السبت، 30 سبتمبر 2023

نظرات في واقع الجماعات (٣)

 نظرات في واقع الجماعات (٣)

 د.عبدالعزيز كامل

نحو طرق ستة، لتجاوز العقبات الستة
ابتداء .. ليس هناك " حل سحري" للتحديات والعقبات التي تواجه الكيانات الإسلامية في أزماتها المزمنة، لكن لا بد من وضع أطر عامة وخطوط عريضة قبل الشروع في تفاصيل أي مشروع للحل، الذي لا يمكن لشخص مهما كانت قدراته ولا لكيان مهما كانت إمكاناته أن يدعي معرفة تامة بسبل الوصول لتلك لحلول .
★.. ومع ذلك فلا مفر من حوارات وسجالات تتجاوز النقاشات المغلقة في أطرها الضيقة، ولا بأس أيضا من تقديم اجتهادات ومبادرات قد تضيف معطيات جديدة، من شأنها أن تفتح أبوابا كانت مؤصدة مسدودة ، خاصة عندما تتشارك بشأنها الآراء وتتلاقح فيها العقول .
وعند التأمل في آمال الخروج من أنفاق الاستضعاف والافتراق الستة ؛ سنجد أن تجاوز كل واحدة منها يستدعي عودة في عكس الطريق المسلوك ، فالجهل لايعالج إلا بالعلم ، والاختلاف لا يرفعه إلا السعي للائتلاف، والفرقة لا تزول الا بالاجتماع والاعتصام ، وهكذا..
★.. وهناك ستة طرق وسبل لتجاوز التحديات لابد أن يحسم العاملون لنصرة الدين خيارهم لعبورها، ولو تجشموا الصعاب في تجاوزها..
وهي على الأوجه التالية :
السبيل الأول :

وهو المتعلق بمشكلة الاختلافات الفكرية والمنهجية بين التيارات والجماعات .
وتتمثل إحدى أهم الحلول بشأنها في بذل سعي جماعي جاد من العلماء الأحرار وطلاب العلم الكبار ذوي الاستقامة المنهجية والسلوكية؛ لأجل تقريب وتقليل تلك الخلافات، من خلال صيغة عملية لتقديم أجوبة مجردة ومحايدة لأبرز المسائل والتساؤلات المتعلقة بتلك الخلافات، خاصة وأن أكثرها تتوارثه الأجيال وتضيع فيها الجهود والأعمار .
وأمثلة تلك الخلافات كثيرة ومشهورة عند المهتمين بأمر المسلمين .
★.. والشروع في ذلك الحل مشروع قائم بذاته، يحتاج إلى جهود إضافية من المؤسسات والهيئات العلمية المستقلة _ وهي موجودة ومتوافرة بحمد الله _ ولكن ربما تشغلها أو بعضها الجزئيات والفرعيات عن مظان الأخطار من القضايا الكبار .
والمطلوب رصد أهم مسائل الخلافات لوضع إجابات ومقاربات شافية بشأنها ، ولو جمعت بصورة مؤصلة ومفصلة من جهة او جهات علمية مأمونة ومضمونة، ثم اختصرت وجرى تعميمها؛ فستنشئ بإذن الله وسطا وسطيا ، بعيدا عن الغلو أو التفريط .
★.. وفي كل الأحوال فإن الله تعالي كلف غير العالمين بسؤال العلماء العاملين عند كل خلاف علمي ينبني عليه اختلاف عملي ، فقال سبحانه : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النحل/ ٤٣).
قال الشيخ السعدي في تفسيرها : " وعموم هذه الآية فيها مدح أهل العلم، وأن أعلى أنواعه العلم بكتاب الله المنزل، فإن الله أمر من لا يعلم بالرجوع إليهم في جميع الحوادث".
وللحديث بقية، بإذن الله











خرج وقد لا يعود

 خرج وقد لا يعود

جعفر عباس 

قبل نحو شهر، خرج عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش السوداني، من قمقم القيادة العامة للجيش في الخرطوم، حيث كان محاصرا من خصومه في قوات الدعم السريع، وطفق يزور كل عاصمة تبدي ترحابا به، وكان آخر محطة زارها هي نيويورك، حيث خاطب الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن الحرب الدائرة في السودان منذ أكثر من خمسة أشهر، وشكى وبكى من ظلم ذوي القربى، الذين هم قوات الدعم السريع، التي تولى هو تغذيتها وكسوتها ورعايتها، ثم انقلبت عليه، أي "لّما اشتد ساعِدُها رَمَته"، ويغلب الظن أن البرهان لا يدري أن تلك الجمعية العامة، التي توسل إليها بأن تصِم الدعم السريع بالإرهاب، لا تملك حق إصدار قرارات ملزمة لأي طرف، ولو كانت تملك ذلك الحق لكانت الدولة الفلسطينية المستقلة قائمة منذ نصف قرن.

زار البرهان خلال الأسابيع الأربعة الماضية خمس دول، كما زار ثلاث حاميات عسكرية بعيدة عن مناطق الاشتباك داخل السودان، ولكن لم يعن له، وهو قائد الجيش أن يزور حاميات تتعرض للهجوم والحصار منذ أربعة اشهر في إقليم دارفور، بل لم يسبق له أن زار جنوده على خط النار الملتهب جداً داخل العاصمة السودانية، ولم يعن له أن يواسي قبيلة المساليت في دارفور، والتي تتعرض لعمليات تقتيل منهجية منذ أربعة اشهر على أيدي جنجويد الدعم السريع، وحلفائهم من وسط وغرب إفريقيا، ولكن لم يفت عليه مواساة ضحايا السيول في درنة الليبية والزلزال في المغرب..

اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة ليست أكثر من منبر خطابي، ويحرص بعض قادة الدول على المشاركة فيها في غالب الأحوال، للالتقاء بنظرائهم لبحث قضايا معينة مهمة، بينما يؤمها قادة بعض الدول التي لا تهش ولا تنش، فقط من باب إثبات الوجود، ولم يحظ البرهان بفرصة لقاء رئيس أي دولة، حتى التقى بالرئيس الأوكراني زيلينسكي في مطار شانون في أيرلندا، وهو في طريق عودته إلى بلاده، وأبدى تعاطفه مع أوكرانيا في حربها مع روسيا.

بخروجه من الخرطوم خرج البرهان من لعبتي الحرب والسلم، فهو لم يعد محاربا ـ دعك من أن يكون قائدا للمحاربين ـ ومن ثم فهو ليس صاحب قرار وقف الحرب والجنوح للسلم، ولن يكون مفاجئا أن نطالع في الوسائط الإعلامية عن قريب، إعلانا من فئة "خرج ولم يعد

ومن المؤكد أن البرهان شكر زيلينسكي على غارات بطائرات الدرون نفذها ـ على ذمة شبكة سي أن أن ـ جهاز الاستخبارات الاوكراني على مواقع لمرتزقة فاغنر الروس وقوات الدعم السريع في أطراف مدينة أم درمان خلال الأسبوع الأول من أيلول/ سبتمبر الجاري، وربما كان هذا من باب رد الجميل للبرهان، لأن مصادر استخباراتية غربية سبق أن كشفت النقاب قبل نحو ثلاثة أشهر عن بيع السودان لقذائف دبابات لأوكرانيا، بحكم أن معظم الدبابات السودانية أوكرانية أو روسية الصنع، وربما لم يعن للبرهان أن هناك من سيقارن بين حاله وحال زيلينسكي، فالأخير موجود بين قواته، وهي تواجه واحدة من أقوى جيوش العالم عددا وعتادا، ويتفقد بانتظام أحوال المدنيين الذين يتعرضون للقذائف الروسية، بينما هو ـ البرهان ـ خارج أرض المعركة تماما، ولم يتكلم قط خلال لقاءاته التلفزيونية المتكررة عن العودة إلى عاصمة بلاده حيث المعركة الرئيسة، وحيث الخصم ـ الدعم السريع ـ يسيطر على معظم المرافق والطرق والجسور ويحاصر معسكرات الجيش..

بعد فراغه من إلقاء خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة صار البرهان ضيفا على عدد من القنوات التلفزيونية، وقال في كل واحدة منها كلاما يناقض ما قاله في الأخرى بشأن وقف الحرب، فهنا "لن تقف الحرب إلا بعد سحق قوات الدعم السريع تماما"، وهناك "لا مانع من الجلوس مع حميدتي قائد تلك القوات لبحث وقف القتال"، ولا يفوت عليه أن يشيد على نحو خاص بما يسمى بمنبر جدة، الذي ترعى فيه الرياض وواشنطن مباحثات بين الطرفين المتحاربين في السودان، للتوصل إلى وقف دائم للقتال، ثم يكرّ مرة أخرى ويرفع لاءات الخرطوم الجديدة: لا تفاوض ولا سلام ولا استسلام، والتي هي صدى للاءات القديمة، والتي ثبت أنها من العنتريات التي ما قتلت ذبابة.

بخروجه من الخرطوم خرج البرهان من لعبتي الحرب والسلم، فهو لم يعد محاربا ـ دعك من أن يكون قائدا للمحاربين ـ ومن ثم فهو ليس صاحب قرار وقف الحرب والجنوح للسلم، ولن يكون مفاجئا أن نطالع في الوسائط الإعلامية عن قريب، إعلانا من فئة "خرج ولم يعد؛ أوصافه كالتالي: طويل وعريض، أسمر اللون، يرتدي الزي الإفرنجي كاملا أحيانا، وأحيانا أخرى الزي العسكري الموشى بالنياشين والأوسمة، شوهد مؤخرا في القاهرة وجوبا وأسمرا والدوحة ونيويورك، ويشاع أنه يبحث عن مسكن ومقر في ميناء بورتسودان على البحر الأحمر"..

ثأراً لوالده.. رئيس أذربيجان يستعيد كاراباخ ويوفّي بعهد قديم

ثأراً لوالده.. رئيس أذربيجان يستعيد كاراباخ ويوفّي بعهد قديم
الرئيس إلهام علييف


في وقت مبكر من يوم 19 سبتمبر/ أيلول، أعطى رئيس أذربيجان إشارة البدء لهجوم عسكري خاطف، في إطار خطة جرى الإعداد لها قبل أشهر، بهدف إعادة ترسيم الخريطة الجيوسياسية، والثأر لهزيمة مذلة مُني بها والده قبل نحو 30 عاماً.

وكثيراً ما تحدث الرئيس إلهام علييف، الذي يتولّى السلطة منذ عقدين، وخاض حرباً ناجحة بالفعل، عن إعادة جيب ناغورنو كاراباخ الجبلي إلى السيطرة الكاملة لأذربيجان، بعد أن انفصل سكانه الذين ينتمون لعرقية الأرمن عن حكم باكو، في أوائل تسعينيات القرن الماضي.

وقال إلين سليمانوف، سفير أذربيجان لدى بريطانيا، لـ"رويترز"، إنّ مجموعة من العوامل أقنعت علييف (61 عاماً) بأنّ الوقت بات مناسباً.

وذكر سليمانوف "يسلك التاريخ منعطفات ومنحنيات". وأردف "لم يكن بوسعنا فعل هذا سابقاً، وربما لن تكون فكرة سديدة أن نفعل ذلك لاحقاً".

وأضاف سليمانوف الذي عمل في السابق في مكتب علييف "صارت الظروف مواتية لأسباب معينة، واغتنم الرئيس علييف الفرصة".




ومن بين هذه "الظروف" البارزة هي عدم قدرة روسيا أو الغرب أو أرمينيا على التدخل لحماية كاراباخ، أو عدم استعدادهم للقيام بذلك في الأساس. وذكرت أذربيجان أنّ الجيب الذي كان يتمتع بالحكم الذاتي كان لديه عشرة آلاف مقاتل تحت تصرفه، لكن جيش أذربيجان الذي يقدر خبراء غربيون قوامه بأكثر من 120 ألف جندي بدا كالعملاق مقارنة بمقاتلي الجيب.

وأكد مسؤولان كبيران ومصدر يعمل مع علييف، خلال محادثات مع "رويترز"، أنّ قرار استعادة الإقليم الانفصالي تبلور على مدى أشهر في ظل تغير الواقع الدبلوماسي.

وذكروا أيضاً أنّ المسألة لها عمق شخصي بالنسبة للرئيس.

وقال علييف متحدثاً إلى شعب أذربيجان، بعد يوم من تنفيذ العملية العسكرية، إنه أمر جنوده بعدم إيذاء المدنيين. وقالت باكو لاحقاً إنّ 192 من جنودها قُتلوا خلال العملية. وقال أرمن كاراباخ إنهم فقدوا أكثر من 200 شخص.

وذكر أحد المصادر الذي طلب عدم ذكر اسمه، لأنه غير مخول بالإدلاء بتعليقات للإعلام "يكمل الرئيس علييف شيئاً لم يستطع والده فعله، لأنّ الوقت لم يمهله".

وقال حكمت حاجييف، مستشار السياسة الخارجية لعلييف، خلال ثلاث مقابلات، إحداها قبل العملية العسكرية، إنّ صبر باكو على الوضع الراهن قد نفد.

وذكر حاجييف، لـ"رويترز"، قبل أقل من أسبوعين من اجتياح قوات أذربيجان جيب كاراباخ، أنّ باكو لا تسعى إلى أي أهداف عسكرية "في هذه المرحلة"، لكنها تظل متأهبة. وأضاف أنّ باكو لا يمكنها قبول ما وصفها بأنها "منطقة رمادية" مع وجود قوات الأمن المسلحة الخاصة بكاراباخ، وهو أمر شبّهه بالمافيا على أراضي أذربيجان.




وجرى حل قوات دفاع كاراباخ منذ ذلك الحين، بموجب شروط اتفاق وقف إطلاق نار جديد، لكنها رفضت انتقادات أذربيجان في السابق، ووصفت نفسها بأنها قوة قتالية مشروعة.

وفي يوم العملية العسكرية وبعد انحسار القتال، أعد حاجييف قائمة بما وصفها "عناصر استثارة" دفعت باكو إلى اللجوء إلى الخيار العسكري، مشيراً إلى انفجار لغم أرضي أدى إلى مقتل اثنين من المدنيين من أذربيجان في وقت سابق من ذلك اليوم في جزء من كاراباخ، كانت باكو قد استعادته خلال حرب في 2020. وصرّح حاجييف "طفح الكيل".

وأشار علييف أيضاً إلى انفجار اللغم وحادث مشابه نجم عنه مقتل أربعة آخرين. ووصف أرمن كاراباخ هذه التأكيدات بأنها "محض كذب". ولم يتسن لـ"رويترز" التحقق بشكل مستقل من صحة الأحداث.

وتنحّت روسيا، التي تملك قوات حفظ سلام على الأرض لكنها منشغلة بحربها مع أوكرانيا، جانباً خلال العملية.

وقال حاجييف إنّ أذربيجان أرسلت إلى الروس "إخطاراً قبل دقائق" من بدء العملية.

ولم يستجب نيكول باشينيان رئيس وزراء أرمينيا المجاورة، التي خاضت حربين كبيرتين بسبب كاراباخ، لدعوات السياسيين المعارضين للتدخل، وقال إنّ بلاده بحاجة إلى أن تكون "خالية من الصراع" من أجل استقلالها.

واكتفى الغرب، الذي حاول التوسط سابقاً، بدعوة علييف بإيقاف العملية، لكن ذلك وقع على آذان صماء.



فرصة سانحة

يزداد غليان المشكلة منذ أشهر. وبدا أنّ علييف استشعر وجود فرصة سانحة مع انشغال روسيا في حربها بأوكرانيا.

وفي ديسمبر/ كانون الأول الماضي، بدأ مواطنون من أذربيجان، يصفون أنفسهم بأنهم ناشطون بيئيون غير راضين عن عمليات التعدين غير القانونية، بإغلاق ممر لاتشين، وهو الطريق الوحيد الذي يربط كاراباخ بأرمينيا.

وقال مسؤولو كاراباخ حينئذ إن المحتجين يشكلون غطاء ويوجد بينهم مسؤولون من أذربيجان. ونفت باكو الاتهام.

ولم تتحرك قوات حفظ السلام الروسية المسلحة، التي بدت أنها تحجم عن المخاطرة بتصعيد الموقف، لفض المحتجين بالقوة.

وفي محاولة في مايو/ أيار لتحريك مفاوضات السلام، قدّم رئيس الوزراء الأرميني باشينيان ما بدا أنه عرض يمثل انفراجاً، وهو أنّ أرمينيا مستعدة للاعتراف بكاراباخ، بوصفه جزءاً من أذربيجان إذا ضمنت باكو أمن عرقية الأرمن في الإقليم.

وبدا أن علييف اغتنم ما اعتبره اعترافاً تأخر كثيراً بالأمر الواقع كدلالة على ضعف أرمينيا. ووصف المصدر الذي يعمل مع علييف التحوّل بأنه "مهم للغاية".
مسألة لم تنته

أفلت إقليم كاراباخ من قبضة أذربيجان في الفوضى التي تلت تفكك الاتحاد السوفييتي. وقُتل زهاء 30 ألف شخص ونزح أكثر من مليون، أكثر من نصفهم من مواطني أذربيجان، خلال حرب امتدت من عام 1988 إلى عام 1994.

وأُجبر حيدر علييف، والد إلهام علييف ورئيس أذربيجان آنذاك، على الموافقة على وقف إطلاق نار رسّخ انتصار أرمينيا.




ولأعوام، تسبّب تحالف موسكو ومعاهدتها الدفاعية المبرمة مع أرمينيا، التي تملك فيها روسيا منشآت عسكرية، في ردع باكو عن استخدام القوة حتى مع بيع روسيا أسلحة لكلا البلدين.

لكن علاقات موسكو مع أرمينيا بدأت في التدهور في 2018 حينما قاد باشينيان، وهو صحافي سابق، احتجاجات في الشوارع صعّدته إلى السلطة على حساب عدد كبير من الزعماء الأرمن الموالين لروسيا.

وفي ظل تكثيف حملة جيش أذربيجان للتعديل والتحديث، لم تلبث أرمينيا أن تقع في أزمة بعد خروجها من أخرى.

ومع ملاحظة كون الكراهية متبادلة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وباشينيان الذي رجّح إقامة علاقات مع الغرب، اختبر علييف حساسية الموقف قبل المضي قدماً.

ففي 2020، شنّ حرباً استمرت 44 يوماً انتصر فيها جيشه بمساعدة من طائرات مسيرة تركية متقدمة، ما قادهم إلى استعادة جزء من أراضي كاراباخ.

وتوسّطت روسيا في وقف لإطلاق النار بدا أنه انتصار لموسكو، ما سمح لها بنشر قرابة ألفي جندي حفظ سلام في كاراباخ. وأكسبت الخطوة موسكو حضوراً عسكرياً في أذربيجان، فيما يبدو أنه تهدئة لأي تحركات عسكرية إضافية من طرف أذربيجان.

لكن غزو موسكو الشامل لأوكرانيا في فبراير/ شباط 2022 غيّر المعادلة من جديد، إذ أدخل موسكو في حرب ضروس مع كييف.
أجواء ضبابية

في صباح يوم 19 سبتمبر/ أيلول، استيقظ سكان ستيباناكيرت عاصمة كاراباخ المعروفة باسم خانكندي في أذربيجان على دوي نيران المدفعية التي تكررت وسط أجواء ضبابية.

بدأت ما وصفها علييف بأنها عملية لمكافحة الإرهاب باجتياح من قوات برية مدعومة بطائرات مسيرة وستار من المدفعية لاجتياح خطوط كاراباخ الدفاعية.

وقُتل خمسة روس في العنف الذي تلا العملية فيما يبدو أنه حادث اعتذر عنه علييف لبوتين.

وأعلنت باكو الانتصار في غضون 24 ساعة، ووافق مقاتلو كاراباخ الأرمن على وقف إطلاق نار ألزمهم بتسليم أسلحتهم.

وقال أرمن كاراباخ إنهم شعروا بالخيانة من جميع الأطراف.

وذكر ديفيد بابايان، مستشار لزعيم حكومة كاراباخ، لـ"رويترز"، بعد يوم من العملية شاكياً "تُرك كاراباخ بمفرده، لم توف قوات حفظ السلام الروسية عملياً بالتزاماتها، تخلى عنا الغرب الديمقراطي، وغضت أرمينيا أيضاً طرفها عنا".

وقال علييف للأمة: "استعادت أذربيجان سيادتها في نحو الواحدة مساء يوم أمس".

وبعد أربعة أيام من العملية، بدأ بعض أرمن كاراباخ، البالغ عددهم 120 ألف نسمة، ما تحول إلى نزوح جماعي بالسيارات صوب أرمينيا، قائلين إنهم يخشون الاضطهاد والتطهير العرقي، على الرغم من تعهد أذربيجان بضمان سلامتهم. وقالت سلطات يريفان إنّ 98 ألف شخص فرّوا إلى أرمينيا بعد عشرة أيام من هجوم أذربيجان.

وبالنسبة لأذربيجان، تمهد استعادة كاراباخ الطريق أمام عودة عشرات الآلاف من مواطني أذربيجان الذين فروا سابقاً، وهي عودة تعهّد بها حيدر علييف مراراً وتكراراً.

وقال سليمانوف، سفير أذربيجان لدى بريطانيا: "وفّى الرئيس (إلهام) علييف بتعهد والده".

(رويترز)

متى ستطلب إسرائيل الصفح عن جرائمها ضد الفلسطينيين؟

متى ستطلب إسرائيل الصفح عن جرائمها ضد الفلسطينيين؟

خلال عطلة نهاية الأسبوع، احتفلت إسرائيل بيوم الغفران، وهو اليوم الذي من المفترض أن يكفر فيه عن خطاياها الجماعية. ومع ذلك، فإن إسرائيل لا تفكر أبداً في طلب الصفح من أكبر ضحاياها: الفلسطينيين

رد فعل أحد أقارب الفلسطيني يوسف رضوان، الذي قتلته القوات الإسرائيلية خلال احتجاج على السياج الحدودي بين إسرائيل وقطاع غزة، خلال جنازته في خان يونس بجنوب قطاع غزة في 20 سبتمبر 2023 (رويترز)




تُكتب هذه السطور في تل أبيب في يوم الغفران، وهو أقدس يوم في التقويم اليهودي.

هذه المرة، طغت على هذا اليوم الذكرى الخمسين لحرب عام 1973 المعروفة باسم حرب يوم الغفران . ومن بين كل الحروب التي خاضتها إسرائيل، كانت هذه الحرب هي الأكثر إيلاماً للإسرائيليين ، وإسرائيل القديمة تبحث الآن عن روحها تحت ذلك الظل.

إن المعنى الديني والتقليدي الأوسع ليوم كيبور والأيام التي تسبقه هي دائمًا وقت للبحث عن النفس، وقبل كل شيء هو الوقت الذي نطلب فيه المغفرة عن الخطايا التي ارتكبناها.

والطقوس الاحتفالية مشبعة بالكليشيهات، بما في ذلك مباركة تمني الآخرين أن "يُكتبوا لسنة جيدة" - وهي الطريقة التي يحيي بها الناس بعضهم البعض في الشارع، بدلاً من قول "شالوم" (السلام) مع اقتراب العيد.

من المفترض أن تكفر إسرائيل عن خطاياها الجماعية في يوم الغفران، ومن المفترض أن يكفر الإسرائيليون اليهود عن خطاياهم الفردية - إلا أن هذا لم يحدث على النحو اللائق في أي عام، وهذا العام أقل من أي وقت مضى.

م يخطر ببال إسرائيل قط أن تطلب المغفرة الأكثر أهمية من بين جميع أنواع المغفرة التي ينبغي لها أن تطلبها: أي طلب المغفرة من الشعب الفلسطيني . لم تطلب إسرائيل المغفرة قط عن خطاياها تجاه الفلسطينيين التي ارتكبتها عام 1948 ، ولا عن الذنوب التي ارتكبتها ضدهم بشكل مستمر منذ عام 1948، ولا حتى عن الخطايا التي ارتكبتها بحقهم خلال العام الماضي، كما تطالب الشريعة والتقاليد اليهودية كل عام.

علاوة على ذلك، كان العام الماضي عاماً صعباً للغاية بالنسبة لإسرائيل والفلسطينيين، وهو العام الذي حكمت فيه إسرائيل من قبل الحكومة اليمينية الأكثر تطرفاً في تاريخها.
ضاع كل العار

هذا هو العام الذي ليس فيه ما يمكن قوله عن طلب المغفرة من الفلسطينيين فحسب، بل هو العام الذي فقدت فيه إسرائيل كل العار على الجرائم التي ارتكبتها ضدهم.

هذا هو العام الذي وصف فيه وزراء الحكومة، في إشارة إلى مجرم يهودي أدين بإحراق عائلة فلسطينية حية أثناء نومهم في منزلهم، مرتكب الجريمة بأنه قديس وضحية. 
انتشرت الحملة المطالبة بالإفراج عن عميرام بن أوليئيل على نطاق واسع في إسرائيل، وفي غضون أيام جمعت أكثر من 400 ألف دولار من خلال التمويل الجماعي لدعم العمل نيابة عنه.

هذا هو المغفرة التي يسعى العديد من الإسرائيليين إلى الحصول عليها - لرجل أشعل النار عمدا في منزل في منتصف الليل وأدين في محكمة قانونية، وهو أمر نادر في حد ذاته في إسرائيل عام 2023 حيث لا يتم تقديم اليهود إلى العدالة على الإطلاق. سواء كانوا عسكريين أو مدنيين، على جرائمهم ضد الفلسطينيين.

لقد تقدم بعض الإسرائيليين بالفعل إلى الأمام ويطلبون العفو من القاتل وليس من ضحاياه. إنهم لا ينكرون أنه قاتل فحسب؛ يعتقد البعض أنه بما أن الفلسطينيين الذين قتلهم كانوا أبرياء، بما في ذلك طفل رضيع، فقد أصبح مقدسًا بهذا الفعل. هذا ما يحدث عندما يضيع كل العار.

إن الفحص الذاتي الروحي الحقيقي لكل إسرائيلي، كما يستلزم يوم الغفران، أو في أي وقت آخر من العام، سوف يشتمل بالضرورة على المحاسبة على التصرفات التي تم القيام بها تجاه الشعب الفلسطيني. وعلى المستوى الوطني، فإن مثل هذه المحاسبة لم تبدأ بعد.

حتى عندما كانت إسرائيل توقع اتفاقيات مثل اتفاقيات أوسلو ، قبل 30 عامًا بالضبط، لم يكن هناك أي شك في تحمل المسؤولية أو أي طلب للغفران: هذه الأمور لم تكن حتى مطروحة على الطاولة.

إن إنشاء لجنة الحقيقة والمصالحة على نمط ما بعد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا أمر بعيد المنال تماماً في حالة إسرائيل. ليس أكثر من خيال، منفصل تمامًا عن الواقع. ليس من الصعب أن نتصور التأثير الإيجابي المحتمل على العلاقات بين إسرائيل والشعب الفلسطيني نتيجة لتحرك إسرائيل لتحمل المسؤولية عن جرائمها.

نظام قاسٍ وتمييزي

بعد أكثر من 100 عام من الصهيونية، التي تعني بالنسبة للفلسطينيين 100 عام من السلب والقمع والقتل والدمار والإهانة وضياع الحقوق وفقدان الكرامة، لا يوجد في إسرائيل همس بفكرة تحمل المسؤولية والسعي للتكفير. ، كما يلتزم اليهود بفعل الشريعة اليهودية في يوم الكفارة المقدس عند كتابة هذه السطور.

بل على العكس من ذلك، فكما أن القاتل بن أوليئيل هو الضحية في نظر المتطرفين الإسرائيليين، فإن أغلب الإسرائيليين يعتبرون أنفسهم الضحية، والضحية فقط، في سياق علاقاتهم مع ضحاياهم الحقيقيين، الفلسطينيين

فقط من خلال تقديم أنفسهم بشكل زائف كضحايا، يمكن للإسرائيليين التعامل مع ماضيهم، وإنكاره وقمعه، كما تمكنت قلة من الدول من إنكار ماضيها مع حاضرها. أمة من المهاجرين سيطرت على أرض مأهولة منذ مئات السنين، وقمعت سكانها، وحرمتهم من أراضيهم وممتلكاتهم، وطردت بعضهم وظلمت الباقين، وسيطرت على الأرض وأقامت دولة هي بالتعريف دولة يوجد فيها التفوق اليهودي .

وفي هذا العام، فقدت إسرائيل أيضاً أي خجل بسبب تعريف الصهيونية بأنها التفوق اليهودي. بينما يتم دفع إسرائيل إلى الزاوية من قبل حكومة يمينية متطرفة، تخرج حركة احتجاجية مثيرة للإعجاب إلى الشوارع شهرًا بعد شهر للنضال من أجل الديمقراطية.

ومع ذلك، فإن هذا الاحتجاج المثير للإعجاب يتجاهل مسألة التفوق اليهودي المتأصل في المجتمع، ويطالب فقط بالعودة إلى الوضع الذي كان قائماً من قبل، أي الديمقراطية لليهود في الدولة اليهودية التي تسيطر على أرض تعيش فيها دولتان متساويتان في الحجم.

تعيش دولة واحدة في ظل نظام ديمقراطي معرض للخطر حاليًا، وتعيش الدولة الأخرى في ظل واحدة من أسوأ الديكتاتوريات العسكرية في العالم. وقليل من الدول في أي مكان تعيش في ظل هذا النظام القاسي والمفترس والتمييزي. ومع ذلك، يتم تجاهل هذا من قبل حركة الاحتجاج الديمقراطية التي تحظى بإعجاب الجميع تقريبًا.
أمة بأكملها في حالة إنكار

منذ أكثر من 100 عام ونحن نحرم الفلسطينيين من أرضهم وممتلكاتهم وأسلوب حياتهم وثقافتهم وكرامتهم. ورغم أن أساليب العمل تغيرت على مر السنين، إلا أن النية ظلت ثابتة. وكان الهدف، ولا يزال، هو محاولة ترتيب بقاء أقل عدد ممكن من الفلسطينيين هنا، هذا إن وجد على الإطلاق.

هذا هو المعنى الحقيقي للدولة "اليهودية والديمقراطية". هذه هي الطريقة الوحيدة لتسوية التناقض بين اليهودية والديمقراطية في واقع الدولة ثنائية القومية. 
في عام 1948، طردت إسرائيل مئات الآلاف من الأشخاص، وحتى لو فر بعضهم من الناحية الفنية بسبب الرعب، ففي كلتا الحالتين، لم تُمنح لهم فرصة العودة أبدًا. ثم فرضت إسرائيل الحكم العسكري على من تبقى من الفلسطينيين المقيمين داخل أراضيها، وأطلقت عليهم اسم " عرب إسرائيل ".

تُرتكب جرائم الحرب كل ساعة بالتعاون مع ميليشيات المستوطنين المسلحة. وينظر الإسرائيليون إلى كل     ذلك بعين الإنكار والقمع    

وبعد أشهر قليلة من انتهاء النظام العسكري داخل إسرائيل، في عام 1966، تم استبداله باحتلال عسكري للأراضي الفلسطينية استمر منذ ذلك الحين. 
ويعيش ما يقرب من سبعة ملايين فلسطيني تحت السيطرة الإسرائيلية بطرق مختلفة، في إسرائيل والضفة الغربية وغزة.

أوضاع الحرمان في كافة مجالات الحياة لمواطني الدولة الفلسطينيين؛ والطغيان العسكري ضد الرعايا الفلسطينيين عديمي الجنسية في الضفة الغربية والقدس الشرقية؛ وظروف السجون التي يعيشها الفلسطينيون في قطاع غزة، أكبر قفص للبشر في العالم.

الوحشية هي الوسيلة الوحيدة للحفاظ على كل ذلك. ولا توجد طريقة غير عنيفة للحفاظ على مثل هذا الواقع العنيف.

يستخدم النظام العسكري العنف القاسي بشكل يومي. تُرتكب جرائم الحرب كل ساعة بالتعاون مع ميليشيات المستوطنين المسلحة. وينظر الإسرائيليون إلى كل ذلك بعين الإنكار والقمع. إنهم يكذبون على أنفسهم ويظلون راضين عن أنفسهم، أو غير مبالين إلى حد المرض. معظمهم لا يعرفون، وخاصة لا يريدون أن يعرفوا الحقيقة، في حين أن معظم وسائل الإعلام الإسرائيلية تقوم بدورها من خلال عدم إزعاج الإسرائيليين بتصوير حقيقي للفجور السائد الذي يرفضون رؤيته.

وهكذا وصلنا إلى هذا الوضع الذي تعيش فيه أمة بأكملها في حالة إنكار. وهكذا انتهى بنا الأمر إلى ما نحن فيه الآن، بحيث أنه عندما يقترب يوم الكفارة، لا يفكر أحد في طلب المغفرة من أكبر ضحايا إسرائيل.

أحدثكم عن/ الكاتب الأرستقراطي!

أحدثكم عن/ الكاتب الأرستقراطي!

محمد عبد الشافي القوصي

aldohapress@hotmail.com


 ذات مرة؛ دعاني إلى تناول الإفطار معه. ومن شدة حبي له؛ انطلقتُ على الفور، ورحتُ أبحثُ عنه في (عرينه) بشارع بهجت علي بالزمالك؛ فلمْ أجد له أثراً .. 

فإذا به يخرج من بين أروقة مكتبته العامرة؛ ويصرخ بأعلى صوته: 

"لقد ابتُلِينا بالذين تشغلهم صعوبة اللغة العربية, ويبحثون عن حروف أخرى لها أوْ عزلها عن مجال العلم بزعم أنها لغة متخلِّفة! أمَّا العبرية التي انقرضت منذ ألفي سنة؛ أصبحت لغة العلم! لقد نسيَ هؤلاء الأعراب أنه لا توجد لغة متخلِّفة، ولغة متقدِّمة .. إنما توجد أُمم متخلِّفة، وأُمم متقدِّمة!

قلتُ له: هَوِّن عليك- أبا خالد! فإذا به يصرخ –مرةً أخرى: 

"كيف وقد صدَّروا إلينا عملاء يجعلون لب كفاحهم فصل الدين عن الدولة! ويصابون بالفالج عندما يسمعون بأنَّ الدستور سينص على أن دين الدولة الإسلام! بلْ ألغوا شعار الهجوم (الله أكبر) من الجيش، ولمْ يعيدوه إلاَّ بعد النكسة بخمسة عشر شهرا, بينما أول دبابة إسرائيلية دخلت سيناء مكتوب عليها آية من التوراة!

 قلتُ له: ما السبيل -إذنْ- يا أستاذنا؟! 

فقال: الوضع الصحيح أن نجعل (قضية فلسطين) قضية عربية إسلامية, ولن يقهر التعصب الباطل للتلمود إلاَّ الإيمان الحق بالقرآن, ولن يقهر التآمر الصهيوني العالمي إلاَّ حركة بعث إسلامي تحرر فلسطين, وتبدأ في نفس الوقت من خلال وحدة الدم, ومن خلال وضع المبدأ الإسلامي العظيم وهو (الجهاد) موضع التطبيق, لتتشكل عوامل وحدة الأمة الإسلامية واستكمال مقومات الحضارة الإسلامية"!

 ترى .. مَنْ يكون هذا العبقري الفذ؟!

 إنه الكاتب المجاهد؛ الذي أنفق عمره في دفع الزيف ورد الشبهات عن تاريخنا، وواجه "طلائع الغزو الفكري"! 

وقد تساءل في كتابه "القومية والغزو الفكري": هل تستطيع القومية تخليصنا من المحن المصيرية التي تواجه العالم العربي الآن؟ 

ثم أجاب: "إذا كان الإسلام هو الرابط الذي يربط بين العرب والبربر والأكراد وغيرهم، فلماذا نستبعده، ونرفع علم القوميّات؟! إلاَّ إذا كان الهدف هو إثارة الحرب القوميّة!!

ويعلِّل مسلكية الأحزاب والحركات القومية التي ترفع شعار القومية اللادينية؛ بأنها تكوَّنت من عناصر مُرِيبة دُرِّبت وأُعِدَّتْ في مدارس التبشير، وبيوت القناصل، وأقلام المخابرات الاستعمارية، ورسمت أهدافها ومبادئها على أساس تحطيم الرابطة الإسلامية، تمهيداً للاستيلاء على الدولة العربية! وكان يرى أن قوميتنا نسيج وحدة لحمته الإسلام وسداه العروبة، وأيّ محاولة لفصلهما لن تعطيك ثوباً، بلْ خيوطاً قد تنجح في شنق نفسك بها!

 ترى .. مَنْ يكون هذا الأسد الضاري؟!

 إنه "الكاتب" الذي لَمْ يترك القلم من يده لحظةً واحدة؛ بلْ جاهد باللسان والقلم إلى آخر لحظة في حياته! لدرجة أن قلمه كان أشبه بالكلاشينكوف، أوْ الآر بي جيه! وأيَّ كتاب يصدره؛ كان أشبه بعصا موسى! وكانت محاضراته أشبه بالعواصف التي تقتلع الأشجار والبيوت!

 على هذا الحال؛ عاش متنقلاً من مناظرة فقهية إلى مناظرة تاريخية، ومن معركة ثقافية إلى معركة سياسية .. حتى فاضت روحه خلال مناظرة تلفازية مع "نصر أبو زيد" في محطة التلفاز العربية- الأمريكية في واشنطن حول قضية التطليق التي رفعها أحد المواطنين ضد العلماني أبو زيد، مما اعتبرها دليل تعصب وإرهاب من الإسلاميين! لكن -صاحبنا- أكد أن القضية ليست قضية تطليق، بلْ هي التزوير! 

وقال: هل يصح لمن يزوِّر النصوص، ويختلق الوقائع، لإثبات رأي مسبق في حالة ما، ويندفع في هذا الاتجاه إلى درجة التلفيق- هل يجوز لمثل هذا الشخص أن يبقى ضمن هيئة التدريس في جامعة محترمة؟ 

واحتدمت المناقشة إلى أشدّها، فأصيب –الفارس- بأزمة قلبية حادة، فاضت روحه على إثرها يوم 5/12/1993م، ونقِلَ جثمانه إلى مصر، وأوصى أن يُدفن معه في مقبرته ثلاثة كتب: (لمحات من غزوة أُحد، ودخلتْ الخيل الأزهر، وقيل الحمد لله)!

* * *

 إنه (محمد جلال كشك)! 

الذي قال عنه لمعي المطيعي: "عبارة ساخرة، ولمحات ذكية، وثقافة إسلامية واسعة، والسؤال المحيِّر: متى وكيف استوعب هذه المادة التراثية عن الإسلام"؟!

وقالت عنه صافيناز كاظم: "تتميز كتابة جلال كشك بالحيوية التي تصل بك أحياناً كقارئ إلى حد الإرهاق، كما تتميز بالحضور الوهاج الذي يجمع بين غزارة المعلومات وعمق التحليل، والقدرة على الربط والمقارنة بين زوايا الرؤية، والمبارزة الجدلية في كل مكان، مع خفة ظل حادة، يعرف كيف يوظفها في فقرات سريعة، ويصوّبها إلى مكانها المطلوب برشاقة ودقة متناهية .. يكتب متلذذاً بالكتابة، وللقضية متحمساً، فينقل إليك الشغف مهما قاومته، أو عاديته، وهو منغمس كل الانغماس في موضوعه، كأنه سيكون آخر ما يكتب، وأنت لابد منغمس فيه كأن كتابه سيكون آخر ما تقرأ"!

 أجل! لقد كان -جلال كشك- مفكراً، ومؤرخاً، ومجاهداً .. وشهيداً ! 

كان يقول: "الخلاف حول تفسير التاريخ ليس ظاهرة، ولا مجرد خلاف حول تفسير الماضي، بلْ هو في الدرجة الأولى خلاف حول الطريق إلى المستقبل، والأمم دائماً تهرع إلى تاريخها في لحظات محنتها، وتستمد منه الإلهام والدعم النفسي، بينما يلجأ خصومها دائماً إلى تزييف التاريخ وتشويهه، لتضليل الحاضر وإفساد الطريق إلى المستقبل".

 ويقول أيضاً: "مَنْعنا من امتلاك المدفع؛ هو الهدف الأساسي الدائم منذ ظهور الاستعمار الأوروبي إلى اليوم، وقد تم ذلك تحت شتى الشعارات، وبمختلف التنظيمات من القراصنة ومحاكم التفتيش إلى الجامعات، والمؤسسات الدولية، والمعاهد من الأمم المتحدة، وقبل ذلك إلى جهود وكتابات وحكومات من سمّاهم "صمويل هنتنجتون": "المتعاونين والمؤمنين بحضارتنا"! هؤلاء المتعاونون الذين يعملون لاستمرار سيطرة الغرب واستمرار تخلّف أوطاننا يتسترون في كل مرحلة تحت شعارات علمانية وتقدمية ويسارية وأممية. إنَّ عناصر مأجورة عن وعي، وعناصر تحركها أحقاد رخيصة، وعناصر تتبع كل ناعق تسيطر على إعلامنا، وتجنده لمحاربة الإسلاميين في مشارق الأرض ومغاربها، غير محققة من هدف إلاَّ إزالة دور مصر الإسلامية، وإلغاء زعامتها للعالم الإسلامي، وعزلها عن المسلمين.. لمصلحة من؟ هذا هو السؤال الذي نعرف جوابه جيداً".

* * *

 منذ طفولته كان عاشقاً للحرية، وداعياً إلى التغيير! فعرف السجون مبكراً؛ فقد أدى امتحان (البكالوريوس) وهو سجين في معتقل "هايكستب" بتهمة التحريض على قتل الملك!

وعندما كان طالباً؛ دعا زملاءه ليهتفوا ضد تعيين حافظ عفيفي رئيساً للديوان الملكي! بلْ انطلق يهتف بحياة الجمهورية قبل أن يعلنها "محمد نجيب" بحوالي عام! كما طالب بتأميم القناة، وإلغاء الاحتكارات الأجنبية في سنة 1951م!

 واعترض على تعيين "صلاح سالم" نقيباً للصحفيين! باعتبارها بداية التربص بالصحافة؛ لوقوفها بجانب الشعب ضد استبداد العسكر! 

وبدأ الجدال على صفحات الجرائد حول دستور 1923م، وإعادة العمل به، وبكافة مظاهر النظام القديم، لكن من دون الملك! 

ففطِن إلى هذه الخديعة التي يُسوّقها العسكر، ليتم إلغاء الحريات، وكتب في جريدة "الجمهور المصري": "لماذا يعود هذا الدستور"؟! وكان الجواب على الفور إغلاق الجريدة، وإيداع -جلال كشك- في سجن "أبو زعبل" لمدة عامين وشهرين!! وخرج بعدها ليعمل بجريدة "الجمهورية"، وتم إيقافه عن العمل عام 1958م! 

وفي عام 1961م، أُلحق بمجلة "بناء الوطن" تحت رئاسة الضابط/ أمين شاكر، فاعتُقل لمدة شهور، بإيعاز من أمين شاكر، لإرساله خبراً عن "استقلال الكويت" ل"أخبار اليوم" بدلاً من إرساله إليه.

 عمل بعدها في "روزا اليوسف" وكتب سلسلة مقالات، بعنوان: (خلافاتنا مع الشيوعيين) فتمَّ إبعاده عن الصحافة من 1964- 1966م! 

كما انفرد بنقد كتاب علي صبري "سنوات التحول الاشتراكي"! وأعلن في مقالة ب"الجمهورية" بأن الأرقام الواردة عن الخطة الخمسية (1961- 1966م) تدلُّ على انخفاض في الإنتاج وليس زيادته، والأرقام تدلُّ على كذب الادِّعاء!

بمجرد نشر هذا المقال؛ تم فصل رئيس مجلس الإدارة، ورئيس التحرير، وطرد جلال كشك!

* * *

 الحقُّ أقول: إنَّ –جلال كشك- أمهر من أمسك بالقلم في النصف الثاني من القرن العشرين! وأعنف مَنْ واجه اليساريين وربائبهم العلمانيين؛ ففضح أكاذيبهم، وكشف مزاعمهم! ولعلَّ مؤلفاته في هذا الصدد لا تخطئها العين، مثل: (كلام لمصر، النكسة والغزو الفكري، جهالات عصر التنوير، قراءة في فكر التبعية، أخطر من النكسة، ألاَ في الفتنة سقطوا)!

 كما أنه صاحب الفضل في كشف أوراق (هيكل) وعمالته للمخابرات الأمريكية! لاسيما أنَّ –كاهن الناصرية الأكبر- درج على إخفاء ما يتعلق بعلاقة ثورة 23 يوليو بالمخابرات الأمريكية! فكان يُغيِّر كلامه في الطبعة العربية لكتبه، ويقول بخلاف ما يكتبه للغربيين المتنوِّرين في "الطبعات الأجنبية"!

 كان –جلال- من أشد الكارهين للدكتاتورية والاستبداد! من هنا كان هجومه على (فتى بني مر) لا يتوقف! والذي تمثل في كتبه (الماركسية والغزو الفكري، كلمتي للمغفلين، الناصريون قادمون، ثورة يوليو الأمريكية)!

 عندما أصدر كتابه (كلمتي للمغفَّلين) انطلق –الناصريون- سِراعاً، وسحبوا جميع النسخ من الأسواق، حتى لا يعرف الناس جرائرهم، وصفحاتهم السود! 

فإذا بالطبعة الثانية تصدر في أقل من أسبوع، وقد صدَّرها –المؤلف- بعبارة ساخرة، يقول فيها: "ما كنَّا نريد أن نتكسَّب من هذه الكتب؛ ولكنَّ الله يرزق من يشاء بغير حساب"!!


 وصف عبد الله الطنطاوي- مؤلفاته، فقال: "جاء جلال وجاءت كتبه على قدر، فسدّت ثغرات كبيرة في حياتنا الثقافية والسياسية، ووقفت في وجه الغزو الفكري، في ظروف بالغة الدقة، تُرك فيها الحبل على الغارب للشيوعيين، وللعلمانيين، ولدعاة التغريب، والدعاة إلى القوميّة، وكمَّموا أفواه الإسلاميين، وكسروا أقلامهم، واحتزُّوا رقابهم، وكانت السجون والمعتقلات الرهيبة أماكن سكنهم، فانبرى الأستاذ كشك، وليس غيره، يفضح رفاق الأمس ومَنْ وراءهم، بقلم من نار، وعقل مستنير، وقلب مسكون بالقيم العربية الإسلامية، ووعي تام بما يجري في عالم اليوم، من تزييف الحقائق، ووأد القيم التي بنينا عليها الأمجاد…"!

 أجل! انظر إلى مؤلفاته التي كان يتخطفها الناس فور صدورها، والتي أرَّختْ لحقبة فاصلة في الصراع الأيديولوجي المحتدم إلى يومنا هذا ... 

ومازلتُ أحتفظ بما أهداني منها، مثل: (مصريون لا طوائف، النابالم الفكري، مِن بِدَع ثورة مايو، تحرير المرأة المسلمة، خواطر مسلم عن الجهاد والأقليات والأناجيل، المؤامرة على القدس تنفَّذ في مكة، قيام وسقوط إمبراطورية النفط، طريق المسلمين إلى الثورة الصناعية، الجهاد ثورتنا الدائمة، وغيرها)!

* * *

 كان –جلال كشك- خبيراً ببواطن الأمور، لاسيما أنه خالط الملوك والأمراء والساسة، كما أفاد كثيراً من إقامته بين الأجانب، وكان من كُتَّاب "الجارديان" البريطانية!

 قلتُ له –ذات مرة- ما هو تفسيرك للهجمة على شيخ الأزهر الدكتور/ محمد سيد طنطاوي؟! 

فقال: ليس المقصود بهذه الحملة الشيخ طنطاوي، فالجميع يعلم قدره وعِلمه ومكانته؛ إنما هي حملة مدفوعة الأجر مُقدَّماً، يقود زمامها غلمان  وقباقيب السلفية! وشاركهم فيها؛ إعلاميون مأجورون، وأناسٌ من جلدتنا وأُناسٌ غرباء عنا! إنهم يريدون هدم الأزهر وتشويه سمعته .. ولنْ يستطيعوا أنْ يحجبوا الشمس بغربالهم الهزيل!

وسألته –أيضاً: كيف استحوذ (الحداثيون والتغريبيون) على الصحافة والأندية الأدبية في السعودية؟! 

فقال: المملكة تكبح –من خلالهم- جماح التكفيريين والمغفَّلين من الأعراب!

من هو جلال كشك؟

 لمْ أعرفُ أحداً كان معتزاً بحسبه ونسبه مثل (جلال كشك)!

 ولِمَ لا؟! فهو من أعرق أسرة أرستقراطية! كان أبوه قاضياً في المحاكم الشرعية، قال عنه في أحد كتبه: "إنه كان أول من أصدر حكماً شرعياً في مصر بتكفير البهائيين"!

 لكن اعتزاز –جلال- بآرائه وأفكاره أشد وأعنف! فالويلُ الويلُ لمن يخالفه الرأي! بلْ الويل -كل الويل- لمن يقطع حديثه! أذكر أنني رأيته –أول مرة- في (دار الزهراء للإعلام العربي) يتحدث أمام نخبة من أعلام الفكر والأدب، منهم: أحمد رائف، وأحمد بهجت، وحسين مؤنس، وغيرهم، وكانوا مشدوهِين لحديثه عن بلدته "المراغة" التي قال: إنها أعرق بلدة في الصعيد قاطبةً! فقلتُ: تقصد بعد (قوص) ملاذ العلماء والأولياء! فضحك كثيراً، ثم قال: ولولا رهطك لرجمناك!

 منذ تلك الحادثة؛ توثَّقتْ علاقتي به، فكان أول شيء يفعله بعد عودته من "عاصمة الضباب" يتصل بي، وينهال عليَّ بوابلٍ من الأسئلة، مثل: 

ما هو الكتاب الذي اشتريته لي؟ 

وأين الغداء الذي وعدتنا به؟! 

وماذا قال لك الشيخ الغزالي؟ 

وما هي أخبار الصعيد الجواني؟!

 ذات مرة؛ قال لي: بحسرةٍ وألم-: سأموتُ قريباً يا قوصِي! فحزنتُ، وقلتُ: أبقاك الله يا أستاذنا .. وظننتُ أن سيموت بالفعل، لكنه لمْ يمت! بلْ فاجأنا بكتاب "جهالات عصر التنوير"!

التقيته بعد ذلك، فقال لي: سأموتُ قريباً! فأخذتُ الكلام على محمل الجد! فقلتُ: أطال الله عمرك يا أبا خالد! فإذا به يفاجئنا بالكتاب القنبلة "الحوار أوْ خراب الديار"!

ثم غاب بضعة أشهر .. وإذا به يصدر الكتاب الملتهِب "الجنازة حارة"!

 وهكذا، كان كلما شعر بآلام القلب؛ يفزعني بشدة، ويقول لي: سأموتُ قريباً! لكنه لا يموت ولا يحيا .. 

بلْ نراه بعدها ببدلةٍ أنيقةٍ ما رأتْ عينٌ مثلها، ولا سمعتْ بمثلها أُذُنٌ! بلْ يفاجئنا بمؤلفاتٍ رهيبة، أشبه ما تكون بالقنابل والمتفجرات!

 أثناء لقائنا الأخير، قبل سفره إلى لندن؛ كرَّرَ ما كان يقوله كل مرة: سأموتُ قريباً! فضحكتُ لكلامه! 

فقال غاضباً: أقول لكَ: سأموتُ، وتضحك يا هذا؟! فأخذتني نوبة طويلة من الضحك!

لكن؛ بعد أيام قلائل؛ وعلى غير المتوقع! أعلنتْ إذاعة (الB.B.C) نبأ وفاة الكاتب الكبير/ محمد جلال كشك!

 فأصابتني هزة مباغتة، وجثوتُ على الأرض، وأنا أُردِّد: آه!! عملتها يا جلال .. يا ابن الإيه؟!

الجمعة، 29 سبتمبر 2023

درنة (العزيزة): مدينة القادة الفاتحين والصحابة والتابعين الكرام “القائد الإسلامي زهير بن قيس البلوي”

درنة (العزيزة): مدينة القادة الفاتحين والصحابة والتابعين الكرام “القائد الإسلامي زهير بن قيس البلوي”



نبَّهت سيول مدينة درنة (العزيزة)، والكارثة التي حَلّت بها لمكانة وقيمة هذه المدينة التاريخية العريقة “مدينة الأدب والثقافة” و”جبَّانة الصحابة والتابعين”، والتي كانت ولا تزال موطن الكرام، وأهل الحِكمة، وحَفظة القرآن، وأهل الإحسان والغِيرة والإقدام، وكانت مركزاً من مراكز انطلاق الفتح والجهاد والتحرير ضد الطغاة والغزاة في تاريخها، وتشهد على ذلك معالم المدينة التي تنتمي لمرحلة الفتح الإسلامي، إذ استشهد فيها ثلاثة من الصحابة، وسبعون من التابعين في إحدى معارك جيوش الفتح ضد الرومان، والتي حصلت على الجانب الشرقي لوادي المدينة، ودُفنوا في المكان ذاته، قبل أن يقيم عليهم سكان المدينة أضرحةً وقباباً لها رمزيتها لدى سكانها والزائرين منذ القرن الحادي عشر الهجري/ السابع عشر الميلادي.

وإن من أبرز القادة الذين تحتضن المدينة أضرحتهم هو الصحابي الجليل والقائد الإسلامي الكبير زهير بن القيس البلوي (رضي الله عنه)؛ الغازي المجاهد أبو شداد، وهو من القادة المسلمين البارزين في فتوح المغرب، وهو قائد عسكري فذ، ووالٍ مخضرم، وذوو خبرة طويلة في مسيرة القيادة والإدارة والجهاد، وغدا الخليفة المباشر للقائد عقبة بن نافع في تولي حركة الفتح الإسلامي بإفريقيا، وقد سار على خطواته حتى أكمل فتح القيروان، وخلصها من طغيان الرومان، بعد تخطيط وإعداد استغرق خمس سنوات متواصلة من استشهاد القائدين عقبة بن نافع وأبو المهاجر دينار (رحمهم الله)، وهو ما سنتكلم عنه في هذا المقال.

1- القائد زهير بن قيس البلوي: اسمه ونسبه

هو أبو شداد، زُهير بن قيس البلوي، نسبة إلى ( بَلّى ) وهي فخذ من قُضاعة، ويسميه سكانها (سيدي زهيري)، قال المؤرخ الإسلامي ابن الأثير: يقال إن له صحبة، وهو جد زاهر بن قيس بن زهير بن قيس، والي برقة لهشام بن عبد الملك. [الكامل في التاريخ – ابن الأثير، 3/ 362]

كان لزهير (رضي الله عنه) بصمات قويّة وفاعلة في الفتح الإسلامي، وأبلى بلاءً حسناً في ساحات الوغى، وغاص بجنوده المجاهدين في أعماق إفريقيا على ساحل البحر المتوسط، وعُرف عنه كثرة تواضعه وتقواه وورعه، وإقدامه وحبه للجهاد، وقد كان عقبة بن نافع يضعه في مقدمة جيشه دائماً لما عُرف عنه من الصدق وحسن البلاء في الجهاد والقتال [سفير التاريخ الإسلامي، عبد المقصود باشا، 4/33]

وكانت من أبرز صفحات تاريخه المشرقة مشاركته في فتح مصر بقيادة الصحابي الجليل عمرو بن العاص (رضي الله عنهما)، وفتحِه للقيروان عام 69ه، وكسره لجيوش الرومان و"كسيلة" هناك، ودفاعه عن برقة ضد الرومان حتى استشهادة (رحمه الله).

وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: زهير بن قيس البلوي، يقال إن له صحبة، يكنّى أبا شداد، شهد فتح مصر وروي عن علقمة بن رمثة البلوي، وروي عنه سويد بن قيس. [الإصابة في تمييز الصحابة، 2/ 478] ولم يذكر أهل التأريخ والسير سنة ولادته على التحديد، وذكروا أن له صحبة للنبي (صلى الله عليه وسلم) كما مرّ، واِستُشهد في جهاده ضدّ الروم سنة 76 هـ. [الكامل في التاريخ، 3/ 362]. وقد دفن هذا القائد الكبير في المكان الذي بات يُعرف بـــ “جبَّانة الصحابة” في مدينة درنة العزيزة، تقبله الله في الشهداء، وأسكنه فسيح جناته.

2- ولاية القائد زهير البلوي على القيروان في حياة عقبة بن نافع واستعادته لها بعد استشهاده

بعد اكتمال بناء القيروان عام خمسة وخمسين على يد القائد عقبة بن نافع؛ عُزل عن ولاية إفريقية، ثم لمَّا أُعيد إليها عام اثنين وستين قام برحلته الجهادية المشهورة التي قطع فيها ما يزيد على ألف ميل من القيروان في تونس إلى ساحل المحيط الأطلسي في المغرب، وقد استخلف على القيروان زهير بن قيس البلوي، ودعا لها قائلاً: يا رب املأها علماً وفقهاً، واملأها بالمطيعين لك، واجعلها عزاً لدينك وذلاً على من كفر بك.. وامنعها من جبابرة الأرض [الإسلام والتعريب في الشمال الإفريقي، 1/126].

وقد خلق استشهاد عقبة بن نافع وأصحابه في موقعة تهودة وضعاً مضطرباً لدى المسلمين في إفريقيا والمغرب عامة، وهدد بسحق الانتصارات التي حققها الفتح الإسلامي، لكن زهير بن قيس البلوي الذي ولّاه عقبة على القيروان، حاول أن يخفف من تأثير الانكسار النفسي المقلق لدى المسلمين [عمليات تحرير المغرب في ولاية زهير بن قيس البلوي، ص 10]. فتسلّم قيادة الجيش خلفاً لعقبة بن نافع، وعزم على إكمال مسيرته، والمضيّ في طريقه، فعزم ‌زهير ‌بن ‌قيس البلوي على إكمال طريق عقبة مباشرة، فخالفه حنش الصنعاني وعاد إلى مصر، فتبعه أكثر الناس، فاضطر زهير إلى العودة معهم، فسار إلى برقة وأقام بها. وأما كسيلة – القائد البربري الذي قتل عقبة بن نافع، وهزمه زهير لاحقاً في معركة القيروان – فاجتمع إليه جميع أهل إفريقية، وقصد إفريقية، وفيها أصحاب الأنفال والذراري من المسلمين، فطلبوا الأمان من كسيلة فآمنهم ودخل القيروان واستولى على إفريقية وأقام بها إلى أن قوي أمر عبد الملك بن مروان هذا وقد بقيت القيروان بيد كسيلة مدة تقارب خمس سنوات من عام (64 ـ 69 هـ) حتى خلصها زهير البلوي من قبضته بعد أن أمده عبد الملك بن مروان بجيش كبير [الإسلام والتعريب في الشمال الإفريقي، 1/136].

وفي ذلك يقول محمد بن عبد الله عنان: ففي ذلك الحين ثار البربر بقيادة زعيم لهم يدعى كسيلة بن لمزم كان قد اعتنق الإسلام وحالف العرب ثم تغير عليهم، وانضمت إليه جموع كثيرة من الروم والبربر، وانتهز فرصة تفرق المسلمين في مختلف الأنحاء، وانقض بجموعه على جيش عقبة، ووقعت بين الفريقين معارك شديدة هزم فيها المسلمون، وقتل عقبة وجماعة من القادة (سنة 62هـ) وزحف كسيلة على القيروان واستولى عليها، وارتد حاكمها زهير بن قيس البلوي بقواته القليلة إلى برقة، وكادت بذلك تذهب دولة العرب في إفريقية [دولة الإسلام في الأندلس، محمد عبد الله عنان، 1/20].

فلم يستطع زهير أن يحقق ما عزم عليه من مواصلة الجهاد بعد عقبة بن نافع إلا بعد سنوات من استشهاده رحمه الله تعالى، وذلك في سنة 69 [موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي، عبد المقصود باشا، 10/959] إذ لم تستطع الخلافة الأموية في تلك الحقبة أن تهتم بأمور “إفريقية” إثر مقتل عقبة بن نافع واحتلال “كسيلة” البربري للقيروان إلا بعد وقت طويل؛ لأن ظروف الخلافة لم تسمح بذلك. لقد توفي يزيد بن معاوية “64هـ/ 682م”، وخلفه ابنه معاوية “الثاني” ولم يكمل عاماً واحداً حتى تنازل عن الخلافة دون أن يعين من يخلفه، وانتهى الأمر -في العام نفسه- إلى مروان بن الحكم. وكان قد انشغل مروان بن الحكم بما وقع بينه وبين عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، ثم لم يلبث إلا أن مات بعد فترة وجيزة سنة 65هـ/ 683م”، تاركا الخلافة لابنه عبد الملك الذي ورث واقعاً سياسياً مرهقاً عمل بمهارة فائقة وجهد دؤوب على تعديله. وبعد أن هدأت الأحوال شيئا فشيئا ابتداء من “68هـ/ 687م” وثبتت الخلافة لعبد الملك اتسع أمامه الوقت ليقوم بعمل عسكري لاستعادة القيروان والمغرب [الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، 1/ 147].

فلم تمنع المشكلات العديدة والفتن المتتالية الخليفة عبد الملك من التفكير في أوضاع إفريقية، وضرورة استعادة نفوذ المسلمين بها، واستشار من حوله في ذلك، واستقر الرأي على ضرورة تجهيز حملة جديدة، يكون على رأسها ‌زهير ‌بن ‌قيس؛ لمعرفته بطبيعة المنطقة وأحوال الناس هناك، فضلا عن شجاعته وحبه للجهاد، فأرسل الخليفة بذلك إلى زهير ببرقة، وأمده بما تحتاج إليه هذه الحملة، وحشد إليه وجوه العرب، ووفر له المال اللازم، فرتب زهير أموره، وخرج للقاء كسيلة وجموع البربر والروم، فعلم كسيلة بتحركات زهير وفضَّل الخروج لملاقاته خارج القيروان. خشية أن ينضم المسلمون المقيمون بها إلى جيش زهير، واختار منطقة ممس التي تبعد مسافة يوم عن القيروان، لتكون معسكرًا لجنوده، لوفرة المياه بها وقربها من الجبال، التي يمكن الاحتماء بها، أو الهروب إليها إذا ما حلَّت الهزيمة بجنوده. وصل زهير على رأس قواته إلى القيروان، واستراح خارجها عدة أيام عبأ فيها قواته، وتجهز للمعركة، وقد نفخ زهير بن قيس البلوي في الجنود روح المقاومة والتصدي لكسيلة عندما زحف على القيروان، وهتف قائلاً: يا معشر المسلمين إن أصحابكم قد دخلوا الجنة، وقد منّ الله عليهم بالشهادة، فاسلكوا سبيلهم، أو يفتح الله عليكم دون ذلك [البيان المغرب 1/31].

ثم انطلق للقاء كسيلة وجموعه من البربر والروم عند ممس، ودارت بين الفريقين معركة حامية؛ حمى فيها الوطيس، وكثر عدد القتلى من الفريقين، ولكن المسلمين صمدوا، وتمكنوا من قتل كسيلة، فدبَّ الضعف والوهن في جموع البربر والروم، وتكاثر عليهم المسلمون من كل مكان، وقتلوا منهم عددًا كبيرًا، وتتبعوهم حتى فروا من أرض المعركة؛ يجرون وراءهم أذيال الهزيمة المنكرة [موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي، د. عبد المقصود باشا، 6/12].

وفي ذلك يقول الدكتور عبد المقصود باشا: لما انتهى المطاف بعقبة شهيدا نتيجة حربه الشرسة التي خاضها ضد الروم والمرتد كسيلة الأمازيغي، الذى كان قد أسلم وارتد عن الإسلام، قام كسيلة بالزّحف إلى القيروان وزحف معه الروم وقاموا باحتلالها كليا، واستمر ذلك الحال إلى أن قام عبد الملك بن مروان بتولي الخلافة في العام 65 هـ، فقام بإرسال المقاتلين والمدد إلى زهير، فقام زهير بالتوجه مع المقاتلين إلى كسيلة والروم لقتالهم فاجتمع جيش المسلمين وزهير من جهة، وجيش الروم وكسيلة من جهة أخرى، واقتتل الجيشان قتالا عنيفا انتهى بانتصار المسلمين واندحار وهزيمة الروم، وتم قتل كسيلة في تلك المعركة العنيفة مما أدى إلى انكسار شوكة الأمازيغ.

في هذه الوقعة ذهب رجال البربر والروم وملوكهم وأشرافهم، وعاد زهير إلى القيروان وجنود المسلمين منصورين بنصر الله تعالى [موسوعة التاريخ الإسلامي، الدرر السنية، 1/252. تاريخ الجزائر في القديم والحديث، مبارك محمد الميلي، 2/ 30].

3- عودة زهير البلوي إلى برقة بعد تحقيق نصره في القيروان

بعد المعركة الفاصلة التي انتصر فيها زهير على البربر والروم بقيادة كسيلة تتبع زهير البربر حتى وادي ملوية. وقد ظن أنه قلم أظفار البربر نهائياً، فحسب أن الأمن قد استتب، فزهد في الامارة [تاريخ الجزائر في القديم والحديث،2/ 30] ولم يرد الإقامة في القيروان لما وجده من عظمة ملكها على الخصوص، ولما رآه من عظمة الملك في إفريقيا على وجه العموم، على أن الرجل لم يترك القيروان حتى أقام أمرها ودبر شؤونها، وترك زمرة من أصحابه المجاهدين فيها وارتحل من القيروان مشرقاً [علاقة الأمازيغ في ليبيا بالعرب، نجيب القندوز، رسالة ماستر، 2017، ص 47] . ويبدو أنه لم يكن مستريحا للمقام في تلك البلاد، ويفسر الرواة ذلك بأن زهيرا “كان من رؤساء العابدين وأشراف المجاهدين وكبراء الزاهدين، وأنه رأى بإفريقية مُلْكا عظيما فأبى أن يقيم وقال: إنما قدمت للجهاد، فأخاف أن أميل إلى الدنيا فأهلك” [نهاية الأرب في فنون الأدب، 20/100].

4- استشهاد القائد زهير البلوي

وكان الروم بالقسطنطينية قد بلغهم مسير زهير ومعه الجيش كله من “برقة” إلى “القيروان” لقتال كسيلة، فاغتنموا الفرصة وخرجوا من جزيرة “صقلية” في مراكب كثيرة وقوة عظيمة فأغاروا على “برقة”، وأصابوا فيها سبيا كثيرا وقتلوا ونهبوا، وأقاموا بها مدة أربعين يوما. وقد وافق ذلك رجوع زهير إلى المشرق فأخبر بخبرهم، فأمر العساكر بالإسراع والجد في قتالهم، وعجل هو بالمسير ومعه سبعون من أصحابه أكثرهم من التابعين وأشراف المسلمين المجاهدين، وعندما علم الروم بقدومه أخذوا في الاستعداد للرحيل عن “برقة”، وفي الوقت الذي وصل “زهير” فيه إلى ساحل مدينة “درنة” -التي اتخذها الروم مركز لهم- كان الروم يدخلون سباياهم من نساء المسلمين وذراريهم إلى المراكب. قال ابن الأثير: “فلما رآه المسلمون استغاثوا به فلم يمكنه الرجوع، وباشر القتال، واشتد الأمر، وعظم الخطب، وتكاثر الروم عليهم، فقتلوا زهيرا وأصحابه، ولم ينج منهم أحد.

وهكذا أصيب المسلمون بكارثة أخرى في إفريقيا “تونس حالياً”، ووصلت أنباء مقتل زهير وأصحابه إلى “دمشق”، فكان لها رنة حزن عميقة، وتوقف الفتح مرة أخرى عدة سنوات، وكان لا بد من مواجهة حاسمة بعد أن طال الأمر كثيراً [موجز الفتوحات الإسلامية، د. طه عبد المقصود أبو عُبيّة، ص 79].

وقد عادت بعض السيطرة البيزنطية على أجزاء من الساحل الإفريقي، إلى أن استعاد الفتح الإسلامي عافيته ومجده ابتداء من حسان بن الثابت سنة 74 ه، إلى أن استقر وتمدد سنة 85 ه، على يد القائد الإسلامي موسى بن نصير رحمهم الله تعالى جميعاً [موجز الفتوحات الإسلامية، د. طه عبد المقصود أبو عُبيّة، ص 87].

درنة عزيزة، وصامدة، وحاضرة طوال تاريخها، فسلام عليها، وعلى من عاش فيها أو دُفن فيها في الخالدين.

المراجع:

  • الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، 1/ 147.
  • الإسلام والتعريب في الشمال الإفريقي، 1/126، 136.
  • الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر، 2/ 478.
  • البيان المغرب في اختصار أخبار ملوك الأندلس والمغرب، 1/31.
  • تاريخ الجزائر في القديم والحديث، مبارك محمد الميلي، 2/ 30.
  • دولة الإسلام في الأندلس، محمد عبد الله عنان، 1/20.
  • الدولة الأموية، د. علي محمد الصلابي، 2/350.
  • علاقة الأمازيغ في ليبيا بالعرب، نجيب القندوز، رسالة ماجستير، 2017، ص 47.
  • عمليات تحرير المغرب في ولاية زهير بن قيس البلوي، ص 10.
  • الكامل في التاريخ – ت تدمري، 3/ 362 ، 364.
  • موجز الفتوحات الإسلامية، طه عبد المقصود أبو عُبيّة، ص 79
  • موسوعة التاريخ الإسلامي، الدرر السنية، 1/252.
  • موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي، عبد المقصود باشا، 10/959 – 6/12.
  • نهاية الأرب في فنون الأدب، 20/100.

هل حقا استأثر العرب بأخصب أرض الأندلس؟

 هل حقا استأثر العرب بأخصب أرض الأندلس؟

ذهب نفر من المستشرقين والمؤرخين المحدثين، إلى القول إن العرب اختصوا أنفسهم بأحسن أرض الأندلس وخير نواحيها وبقاعها بعد فتحها في العقد الأخير من القرن الأول الهجري، وذلك مثل سهول الوادي الكبير في إشبيلية وقرطبة، وفي سهول أودية: شنيل، وتاجه، وأبرة، وفي سهول شرق الأندلس الغنية في مرسية وبلنسية وغيرها، ولم يتركوا للبربر غير الجبال القاحلة، والنواحي القصية، في الشمال الغربي، مثل نواحي جليقية واسترقة وليون والاسترياس.

زعم هؤلاء المستشرقون والمؤرخون أن هذا التقسيم المجحف للأقاليم المفتوحة في الأندلس، كان من أهم أسباب الثورة البربرية ضد العرب في الأندلس بعد ذلك.

المسؤول عن إثارة هذه الشبهة

والمسؤول عن إثارة هذه الشبهة، هو المستشرق الهولندي الأصل الفرنسي الجنسية والثقافة رينهارت دوزي (1820-1883)، في كتابه "تاريخ مسلمي إسبانية" المكون من 3 أجزاء، وتلقفها عنه تلميذه وخليفته المستشرق الفرنسي ليفي بروفنسال (1894-1956) وطورها وعممها في كتبه العديدة حول الأندلس، تاريخا وحضارة، ثم أخذ بها عدد ممن جاء بعدهم، من المستشرقين والمؤرخين الأوروبيين والإسبان، كما تبناها مؤرخون عرب، وعلى رأسهم الدكتور محمد عبد الله عنان في كتابه "دولة الإسلام في الأندلس". وقد زعم هؤلاء المستشرقون والمؤرخون، أن هذا التقسيم المجحف للأقاليم المفتوحة في الأندلس، كان من أهم أسباب الثورة البربرية، ضد العرب في الأندلس، بعد ذلك، وتحديدا في سنة 123هـ.

وقد فنّد الدكتور حسين مؤنس في كتابه "فجر الأندلس"، والدكتور عبد الرحمن الحجي في كتابه "التاريخ الأندلسي"؛ هذه الشبهة خير تفنيد، فذكرا أن ما زعمه أولئك المستشرقون والمؤرخون ليس صحيحا على إطلاقه، وأنه مبالغة، لا تؤيدها المراجع، وعززا رأيهما بالعديد من الدلائل ومنها:

  • اتساع بلاد الأندلس

فشبه الجزيرة الإيبيرية، بلد فسيح عظيم واسع، في حين أن العرب الداخلين عند الفتح، لم يكونوا من الكثرة، بحيث يستطيعون الانفراد بكل سهوله وأراضيه الخصبة، في الشرق والجنوب والوسط والغرب. بل إنه في حقيقة الأمر، ونظرا لمساحته الشاسعة، كان يتسع لأضعاف من نزل به من العرب والبربر معا.

ولذلك فقد ترك العرب لغيرهم نواحي من أخصب ما في الأندلس، مثل أحواض الواديانة والتَاجُه ونهر شقورة، ونهر شقر، والوادي الأبيض ووادي لكة، وغيرها كثير، ولم تكثر منازلهم بشكل واضح، إلا في حوضي الوادي الكبير، ووادي أبره الأوسط وفروعهما الكثيرة. بل إن هناك نواحيَ لم يسكنها لا العرب ولا البربر. قال ابن حوقل، الذي زار الأندلس في القرن الرابع، في جغرافيته "وبالأندلس غير ضيعة فيها الألوف من الناس لم تمدّن، وهم على دين النصرانية روم، وربما عصوا في بعض الأوقات ولجأ قوم منهم إلى حصن، فطال جهادهم لأنهم في غاية العتو والتمرد، وإذا خلعوا ربقة الطاعة صعب ردهم إلا باستئصالهم، وذلك شيء يطول".

في الجنوب مثلا استقر العرب في شذونة واستجة، واختار البربر منطقة رندة الجبلية فسكنوها، وسميت تاكرنا باسم بعض قبائلهم.

  • العرب لم يختاروا مواضعهم

فهم لم يدرسوا شبه الجزيرة الإيبيرية ويتبينوا الطيب من أرضها وغير الطيب، ولكنهم استقروا حيث شاءت لهم المقادير، على طول خطوط الفتح، أي في النواحي التي عرفوها لأول دخولهم البلاد، وعلى هذا النحو أيضا كان استقرار البربر، وقد لجأ كل فريق منهم إلى ما يناسب مزاجه ورغبته من النواحي، طبقا لنوع الحياة السابقة وطبيعة الأرض المعتادة لكل منهما، أما العرب فكانوا يفضلون دائما البسائط والنواحي الدافئة في الجنوب والشرق والغرب، وأما البربر فكانوا في بلادهم يعيشون في بلاد جبلية عالية، فألفوا مثل هذه البلاد في الأندلس، فاستقروا فيها باختيارهم.

ففي الجنوب مثلا استقر العرب في شذونة واستجة، واختار البربر منطقة رندة الجبلية فسكنوها، وسميت تاكرنا باسم بعض قبائلهم. وفي هذا يقول المقري في "نفح الطيب" "وكان العرب والبربر كلما مر قوم منهم بموضع استحسنوه حطوا به ونزلوه قاطنين" إلى أن قال "وأقام من آثر السكنى في مواضعهم التي كانوا قد اختطوها واستوطنوها".

بقي عرب الأندلس وبربرها، يحاربون الأُمويين والشاميين، ويتعصبون لعبد الملك بن قطن، ويقولون لأهل الشام بلدنا يضيق بنا، فاخرجوا عنا، فكانت الحرب تدور بينهم في الكُدَى، أي الصحراء.

  • تحالف البلديين والبربر ضد الشاميين

وذلك أن العرب الفاتحين، الذين عرفوا بالبلديين، كانوا دائما أحلافا للبربر، على الشاميين، الذين دخلوا الأندلس مع بلج بن بشر القشيري سنة 123، لأنهم تقاسموا معهم ما نزلوا به من البلاد، وما فتحوه من الأرض، وساءهم جميعا، عربا وبربرا، أن يحاول الشاميون مشاركتهم في هذه الأراضي، التي فتحوها بأسيافهم، فصارت غنيمة لهم، فنفروا يدافعون عنها، واشتدت الخصومة بين الجانبين.

يقول المقري متحدثا عن تداعيات قتل الشاميين لأمير الأندلس عبد الملك بن قطن الفهري (صفر 123-0 ربيع الأول 124هـ) "وكان أمية وقطن أبناه، عندما خُلع قد هربا، وحشدا لطلب الثأر، واجتمع عليهما العرب الأقدمون والبربر".

ويقول ابن القوطية في كتابه "تاريخ فتح الأندلس" "وبقي عرب الأندلس وبربرها، يحاربون الأمويين والشاميين، ويتعصبون لعبد الملك بن قطن، ويقولون لأهل الشام بلدنا يضيق بنا، فاخرجوا عنا، فكانت الحرب تدور بينهم في الكُدَى، أي الصحراء، التي بقبلي قرطبة".

وبقيت الحرب قائمة "بين الشاميين والأمويين من جهة، والبلديين والبربر من جهة أخرى"، حتى قدم أبو الخطار الحسام بن ضرار الكلبي، أمير الأندلس (رجب 125- رجب 128هـ)، ونظر في إنزال الشاميين في كور الأندلس، وتفريقهم عن قرطبة.. وكان إنزالهم على أموال أهل الذمة من العجم، وبقي البلديون والبربر على غنائمهم، لم يتنقصهم شيء.

هناك روايات تؤكد أن البربر، كانوا قاطنين بكثرة في النواحي الجبلية القصية والقاحلة من شمال غرب الأندلس، وأكدت ذلك أيضا أحداث ثورة خوارج البربر في الأندلس ضد العرب والخلافة سنة 123هـ.

  • استقرار جماعات بربرية في أخصب أراضي الأندلس

كانت جماعات بربرية كثيرة مستقرة في أخصب نواحي الأندلس، سواء في الجنوب أو الشرق أو الغرب، وكان هناك جماعات بربرية من قبائل نفزة وهوارة ومكناسة ومصمودة ومديونة وأوربة وصنهاجة مستقرة على مساحات واسعة من الأراضي الزراعية الخصبة الواقعة بين نهر وادي آنة ونهر تاجة، مثل طليطلة وبطليوس وقونقة ووادي الحجارة، بل كادت الجزيرة الخضراء في جنوب الأندلس، أن تكون مقصورة عليهم لكثرة من نزلها من بطون وعشائر البربر بعد فتح الأندلس. ولو أننا وازنا بين الأراضي التي استقر فيها العرب بالأراضي التي استقر فيها في الأندلس، لوجدنا الكفتين متعادلتين تقريبا.

بيد أن كل ذلك، لا يعني بأن قسمة أراضي الأندلس كان عادلا بشكل مطلق، لا سيما أن هناك روايات تؤكد أن البربر كانوا قاطنين بكثرة في النواحي الجبلية القصية والقاحلة من شمال غرب الأندلس، وأكدت ذلك أيضا أحداث ثورة خوارج البربر في الأندلس ضد العرب والخلافة سنة 123هـ، ولذلك فقد استطاعوا طرد العرب من تلك المنطقة، أثناء تلك الثورة "لكثرتهم هناك وقلة العرب"، كما قال صاحب "فتح الأندلس".