الاثنين، 31 ديسمبر 2012

مع عبدالله النفيسي

 لقاء الدكتورعبدالله النفيسي في برنامج عملاء إيران ماذا يريدون

 



الحلقه الاولي





الحلقة الثانية





الحلقة الثالثة



«لعبة أمم» أم «أحجار على رقعة الشطرنج».. مرة أخرى..؟!


«لعبة أمم» أم «أحجار على رقعة الشطرنج».. مرة أخرى..؟!
د.عبدالله مناع

في أوائل الستينات من القرن الماضي.. ظهر كتابان سياسيان أمريكيان، على درجة كبيرة من الأهمية، وقد قرئا بعناية فائقة آنذاك من قبل معظم أصحاب الاهتمامات السياسية في العالم العربي.. بدءاً من القادة والزعماء وأصحاب الفكر والرؤى السياسية.. وانتهاءً بـ»كتّاب» الرأي والمحللين السياسيين من كتّاب المقالات والأعمدة الصحفية، ولكن مع تسخير مكنة الدعاية

الأمريكية لخدمة الكتابين والترويج لهما.. إلى أقصى مدى، فقد تضاعفت قيمتهما وأهميتهما لدى المثقفين بصفة عامة.. وإلى الحد الذي أصبح معه مَن لم يقرؤهما يعاني من شعور أشبه بـ (النقص) المعلوماتي أو الثقافي وسط دوامة الكلام عنهما في كل المجالس والمنتديات، وهو ما وسع من دائرة الاهتمام بالكتابين.. حتى لم تبق مكتبة لمثقف وأياً كان اهتمامه إلا وأصبح الكتابان يحتلان موقعهما فيها، كان الكتاب الأول: هو كتاب (لعبة الأمم).. لرجل المخابرات الأمريكي الأشهر (مايلز كوبلاند)، والذي تحدث فيه عن الصراع بين القوتين العظميين آنذاك (الاتحاد السوفييتي بشيوعيته، والولايات المتحدة الأمريكية برأسماليتها).. في محاولة كل منهما في قضم جزء أو أجزاء من مناطق نفوذ الآخر، وقد كان المعسكران.. يتقاسما آنذاك مناطق شاسعة من العالم بامتداد قاراته الست، وكان الكتاب الثاني: هو كتاب (أحجار على رقعة الشطرنج).. لكاتبه العسكري الأمريكي (وليام غاركار)، الذي كرسه لـ (الكشف) عن قوى الشر الإلحادية التي تحكم العالم (الاتحاد السوفييتي الشيوعي الملحد)، والأخرى التي تتظاهر بـ(الدين) والإيمان والدعوة إلى السلام وهي اليهودية العالمية أو (الصهيونية).. التي قال عنها المؤلف: (إن تظاهرهم التاريخي بالدعوة للسلام، لم ولن يخدع أحداً).. وهو يورد ما قاله الزعيم الأمريكي الأول جورج واشنطن ذات يوم (من المؤسف أن الدولة لم تطهر أراضيها من هؤلاء الحشرات، رغم علمها ومعرفتها بحقيقتهم. إن اليهود هم أعداء سعادة أمريكا ومفسدو هنائها)..!!

كان الهدف الضمني الأول لـ»الكتابين».. أن يقولا لـ»العالم» بأنه في قبضة القوى العظمى الأمريكية، إن لم يكن اليوم.. فإنه سيؤول إليها حتماً سواء بـ»التفاهم» والتعاون أو بغيرهما: بـ»الخير» وطرقه.. أو بـ»الشر» ووسائله!!

نعم كان الكتابان.. موجهين إلى العالم بأسره، ولكن كان في مقدمته - بطبيعة الحال - منطقتنا العربية: الهامة.. بمواقعها الدافئة والإستراتيجية بين القارات الثلاث (آسيا وأفريقيا وأوروبا الغربية)، وبموجوداتها النفطية العظمى المكتشفة آنذاك والمحتملة مستقبلياً، والجاذبة لـ»الاستماع» والامتثال.. بـ»هشاشة» شرعيتها، وتواضع إمكاناتها المعرفية، ومحدودية قدراتها العسكرية!!

قبيل نهاية القرن العشرين.. جاءت المفاجأة الأولى لـ»العالم»، وليس لـ»الكتابين» أو كاتبيهما.. بسقوط القوى العظمى الشيوعية، وانفراط جمهورياتها الخمسة عشر.. بل وركضها للانضمام لـ(الاتحاد الأوروبي) وذراعه العسكري حلف الأطلسي أو (الناتو) تحت الراية الأمريكية ودعمها المنظور وغير المنظور، ليصدق (الكتابان) والكاتبان ثانية.. بهذه الأيلولة الأمريكية لهذا العدد من الجمهوريات السوفييتية، بينما غضبت كل من (تركيا) و(المغرب) لفشل مسعاهما في الانضمام إلى البيت الأوروبي، وسعدت (قبرص) بشرف الانضمام إليه وإلى أيلولته الأمريكية وحلفها الأطلسي (الناتو)، الذي ظل باقياً رغم انتفاء الحاجة إليه (ظاهرياً)، بعد سقوط (حلف وارسو) وغيابه عن الوجود تماماً..!! بينما كان له (دور) لم يتبينه المراقبون آنذاك.. وستأتي لحظته فيما بعد..؟!

***

بعد مرور خمسين عاماً على الكتابين.. لم يظهر كتاب أو كتابان.. آخران، باعتبار أن مشروع (القبضة الأمريكية) التي يقع العالم في يدها.. أو «الأيلولة» الأمريكية التي سيصير إليها العالم بـ «الخير» و»التفاهم» و»المصالح المتبادلة».. أو بـ»غيره»!! مايزال مستمراً.. نظراً لـ «الكونية» التي تتحلى به إستراتيجيته حتى وإن أنجز بنجاح حل المعضلة السوفييتية بـ»زوالها»، واليوغوسلافية.. بـ»تفكيكها»، والتشيكوسلافية.. بـ»تقسيمها»، فما يزال أمام المشروع - أو تلك الاستراتيجية الكونية - مناطق (عصيان) كثيرة على مستوى الكرة الأرضية، أبرزها (العصيان الكوري) في جنوب شرق آسيا.. و(العصيان الفنزويلي) في شمال شرق أمريكا الجنوبية.. وأخطرهم - من زاوية المصالح الأمريكية الضيقة في حماية إسرائيل من أي تهديد لها مهما بعد احتماله - (العصيان الإيراني) في غرب آسيا.. على مياه الخليج.

ولكن ظهر مقابل الكتابين (فصل) مجهول في إحدى تلك الإستراتيجيات الأمريكية الكثيرة لم يكن معروفاً من قبل.. كشف عنه باقتضاب شديد الخبير والسياسي الأمريكي (ديفيد باتريوس) في إجابته على الصحفي الأمريكي (ريك انكسون).. عندما سأله - في شهر فبراير من العام الماضي - عن هذا الذي يحدث في العالم العربي، بعد أن أزاحت رياح الربيع العربي (زين العابدين بن علي).. بـ(الفرار) من الرئاسة التونسية، و(محمد حسني مبارك).. بـ (التنحي) عنها في ذات الشهر، فأجاب بما يشبه اللغز: (هي ثمان سنوات.. وثمانية تقسيمات).. ولم يزد!؟

فإذا صدَّقنا «خبر» أو «معلومة» أو «نبوءة» (ديفيد باتريوس) وكما هي، فإن سؤالاً اضرارياً لابد وأن يفرض نفسه: ومتى بدأت.. أو تبدأ هذه السنوات الثمان، والتقسيمات الثمان؟

هل بدأت.. منذ الاحتلال الأمريكي للعراق في شهر مارس عام 2003م؟ أم أنها ستبدأ من حين التصريح بها في فبراير الماضي..؟

على أن مجريات الأحداث في المنطقة.. توحي بأنها بدأت منذ سنة الاحتلال الأمريكي للعراق، عندما قدم جنوده لإزالة أسلحة الدمار الشامل (غير الموجودة أصلاً)، وإزاحة الديكتاتور العراقي صدام حسين عن حكمه، وإطلاق سراح سجناء الرأي، وإقامة دولة الديمقراطية والحرية والتعددية السياسية فإذا بهم ينتهون إلى «احتلال» العراق والاستيلاء على نفطه ونهب متاحفه، وإقامة سجون جديدة أشد وأنكى من سجون صدام.. ثم تقسيمه إلى ثلاث دول: «كردية» في الشمال، و»شيعية» في الوسط، و»سنية» في الجنوب، ثم أعقبها تقسيم (السودان) إلى دولتين: شمالية مسلمة في أغلبها.. تملك موقعاً ولا تملك نفطاً، ودولة جنوبية مسيحية في أغلبها.. تملك نفطاً ولا تملك مرفأ لتصديره، فهل سيتم تقسيم (سوريا) إلى دول ثلاث: دولة في «اللاذقية»، وأخرى في «حلب»، وثالثة في «دمشق».. حتى تكتمل تلك التقسيمات الثمان التي أخبر أو تنبأ بها (ديفيد باتريوس)..؟ لقد كان في النية الأمريكية على الدوام تقسيم (مصر) إلى ثلاث دول: «نوبية» في الجنوب، و»قبطية» في الوسط، و»إسلامية» في الشمال.. ولكن رياح ربيع الحرية التي هبت على مصر في الخامس والعشرين من يناير من العام الماضي.. أوقفت كل ذلك، وربما ألغته إلى أبد الآبدين!

***

على أي حال، وبعيداً عن كتابيْ (لعبة الأمم) و(أحجار على رقعة الشطرنج) القديمين، وخبر (باتريوس) أو نبوءته الحديثة.. فقد هبت رياح الربيع العربي.. وطنية خالصة من (تونس)، مع انتحار الشاب محمد بو عزيزي قهراً وكمداً في مسقط رأسه (سيدي بوزيد) في السابع عشر من ديسمبر (2010م).. فسقوط ثمارها في العاصمة التونسية في الرابع عشر من يناير في أعقاب فرار (ابن علي).. بعد تسعة أيام من تشييع جثمان شهيد الحرية العربي الأول (محمد بو عزيزي)، إلى مثواه الأخير في قريته، لتتلقفها (مصر) المنتظرة والهائجة منذ التعديلات الدستورية التي تولاها (ترزية) القوانين في (الحزب الوطني).. فإعادة انتخاب (مبارك) لسادس مرة!! وبدء التحضير لـ(توريث) رئاسته لابنه (جمال)، ليقوم شباب (التحرير) بخطبهم وهتافاتهم واعتصاماتهم «السلمية» حقيقة.. وفي سبعة عشر يوماً.. بما لم يقم به عتاولة الساسة المصريين طوال سنوات تململهم وضجرهم التي امتدت لخمسة عشر عاماً.. حتى تنحى الرئيس لنائبه!!

لقد تلاحقت كل تلك الأحداث الوطنية الخالصة في كل من تونس ومصر فيما لا يزيد كثيراً عن الشهر الواحد، وبصورة أقرب ما تكون في إيقاعها.. إلى إيقاع المفاجآت في أفلام «الفريد هيتشكوك» السينمائية المذهلة، فلم يعلم بـ(التحضير) لها، وحدوثها المفاجئ الصاعق أحد.. وفي مقدمتهم الدول الغربية الكبرى: بريطانيا وفرنسا وألمانيا.. بل وزعيمتهم الولايات المتحدة الأمريكية، التي قال عنها «كوبلاند» و»كار».. بأن العالم في قبضتها، وأنه سيؤول إليها بـ»الخير» أو بـ»الشر»، أو أنه سيتم تقسيم بعض دوله لـ»ثمانية» أقسام في «ثمان» سنوات.. كما قالت نبوءة (باتريوس)، فكان لابد للولايات المتحدة - وقد جرى ما جرى في كل من (تونس) و(مصر) من وراء ظهرها، وخلف علمها - أن تتنبه إلى مستجدات أحداث الساعة.. فتواكبها، لا أن تنام قريرة العين على استراتيجياتها القديمة التي تولى شرحها وتقديمها للعالم كتابا (لعبة الأمم) و(أحجار على رقعة الشطرنج) أو حتى نبوءة (باتريوس)، ولذلك.. ما إن وصلت رياح الربيع العربي لـ (ليبيا) المهيأة لاستقبالها بعد أربعين عاماً من حكم عقيم فردي لم يصنع لنفسه (مكانة) ولم يلد (دولة) في موقع هو الأجمل، وفوق أرض هي (الأغنى)! إلا وكانت الولايات المتحدة حاضرة بتصريحاتها المتدرجة.. فـ»قلقها» المتزايد على المدنيين المسالمين، لتلحق بها أوروبا - ساركوزي وكاميرون - بـ(بكائها) عليهم، فتسابقها فضائيات بعض العواصم العربية والخليجية - خاصة -.. بـ»نواحها» واستنجادها، ليأتي حلف الأطلسي (الناتو).. فيفعل ما يشاء (!!) إنقاذاً لأرواح (المدنيين المسالمين)!! رغم السلاح الذي كان يلوِّح به بعضهم.. حيث أنجز (الحلف) خلال تلك الشهور الأربع مهماته على أفضل وجه.. وفي ختامها توزيع حصص أغلى نفط عربي وأجوده، على أولئك الذين حموا (المدنيين المسالمين) وأنجحوا الثورة.. أي على بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة..!! ليفاجأ بعض العرب بـ «وصول» رياح الربيع العربي إلى (سوريا).. بصورة لا تخلو من «الريبة» والشك!! اللتين تدعوان مراقبي أحداث عالمنا العربي.. الذي أمسى وكأنه يعيش الهزيع الأخير في ليل ضياعه، لأن يتساءلوا: أين كانت هذه الجموع من طلاب الحرية والديمقراطية في (دمشق)، يوم أن تم (تفصيل) الدستور السوري على مقاس الدكتور بشار الأسد ساعة رحيل والده بعد حكم بعثي قمعي تسلطي لأكثر من ثلاثين عاماً.. حتى يجري انتخابه على الطريقة الساداتية (9.8% موافقون)..؟

وأين كان «دهاقنة» البعث ولجانه (القُطرية) و(القومية).. يوم أن جرى إعادة انتخابه لـ «دورة» رئاسية ثانية وسط تهليل السوريين وأفراحهم..؟

أكانوا (جميعاً) خائفين على أرواحهم وأرزاقهم.. في الدورتين على طولهما؟

لكن ربما كان السؤال الأدق، والذي يزاحم ليطرح نفسه.. هو: ما الذي حدث.. حتى يجري ما جرى؟!

وبالتأكيد.. فإن الإجابة الموضوعية النزيهة لن تأتي من مركز حقوق الإنسان السوري.. الذي انشقت عنه الأرض فجأة في العاصمة (البريطانية) لندن.. لمتابعة أحداث الخريف.. (آسف) أقصد الربيع العربي في سوريا!!

ومعذرة..

إن ابتعدت عن محاولة قراءة ما يحدث في كواليس اجتماعات الجامعة العربية لمتابعة الأزمة السورية، وتركت نفسي لهذه التأملات السياسية.. البعيدة والقريبة معاً لتستفزني حتى أبثها أو أكتب عنها لأولئك الناجين من أبناء أمتنا.. من وباء الامتثال والانصياع إلى أعدائها، الذين يظهرون أمامنا بـ»أجمل» الثياب و»أحلى» الكلمات والابتسامات!!

dar.almarsaa@hotmail.com

الخميس، 27 ديسمبر 2012

المعلم يعقوب .. الخائن العميل

المعلم يعقوب .. الخائن العميل
د. عبد الحليم عويس
ولد يعقوب حنا في ملوي بصعيد مصر سنة 1745م تقريبًا، وهو ينتمي إلى أسرة قبطية متوسطة الحال، وقد تلقى في طفولته مبادئ القراءة والكتابة والحساب وحفظ بعض النصوص الدينية المسيحية، وذلك في أحد الكتاتيب القبطية التي كانت منتشرة بصعيد مصر آنذاك.
وشأن كثير من الأقباط احترف يعقوب منذ صباه الباكر حرفة "الكتابة" وتحصيل الأموال وضبط الحسابات، ومن هنا اتصلت أسبابه بالأغنياء وأهل اليسار، وانتهى أمره إلى العمل مع واحد من كبار أثرياء المماليك، وهو سليمان بك أغا.
ومن خلال العمل في هذا المجال استطاع يعقوب أن يكتسب خبرة واسعة بالشئون المالية الإدارية ومعرفة عميقة بحياة عموم المصريين وأوضاعهم، كما تمكَّن من جمع ثروة طائلة أورثته شيئًا غير قليل من الغرور والكبرياء، فكان حريصًا على أن يبدو مختلفًا عن الآخرين من بني جلدته وأبناء طائفته، مولعًا بالخروج على مألوف عاداتهم وما درجوا عليه، فكان يخالفهم في الزيّ والهيئة وأسلوب الكلام وطريقة الحياة، حتى إنه اتخذ امرأة سورية من غير جنسه يتسرى بها بطريقة غير شرعية.
ومن مظاهر اختلاف يعقوب عن سائر الأقباط: إتقانه بعض مهارات الفروسية وفنونها، وقد اشتهر عنه نزوع إلى القتال والنزال. ومن ذلك أنه حارب بالفعل في صفِّ المماليك ضد قوات القبطان حسن باشا، التي أرادت تثبيت الحكم العثماني في مصر قُبيل الغزو الفرنسي بقليل.
المعلم يعقوب ونابليون بونابرت:
كان "المعلم يعقوب" حين وصلت الحملة الفرنسية إلى مصر معدودًا من أثرياء القبط وزعمائهم المبرزين، سواء في أقاليم الصعيد أو في القاهرة.
وكان الفرنسيون منذ اللحظة الأولى التي وطئت فيها أقدامهم مصر بحاجة إلى مساعدة الأقباط؛ لأنهم كانوا على دراية كبيرة بشئون الإدارة المالية، فهم الذين يسجلون الملكية الزراعية وهم الصيارفة وهم جباة الضرائب والأموال العامة، وبعبارة أخرى: كان الأقباط يحتكرون البيانات الصحيحة بالدخل العام للبلاد، وبالتالي فإنَّ تأمين الوجود المادي للجيش الفرنسي وتوفير الأموال اللازمة لتدبير احتياجاته يتوقف على مساعدة القبط للغزاة، ومدى تعاطفهم معهم.
والحق أن بعض الأقباط لم يجدوا حرجًا في التعاون مع الفرنسيين، ولم يؤرق ضمائرهم أن يكونوا ذراع المحتل الغاضب في جباية الأموال وتحصيل الضرائب، ومن هنا قَبِل المعلم "جرجس الجوهري" أن يكون مسئولاً عامًّا عن تحصيل الضرائب العقارية، كما قام في الوقت نفسه بتنظيم الموارد المالية.
أما "المعلم يعقوب" فقد بادر إلى عرض خدماته على الفرنسيين، وكان مخلصًا في تعاونه معهم بقدر ما كان خائنًا للبلد الذي نشأ فيه، والناس البسطاء الذين شبَّ بينهم، سواء كانوا من المسلمين أم القبط المخلصين الذين أَنِفُوا أن يضعوا أيديهم في يد المحتل الفرنسي.
ومهما يكن من أمر، فقد وافق نابليون بونابرت على أن يرافق المعلم يعقوب الجنرال ديسيه في حملته على الصعيد؛ نظرًا لسابق معرفته بأقاليم الصعيد، واطلاعه على أوضاعها المالية والإدارية.
وقد بذل المعلم يعقوب جهودًا مضنية لإنجاح حملة ديسيه؛ فأشرف على تجهيز ما يلزم الحملة، وأمَّن لها طرق السير، وتوفر على ضبط الشئون المالية والإدارية للأقاليم المفتوحة، وعمل على التوفيق بين الأوامر الجديدة التي كان يصدرها الجنرال ديسيه والأنظمة القديمة المألوفة في البلاد.
وكان يعقوب سخيًّا في مساعدته للفرنسيين أشد ما يكون السخاء، إذ لم يكتف بتوظيف خبرته المالية والإدارية لصالحهم، بل شارك في العمليات الحربية مشاركة فاعلة تنبئ عن نفسٍ حاقدة على الإسلام والمسلمين. وتقديرًا لحسن بلائه في المعارك منحه الجنرال الفرنسي سيفًا تذكاريًّا منقوشًا عليه (معركة عين القوصية - 24 ديسمبر 1798م).
المعلم يعقوب والجنرال كليبر:
لم يكد يمضي عام على الغزو الفرنسي لمصر، حتى أدرك نابليون -بعد الصعوبات الهائلة التي تعرض لها هو وقواته- استحالة تحقيق حلمه في بناء إمبراطورية فرنسية بالشرق تكون مصر قاعدة لها، ومن ثَمَّ كان بقاؤه في مصر عبثًا لا نفع من ورائه، فعاد إلى فرنسا في مطلع أغسطس سنة 1799م تاركًا قيادة الحملة للجنرال كليبر، الذي قام بقمع ثورات المصريين في وحشية بالغة وقسوة سجَّل المؤرخون كثيرًا من مظاهرها. وكان للمعلم يعقوب دور "قذر" في قمع الثورة وتعقُّب الثوار والقضاء عليهم؛ حيث تحصن بداره في الدرب الواسع جهة الرويعي، واستعد استعدادًا كبيرًا بالسلاح والعسكر المحاربين، وتحصن بقلعته التي كان شيدها بعد ثورة القاهرة الأولى، وقد انضم إلى المعلم يعقوب في حروبه ضد العثمانيين أو المماليك بعد نقض معاهدة العريش عددٌ من القبط والشوام والأروام.
وبعد نجاح كليبر في إخماد الثورة فرض على المصريين كثيرًا من الأموال عقابًا لهم، وفي الوقت نفسه كافأ المعلم يعقوب على ما قدمه للفرنسيين من ألوان الدعم والمعونة العسكرية بأنَّ سلطه على المسلمين يفعل بهم ما يشاء.
ومن المؤسف حقًّا أن بعض الأقباط ونصارى الشام وخاصة من التحق منهم بخدمة الفرنسيين تطاولوا على المسلمين، وأساءوا إليهم بالقول والفعل بعد إخماد ثورة القاهرة الثانية.
ويشير الجبرتي إلى تعسف الفرنسيين في تحصيل الأموال التي فرضوها على المصريين منوهًا بدور الأقليات المسيحية في ذلك: "وكل ذلك بإرشاد القبط وطوائف البلاد (أي: الأقليات المسيحية)؛ لأنهم هم الذين تقلدوا المناصب الجليلة، وتقاسموا الأقاليم، والتزموا لهم بجمع المال. ونزل كل كبير منهم إلى إقليم، وأقام بسرة الإقليم مثل الأمير الكبير، ومعه عدة من العساكر الفرنساوية، وهو في أبهة عظيمة وصحبته الكتبة والصيارفة والأتباع والخدم والفراشون…
ويرسل إلى ولايات الأقاليم من جهته المستوفين من القبط أيضًا، ومعهم العسكر من الفرنساوية والصرافين، فينزلوا على البلاد والقرى ويطلبون المال والكلف الشاقة بالعسف، ويؤجلونهم بالساعات، فإن مضت ولم يوفوهم المطلوب حلَّ بهم ما حل من الحرق والنهب والسلب والسب".
المعلم يعقوب والفيلق القبطي:
وكذلك فقد منح الجنرال كليبر المعلم "يعقوب" رتبة كولونيل، وجعله على رأس فرقة عسكرية من شباب القبط، كان أمر تدريبهم منوطًا بعدد من الضباط الفرنسيين. ويذكر بعض مؤرخي الأقباط أن المعلم يعقوب هو الذي جهَّز هذا الفيلق القبطي بالسلاح والميرة من ماله الخاص. يقول الجبرتي: "طلبوا -أي الفرنسيين- عسكرًا من القبط، فجمعوا منهم طائفة وزيُّوهم بزيهم، وقيدوا بهم من يُعلِّمهم كيفية حربهم ويدربهم على ذلك، وأرسلوا إلى الصعيد فجمعوا من شبابهم نحو الألفين، وأحضروهم إلى مصر وأضافوهم إلى العسكر".
ومعنى ذلك أن الفيلق القبطي الذي تزعمه المعلم يعقوب كان عبارة عن فرقة عسكرية مدربة ملحقة بالجيش الفرنسي، أُنشئت لمعاونة الفرنسيين في حربهم ضد المماليك والعثمانيين.
والحق أن سياسة الفرنسيين في تجنيد بعض أبناء الأقليات الدينية في مصر لم تكن مقصورة على القبط، بل اتسعت دائرتها لتشمل اليونانيين وغيرهم. وقد وقعت هذه السياسة من نفس يعقوب موقعًا حسنًا، وصادفت منه تجاوبًا واهتمامًا، وكما يقول الدكتور أحمد حسين الصاوي: "فإن الفرنسيين بخطتهم الاستعمارية، ويعقوب بأحلامه وتطلعاته التقيا على إرادة واحدة تجسدت في إنجاز واحد هو تكوين الفيلق القبطي".
وقد أراد الأستاذ شفيق غربال أن يمحو عن المعلم يعقوب وصمة الخيانة للأمة المصرية وخطيئة العمالة للاحتلال الفرنسي، فحاول أن يجعل منه رائدًا للتحديث وداعية من دعاة الاستقلال عن المماليك والعثمانيين جميعًا، عن طريق تكوين جيش مصري مدرب على الطراز الغربي يكون أداة لاستقلال مصر.
وهي محاولة لا تقوم على سند صحيح من التاريخ، وتصوُّر يناقض المتواتر من روايات المؤرخين المعاصرين للحملة الفرنسية، سواء كانوا من المصريين أو الفرنسيين أنفسهم؛ فالمعلم يعقوب في ضوء الروايات قبطي مارق وضع يده في يد المحتل الفرنسي، وكان حربًا على أمته.
وأعجبُ من محاولة الأستاذ غربال تصوير يعقوب في صورة المصري الوطني والمناضل الغيور على أمته الحريص على استقلالها، غمزُه للسيد عمر مكرم بأنه مثال لعالم الدين التقليدي الذي يركن إلى تهييج وإثارة عواطفهم دون وضع قاعدة سليمة للعمل السياسي الدائم. وثالثة الأثافي تقديم المعلم يعقوب الخائن على السيد عمر مكرم العالم المناضل المخلص الذي لا ينكر دوره الوطني المجيد إلا صاحب هوى.
ومهما يكن من أمر، فقد مكث المعلم يعقوب بالقاهرة على رأس الفيلق القبطي المساند للاحتلال الفرنسي، المؤيِّد لخططه وبرامجه.
المعلم يعقوب في عهد منو:
ولم يكد كليبر ينجح في قمع ثورة القاهرة الثانية حتى اغتيل على يد سليمان الحلبي في 14 يونيو 1800م، فآلت قيادة الحملة إلى جاك منو. وقد ظل المعلم يعقوب في عهد منو "يؤدي مهمته في خدمة السلطات الفرنسية، ويتفانى هو وأعوانه في أداء هذا العمل على حساب أمن المصريين وسلامتهم وحرياتهم وكرامتهم وحرمة بيوتهم وأموالهم".
والحق أن تعاون هؤلاء الخونة مع الفرنسيين لم يكن نابعًا من مجرد التعصب الديني فحسب، بل كان يغلب عليه الطمع والأثرة العمياء التي تجرد النفوس من المشاعر الإنسانية الطيبة. وقد واصل هؤلاء تعسفهم في جمع الأموال التي فرضها الاحتلال الفرنسي على المصريين.
في عهد (منو) استمر يعقوب وأعوانه في تقديم المساعدة العسكرية للفرنسيين، حيث قاموا بتحصين القاهرة في وجه العثمانيين عندما اقتربوا منها للمرة الثانية (مايو 1801م). وفي ذلك يقول الجبرتي: "توكل رجل قبطي يقال له عبد الله من طرف يعقوب بجمع طائفة من الناس لعمل المتاريس، فتعدى على بعض الأعيان، وأنزلهم من على دوابهم وعسف وضرب بعض الناس على وجهه حتى أسال دمه، فتشكى الناس من ذلك القبطي…".
ومن المؤسف حقًّا أن بعض المسلمين كانوا من أعوان يعقوب في قهر المصريين وإذلالهم، ويذكر الجبرتي منهم رجلاً يُدعى مصطفى الطاراتي، وكان من موظفي الإدارة العثمانية ثم التحق بخدمة الفرنسيين. وقد تم القبض عليه وإعدامه في ميدان باب الشعرية بعد رحيل الحملة الفرنسية.
وتقديرًا لإخلاص المعلم يعقوب للفرنسيين وما قدمه لهم من ألوان الدعم والمساندة، فقد منحه "منو" رتبة جنرال في مارس 1801م.
المعلم يعقوب والأيام الأخيرة للحملة الفرنسية:
تحرَّج موقف الفرنسيين نتيجة الضغوط العسكرية التي مارسها عليهم العثمانيون والإنجليز؛ حيث زحف الجيش العثماني نحو القاهرة، في حين زحف الجيش الإنجليزي من رشيد بعد أن فرض حصارًا على "منو" في الإسكندرية. وزاد من صعوبة الموقف الفرنسي انتشار مرض الطاعون في صفوف الجند وحصده أرواح كثير منهم، ومن ثَمَّ لم يجد الفرنسيون بدًّا من الدخول في مفاوضات مع العثمانيين والإنجليز، وهي المفاوضات التي أثمرت عن توقيع اتفاق الجلاء عن مصر.
وقد تضمنت اتفاقية الجلاء مادتين مهمتين تتعلقان بوضع عملاء الفرنسيين ومعاونيهم من قبط مصر وغيرهم إبان فترة الاحتلال، وهاتان المادتان هما:
1- كل من أراد من أهل مصر أيًّا كان دينه أن يصحب الفرنسيين في عودتهم إلى فرنسا، فله ذلك.
2- كل من التحق بخدمة الفرنسيين لا يكون قلقًا على حياته أو ممتلكاته.
وهكذا فقد أَمِن على نفسه وماله وعياله كل من تعاون مع الفرنسيين إبان الاحتلال. وقد أصد الأمير المملوكي إبراهيم بك أمانًا لأكابر القبط، فخرجوا وسلموا ورجعوا إلى دورهم.
وقد قرر عدد غير قليل ممن كان يتعاون مع الفرنسيين الرحيل معهم إلى فرنسا، وعلى رأس هؤلاء المعلم يعقوب الذي خرج بمتاعه إلى الروضة في صحبة عدد كبير من عسكر القبط، فاجتمعت نساؤهم وأهلهم وتوجهوا إلى القائد الفرنسي "بليار" يبكون ويرجونه أن يدع هؤلاء القبط الفارين، فوعدهم بليار أن يرسل إلى يعقوب يأمره بألاَّ يجبر من لا يريد السفر معه.
ومع ذلك فقد آثر الهجرة إلى فرنسا جمهور غفير من القبط والأروام ونصارى الشام وتجار الإفرنج وبعض المسلمين ممن كانوا يتعاونون مع الفرنسيين، بيد أن الجبرتي يذكر أنه بعد مرور نحو شهر من خروج هؤلاء المهاجرين إلى القاهرة "حضرت جماعة من عسكر القبط الذين كانوا ذهبوا بصحبة الفرنساوية، فتخلفوا عنهم ورجعوا إلى مصر".
ومعنى ذلك أن جزءًا من عسكر الفيلق القبطي التابع للمعلم يعقوب تراجع عن قرار الهجرة وقرر البقاء في مصر. ومما ساعد على ذلك حرص العثمانيين على تكرار المناداة بالأمان وإشاعة جو من التسامح والتجاوز عن الماضي وبدء صفحة جديدة في العلاقات بين مختلف طوائف السكان. وكان العثمانيون يهدفون من وراء هذه السياسة إلى اكتساب تأييد أهل مصر جميعًا، ومنع وقوع أي منازعات طائفية تضرُّ بأمن البلاد.
ويذكر الجبرتي أنه بعد مرور شهر من توقيع اتفاقية الجلاء عن القاهرة "نُودي بأن لا أحد يتعرض بالأذية لنصراني ولا يهودي، سواء كان قبطيًّا أو روميًّا أو شاميًّا؛ فإنهم من رعايا السلطان، والماضي لا يعاد".
ولم تكن إذاعة هذا الأمان مقصورة على القاهرة، ولكنها شملت عددًا من أقاليم الوجه البحري والقبلي، وهو الأمر الذي سمح للأقباط بالعودة مرة أخرى إلى مزاولة وظائفهم الإدارية والمالية.
أما المعلم يعقوب فلم يتراجع عن قرار الهجرة إلى فرنسا، وقد رافقه من أسرته والدته وزوجته وابنته وأخوه حنين، وابن أخته غبريال.
ومن الجدير بالذكر أن السلطة العثمانية أرسلت إلى القائد الفرنسي بليار تطلب منه أن يحاول إقناع المعلم يعقوب بالبقاء في مصر لتنتفع بخبراته المالية والإدارية، ولكن المعلم يعقوب رفض البقاء رفضًا قاطعًا؛ لأنه خشي أن تكون دعوة العثمانيين له بالبقاء مؤامرة قد تودي بحياته؛ جزاء خيانته لوطنه وأمته إبان الاحتلال الفرنسي.
وفي العاشر من شهر أغسطس أبحرت السفينة الفرنسية "بالاس" تحمل على متنها فيمن تحمل المعلم يعقوب ورفاقه. وبعد إقلاعها بيومين نزل عقاب السماء بالخائن يعقوب، حيث أصيب بحمى شديدة ومات في عرض البحر بعد أربعة أيام. وظلت جثته على ظهر السفينة حتى مرسيليا حيث دفن هناك.
المراجع:
- عبد الرحمن الجبرتي: عجائب الآثار في التراجم والأخبار، تحقيق: د. عبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة 2003م.
- د. أحمد حسين الصاوي: المعلم يعقوب بين الأسطورة والحقيقة، القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، سلسلة ذاكرة الكتاب 2009م.
- شفيق غربال: الجنرال يعقوب والفارس لاسكاريس ومشروع استقلال مصر في سنة 1801م، القاهرة، دار الشروق، ط. الأولى 2009م.

المصدر: كتاب (المجرمون المائة أولهم قابيل وآخرهم مبارك)، مكتبة مدبولي الصغير - مصر،  2011م. 

الأربعاء، 12 ديسمبر 2012

المؤامرة الأمريكية تستهدف تفكيك الجيش المصري أيضا


المؤامرة الأمريكية تستهدف تفكيك الجيش المصري أيضا

 بقلم: عامر عبد المنعم
 
المؤامرة الأمريكية الانقلابية الدائرة الآن لا تستهدف الإسلاميين فقط، وإنما الأهم هو توريط الجيش في الصراع السياسي واستدراجه للنزول إلى الشارع، في دائرة العنوف العنف المضاد والقتل لتفكيكه والقضاء عليه. فالجيش المصري هو الجيش العربي الوحيد الذي لازال بقوته في دول المواجهة مع الكيان الصهيوني.
الحقيقة أنه لا يوجد انقسام كما يحاول الاعلام المتأمرك تصويره.. نحن أمام أقلية سياسية ترفض معظمها الصندوق الانتخابي، وترفض الاحتكام للإردادة الشعبية، وتشعل العنف وتبرر القتل لإعطاء انطباع بأن مصر في حالة فوضى لاستدعاء الجيش والانقلاب على الشرعية.
العنف الذي شاهدناه مفتعل ومأجور، تقف خلفه عناصر تنتمي للنظام السابق، ولا يوجد تأييد شعبي لمحاولة الانقلاب الفاشلة التي لم تتوقف حتى الآن، وبالتالي فإن تحريض الجيش للنزول إلى الشارع من ذات القوى السياسية التي كانت تطالب بالأمس بإبعاد الجيش عن السلطة يؤكد ما كتبناه من قبل حول المخطط الأمريكي الذي تم تدريسه لكثير من المجموعات الشبابية المنتمية لأحزاب وحركات مصرية، بزعم أنه نظريات جديدة للخلاص من الديكتاتورية (كتب اليهودي جين شارب)، والذي يهدف إلى إبعاد العسكريين والأحزاب الأيديولوجية (الإسلاميين) عن السلطة بزعم أنهم يدعمون الديكتاتورية.
وإذا كان الجيش المصري قد نجا من المحرقة التي كانوا يتمنون، بتفكيك المجلس العسكري القديم، فإن المؤامرة الانقلابية الجارية لإسقاط الرئيس محمد مرسي تهدف إلى استدعاء الجيش مرة أخرى للنزول إلى الشارع، لتوريطه هذه المرة في صراع مع الاسلاميين، للخلاص من الإثنين معا.
الجيش عندما نزل الشارع في ثورة يناير كان مع الشرعية، حيث سقطت شرعية الرئيس المسجون حاليا حسني مبارك، ورغم ذلك تحملت المؤسسة العسكرية الكثير من الاستنزاف، وفقدت بعض هيبتها، ووجدت نفسها في خصومة –بدرجات متفاوتة- مع أطراف عديدة، وأنقذ الجيش نفسه بتسليم السلطة للرئيس محمد مرسي بعد انتخابات وصلنا إليها بعد سلسلة من الصدامات والمليونيات.
هذه المرة فإن الشرعية مع الرئيس المنتخب، ونزول الجيش إلى الشارع -كما يتمنى أصحاب المؤامرة الانقلابية- سيكون ضد الشرعية، وسيكون في مواجهة مع التيار الاسلامي بكل قطاعاته، وهنا سيكون الوطن كله في حالة تحارب ستأكل الجميع.
ما يحدث بالغ التعقيد، ولكن أخطر ما يحيكه أعداء الوطن هو استخدام العنف في بيئة يسيطر عليها إعلام محرض يخدم المؤامرة، يعمل على تغليب الصدام والتعارك على المسالمة والتوافق، ويحرض على القتل كوسيلة لحسم الخلاف السياسي.
هذا المناخ المرتبك قد تستغله جهات تابعة للموساد وأمريكا لتوجيه ضربات في كل الاتجاهات حتى يشك الأخ في أخيه ويدب الخراب وتشتعل النيران.
على كل العقلاء أن يرفضوا العنف والقتل وسفك الدم الحرام ولا يبرروا الإجرام أو يسوغوا أسبابه.
 علينا أن نحسم خلافاتنا عبر الصندوق الانتخابي واحترام الإرادة الشعبية.
وعلى الجيش والشرطة أن يحموا الشرعية، والشرعية هنا هي الإرادة الشعبية الممثلة في الرئيس والمؤسسات المنتخبة.
وعلينا ان نستعد للاستفتاء لحسم الخلاف ونرتضي الاختيار الشعبي أيا كان، سواء بنعم أو لا.

الثلاثاء، 11 ديسمبر 2012

في أنها مباراة بين الهواة في ملعب السياسة

في أنها مباراة بين الهواة في ملعب السياسة

فهمي هويدي
رغم أننا لا نعرف نهاية للشوط الأول من مباراة ما بعد الثورة، فإن خبرة الأسابيع الثلاثة الأخيرة زودتنا بكم من الإشارات والملامح الدالة التي تستحق القراءة، قبل أن ننتقل إلى الشوط الثاني الذي أرجو أن يكون أفضل.
(1)
لا مفر من التذكير بأن ما تشهده مصر من توتر وتجاذب وصراعات يظل قليلا من كثير عرفته مختلف الثورات على مدى التاريخ، بالأخص في فترات الانتقال التي يخرج خلالها المجتمع من تحت أنقاض النظام القديم، ويسعى جاهدا للخلاص من أصدائه وتشوهاته، وهى معاناة تزداد آلامها حين يصبح النظام الجديد حلما لا ترى ملامحه، وروحا تسري في جسد مثخن بالجراح. لكنه يظل مفتقدا للطبيب الثقة الذي يداويه. ينطبق ذلك على الثورة المصرية التي لا تزال جسما بلا رأس، بعدما فشلت محاولات زراعة رأس له. وأثبتت تجربة العشرين شهرا الماضية أن كل الرؤوس التي ركبت على الجسد كانت أصغر منه.
"بلغ الاستقطاب بين الإسلاميين والآخرين حدا ألغى كتلة الوسط, الأمر الذي قسم البلد بلدين على الصعيد الفكري والسياسي"
لقد أثبتت التجربة أن المعركة ضد النظام المستبد أسهل وأهون وأقل كلفة من العراك بين الرفاق. إذ كان من اليسير حسم الأمر مع نظام مبارك خلال 18 يوما، لكننا فشلنا في أن نسوي ما بيننا منذ نحو عشرين شهرا. إذ في حين بدأنا بحماس عارم عبرت عنه يد واحدة، فإننا تحولنا خلال تلك الأشهر إلى فكر مشتت وعضلات تتصارع. وليت الأمر وقف عند حد الاختلاف، لكنه تطور وتحول إلى ما يشبه الطلاق. الذي قد يتعذر في ظله استمرار العيش تحت سقف واحد.
أسوأ من ذلك أن الخلاف لم يكن سياسيا، لكنه بدا أعمق وأكثر تجذرا، حين اصطف الإسلاميون في جانب، واحتشد الآخرون باختلاف هوياتهم الفكرية السياسية والدينية في الجانب المقابل. وبلغ الاستقطاب حدا ألغى كتلة الوسط. الأمر الذي قسم البلد بلدين على الصعيد الفكري والسياسي.
وصرنا أقرب إلى الواقع اللبناني بنظامه الطائفي المهيأ للانقسام، الذي توزع الناس فيه بين فريق استظل بجماعة 14 آذار وأخر انتسب إلى ما سمي تجمع 8 آذار. ولأنه لا تكاد توجد مؤسسات أو أوعية حقيقية للحوار المجتمعي في مصر، فإن التجاذب انتقل إلى الشارع وإلى شاشات التلفزيون.
(2)
لأن الأجواء الإيجابية تستخرج من الناس أفضل ما فيهم، فإن الانقسام المختلط بالاحتقان أحدث العكس، حيث استخرج من المجتمع سيئات لم تكن تخطر على البال. إذ استسلمت النخبة للاستقطاب وتوزعت على المعسكرين المتجاذبين، وبالتالي فإنها صارت جزءا من المشكلة. وبدلا من أن يظل المثقف ضمير وطنه، فإنه صار في ظل حدة وعمق الاستقطاب الراهن لسان جماعته أو فريقه.
ليس ذلك وليد لحظة الأزمة الراهنة بطبيعة الحال، لكنه ظهر بوضوح منذ طرح الاستفتاء على التعديلات الدستورية في شهر مارس/آذار من العام الماضي (2011)، الذي كان بمثابة أول اختبار لتبيان موازين القوى الحقيقية في مصر العائدة إلى السياسة بعد طول حجر وتغييب. بل إن مقدمات الاستقطاب ظهرت منذ تشكلت لجنة التعديلات، وكان على رأسها مسلم ملتزم وغيور على دينه هو المستشار طارق البشري وتبين أن من أعضائها السبعة قانوني إخواني هو الأستاذ صبحي الصالح.
وقد أثار وجود الاثنين بين السبعة امتعاض العلمانيين واليساريين وغلاة الليبراليين، الذين اعتبروا البشري "مشبوها" (ألا يستحق الرجل اعتذارا منهم الآن بعدما أثبتت مواقفه أنه فوق الشبهة، وأصبح الذين اتهموه بالأمس يمتدحونه ويستشهدون بآرائه اليوم؟). أما الثاني فقد صار متهما ومدانا، ولم يغفر له أنه كان عضوا في اللجنة التشريعية بمجلس الشعب الأسبق.
ما يحدث الآن في مصر تجاذب وصخب مطابق لما شهدناه أيام الاستفتاء، وإن اختلف في الدرجة وأساليب الاشتباك. فالنخبة التي اصطفت ضد التعديلات هي ذاتها التي تخاطب المجتمع الآن، والإعلام المناهض والمحرض لم يغير من سياسته. أما الجديد في الأمر فهو أن شارع المدينة أصبح طرفا في الاشتباك، مع ما ترتب على ذلك من أحداث عنف مؤسفة ومحزنة.
توالت بعد ذلك المفاجآت، بعدما ظهرت نتائج الاستفتاء وكانت نتيجة انتخابات مجلس الشعب مخيبة لآمال الفريق الآخر، إلى أن فاز أحد القياديين في الإخوان برئاسة الجمهورية. ومنذ ذلك الحين حدثت تطورات كثيرة غيرت من ملامح البيئة السياسية في مصر.
(3)
"ظهر فلول النظام بوضوح في الساحة السياسية في إعلان مبطن عن أن سقوط مبارك لم يؤد إلى القطيعة مع نظامه الذي لا تزال له امتداداته"
إذا حاولنا أن نرصد أهم تلك الملامح فسوف نجد أن أبرزها ما يلي:

* هيمن الصراع بين الفريقين على الساحة السياسية، ولم تتمكن كتلة شباب الثورة من أن تؤسس منبرا مستقلا يعبر عنها، وحين تشتتت وتوزعت على عديد من الجماعات والائتلافات فإن حضورها ضعف كثيرا إلى أن ذابت في الصيغ التقليدية.
* تطور الصراع بين العلمانيين والإسلاميين (حرص الأولون على تقديمه بحسبانه صراعا بين القوى المدنية والدينية) من صراع حدود إلى صراع وجود كما يقال. أعني أنه كان تنافسا بين الفريقين على إثبات الحضور في الساحة، ثم أصبح مؤخرا صراعا استهدف إقصاء الآخر وإخراجه من الساحة. تجسد ذلك الأصوات التي ارتفعت مؤخرا والتي دعت إلى إسقاط النظام، وإشهار بطاقة الطرد الحمراء في وجه الرئيس محمد مرسي، كما تجلى في الهجوم على المقر الرئيسي للإخوان والعديد من المقار الفرعية.
في غمرة مساعي الإقصاء ومحاولات إنهاء الوجود وقع بعض السياسيين في المحظور. فمنهم من دعا إلى تدخل الجيش لإنهاء الصراع، ومنهم من أبدى ترحيبا بالتحالف مع فلول النظام السابق لمواجهة الإخوان الذين اعتبروهم "خصما مشتركا" للاثنين. الأمر الذي عبر عن الاستعداد للتضحية بالثورة ذاتها من أجل الفوز على الطرف الآخر.
* تورط الطرف الإسلامي في محظور آخر، تمثل في إقحام الهوية الدينية في الصراع الذي هو سياسي بالأساس. إذ اعتبروا أن الاشتباك معهم أو معارضتهم موجهَين ضد الإسلام، فيما بدا أنه نوع من التكفير السياسي. وكانت "مليونية" الشريعة والشرعية التي نظمها الإسلاميون في ميدان نهضة مصر بمثابة تجسيد لذلك الخطأ.
* ظهر فلول النظام بوضوح في الساحة السياسية في إعلان مبطن عن أن سقوط مبارك لم يؤد إلى القطيعة مع نظامه الذي لا تزال له امتداداته. ورأينا أن الفلول تشجعوا وسعوا إلى تشكيل حزب سياسي، ويبدو أن التشجيع لم يكن مصدره ما حدث في الداخل من هرج وخلط للأوراق فحسب، ولكنه يستند أيضا إلى بعض الأطراف العربية التي لها موقفها السلبي من الثورة.
* ظهر القضاء -بعض المعبرين عنه على الأقل- طرفا في الساحة السياسية، وكانت سابقة حل مجلس الشعب بصورة متعسفة استنادا إلى حيثيات حكم للمحكمة الدستورية شاهدا على ذلك، الأمر الذي فتح الباب للطعن في مختلف محاولات تأسيس النظام الجديد وعرقلة تقدمه. وكان موقف نادي القضاة الأخير من قرارات رئيس الجمهورية نموذجا آخر للتسييس، الذي أفقد القضاء حياده، بل أفقده أيضا وقاره حين استخدم المعبرون عن القضاة لغة هابطة أثناء الاشتباك مع السلطة.
"الكنيسة الأرثوذكسية دخلت حلبة التسييس، وتبنت مواقف وتحيزات بدت خلالها طرفا في الاستقطاب السياسي وتخلت عن دورها كقيادة روحية"
الكنيسة الأرثوذكسية دخلت بدورها حلبة التسييس، وتبنت مواقف وتحيزات بدت خلالها طرفا في الاستقطاب السياسي وتخلت عن دورها كقيادة روحية. وهو ما تجلى في انسحابها من الجمعية التأسيسية للدستور، ودخولها طرفا في معترك معارضة رئيس الدولة ودعوتها إلى مقاطعة الاستفتاء على الدستور. بل إن الكنيسة دخلت في الاصطفاف حدا دفعها إلى الاعتذار عن عدم استقبال مرشد الإخوان حين أراد تهنئة البطريرك الجديد بتوليه منصبه.
* في خضم صراعات نخبة المثقفين والسياسيين، تراجع الاهتمام بمشكلات المجتمع ومعاناة الناس، وأصبح اهتمام النخب بتسجيل النقاط في مواجهة خصومهم وتسابقهم على الأنصبة والحظوظ، مقدما ومنفصلا عن المشكلات الحياتية للجماهير، غير المعنية بكل ما يتصارعون حوله.
(4)
في عالم الرياضة يقسمون الفرق درجات بمعيار التفوق والكفاءة، كما أن المحررين الرياضيين والنقاد اعتادوا أن يختموا استعراضهم للمباريات بإعطاء علامات للاعبين. وقد خطر لي أن اقتبس الفكرة في التعليق على المباراة الجارية بالساحة السياسية المصرية، واضعا في الاعتبار أن المباراة لم تنته بعد وأنها لا تزال في شوطها الأول.
من هذه الزاوية أزعم أننا بصدد فريق التحق حديثا بدوري السياسة، ولم يتحدد بعد موقعه وترتيبه بين الفرق الهابطة. أما اللاعبون فهم بين هواة دخلوا إلى الملعب مصادفة أو وجدوا أنفسهم في قلبه فجأة. وبين لاعبين تجاوزوا بالكاد طور اللعب بالكرة الشراب، وقدموا من حواري السياسة ليبدؤوا رحلتهم مع الأندية.
أعني أننا بإزاء لاعبين من الفرز الثاني أو الثالث، بعضهم من متوسطي القدرة وبعضهم يستحقون العطف والرثاء ومنهم من ينصح بالبحث عن لعبة أخرى يؤديها. وجميعهم يحتاجون إلى مدربين ودروس خصوصية مكثفة. وما أدعيه ينطبق على القوى المدنية وعلى الإخوان والسلفيين.
وجميعهم معذورون، لأنهم حديثو عهد بمثل هذه المباريات، التي حرموا منها طوال الستين سنة الماضية. لذلك أزعم أنهم مظلومون وظالمون. هم مظلومون لأنهم لم يمكنوا من النزول إلى الملعب في السابق، وظالمون لأنهم تسابقوا على حمل عبء لم يكونوا قادرين عليه. ولم يدركوا أن مصر أكبر منهم مجتمعين، ناهيك عن أنها أكبر من أي فصيل مهما كان حجمه.
ولا بد أن نعترف بأن الجميع في مرحلة "الحضانة" السياسية ولا يزالون يتعلمون أبجديات اللعبة. وقد قصدت التعميم حتى لا يدعي أحد أنه أفضل من الآخر. وإذا عنَّ لفصيل أن يدعي أنه أقدم من غيره. فإنني أذكِّر بأن بقاءه طويلا على الشاطئ ليس دليلا على أنه بات يجيد السباحة. حتى إذا كان البعض في السنة الأولى من الحضانة ووجدنا أن البعض الآخر في السنة الثانية، فذلك لا ينفي أن الجميع لا يزالون في الحضانة ولم يتجاوزوها.
"المتحدثون باسم الإخوان المسلمين كثيرا ما حالفهم عدم التوفيق في خطابهم الذي سحب من رصيد الجماعة وأسهم في تشويه صورتها"
سأتحدث عن الإخوان المسلمين باعتبارهم القوة الأكبر والأفضل تنظيما، وأزعم في هذا الصدد أنهم إذا كانوا قد نجحوا في قيادة وتنظيم الجماعة، فإنهم لم ينجحوا في قيادة سفينة الوطن. ولم يدركوا أن مصر أكبر منهم، ولذلك فإنهم لم يحسنوا الائتلاف مع غيرهم، رغم اقتناعي أن بين الآخرين من صدَّهم ورفض الائتلاف معهم. وقد خسروا حلفاءهم ونسبة غير قليلة من محبيهم خلال الأشهر الأخيرة. كما أن المتحدثين باسمهم كثيرا ما حالفهم عدم التوفيق في خطابهم الذي سحب من رصيد الجماعة وأسهم في تشويه صورتها. ثم إنه لا مفر من الاعتراف بأن اصطفافهم مع السلفيين حمَّلهم بأوزار خطايا غلاة السلفيين الذين أثاروا غضب المجتمع ونفوره.
بقيت كلمة عن الرئيس محمد مرسى الذي يقف في مقدمة اللاعبين. الذي يحسب عليه أنه خاطب رواد المساجد بأكثر مما خاطب جموع الشعب المصري، وحين تحدث إلى الجموع فإن خطابه لم يكن بالشفافية المرجوة. وتجلى ذلك في الإعلان الدستوري الذي فاجأنا به لاعتبارات وضرورات لم يكشف عنها. وتبين لاحقا أنه لم يرجع إلى مستشاريه فيه، الأمر الذي فرغ فكرة مؤسسة الرئاسة من مضمونها، وأوقعه في أخطاء كلفته الكثير.
وكان نتيجة ذلك أن عددا غير قليل من مستشاريه تخلوا عنه بعد خمسة أشهر من توليه للسلطة. كما أنه خسر مؤيديه من خارج التيار الإسلامي، الذين كان قد اجتمع بهم حين احتدمت حملته الانتخابية. واتفق معهم على أمور لم يستطع الوفاء بها. ولم يتواصل معهم بعد ذلك ليشرح لهم الظروف التي اضطرته إلى ذلك، الأمر الذي أثر سلبا على ثقتهم في وعوده.
لا أريد التسرع في تحديد علامات للاعبين، ولا أمانع في أن يفعل ذلك غيري. لكنى أذكر بأمرين أحدهما أن المباراة الحقيقية بدأت منذ خمسة أشهر فقط، بعدما تولى الرئيس السلطة. وثانيهما أن "البدلاء" الذين نراهم خارج الملعب ليسوا أفضل كثيرا، ومنهم من يجيد دور المشاهد بأكثر من إجادته لدور اللاعب.
المصدر : الجزيرة