلايا وهي تجاهد من أجل أكسيجين لا تجده بعد أن امتلأت الرئة بالسائل والدم العاجز عن الرجوع للقلب فينبثق من الفم زبدا ساعة الموت فيتقلص الجسد ويتشنج ويختنق ..
ثم يخمد بالموت
***
كطبيب أعي ما أقول، أن ما كتبته لكم في بضع صفحات كان مكتوبا في GANONG في مائة صفحة في ..
ربما في المراجع التي يراجعها أي طالب دكتوراه يقرأ في هذا الموضوع مائة ألف صفحة ويتصفح مليونا أخرى ثم يدخل الامتحان مرعوبا من جهله ..
آنذاك فهمت:
قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا..
وبكيت عجزي وتقصيري ..
فليبك منكم من لم يفهم قبل ذلك قدر عجزه وتقصيره ..
أما من فهم ..
فعليه أن يبكي أكثر.
***
سوف يتساءل القارئ ما هي المناسبة لكي أكتب ذلك الآن
وردي أن مناسبته هو كل خلجة من خلجات الحياة وكل نسمة وكل نأمة ..
لكن السبب المباشر ..
أن الدول كالجسد الإنساني تعيش وتموت ..
وأنها قد تصاب كما يصاب الأفراد بالصدمة العصبية يمكن تداركها ثم تتطور إلى الصدمة التي لا يمكن تداركها.
ودعوني أكن صريحا معكم كأقصى ما تكون الصراحة ..
إن مصر الآن في المرحلة الخطيرة المروعة .. المرحلة ما بين الصدمة التي يمكن تداركها وتلك التي لا يمكن تداركها والتي يموت المريض بعدها مهما فعل له.
مرحلة فشل الأجهزة المتعدد ..
يمكن أن يصاب المريض بالأنيميا وفقر الدم ..
ويمكن أن يحتاج فيما يحتاج من علاج إلى نقل دم ..
لكن الكارثة تحدث عندما ننقل له فصيلة خطأ لا تتوافق معه ..
لا أتكلم الآن عن فساد الدم وانتهاء صلاحيته ..
بل أتكلم عن فصيلة مختلفة ..
استجاب لها الجسد بالصدمة وبفشل بعض الأجهزة كإنذار للتغيير الفوري ..
دعوني أكون صريحا ..
وأن نعترف الآن قبل أن نفقد كل شيء خير لنا من ألا نعترف أبدا .. لأننا سنكون الجواد المجهد الذي مات ..
لقد كان الانقلاب العسكري هو فصيلة الدم المختلفة بما حمله من قسوة وظلم ودم ..
وإنني هنا أوجز بقدر ما أستطيع ..
لأنني أريد أن أصلح وأعالج لا أن أثأر وأنتقم ..
قولوا ما شئتم ..
قولوا أن المريض كان مصابا بفقر الدم ..
لكننا نقول لكم أنه لم يشرف على الموت إلا بعملية نقل الدم الخاطئة ..
التي أدت إلى فشل بعض الأجهزة والبقية في الطريق ..
ودعوني أقل لكم أنه كلما بادرنا بالعلاج كان أفضل .. فقد نضطر بعد ذلك لفصد دم الجسم كله ..
وقد يبدو أحيانا أن من قرض الأمر الواقع بقوته وظن أنه كسب كل شيء قد خسر كل شيء.
بل وربما كان يمكن له أن يحتفظ بجزء كبير من مكتسباته .. لكن كلما طالت المحنة كلما رسخ لقواعد صارمة قد تحجزه حتى عن حقوقه ..
رد فعل البندول الذي أرغم على أقصى اليسار فلما انتفى الضغط اندفع إلى أقصى اليمين ..
***
هذا نداء قد يكون الأخير ..
قبل أن تغرق السفينة وتسقط الطائرة ويموت الجواد ..
وقبل الــ:
MULTI-SYSTEM FAILURE

الإمارات والتنكر للهوية.. من قصص علم النفس السياسي

 الإمارات والتنكر للهوية.. من قصص علم النفس السياسي

محمد الجوادي
كاتب ومؤرخ وأستاذ طب 

أبدأ بالإشارة إلى أن هذا المقال يعرض القضية عبر قصة حقيقية حافلة بالدراما، سنتجنب رسم بعض تفاصيلها العاطفية والانفعالية، لأن ملامحها الفكرية -التي سننقلها بأمانة- تنبئ بها بكل وضوح.

عرفت فصول هذه القصة على مدى سنوات؛ ففي بداية السبعينيات كان الشبان المصريون إذا رُزقوا فرصة للهجرة إلى خارج مصر انتهزوها للخلاص مما كانوا يعتقدون أنه معاناة بسبب التجنيد الإجباري، الذي كان يستولي على أبناء الوطن في عنفوانهم فيتركهم بلا عمل حقيقي إلا اليأس والبكاء على اللبن المسكوب في ١٩٦٧.

لم يكن أغلب الذين يفكرون هكذا يصدرون عن خيانة أو نقص في الوطنية وإنما عن حب للنفس واستبصار للواقع، ومن هؤلاء كثير من الذين يحتلون صدارة المجتمع الآن في مجالات لا توحي لمن يشاهد نشاطهم بأن يفكروا في أن هؤلاء هربوا من مصر هروبا من التجنيد الإجباري.

ولم يعودوا إليها إلا بعد صدور قانون في ١٩٧٩ يسوي أوضاعهم بدفع الغرامة مع استبقاء بعض العقاب، من قبيل ألا يُدرجوا في قوائم تعيين الخريجين في وظائف الحكومة، وهي الميزة التي كانت يُشترط للحصول عليها أداء الخدمة العسكرية أو الإعفاء منها.

أذكر من هؤلاء فنانا كانت موهبته قد بدأت في الظهور، فلما استوت -وهو في الخارج- قرر أن يرتبط بإحدى جاراته في مصر فسافرت إليه، وأتما الزواج خارج الوطن على أن يعود إلى مصر بعد أن تذهب لجنة تسوية الأوضاع إلى أوروبا وتبرئ ذمته بحيث لا يتعرض للقبض عليه في المطار حين يعود إلى مصر.

أتيحت الفرصة لأحد أبناء الطبقة المتوسطة الذين أتموا دراستهم الجامعية لتوهم للذهاب إلى فرنسا، ففكر في ألا يعود ولو اعتُبر هاربا من أداء الخدمة العسكرية، ولم يكن يعرف الفرنسية لكنه سرعان ما تعلمها، ولم يكن يملك من مهارات الحياة السريعة إلا قيادة السيارات فآثر أن يعمل من فوره سائقا لسيارات التاكسي.

وسرعان ما أحب فتاة فرنسية ففضل أن يتزوجها، لكنه وجد أن جنسيته المصرية تمثل عائقا في الثقة به، ففضل أن يمزق جواز سفره نهائيا. ولما كان سيبدأ حياة جديدة باسم يحدده هو؛ فقد آثر أن يتسمى باسم مسيحي قحّ مع أن اسمه الأول كان اسما محايدا يستعمله المسلمون والمسيحيون واليهود، ثم غيّر دينه إلى الكاثوليكية.

ومضت السنوات؛ وأصبح هذا الرجل مع مرور السنوات نموذجا للانسلاخ الكامل، خاصة أنه ترك تربية بناته كلية لزوجته وأهلها.

بعد عشر سنوات من هذا التحول الذي لم يكن أهله في مصر قد عرفوا عنه شيئا، في عصر كان يعتمد على البريد فحسب؛ طلبت منه والدته أن تزوره هي لأنها أحيلت على المعاش، ومن ثم فإن أولى أولوياتها أن تزور فلذة كبدها.

وجاءت السيدة العجوز (بلغة بداية ثمانينيات القرن الماضي) فأقامت مع ابنها وزوجته وبناته شهرا كاملا في الصيف، لم تحس فيها بوطأة الانسلاخ الذي أتمّه ابنها ولا بلمحة منه، وساعدت الظروف على هذا؛ فهي نفسها لم تكن محجبة لكنها كانت تصلي الفروض الخمسة، لكنها كانت تفعل هذا في سلاسة لا تُفقد الحياة المنزلية لحفيداتها رتابتها الطبيعية.

ولم يحدّثها ابنها بأنه غيّر دينه ولا اسمه ولم تلحظ هي ذلك، فقد جعل -لسبب جاء بالمصادفة المحتملة- لقبه في اسمه الجديد هو اسم جده، الذي كان هو اسمه العائلي في مصر، وهكذا تقبلت أمه الأمر دون سؤال لأنها كانت تعرف أن الفرنسيين والغربيين يتعاملون باسم العائلة.

"قال صاحب القصة -وهو لا يزال على عناده- إنه سيأخذ بمنطق الديمقراطية وسيحترم الأغلبية، دون أن يعني هذا أنه سيستعيد الهوية. وفي الواقع؛ كلما رأيت خطوات الإمارات المتعجلة في سبيل استبدال هويتها تذكرتُ ملامح هذه القصة، التي بدأت الاتصال بفصولها من مشهدها الثاني؛ حين تسمى بطل القصة بالاسم المسيحي"

وزادت الأقدار من توفيق الأوضاع فلم تكن الزوجة ولا البنات ينادونه أو يخاطبونه باسمه المسيحي المستحدَث، وإنما كانوا يخاطبونه من باب التدليل باسمه الأول الذي عرفته به زوجته حين تحابّا وارتبطا قبل أن يغيّر اسمه ودينه.

عادت والدته إلى مصر وهي لا تعرف أن ابنها قد صار مسيحيا، وتسمى رسميا بغير الاسم الذي أعطته له يوم مولده؛ وبعد ثلاثة أشهر من زيارتها لفرنسا كان ابنها قد أصبح فرنسيا كامل الفرْنَسة وحصل على جواز السفر الفرنسي، لكن هذا لم يغير من الأمر شيئا لأنه لم يفكر في العودة إلى مصر ولو من باب الزيارة.

لم يكن الرجل قد انخرط في أي نشاط ديني أو اجتماعي يدل على كاثوليكيته، لكن بناته بدأن يترددن على الكنيسة بصورة غير منتظمة مع والدتهن أو بدونها.

وذات مساء إذا بهذا الرجل الذي تماهى بنفسه مع الحياة الفرنسية وترك لأجلها كل ماضيه؛ يجد نفسه أمام مفاجأة لم يكن يتوقعها بأية صورة من الصور، فابنته الكبرى التي أصبحت على مشارف السابعة عشرة تريد أن تعتنق الإسلام، وكذلك -وإن بدرجة أقل- أختها وإن كان سنها لا يسمح لها بأن تتخذ قرارها بمفردها.

كان مضي السنوات قد صقل شخصية الرجل بحيث يعطي لنفسه الفرصة في التفكير المتمهل، قبل أن يتخذ قراره تجاه أي وضع مفاجئ؛ فما بالك بأن تصل المفاجأة إلى هذا الحد؟ إنه لا يحتاج التفكير فحسب بل يحتاج إلى معجزة.

ألخص للقارئ في السطور التالية ما انتهت إليه المناقشات التي حفلت بها الاستشارات النفسية والاجتماعية، التي اضطر إليها صاحب هذه القصة:

- لماذا تريد أن تحرم ابنتيك من أن ينالا حقا حصلتَ عليه أنت نفسك؟ أنت غيرت دينك بإرادتك وهما تريدان ذلك أيضا!

- لماذا تحكم على خطوتك بأنها كانت خطوة مربحة ومصعّدة اجتماعيا وماديا ولا تتصور الشيء نفسه فيما يتعلق بهما؟

- لماذا تفرض على البنتين رؤيتك للحياة بينما يبدو من روايتك أن أحدا لم يفرض عليك رؤيته للحياة؟

- لماذا تتصور أنك ضحيت من أجل ألا ترى هذا اليوم ولا تتصور أن أبويك قد أحسّا بنفس الإحساس؛ فلم ينفعلا عليك منذ قررت الهجرة وما بعدها؟

- لماذا تزعم أن ابنتك في سنها هذه قاصرة بينما تعترف أنت بأن عقلها في هذه السن أرجح من عقلك يوم اتخذت قرارك بتغيير هويتك؟

- لماذا ظللت تُخفي عن ابنتيك دينك الأصلي وهويتك الأصلية مع أنه كان من حقهما أن تعرفا؟

- لماذا لا تفخر بأن البنتين تمتعتا بالشجاعة فصارحتاك على حين افتقدتها أنت فأخفيت الأمر عن والديك؟ أليس هذا مما يدعوك إلى أن تعرف أنهما في اختيارهما تنطلقان من موقف أقوى من موقفك؟

- كيف تزعم أنك تؤمن بالعلمانية أو اللائكية ثم تشغل بالك بخروج ابنتيك من دين إلى دين؟

- لماذا تفترض أن بقاءهما كاثوليكيتين يمثل مصلحتهما المضمونة، ولا تتقبل فكرة أن اعتناقهما الإسلام يمكن أن يفتح لهما أبوابا لا تقل أهمية؟

 "ظل زميلي يواليني بفصول وتفصيلات هذه القصة على نحو ما حدثت، وهو سعيد بأن شخصية ونفسية قريبه وصهره (الذي هو الإمارات في حالتنا الراهنة) هي التي تعذبت وعانت وتمزقت، ودفعت الثمن من رعونة الفكر الذي تنكّر للهوية فلاحقته الهوية من حيث لم يحتسب"


- إذا كنت مقتنعا بالكاثوليكية حقا فلماذا لم تمارس شعائرها مع زوجتك وابنتيك؟ وإذا لم تكن مقتنعا بها فلماذا تحول بين ابنتيك وبين تركها؟

- لماذا تخشى أن تتحول أمهما هي الأخرى إلى الإسلام؟ وما هو الضرر الذي سيصيبك إذا قبلت هي الاستمرار معك كزوجة لأنها موقنة تماما بأنك لا تزال مسلما؟

- لماذا تنظر إلى حياتك الماضية منذ غيرت هويتك على أنها استثمار، وعلى أنك لا بد أن تمضي في ذلك الاستثمار إلى نهايته؛ مع أن هذا الاستثمار فاجأك بإنجازات أو مكاسب لم تكن تحلم بها، أو بعبارة أدق لم يكن الأنسان الطبيعي من أندادك يحلم بها على هذا النحو؟

- لماذا تعتبر نفسك محور الأسرة ولا تترك الأمر لزوجتك التي ربت البنات والتي جعلتك أنت نفسك تغيّر هويتك؟

- لماذا لا تستكمل مقومات هويتك الجديدة وأول عناصر هذا الاستكمال أن تتخلى عن هذه الروح البطريركية في ربوبية الأسرة؛ حتى ولو كنت كاثوليكياً؟

من الواضح أن بعض هذه الأسئلة النقاشية صدرت عن مستشارين ومعالجين لم يخبرهما الرجل بكافة التفاصيل، ومن الواضح أنها لم تُجدِ نفعا؛ لكن الأمور في النهاية مضت في سبيلها الطبيعي، فأسلمت الابنتان ولحقت بهما والدتهما وشقيقتهما الثالثة؛ أما الوالد ففارقهما خمس سنوات عاش فيها معذِّبا لنفسه، ومعتنيا بهندامه حتى لا يبدو أنه يعاني من ذُهان أو قلق.

وقد ركبه الغرور فصرفه عن أن يعود إلى بيته؛ فعاش وحيدا وبعيدا ومغامرا في حدود منضبطة لأنه لم يكن ليتحمل الفشل.. حتى كان اليوم الذي ذهبت فيه إليه أسرته جميعا، مصطحبين معهم أولى حفيداته بعد أن أتمت من عمرها أسبوعها الأول، وقد صمموا جميعا على أن يسموها باسم والدته بنطقه العربي!

في تلك الساعة؛ قال الرجل -وهو لا يزال على عناده- إنه سيأخذ بمنطق الديمقراطية وسيحترم الأغلبية، دون أن يعني هذا أنه سيستعيد الهوية.

في الواقع؛ كلما رأيت خطوات الإمارات المتعجلة في سبيل استبدال هويتها تذكرتُ ملامح هذه القصة، التي بدأت الاتصال بفصولها من مشهدها الثاني؛ حين تسمى بطل القصة بالاسم المسيحي.

وكان صهره وقريبه -الذي كان زميلا لي في الطب- يضع يده على قلبه خوفا من لحظة الذروة في المسرحية إذا سألته الأم عما حدث، أو قررت -على نحو ما كان يتوقع- أن تقاطع ابنها أو تدعو عليه، لكنني قلت لزميلي إن الله جل جلاله عادل ولذا لن تدفع الأم ثمن الخطأ الذي ارتكبه ابنها، وإنما ستمضي الدراما في التصاعد حتى يكتوي هو نفسه بما فعله.

كان زميلي يستبشر بي لكنه ظل قلقا من لحظة مواجهة الحقيقة حتى عادت أم بطل المسرحية إلى القاهرة بسلام؛ فتنفس الصعداء. وظل زميلي يواليني بفصول وتفصيلات هذه القصة على نحو ما حدثت، وهو سعيد بأن شخصية ونفسية قريبه وصهره -الذي هو الإمارات في حالتنا الراهنة- هي التي تعذبت وعانت وتمزقت، ودفعت الثمن من رعونة الفكر الذي تنكر للهويةفلاحقته الهوية من حيث لم يحتسب.

الاثنين، 28 مايو 2018

"سيناء 2018" متى تنتهي؟

"سيناء 2018" متى تنتهي؟ 

يحيى عقيل مدون سيناوي

الحملة العسكرية الشاملة "سيناء 2018"، لماذا انطلقت وماذا حققت من أهدافها وهل لها نهاية منظورة ومتوقعة؟ ومتى ينعم الناس في سيناء بحياة طبيعية؟ 
أسئلة كثيرة تحتاج إلى إجابة عليها خاصة في ظل الأضرار التي سببتها الحملة العسكرية 2018 للأهالي في كل تفاصيل حياتهم وبشكل غير مسبوق.
وبالعودة إلى بداية الإعلان عن الحملة العسكرية فإن التكليف صدر من رأس الدولة المصرية إلى رأس العسكرية المصرية وفي مؤتمر عام وعلى الملأ بالتكليف بمهمة محددة بالقضاء على الإرهاب في سيناء وفي مدة زمنية محددة بثلاثة أشهر (وكأنها عملية مشروطة إما نجاح العملية أو إجراءات أخرى لم يفصح عنها في حينها)، ثم تبدأ التنمية في سيناء والتي تم الحديث في شانها عن مبالغ تجاوزت المئة مليار جنيه.
هلل الإعلام للحملة وسخرت لها إمكانات الدولة، وكان على رأسها الجيش بكل أسلحته والإعلام بكل أذرعه وخرج على الناس من يبشر أهل سيناء بالفرج القريب ويطالبهم  بالصبر: إنها ثلاثة أشهر، ويأتي بعدها الفرج الذي أصبح قريبا جدا. وأطلقت يد القيادة العسكرية في سيناء ونٌحِي القانون جانبا وإلى جوار القانون نٌحِي المنطق والعقل أحيانا، والإنسانية أحياننا كثيرة وتم تعطيل الحياة بشكل كامل وألغي العام الدراسي وتم منع الدخول والخروج من المحافظة إلا بتنسيق أمني ولأعداد بسيطة جدا وفرض حصار على دخول البضائع مما جعل المجاعة في مرمى البصر،  وأصبحت أزمة الاحتياجات اليومية حديث البيوت.
مرت الشهور الثلاثة ولم تتوقف عمليات ولاية سيناء، فكان الفشل الأول هو أن المهمة لم تنجز في موعدها المحدد! ولم تتخذ الدولة إجراءات تصحيحية لا بتغيير في القيادات ولا تغيير في أسلوب عمل الحملة، بل تم الإعلان عن تمديد المهلة الزمنية لإنجاز أهداف الحملة ولكن دون سقف زمني محدد هذه المرة، وتجاوزت الحملة الفشل في الشق الأول من التكليف وهو شق الزمن الذي كان محددا وبقيت المهمة الأصلية وهي القضاء على الإرهاب.
ملامح نجاح الحملة في هذه المهمة أيضا باتت موضع شك فالحملة ركزت جهودها وبشكل أساسي في محورين،
الأول: تجريف الأراضي الزراعية جنوب العريش حتى بلغت الأراضي التي تم تجريفها في بيانات مديرية الزراعة 25 ألف فدان، والثاني: حصار الأحياء السكنية وتفتيشها ( حي حي بيت بيت ) والبحث عن أجهزة التليفونات الحديثة ومصادرتها.
وأفرطت في اعتقالات الشباب وتجاوزت إلى حد هدم منازل يسكنها أيتام لأن والدهم أو أحد إخوانهم كان له تعامل مع ولاية سيناء في إجراء استثنائي وعلى غير سند قانوني وعلى غير سابقة من سلوك الدولة المصرية أو غيرها من الدول باستثناء الكيان الإسرائيلي.
بالتوازي مع هذه الإجراءات استمرت عمليات "ولاية سيناء" باستهداف معسكرات للجيش وكمائن الشرطة وبزرع العبوات الناسفة والقنص وانتقلت العمليات من رفح إلى قلب مدينة العريش إلى وسط سيناء وبمعدلات ليست أقل بكثير عنها قبل العملية الغاشمة ولتكون الحملة برمتها في موضع تساؤلات ماذا أضافت، ومتى تنتهي وللحقيقة فإن جهد الحملة الأكبر لم ينصب على تتبع المسلحين في أوكارهم ومحاولة القضاء عليهم ولكن انصب في تجريف الأراضي وهدم المنازل والتضييق غير المسبوق على حركة وحياة الناس.
نجحت الحملة أن تنهي الحياة بشكل كامل على حدود غزة وبعمق خمسة كيلو مترات داخل سيناء وشرعت ببناء سياج حولها حتى لا يعود أحد سكانها إليها، إذن فالحملة نجحت في التهجير نجحت في التجريف، ونجحت في زيادة الضغط على المواطنين لحملهم على ترك سيناء، ولكنها فشلت في القضاء على ولاية سيناء (داعش) ليكون السؤال الأكثر وجاهة حول الحملة "سيناء 2018" هو متى تنتهي وبأي شكل؟!

تركيا ستندم بسبب سياستها الحالية!!

تركيا ستندم بسبب سياستها الحالية!!


 د. إبراهيم عبد الله سلقيني
قرعت هذه العبارة أذناي من أكثر من شخص، فأثارت فضولي في بحث مضمونها بشكل علمي من خلال السبر والتقسيم وحساب الاحتمالات، فهل فعلاً ستندم تركيا على سياستها الحالية؟!!
إن دراسة هذه العبارة يقتضي الدراسة التحليلية لكل السلطات داخل الدولة التركية؛ ابتداء من رئيس الجمهورية في النظام الرئاسي، وانتهاء بالشعب الذي هو جزء من سلطة القرار، في دولة تمثل الانتخابات الحرة ركيزة أساسية في بُنْيَتِها، أو لكَ أن تقول: ابتداء من الشعب، وانتهاء برئيس الجمهورية، باعتبار أن الاختيار يبدأ من الشعب.
أولاً: رئيس الجمهورية:
والكلام هنا عن رئيس الجمهورية وسلطاته، بغض النظر عن الشخص الذي يشغل هذه الوظيفة، فاليوم يجلس أردوغان، وغداً سيجلس غيره إن غير الشعب رأيه، أو اصطفى الله أمانته من عبده.
فالذين ينتقدون النظام الرئاسي غفلوا عن عدة أمور: أولها أن النظام الأمريكي رئاسي، فلماذا لا ينتقدونه، أم أن العبيد لا ينتقدون أربابهم؟! وثانيها أن النظام الرئاسي مشروع قديم بدأه تورغت أوزال، وتم طرحه عدة مرات للنقاش قبل أن يعرف أحد باسم أردوغان أو يسمع به!! وثالثها أن معظم الذين ينتقدون النظام الرئاسي يجلسون في دول ملكية تسبح باسم الفرد، ولا تسبح باسم النظام الرئاسي والرئيس الذي يتبدل!!
وهذا يثير الاستغراب من حشر المهاجمين لاسم أردوغان في الوسط أثناء توجيه هجومهم ضد تركيا، فهو موظف جاء بتفويض وانتخاب من شعبه، ومن واجبه القيام بوظيفته التي أوكلها له مواطنوه، وهم أحرار في اختيار الرئيس الذي يجدونه مناسباً لوطنهم وأمتهم، فلماذا يتدخل المهاجمون بالقضايا الداخلية للدول وبإرادة الشعوب؟!!
فإذا أزعجتكم شدة أردوغان وجرأته وقوته وصرامته، فهذا أمر طبيعي لرئيس يتكلم باسم شعبه حقيقة؛ لأنه لم يصل بانتخابات مزورة للسلطة، ويستمد قوته من شعبه؛
لأنه لم يصل للسلطة على دبابة عسكرية كما هو الحال في بلادكم التي تنتقدون منها تركيا،
ولا يخاف من شعبه؛ لأنه قدم خدماته وحياته وعمره لخدمة شعبه والرقي ببلده ووطنه، فكانت خدماته لاسطنبول فاتحة شهرته عند شعبه، ولم يقتل شعبه، ولم يسرقه، ولم يحارب حرماته الدينية، ولم يضع قاماته الفكرية في السجون، فلا يوجد أي مبرر منطقي ليخاف من شعبه،
ولم يصل للسلطة عن طريق تدخل دول أخرى كما حصل في أمريكا التي لا يزال اللغط حاصلاً بسبب شبهات حول التدخل الروسي في الانتخابات، بينما نجد شريحة واسعة من الذين يهاجمون تركيا يعيشون في أمريكا.
فهل احترقت قلوبكم غيرة وحسداً على ذلك، فتتمنوا الفساد والخراب لتركيا لتصبح كبلادكم، بدلاً من أتتمنوا الصلاح لبلادكم كما هو الحال فيها؟!!
أما إن أزعجتكم سياسته، فتذكروا مرة أخرى أنه موظف في دولة مؤسسات، ولا يوجد قرار فردي في دولة المؤسسات!! فالمؤسسات تدرس القرارات، وتقدم كامل الاحتمالات الممكنة، ونسبة كل احتمال، ثم هو يقرر تبعاً للمعطيات، ثم يوافق البرلمان أو يرفض.
فهو ليس دكتاتوراً كما هو الحال لديكم، حيث يتغير رأس القطيع بانقلاب أو بالموت، فينسف أعمال من سابقيه، ويتلف الأموال في مراهقات جديدة سمعها من أصدقائه الأمريكان والبريطانيين والفرنسيين والروسيين، فيبني قصوراً معلقة في الغيوم، أو غائرة في الجبال كقوم عاد، أو عائمة على الماء، أو غائصة في أعماق البحار!!
فلا تقيسوا حال غيركم على واقعكم المُرّ الذي تعيشونه، ووسعوا أفقكم ومدارككم قليلاً!!
ثانياً: الحكومة:
الحكومة التي يرشحها رئيس الجمهورية لا تباشر أعمالها إلا بعد أن تفوز بالثقة التي سيمنحها إياها البرلمان الذي اختاره الشعب، فهي أيضاً تستمد وجودها وسلطتها وقوتها من الشعب.
وقد كانت حكومة الحزب الواحد سابقاً ذريعة للمهاجمين بأن أردوغان وحزبه يستحوذون على الحكومة والدولة، لكنهم لم يغتنوا بسبب وجودهم في السلطة كما يحصل في دول العالم الأخرى، بل وقانون المحاسبة يمنعهم من ذلك؛ لأنه يراقب كل فلس يدخل في جيوبهم بقانون: من أين لك هذا المشهور في تركيا.
ونحن لسنا هنا بصدد مناقشة هذه الذريعة، فهي مرحلة سابقة مضت بعد تحالف عدة أحزاب لخوض الانتخابات الحالية، لكن المُلْفِت للنظر في هذا التحالف هو تحالف العدالة والتنمية الذي يشبه الديمقراطيين في أمريكا، مع الحركة القومية الذي يشبه الجمهوريين في أمريكا (مع فارق التشبيه طبعاً)، مع حزب الوحدة الكبرى الذي يمثل تيار يمين الوسط. وهذا الاتحاد بين الاتجاهات السياسية المتباينة هو حالة نادرة في التاريخ السياسي للدول، ومستحيل الحصول في دولة كأمريكا؛ لأن الحزبان والحيدان فيها يحتكران السلطة، ويمنعان دخول أي حزب آخر في الحياة السياسية، وهما متفقان على ذلك!!
وهذا يعني أن الحكومة القادمة تمثيلها الشعبي واسع، بغض النظر عن نِسَب التمثيل فيها، ولا يوجد أي وجه للطعن فيها من حيث التمثيل، فيما لو وصلت إلى السلطة.
ويبقى أن سلطة الحكومة القادمة ستكون بقوة رئيس الجمهورية وربما أكثر جرأة، وذلك بسبب قوة تمثيلها، واشتمالها على اتجاهين فكريين متباينين، فإذا تكاملها فسيزيد ذلك من إحكام القرارات وقوتها. وهذا يمثل نقطة رعب فظيعة للدكتاتوريين في المنطقة، ولأسيادهم الشرقيين والغربيين؛ لأن الشعوب ستميل وتحن لوجود نظام من هذا النوع في بلدانها، وهو ما يطلقون عليه اسم "الثورة الإسلامية التركية"، أو "تركيا وأحلام العثمانية"، لكنهم يخافون منها أكثر من الثورة الإسلامية الإيرانية؛ لأنهم يرونها "ثورة إسلامية صامتة"، ولم تصل للسلطة بطائرة فرنسية ولا أمريكية!!
وهذا يعني أن الحرب على تركيا هي حرب مأجورة من أجهزة مخابرات الدول الدكتاتورية التي تخاف على عروشها، خوفاً من وجود أحلام توسعية تركية في مناطقهم وبلدانهم.
وغفلوا أن تركيا تتحول تدريجياً إلى دولة فدرالية تدير الولايات فيها نفسها بنفسها، وأنها تشجع التنافسية بين الولايات في خدمة شعوبها، فكيف ستوسع صلاحيات ولاياتها الداخلية، وتفكر في التسلط على الخارج؟!!
ونصيحتي للمهاجمين بسبب هذا الهاجس:
إذا لم ترغبوا في الوقوف مع الحق فلا تقفوا مع الباطل؛ فإذا مات الحق فلن يكون لكم حينئذ في سفك دمه يد أو كِفل أو نصيب، وإن ظهر وقوي تملقتم له وظفرتم بخيره كغيركم من المنافقين!!
فخوفكم من شعوبكم أيها الحكام يقتضي منكم أن تجلسوا للحوار مع تركيا للاستفادة من تجربتها في كسب قلوب شعبها، والتعاون والتحالف معها كما تحالفت أحزابها الداخلية لتشكلوا معاً قوة تستفيدون منها أنتم أكثر مما تستفيد منا هي، وتذكروا أن حلفاء تركيا لا تجرؤون أنتم ولا أسيادكم على مهاجمتهم أو اقتلاعهم ليس هذا موضع سردها، فكيف إذا أصبحتم جزءاً من هذا التحالف الكبير، واستفدتم منها آلية تثبيت حكمكم شعبياً؟!! بدلاً من التهويش الذي لا طائل منه، ولن تخرجون منه بشيء!!
ثالثاً: الجيش:
في حين كان الشغل الشاغل للجيش قديماً التفكير في كيفية القيام بالانقلاب التالي، فإن الجيش حالياً متفرغ للتصنيع العسكري وإعداد الخطط لدعم السلطتين التشريعية والتنفيذية، وفي حين أن جيوش العالم الإسلامي مختصة بقتل شعوبها وشعوب الدول المجاورة، فإن الجيش التركي اخترق الحدود الجنوبية لعمل منطقة آمنة لثُلُث الشعب السوري المهجر بسبب جيشه الذي هو آلة لقتله، وبقرار ممن يسمونه رئيساً لتلك الدولة، وبدعم دولي مُعْلَن وواضح وفج ووقح، وقامت بتحرير مناطق واسعة بأعداد محدودة من القتلى، إلا عندما تُحَتِّم عليهم الضرورة العسكرية ذلك.
فهل يحق لجهاز مخابرات دولة تشتري سلاحها بأموال شعوبها ولا تصنعه، ثم تقتل به شعوبها من أموالهم أن تهاجم تركيا، إلا إن كان هؤلاء مرتزقة لأجهزة المخابرات؟!!
رابعاً: البرلمان:
هذا لا أستطيع أن أقول عنه إلا أنه وسيط بين الشعب والسلطة التنفيذية عن طريق انتخابات نزيهة لا تزوير فيها.
فهو ليس كبعض الدول التي أصبحت برلماناتها تجمعاً لتجار المخدرات، أو للعاهرات اللاتي تنتشر فيديوهات فضائحهن بين وقت وآخر، أو عملاء لعصابات ومافيات تدعمها أجهزة المخابرات بالتزوير لتصل إلى حفرة البرلمان، ولا يمكن تسمية تجمع كهذا "قبة".
ولهذا تجد المواطن التركي يشعر بالاحترام والفخر تجاه برلمانه إذا ورد ذكره في المجالس العامة، بينما يشعر مواطنو دول أخرى بالخيبة والخجل، ويطأطئون رؤوسهم إذا ورد اسم برلمانهم في المجالس العامة؛ لأنهم يعلمون أنه مجموعة من المرتزقة، وأنهم جزء من "حزمة" الحكومة الجديدة المصنوعة في أجهزة الاستخبارات الغربية أو الشرقية!!
خامساً: الشعب التركي:
هو في الحقيقة أمة، ولا يمكن وصفه بأنه شعب، ففيه مواطنون من كل جنسيات العالم تقريباً؛ من الأتراك والأكراد والعرب والقوقاز والبوشناق والأفغان وأوزبك، وحديثاً أصبح منهم أفارقة وتركستان أيضاً. ويفتخرون أنهم أصحاب سلطة وقرار في دولتهم، والأعم الأغلب منهم لا يشغل نفسه بالسياسة كثيراً، إلا في وقت الانتخابات فقط، فإذا انتهت الانتخابات انصرفوا لأعمالهم كفريق واحد، مهما اختلفت أحزابهم واتجاهاتهم. وهم بذلك يحترمون قرار الغالبية أولاً، ويعتقدون أنهم بذلوا جهدهم وطاقتهم لتوظيف أناس تقوم هي بالتفكير بمصالحهم، فلماذا يشغلون بالهم وعقولهم بتعقيدات ومسائل ليست من اختصاصهم؟!!
بخلاف بعض الدول التي يكثر فيها اللغط والقيل والقال، ويكثر فيها الكلام في القضايا السياسية، مع جهل تام بالتفاصيل وبعلوم السياسة، ثم لا يفلحون في شيء من شؤونهم، ثم ينتقدون تركيا لأنها لم تسر على أهوائهم واقتراحاتهم "الخُرَنْقَعِية" (هي كلمة مولدة أطلقها أهالي بغداد على الذين تعاونوا مع الاحتلال المغولي، ومعناها: نقاع خراء المحتل).
فلو كان فيكم خير وقدرات عقلية جبارة تسبق مؤسسات الدول، فلماذا لم نجد نتائج هذا في بلدانكم؟!! أم أنكم النجار الذي باب بيته مخلوع!!
سادساً: دولة المؤسسات:
ما سبق يقودنا لآلية اتخاذ القرار الذي يصدر عن المسؤولين الذين هم جزء من هذا الشعب، فلا يجلس أحدهم ويقول: ما رأيكم أن فعل كذا وكذا، فيقول هذا أو ذاك: إي والله يا طويل العمر، أشد أنك تقول الصواب ولا يخرج من فمك إلا الجواهر، فيصدر القرار حينئذ!!
بل تقوم أجهزة المخابرات بجمع المعلومات، وتقوم دور الأبحاث بإعداد دراسات في الموضوع المستهدف، وتقدم الدراسات للبرلمان، فتدرسه لجان برلمانية مختصة، ثم يرفع يتم التصويت عليه، ثم يرفع لرئيس الجمهورية ليوقعه، وفي كل مرحلة من هذه المراحل لا يقوم عليه فرد وحيداً، ولكن يعمل عليه فريق عمل من الكوادر التي تدربت على العمل المشترك وعلى التكامل الوظيفي بينها، وكل واحد يعلم ما له وما عليه...
ثم يأتي شخص على النت يكتب باسمه المستعار من أمريكا (داعمة الدكتاتوريات في العالم وحاميتهم)، أو من بريطانيا (ثعلب الإجرام العالمي والخطط القذرة)، أو من الخليج (الوكيل الحصري للحكم الملكي)، أو من فرنسا أو روسيا (أصحاب الأحقاد الصليبية المقززة)، فيقول لدولة مؤسسات: لماذا لا تفعلون كذا وكذا؟!!
سنفعل؛ ولكن انتظر حتى نسأل مختصين في الشؤون القانونية المحلية والدولية، ومختصين في الشؤون السياسية، ومختصين في الشؤون الاجتماعية، ومختصين في الشؤون الأمنية، ومختصين في الشؤون الاقتصادية، ومختصين في الشؤون العسكرية، ومختصين في الشؤون الإعلامية، وإذا كنت تدعي الإسلام والإسلامية فسنسأل مختصين في الشؤون الشرعية والدينية؛ لأننا في دولة، ولا نتجشأ القرارات بعد طعام إفطار ثقيل بسبب المشروبات الغازية الأمريكية!!
أكرر: مختصين في كل هذا، وليس شخصاً واحداً مختصاً في هذا وآخر في ذلك، ولا شخصاً واحداً مختصاً في كل شيء.
نحن نتفهم أن كل واحد من هؤلاء الذين يهاجمون تركيا هو دولة بكل ما سبق من الاختصاصات، لكن ما خاب من استخار واستشار، وعدد مستشاريهم أكثر من عدد مستشاريك أنت، أيها القابع خلف الشاشات هنا وهناك.
سابعاً: جهاز الاستخبارات:
أثبت الجهاز قدرته على تنفيذ عمليات ضد الإرهابيين خارج الحدود، وثبت أن له أعوان وأصدقاء من كل جنسيات العالم، وقادر على بناء تشكيلات ظاهرها التطرف لتحقيق أهدافه العسكرية، وقادر على حلها وتذويبها لاستخدامها لاحقاً، وتملك معلومات دقيقة عن كامل الحركات الدولية في المنطقة، وقادرة على اختراق الجماعات بكل اتجاهاتها وأنواعها.
ومعلوم أن الذي يملك المعلومة يملك العالم، فهل ستندم دولة تملك جهاز مخابرات كهذا؟!!
ثامناً: الدولة العميقة:
لأن الدول العظيمة والقوية والكبيرة لا تديرها مجموعة واضحة يمكن الاستحواذ عليها من دولة أخرى، أو يمكن اغتيالها والقضاء عليها، فإنها تبني لنفسها جهازاً من المخضرمين أصحاب الخبرات الطويلة، والكفاءات العالية جداً، وهو جهاز غير مكشوف يرسم السياسات والاستراتيجيات العامة للدولة بخطط طويلة الأجل، لتكون الحكومات المتعاقبة آلة تنفيذ فاعلة جداً على المستوى قصير الأجل، وهي فترة حكمها، ولكن كل حكومة تبقى حلقة صغيرة من سلسلة القرارات الاستراتيجية، ويبقى أفراد الحكومات جزءاً من ممثلي المسرحية الكبيرة التي ترسم وجه التاريخ من جديد.
ولا يمكن أن نعلم هل هذه الدولة العميقة موجودة حقيقة في تركيا أم لا، لكن التسارع الحالي باتجاه الأهداف الاستراتيجية، وصدور دراسات وخطط فعالة بيد أردوغان لاعب الكرة عندما كان رئيساً لبلدية إسطنبول، ثم تكرر ذات الشيء مع حزب العدالة في فترة حكمه لتركيا باتجاه 2023م، وتناغم ذلك مع الحركة المتدرجة البطيئة ابتداء من عدنان مندريس، ثم تورغت أوزال، ثم نجم الدين أربكان، ثم أردوغان؛ كل ذلك يوحي بوجود جهاز من هذا النوع، إذ لا يمكن أن يكون كل ذلك بمحض الصدفة، ولا تصرفات فردية وحماس شباب إسلامي مندفع كما هو الحال في كثير من الدول الإسلامية للأسف..
ولا يمكننا الجزم بذلك قطعاً، لعدم وجود أدلة ملموسة؛ لأن أساس نجاح مجلس من هذا النوع هو السرية التامة جداً جداً...
فإذا كان حقاً هذا الجهاز موجوداً فستبقى تركيا دولة رائدة ومؤثرة لقرون أخرى!!
وهذا يُرعب الشرق والغرب الداعم للدكتاتوريات؛ لأنهم هم الذين سيندمون حينئذ على دعمهم للدكتاتوريات والإرهاب في العالم...
وسيندم كل من يقف في صف الدكتاتورية والظلم في العالم ضد الحرية الحقيقة وضد حقوق الشعب المسحوق المقهور؛ سواء من الفراعنة الكبار أم من الفراعنة الصغار!!
ومن حقهم حينئذ أن يهاجموا تركيا بسبب شدة فزعهم وخوفهم؛ لأنها تكسر البنية الفكرية لأصنامهم التي يستعبدون من خلالها الناس!!
وهجومهم على أردوغان ليس إلا بسبب رمزيته كرئيس دولة، وإلا فهو موظف واحد ضمن نظام دولة مؤسسات متكامل...
فيا من تهاجمون تركيا؛
إن كانت مهاجمتكم لها لصالح فراعنتكم وأجهزة استخباراتكم؛ فماذا قدم لكم أربابكم الذين تعبدونهم من دون الله؟!! وماذا تستفيدون منهم؟!!
فخدمتكم للنظام العالمي الجديد أصلح لكم ولأولادكم من بعدكم...
وإذا كنتم تهاجمونها بإخلاص لاعتقادكم أنها ستندم بسبب سياستها الفاشلة، فما هي سياستكم أنتم، وماذا قدمتم أنتم لدولكم ولأنفسكم ولأولادكم من بعدكم، وما هي خطتكم لتصحيح المسار؟!!

عن الكاتب

د. إبراهيم عبد الله سلقيني

دكتوراه في الفقه الاجتماعي