السبت، 31 أغسطس 2019

عام في القصر:[الحلقة 15]

عام في القصر: أسرار تنشر لأول مرة عن الرئيس مرسي 

[الحلقة 15]

جاء الاستفتاءُ على الدستورِ- الذي أُجري في الداخل، في منتصف ديسمبر 2012- في ذِروةِ الاستقطابِ بين نظامِ الحكمِ، وبينَ قوى المعارضةِ.
تقرير| سليم عزوز
وكانت المعارضةُ دعت أنصارَها للتصويتِ بـ (لا)، وهي نتيجةٌ كان ينبغِي للمعارضةِ أن تَبنيَ عليها، لكنّها رفضت الاعترافَ بها، واندفعت تشككُ في نزاهتِها، ومن ثم استمرتْ في نضالِها ضدَّ الدستورِ، وإن كان الدكتورُ عبد المنعم أبو الفتوح رئيسُ حزب مصر القوية، أقرّ بالنتيجة، وطالبَ الرئاسةَ برأبِ الصدعِ.
النتيجةُ لها أكثرُ من قراءةٍ، فبحسبِ الظاهر من الأوراقِ أنَّ الرئيسَ ومن معه فازوا في هذا الاستفتاءِ، فهناك حوالي 10 ملايين و700 ألف مواطن، بنسبة 63.8 في المئة صوّتوا بـ (نعم)، في حينِ أن نسبةَ الذين صوتوا بـ (لا) هي 36 في المئة، وبعدد 6 ملايين و61 ألفاً و101 صوت.
بَيدَ أن هناك قراءةً أخرى، تتجاوزُ الظاهرَ من الأوراقِ، تؤكدُ أنّ النتيجةَ تصلحُ للبناءِ عليها، والبلادُ تستعدُّ لانتخاباتٍ برلمانيةٍ، وليس شرطاً الحصولُ فيها على الأغلبيةِ، إنّما كان يمكنُ إبرامُ تحالفاتٍ مع قوى إسلاميةٍ غيرِ الإخوان، إن لم تنجحْ وتحقّق الأغلبيةَ البرلمانيةَ هذه المرّةَ، فقد تتحققُ مستقبلاً، وربما عند إثارةِ قضايا بعينِها داخل البرلمانِ، استغلالاً لما يمكنُ أن يحدثَ من خلافٍ بين الإخوانِ وهذه الفصائلِ، لكنّ القومَ، لم يهتمّوا بالقراءةِ، فقد كان كلّ ما يشغلُهم إسقاط الدستورِ الآنَ، وبأيِ وسيلةٍ، فيقبلون بخيارِ الصندوقِ، ثم ينقلبون عليه بادعاءِ أن هناك تزويراً جرى في النتيجةِ، وهو ما توقّفوا عن ترديدِه بعد هذه المرحلةِ، فلم يصمموا على موقفِهم من حدوثِ التزويرِ!
بالقراءةِ بين نتيجةِ الاستفتاءِ هذه المرةَ، والاستفتاءِ على التعديلاتِ الدستوريةِ في سنةِ 2011، سنكتشفُ أن هناك أكثرَ من مليونِ مصريٍّ، شاركوا في الاستفتاءِ الأوّلِ وتخلّفوا عن الاستفتاءِ الثاني، حيث كانت المشاركةُ في استفتاءِ مارس 2011 هي 18 مليوناً و36 ألفاً و60 مواطناً ممّن لهم حقّ الانتخابِ، في حين أن جملةَ مَن شاركوا في استفتاءِ ديسمبر 2012، هم 17 مليوناً و558 ألفاً و317 مواطناً.
وقد انخفض عددُ الذين صوتوا بـ (نعم) في الاستفتاءِ الأولِ عنه في الاستفتاءِ الثاني بحوالَي أربعة ملايين صوت، وقد تبنّى التيارُ الإسلاميّ (سلفيون وإخوان) التصويتَ الإيجابي لصالح التعديلاتِ الدستوريةِ، فكانت نسبةُ الذين قالوا نعم في الاستفتاءِ الأولِ 77.27 في المئة. ومع عزوفِ أكثرَ من مليونٍ من الذين صوتوا في الاستفتاءِ الأول، عن التصويتِ في الاستفتاءِ الثاني، فقد زادت أعدادُ الذين صوتوا بـ (لا)، ومن 4 ملايين و174 ألفاً و187 صوتاً بنسبة 22.73 في المئة من أعدادِ الأصواتِ الصحيحةِ في استفتاءِ مارس، إلى 6 ملايين و61 ألفاً و101 صوت، بنسبة 36 في المئة في الاستفتاءِ على دستورِ ديسمبر، وبزيادةٍ في المصوِّتين بالرفض تقترب من المليونَي صوت.
وهناك إشارةٌ مهمةٌ لعدد الأصواتِ الباطلةِ أعتقد أنّها خارجَ سياقِ موضوعِنا، ففي استفتاءِ مارس لم تتعدَّ الأصواتُ الباطلةُ 171 ألفَ صوتٍ، في حين أنّها تجاوزت الـ 300 ألفِ صوتٍ في الاستفتاءِ الأخير، وقالت اللجنةُ العليا إنها استبعدت أصواتاً كثيرةً كانت صوّتت بـ "نعم" لارتكابِ أصحابِها مخالفاتٍ في ورقةِ التصويتِ، فراعت اللجنةُ ألا تُستغلَ في إبطال عمليةِ الاستفتاءِ قضائياً، وهو الإجراءُ الذي لم تقدِمْ عليه جبهةُ الإنقاذِ رغم حديثِها عن التزويرِ الذي حدث.
نصيحةُ الأمريكانِ والألمان
هذه الزيادةُ في أعدادِ الذين قالوا (لا) ليس مستبعداً أنها بسببِ اندفاعِ الفلولِ للوقوفِ مع المعارضةِ ضدّ الرئيسِ محمد مرسي، ولم تهتم جبهةُ الإنقاذ بأيِ قراءةٍ لهذه النتائجِ المبشرةِ، فقد كان الهدفُ الأكبرُ من جانبِ البرادعي هو إرباكَ المشهدِ السياسيِ انتقاماً من الرئيسِ وربما للفتِ انتباهِه بالقدرةِ على الإفشالِ، ومن جانبِ حمدين فقد كان متعجلاً الأمرَ، كما ذكرنا سابقاً، وحصولُه على المركزِ الثالثِ في الانتخاباتِ الرئاسيةِ، أفقده اتزانَه، فتعامل مع الرئيسِ على أنه عدوٌّ.
كان الأمريكانُ ينصحون الرئيسَ محمد مرسي بالاستعانةِ باثنَين: عمرو موسى والبرادعي، وقد نصحَه الألمانُ بالاستعانةِ بالبرادعي وعمرو موسى.. ويختلفُ ترتيبُ الأهميةِ من واشنطن إلى دولِ الاتحادِ الأوروبي، لكن سُمعَ الرئيسُ محمد مرسي يعلقُ على اقتراحِ البرادعي بقوله: "بِعِيدْ عن شَنَبُهْ".
لم يحدد الألمانُ أو الأمريكانُ المواقعَ المقترحةَ لموسى والبرادعي، فقد تركوا الأمرَ له، وكان واضحاً أن الرئيسَ ليس ميّالاً لهذا الاختيارِ، وربما ساعده السيسي على الرفضِ، ورأيُ قيادةِ الجيشِ في البرادعي لا يختلفُ عن رأيِ نظامِ مبارك، وهو أنّه رجلُ الغربِ، والعسكرُ بشكلٍ عام، يقبلون الدعمَ الغربيَ، ويعيشون في كنفِ المساعداتِ الغربيةِ والسلاحِ الغربيِ، لكنّ رأيَهم سلبيٌ في كلِ مَن له علاقةٌ بالقوى الغربيةِ من خارجِ دائرةِ الحكمِ، تماماً كما تتهمُ السلطةُ الحاكمةُ المراكزَ الحقوقيةَ التي تُموَّلُ من الغربِ بالخيانةِ، ولا ينسحبُ الاتهامُ عليها، وهي تتلقى التمويلَ من نفسِ الجهاتِ المانحة.
وربما لم تكن هناك معارضةٌ لعمرو موسى، الذي فكّرَ الإخوانُ في الاستعانةِ به مرّتَين، وعرضوا عليه ذلك فرّحبَ، وبعد الاستفتاءِ على الدستورِ، ورغم أنه كان قد انسحبَ من الجمعيةِ التأسيسيةِ، وصار أحدَ وجهاءِ جبهةِ الإنقاذ، إلا أنّه نُشرَ على لسانِه تصريحٌ أدلى به يوم 25 ديسمبر، يطلبُ فيه من الرئيسِ محمد مرسي بأن يشكلَ الوزارةَ الجديدةَ برئاستِه، وأن تكونَ حكومةَ طوارئ من كلّ القوى السياسية.
وقال لي أحدُ المقربين من القصرِ الرئاسيِ، في هذا الوقتِ، إنه عُرضَ على الدكتور محمد مرسي أن يجمعَ بين منصبِ الرئيسِ ورئيسِ الحكومة، وهو أمرٌ له سابقةٌ تاريخيةٌ. ويبدو أنّهم حين وجدوا تمسّكه بهشام قنديل، لم يكن أمامَهم خيارٌ إلا أن يكونَ البديلُ له هو الرئيسَ نفسَه، لعلّه يقبلُ هذا العرضَ، وقد استمعَ لذلك، ولم يبدِ اعتراضاً، وكان هذا جزءاً من طبيعتِه الشخصيةِ، فيبدو من صمتِه أنه وافقَ على كلامِ مَن يحدثُه، لكنه في الحقيقةِ لم يكنْ قد كوّنَ رأياً، أو أنّه لا يريدُ للقاءِ أن يفقدَ شكلَه الاحتفاليَ، فيحتفظُ بقرارِه ووجهةِ نظرِه، وهو ما أحدثَ مشكلاتٍ في السابقِ، عندما طالبَه حمدين صباحي، بعد لقائه في القصرِ الرئاسيِ، بحلِ الجمعيةِ التأسيسيةِ، واعتبرَ صباحي السكوتَ علامةَ الرضا. ودائماً ما كان يُفسّرُ ذلك ضده بأنه ينتظرُ قرارَ مكتبِ الإرشادِ باعتبارهِ الحاكمَ الحقيقيَ لقصر الاتحاديةِ، وهذا لم يكنْ صحيحاً.
عندما صرحَ عمرو موسى بالكلامِ عن حكومةِ طوارئٍ، كان هذا مخالفاً لخطابِ جبهة الإنقاذِ، التي تؤكّدُ أنها لا تريدُ إسقاطَ مرسي، ولكنها تريدُ إعادةَ تشكيلِ الجمعيةِ التأسيسيةِ، وفي هذه الفترةِ كانت ترفعُ صوتَها بالمطالبةِ بإسقاطِ الدستورِ.
وقال لي المقربُ من الرئاسةِ إن معنى هذا التصريحِ أن المنصبَ عُرضَ للمرةِ الثانيةِ على عمرو موسى وأنه يمهّدُ لوجودهِ في الحكومةِ الجديدةِ: "نائب رئيس الوزراء للشؤون الخارجية"، ضمن ثلاثةٍ آخرينَ من النوابِ لرئيسِ الوزراءِ، الذي هو ذاتُه رئيسُ الجمهوريةِ، لكن التشكيلَ الوزاريَ تم بعد أيامٍ برئاسة هشام قنديل أيضاً، وبعشرةِ وزراءَ جددٍ، ليسوا أفضلَ حالاً من زملائِهم المغادرين مواقعَهم. وفي هذه المرةِ لم يصرح الدكتور محمد البلتاجي، بأنها حكومةٌ لا تعبرُ عن الثورة، كما فعل في المرةِ الأولى، ولأكثرَ من مرةٍ، فقد كانت المعارضةُ تشتدُّ في حملتِها ضد الرئيس.
معضلةُ حمدين
وبالبرادعي وموسى كان يمكنُ تفكيكُ جبهةِ الإنقاذِ، لكن ستظلُّ المشكلةُ مع حمدين صباحي، الذي اعتاد في علاقتِه بالإخوانِ، أن يأخذَ ولا يُعطي، ولم يخلصِ الإخوانُ لأحدٍ من القوى السياسيةِ الأخرى إخلاصَهم لحمدين صباحي.
لقد خاض انتخاباتِ مجلسِ الشعبِ في دائرتِه الانتخابيةِ الحامول والبُرلّس بمحافظةِ كفر الشيخ لأولِ مرةٍ سنةَ 1995، والتي نافسه فيها ابنُ عمته وزوجُ شقيقته في نفس الوقت، المهندسُ محمد إبراهيم عامر، وهو منتمٍ لجماعةِ الإخوانِ المسلمين، فكان طبيعياً أن يَسقطا ويفوزَ المرشحُ التقليديُ للحزبِ الوطني، وفي انتخاباتِ 2000 رعى الإخوانُ اتفاقاً بينه وبين صهره، ينصُّ على أن يترشّح حمدين هذه المرةَ ويساندَه صهرُه، على أن يترشحَ صهرُه في الدورةِ القادمةِ ويناصرَه حمدين.
وقد فاز حمدين صباحي في هذه الانتخاباتِ، لكنه أصرّ أيضاً على الترشّح في انتخابات 2005، إخلالاً بالاتفاق، وعلى إثرِ هذا قرّر المهندسُ محمد عامر خوضَ الانتخاباتِ أيضاً، لكنّ الإخوانَ أرسلوا للدائرة، موفداً منهم هو صلاح عبد المقصود، باعتبارِه زميلاً لحمدين صباحي في عضوية مجلسِ نقابةِ الصحفيين حينذاك، حيثُ أقنعَ عضوَ الجماعة وزوجَ شقيقة حمدين وابنَ عمته، بأن يُخلي له الدائرةَ للمرة الثانية، وقد فعلَ ليفوزَ حمدين بعضويةِ البرلمانِ لدورةٍ جديدةٍ، ولم يترشح صهرُه في انتخابات 2010، فقد ترشّح حمدين أيضاً في انتخاباتٍ كان قرارُ أمينِ التنظيمِ أحمد عز هو إسقاطَ جميعِ المنافسين للحزب الوطنيِ، فسقطَ حمدين صباحي من الجولةِ الأولى.
وبعد الثورةِ وعندما قال الإخوانُ إنهم سيخوضون الانتخاباتِ تحت لافتة "مشاركة لا مغالبة"، وبقائمةٍ تضمُ 44 حزباً، تقلصت إلى 14 حزباً، وتشكلت لجنةٌ لإعدادِ الكشوفِ مثّلَ فيها اليسارَ سعد عبود النائبُ السابقُ عن حزبِ الكرامة، الذي كرّس جهدَه كمندوبٍ عن حزبِه وليس عن اليسارِ عموماً، كان قرارُ الإخوانِ هو أن كل حزبٍ يرشحُ خمسة فقط للقائمة، ثم تم استبعاد حزب الأحرار، واكتفوا بخمسة مرشحين لحزبِ العمل، والأحرار والعمل هما الحزبان اللذان بينهما وبين الإخوان تاريخٌ مشتركٌ، حيث شكل الحزبان والجماعةُ التحالفَ في انتخابات 1987، وخاضوا الانتخاباتِ على قائمة حزب العمل، ورفضَ القائمون على التحالفِ الجديدِ طلبَ الرجلِ الثاني في حزبِ العملِ الحاجِ عبد الحميد بركات بالترشحِ في مسقطِ رأسِه بمحافظة المنيا، فانسحبَ من العمليةِ الانتخابيةِ، وكان الرجلُ هو مسؤولَ التنظيمِ بالحزبِ في انتخاباتِ 1987، وعندما تمّ تذكيرُ الدكتورِ عصام العريان بذلك، قال مُحتدّاً ومُتعالياً: "هذا كان زمان." في إشارةٍ لا تخطئُ العينُ دلالتَها. وإن كان العريان هو من أعادَ حزبَ العمل للتحالفِ الجديدِ عندما انسحبوا منه لمماطلةِ الإخوانِ في إعلانِ كشوفِ المرشحين وتركِها لآخرِ لحظةٍ قبل إغلاقِ بابِ الترشيحِ، بحسبِ شهادةِ ممثلِ الحزب في التحالفِ الدكتور مجدي قُرقُر.
ومع ذلك كان عددُ المرشحينَ من حزبِ الكرامةِ على قائمةِ التحالفِ الجديد، ليس خمسة مقاعدَ، ولكن خمسةَ عشرَ مرشحاً في مواقعَ متقدمةٍ بالقائمة، وعندما اختلف سعد عبود في اجتماعاتِ التحالفِ التي كانت بالرئاسة الصوريةِ للدكتور وحيد عبد المجيد، والرئاسةِ الفعليةِ للدكتور محمد البلتاجي، انسحبَ من الاجتماعاتِ، وكان حمدين صباحي في الخارجِ، فعاد من مطارِ القاهرةِ إلى مكتبِ الإرشادِ وما أراده تمت الموافقةُ عليه، وقد نجح للكرامة ستة من المرشحين، بينما لم ينجح للعملِ سوى مرشحٍ واحدٍ هو الدكتور مجدي قُرقُر، وكُتبت الإعادةُ لمرشحٍ آخرَ هو سيد منصور كان ترتيبُه الرابعَ بقائمةِ ميت غمر، ولم يُكتبْ له الفوزُ، ويرجعُ فوزُ هذا العدد للكرامةِ، بالمقارنةِ بحزبِ العمل (الشريك في التحالف القديم)؛ لأن عددَ المرشحين عن "الكرامة" أكثرُ، ولأنهم في مواقعَ متقدمةٍ بالقوائمِ، ومن بينهم كمال أبو عيطة الوزيرُ في مرحلةِ ما بعد الانقلابِ، وأمين إسكندر، ومحمد منيب.
صفقةُ شفيق- حمدين
لقد كانت علاقةُ حمدين بالإخوانِ، أن يأخذَ دونَ أن يُعطي وكانوا كرماءَ معه، والكرمُ ليس من طباعِهم، فأرادَ أن يستمرّ في مسيرةِ الأخذ.
فإذا لم يكن مطروحاً أن يعتبرَه الإخوانُ مرشحَهم الرئاسيَ، فقد كان مُنتظراً منه أن يسلّمَ نفسَه لقيادة الجماعةِ بعد سقوطِه في الجولةِ الأولى رداً للجميلِ، لكنه أعلنَ الحربَ عليهم من أول لحظةٍ، وطالبَهم بالتنازلِ له لإثباتِ انحيازِهم للثورةِ، وهو موقفٌ غريبٌ، فلم يكن هو رمزاً للثورة أو أحد أيقوناتِها، ولم يكن الدكتور محمد مرسي من خارجِ الصفِ الثوريِ، فقد كان من الذين قادوا الاتجاهَ للمشاركةِ فيها داخلَ الجماعة، ليتمّ القبضُ عليه ضمنَ ستةٍ من أعضاءِ مكتبِ الإرشاد، و500 من أعضاءِ الجماعةِ بالمحافظات هم الذين تزعموا هذا الاتجاهَ، وذلك في ليلة جمعة الغضبِ، كما أن مرسي وإن كان قد تزاملَ مع حمدين صباحي في برلمان 2000- 2005، فالمقارنةُ في الأداءِ وفي الموقفِ المعارضِ في مجلسِ الشعبِ ستظلمُ حمدين كثيراً، الذي لا يستطيع أن يذكرَ موقفاً جاداً له داخل المجلسِ، فلم يتقدم فيه باستجوابٍ لوزيرٍ، أو بطلبِ إحاطةٍ ضد مسؤولٍ.
كان حمدين وأنصارُه ينامون ويستيقظون على نغمةٍ واحدةٍ: "حمدين هَيعِيد"، ولم تكن رغبةً وإنما قرارٌ، فعلى الإخوان أن يسحبوا مرشحَهم ليسمحوا لحمدين بأن ينافس مرشحَ الدولة العميقةِ الفريقَ أحمد شفيق.
ومن الناحيةِ القانونية فإن هذا ضربٌ من الخيالِ، لأن بابَ التنازلات قد أُغلقَ، والتنازلُ سيكونُ سياسيّاً، ولا يسمح لحمدين قانوناً بالإعادةِ، ومع هذا فإن الدكتورَ محمد مرسي إذا تنازلَ فإنه يكون قد مهّد الطريقَ للنجاحِ المريحِ لشفيق، فهل هذا ما كان يريدُه حمدين صباحي؟!
لقد رشَحت أنباءٌ عن أن حمدين لم يكن بعيداً عن الفريقِ شفيق، واعترف الفريقُ نفسُه بأن المخرجَ السينمائيَ خالد يوسف زاره لإبرامِ صفقةٍ لصالح حمدين، يصبحُ بمقتضاها نائباً للرئيس في حالِ فوزِه، مقابل التصويتِ لصالحِه، لكن شفيق اشترطَ إعلانَ هذا، ولم يكن في مقدورِ حمدين صباحي أن يفعل!
وتصادفَ هذا الإعلانُ من جانبِ شفيق مع وجودِ خالد يوسف في الخارجِ، الذي أعلن من "غربته" أنه سيردُّ على كلامِ الفريقِ أحمد شفيق عقب عودتِه، مع أن وسائلَ التواصلِ الاجتماعي سهلت الأمرَ، وكان يمكنُ أن يردَ من هناك، لكنه قال إنه سيفعلُ عندما يعودُ لمصرَ ويعقدُ مؤتمراً صحفياً، وهو المؤتمرُ الذي لم ينعقدْ، حتى الآنَ!
لقد ذكر حمدين صباحي أنّ الرئيس محمد مرسي عرض عليه منصبَ رئيسِ الوزراءِ (بعد سجن الرئيس)، فأراد بذلك أن يزكّي نفسَه ولم ينتبهْ إلى أنّه يقدمُ خدمةً لخصمِه الذي اتهمته المعارضةُ بأنه لم يشأ أن يشركَ أحداً معه في الحكمِ، وأنه أخْونَ الدولةَ.
ومهما يكن، فما ذكره حمدين صباحي غيرُ صحيحٍ جملةً وتفصيلاً، فلم يُعرض عليه شيءٌ من هذا من قبلِ الرئيس، وظنّي أنه يقبلُ منصبَ نائبِ الرئيسِ للفريقِ أحمد شفيق، إلا أنّه لن يقبلَ أن يكون نائباً للرئيس مرسي، فوجودُ شفيق رئيساً يعدّ أمراً مقبولاً ويتفقُ مع سياقِ نصفِ قرنٍ من الحكم العسكريِ، لكنّ فوزَ الدكتور مرسي فتحَ شهيةَ كثيرين للمنصبِ، وكان كل ما يريدُه حمدين انتخاباتٍ سريعةً، تمكنُه من الفوزِ بمنصبِ رئيسِ الجمهوريةِ، وليس عنده استعدادٌ للانتظارِ حتى انتهاءِ ولايةِ الرئيس.
ومن هنا، فإذا كانَ من السهلِ احتواءُ عمرو موسى ومحمد البرادعي (لأن تحقيق طموحهما في الاستطاعة)، فقد كان حمدين هو المعضلةَ، لكنه بدونِهما لن يكون أكثرَ من صفرٍ على الشمالِ، فوجودُ البرادعي بالذات، هو ما أعطى لجبهةِ الإنقاذِ قيمةً دوليةً. وحمدين كان بأقلّ قصفٍ إعلاميٍ، لا يملكُه الإخوانُ سينتهي، فقد كان يكفي استدعاءُ ملفِ النفطِ مقابل الغذاءِ في الحربِ على العراق، وهو الملفُ الذي لم يتم إطلاعُ الرأيِ العام عليه، لكنّ الطرفَ الآخرَ لم يبتعد عن هذا لتمسكِه بالأخلاقِ الحميدةِ، ولكن لحساباتِه الخاطئةِ، وقلةِ حيلتِه، وهوانِه على الناس، وظنِّه أن كلَّ هذا ليس أكثرَ من "زوبعة في فنجان".
ولأنه لم يتم تفكيكُ جبهةِ الإنقاذِ، وكان هذا متاحاً وميسراً، ولأنّ المصائبَ يجمعن المصابينَ، ولأن معضلة حمدين تورّمت، فقد استمرّت الأزمةُ، بعد إعلانِ نتيجةِ الاستفتاءِ، وإن كانت هناك مشاكلُ أخرى تفجّرت، هي مشكلةُ القضاءِ بعد حصارِ أنصارِ الشيخ حازم أبو إسماعيل المحكمةَ الدستوريةَ، ولم يكن هذا حصارَه الوحيدَ، فقد حاصرَ بعد ذلك مباشرةً مدينةَ الإنتاجِ الإعلاميِ، وقد أفاد الحصارُ في الحالتين الحكمَ بدرجةٍ كبيرة.
لقد كان معروضاً على المحكمةِ الدستوريةِ حلُّ الجمعية التأسيسية، وكانت المعارضةُ تنتظرُ هذه الخطوةَ، وتعمل على تعويقِ الجمعيةِ في أداءِ مَهمتها، لتمكينِ المحكمة من إصدارِ الحكمِ، وهذا جزءٌ من ثورتِها على الإعلانِ الدستوري الذي حصّنها من الحلِ بحكمٍ قضائيٍّ، الأمرُ الذي دفعَ بجهاتٍ عدةٍ من بينها نادي القضاةِ إلى رفضِ هذا الإعلانِ، وهذا خارجُ الاختصاصِ الوظيفيِ للقاضي.
لقد حلت المحكمةُ الدستوريةُ مجلسَ الشعبِ، وهو الذي شكّلَ الجمعيةَ التأسيسيةَ، لكنّ هناك حكماً قديماً للمحكمة  بعدم دستوريةِ قوانينِ الانتخاباتِ- ونتج عن ذلك حلُّ المجلس ثلاثَ مراتٍ- أكّد على أنّ كلَّ ما اتخذه البرلمانُ من قراراتٍ وما أصدره من قوانينَ ونحو ذلك قبل حكمِ المحكمةِ، صحيحٌ، ولا يمتدُّ الحكمُ إلى ما نتج من آثارٍ، لكن لا شيء مضموناً في زمنِ الفتنة، وقد اختلطت الأوراقُ والتفت الساقُ بالساقِ، فلم يكن يحدثُ الفرزُ بين القاضي والناشطِ السياسي، أو بين ما هو ثوريٍ وما هو قانونيٍ، أو بينَ البرادعي باعتبارِه مُنتمياً لثورةِ يناير، وبين سامح عاشور بوصفِه منتمياً بالروحِ والممارسةِ للثورةِ المضادة.
والأمرُ هنا ليس محكوماً بالقانون، فكما سبق أن أوضحنا فليس من سلطةِ المحكمةِ الدستوريةِ إلا أن تظهر مدى دستوريةِ النصوص المحالةِ لها من محكمة الموضوعِ، على أن تتركَ الأمرَ لمحكمة الموضوعِ هي التي تفصلُ فيه، وحلُّ المجلسِ هو قرارُ محكمةِ القضاءِ الإداريِ، وليس من اختصاصِ المحكمةِ الدستوريةِ، ومع ذلك أصدرت حكمَها بحلِّ المجلس.
وإزاءَ هذا التخوفِ من صدورِ الحكمِ، تمَّ الإسراعُ من الانتهاءِ من مُسوَّدَةِ الدستورِ، وفي يومِ نظرِ الدعوى كان أنصارُ الشيخ حازم يُحاصرون المحكمةَ الدستوريةَ، لينتقلوا إلى مدينةِ الإنتاجِ الإعلامي بعد ذلك فحاصروها لعدةِ أيامٍ، في فترةِ الانتهاءِ من إجراءاتِ تحديدِ موعد الاستفتاء، وقد أضرّ هذا بموقفِ حكمِ الرئيس مرسي، وأفاده في نفسِ الوقتِ.
وكما مثّلَ حصارُ مبنى المحكمةِ الدستوريةِ العليا عمليةَ ردعٍ، حالت دون الفصلِ في دعوى حلِّ الجمعيةِ التأسيسيةِ، فقد مثّلَ حصارُ مدينةِ الإنتاجِ الإعلامي ردعاً للإعلاميين، الذين كانوا يدقّونَ طبولَ الحربِ ضد الرئيسِ، في فترةٍ حرجةٍ، ومصرُ تستعدُّ للاستفتاءِ على الدستور.
كان الإعلامُ يستبيحُ الرئاسةَ، ويدعو للفوضى، وسمعنا إعلاميين يعلنون أنّهم لا يخافون، وأنهم يقفون على خطِّ النارِ في مواجهةِ الديكتاتورِ مرسي، وبشكلٍ يوحي كما لو كان هذا هو إعلامَ الثورةِ، وليس إعلامَ الثورةِ المضادةِ، ومُعظم هؤلاء الإعلاميين كانوا يستغلون ديمقراطيةَ الرئيسِ، وإدراكَه أنه جاء بعدَ ثورةٍ، خرجت على الاستبدادِ، ولا يمكن لعجلةِ الزمنِ أن تعودَ للوراء، ولا يمكنُ قَبولُ أن مَن ينتمون - في معظمِهم- لزمنِ مبارك أن يكونوا بهذه الشجاعةِ، وهم من تنكّروا لمبارك بعد الثورةِ، وجاؤوا يخطبونَ وُدَّها مبكراً، وقد طردتهم الجماهيرُ من ميدانِ التحريرِ، كما حدثَ مع عمرو أديب ولميس الحديدي، لكنّهم الآن تنكّروا للمرحلةِ السابقةِ، ويتحدثون باسمِ الثورةِ، وقد تمّ إطلاقُ لقبِ "المتحولون" عليهم.
عندما حاصرَ أنصارُ الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل مدينةَ الإنتاجِ الإعلاميِ، أعلن "عمرو أديب" أن دمَه في رقبةِ الشيخ حازم، وتوقف عددٌ منهم عن الذهاب للإستوديوهاتِ، وبعد توقفٍ عاد إبراهيم عيسى لتقديمِ برنامجِه في إستوديو خارجَ مدينةِ الإنتاجِ الإعلامي، وذهب يوسف الحسيني إلى المعتصمين مُتقرباً ومتودّداً.
لقد تمَّ وقفُ أبواقِ الثورةِ المضادة في هذه الفترةِ، التي سبقت الاستفتاءَ على الدستورِ. وقبل الاستفتاءِ، كان قرارُ "حازمون" رفعَ الحصارِ عن مدينة الإنتاجِ الإعلامي ليتسنّى لهم المشاركةُ فيه، وقد عادوا بعد ذلكَ إلى حصارِ المحكمةِ الدستوريةِ من جديدٍ، بعد تفجّرِ أزمةٍ جديدةٍ بخصوصِ تصريحاتٍ منسوبةٍ للدكتور عصام الحداد مساعدِ رئيسِ الجمهورية للعلاقاتِ الخارجية، بأن المحكمةَ الدستوريةَ كانت في طريقِها لإصدارِ قرارٍ بحلِ الجمعيةِ التأسيسيةِ، وأنها من القوى المعاديةِ للثورةِ. وقد توجه ببيانِه للإعلامِ الغربي، ونشرَه على صفحتِه وصفحةِ المتحدثِ الرسمي باسم الرئاسةِ على "الفيس بوك"، مُشيراً إلى أنّ المحكمةَ الدستوريةَ حلّت مجلسَ الشعبِ بطريقةٍ مريبةٍ، وستحلُّ الجمعيةَ التأسيسيةَ ما دفع الرئيسَ إلى إصدارِ إعلانٍ دستوريٍ في 22 نوفمبر الماضي لتحصينِ هذه القراراتِ من تدخلِ المحكمةِ.
ووصف المتحدثُ الرسميُ باسمِ المحكمة الدستوريةِ، ونائبُ رئيسِها المستشار ماهر سامي بيانَ الرئاسة بـ "الافتراءات والمغالطات". وتساءل: لماذا لم يوجه مساعدُ الرئيس بلاغَه إلى أجهزةِ التحقيقِ المختصةِ بدلاً من مخاطبةِ الإعلامِ الأجنبي؛ بعد أن كشفَ جريمةَ تآمر المحكمةِ لحلِ "التأسيسية"!
ولم يحدد نائبُ رئيسِ المحكمة الدستورية أجهزةَ التحقيقِ المختصةَ، التي يمكنُ للرئاسةِ أن تلجأ إليها في هذه الحالةِ، ومعروفٌ أنه لا معقبَ لحكمِ المحكمةِ، ولم يرتّب القانونُ طريقاً للطعنِ في أحكامِها، فحكمُها نهائيٌّ وباتٌّ!
خدمةٌ للرئاسة
وكان الشيخ حازم، قد تجاوزَ أزمةَ منعِه من الترشحِ على خلفيةِ حمل والدتِه الجنسيةَ الأمريكيةَ، وانطلق وأنصارُه في مَهمة حمايةِ الرئيس، بدون اتفاقٍ على ذلك، فكان حصارُ الدستوريةِ، ومدينةِ الإنتاج الإعلامي خدمةً جليلةً للرئاسة، وإن مثّلت إساءةً لها باعتبار أن حكمَ الإخوان سمح بحصارِ الإعلامِ، وحصارِ القضاةِ، وإذ تقبّلت الجماعةُ منه ذلك بدون إعلانٍ، ففي مرحلةٍ تاليةٍ، ضاقت ذرعاً بتصريحاتِه ضد العسكر، وحديثِه المتواترِ عن أن هناك انقلاباً عسكرياً سيقعُ، وأنه لا يأمنُ مكرَ المجلسِ العسكري، وسخر منه الدكتور عصام العريان، وقال إن الانقلاباتِ العسكريةَ انتهت من العالمِ كلِّه، ولم يعد لها وجودٌ إلى في ذهنِ الشيخ حازم أبو إسماعيل، وفي شهر مايو 2013، أي قبل الانقلابِ العسكري، تلقى توبيخاً من قياداتِ جماعة الإخوان، اندفع على أثرِه إلى إعلانِ أنه "خارج الموضوع"، فقد بدا يائساً بشكلٍ كبيرٍ، فقد أنكر عليه قومُه تحذيرَه، وبدا بعد ذلك وكأنه فوض أمرَه إلى الله ولم يعد يعنيه شيءٌ في المشهدِ السياسيِ.
لقد أمر النائبُ العام المستشارُ طلعت عبد الله بإعادة التحقيقِ في جميعِ البلاغاتِ التي تم حفظُها ضد حازم أبو إسماعيل، ومن بينها حصارُ مدينةِ الإنتاجِ الإعلامي وإهانةُ وزيرِ الدفاع، وكلف المستشارَ هشام القرموطي، المحاميَ العامَ الأولَ لنيابةِ أمنِ الدولةِ بفتح "تحقيقات موسعة" وعاجلةٍ في الاعتداءِ على مقرِّ مباحث أمن الدولة، عقب دعوة أبو إسماعيل لتطهيرِ وزارةِ الداخليةِ.
وتلقى النائبُ العامُ بلاغاتٍ جديدةً ضد الشيخ حازم أسندها للمكتبِ برئاسةِ المستشارِ حسن ياسين لفحصِها.
إن النائبَ العامَ قد قرّر محاسبةَ الشيخ حازم بأثرٍ رجعيٍ، ربما مجاملةً لوزيرِ الدفاعِ الفريق أول عبد الفتاح السيسي، إذ وصفه الشيخ حازم بأنه "ممثلٌ عاطفيٌّ"، ليبدأ الحسابُ من حصارِه مقرَّ مدينةِ الإنتاجِ الإعلاميِ، خدمةً للرئيس محمد مرسي. كما أنه يريدُ أن يحمّله اقتحامَ عددٍ من مقار أمن الدولةِ، التي تبادل نشطاء سياسيون الاتهامَ بعد ذلك مع العسكر حول مَن قام بعمليةِ الاقتحامِ، ولم يكن يثبت أي دورٍ للشيخ حازم في هذا، وربما لو استمرّ حكمُ الرئيس محمد مرسي ومعه نائبُه العام طلعت عبد الله، لكان السِّجنُ أيضاً هو مصيرَ الشيخ حازم، على جملةِ الاتهاماتِ الموجهةِ إليه.
وطالبَ أمير بسام القياديُ بجماعةِ الإخوان "أبو إسماعيل" بالكفّ عن اتهاماتِه المرسلةِ للجيش وتوخّي الحذرِ أثناء إدلائه بتصريحاتٍ. وقال الدكتور أحمد بديع القيادي أيضاً بالجماعةِ يجبُ مراجعةُ تصريحاتِنا قبل الإدلاءِ بها، ولا ننسى أن الجيشَ حمى الثورة!
ا
حصار النائب العام
اللافت أن الذين غضبوا لحصارِ مبنى المحكمة الدستوريةِ، لم ينتبهوا لصورةٍ أخرى أكثر إثارة، حدثت في نفسِ الشهرِ وهو (ديسمبر 2012)، وهي حصارُ مكتبِ النائب العام المستشار طلعت عبد الله يومَ 17 ديسمبر، وذلك في اليوم التالي لعودةِ حصارِ "حازمون" للمحكمة الدستورية.
وقد حاصرَ مكتبَ النائب العام المئاتُ من وكلاء النيابة، على خلفيةِ اتهامِه بالطلب من المستشار مصطفى خاطر المحامي العام بمنطقة شرق القاهرة، التي يتبعُها القصرُ الرئاسي حبسَ الذين حاصروا الاتحاديةَ، وتدخله في عملِه وسيرِ التحقيقاتِ لصالح الجماعة التي يتبعُها، ولم يكن أمامَ النائبِ العام من بديلٍ أمام هذا الحصار- الذي وقعت فيه اشتباكات بين وكلاء النيابة والشرطة المكلفة بحراسة المبنى- إلا إعلان استقالتِه!
وقد خرج عليهم المستشارُ عادل السعيد النائبُ العام المساعد ليتلوا عليهم بيانَ النائب العام بالاستقالة. وقال المستشار أحمد الزند، رئيسُ نادي القضاة: "استقالة النائب العام انتصار للشرعية وبداية انفراج للأزمة".
وبعد ثلاثةِ أيام من هذا الحدثِ تراجعَ النائبُ العام عن استقالتِه، ليبدأَ عمليةَ تطهيرِ مكتبه، فأنهى انتدابَ عددٍ من المستشارين، من بينهم مساعدُه المستشار عادل السعيد، عنوانُ الدولة العميقةِ بمكتب النائب العام، والذي عاصر في نفس المكان أكثرَ من نائب عام، ومن أول رجائي العربي، إلى ماهر عبد الواحد، إلى عبد المجيد محمود، حتى أطاح به طلعت عبد الله.
و"السعيد" يستمدُّ قيمتَه في هذا الموقع، من قدرته على مواصلةِ العملِ ساعاتٍ طويلةً كل يوم، وإلمامِه بتفاصيلِ الأمورِ، وعندما تم تعيينُ عبد المجيد محمود نائباً عاماً أسرَّ لبعض الصحفيين أن أول قرارٍ سيتخذُه هو التخلصُ من هذا "السعيد"، ربما لأن الأمورَ لم تكن بينهما على ما يرام، عندما كان "عادل السعيد" هو همزةَ الوصلِ بين النائبِ العامِ ومرؤوسِه رئيسِ نيابة أمن الدولة العليا عبد المجيد محمود.
لكنه مع هذا استمرّ مساعداً له، ومديراً لشؤون مكتبه، فيبدو أنه استطاع سريعاً أن يؤكدَ لعبد المجيد محمود، أنه ليس لعاقلٍ أن يفرطَ فيه، ثم إنه كان يجيدُ ضبطَ الأمور مع القياداتِ السياسيةِ في البلاد، ومنصبُ النائب العام ليس موقعاً قضائياً صرفاً، فهو منصبٌ له ارتباطاتٌ سياسيةٌ مفهومة.
وعندما تم تعيينُ طلعت عبد الله نائباً عاماً، كانت كلُ التوقّعات تشيرُ إلى أن السعيد سيبقى في موقعِه، لقدرتِه على التعاملِ مع الجميعِ بذاتِ الدرجةِ من الإخلاصِ، وقد كان يمكن لهذا الأمرِ أن يستمرَّ في أجواءٍ طبيعيةٍ، فالرجلُ عندما وجدَ الأمور ليست مستقرةً، تقرب من دولتِه، وناصر وكلاءَ النيابةِ في انتفاضتِهم ضد النائب العام، ووصل هذا كلُّه للمستشار طلعت عبد الله، الذي طلب من وزير العدل إلغاءَ انتدابِه، لكنه لم يقترب من المستشار مصطفى خاطر، الذي قامَ في وقتٍ لاحق بإخلاءِ سبيلِ المتهمين بتشكيل تنظيم "البلاك بلوك"، وقد أثبتَ بحصار مكتب النائب العام قدرتَه على الحشد، وعلى إبطالِ أي قرارٍ من شأنه أن يقتربَ منه بالنقلِ أو العقاب!
لقد كانت أزمةُ النائبِ العام واحدةً من الأزمات التي شهدها هذا الشهرُ (شهر ديسمبر 2012)، والذي كان شهرَ أزمةٍ، وكان القضاءُ حاضراً فيها، سواء بمؤتمراتِ نادي القضاةِ ضد الرئيس، أو بقرارِ مقاطعةِ الإشرافِ على الاستفتاءِ على الدستور، (قال الزند إن 90 في المئة رفضوا الإشرافَ، وقالت مصادرُ أخرى إن 50 في المئة أبدوا رغبتَهم في القيام بواجبهم)، وإذ لم يرفض قضاةُ مجلسِ الدولة ذلك في الجولةِ الأولى، فقد تحدث ناديهم عن ضرورةِ المقاطعةِ في الجولةِ الثانيةِ، ثم تكرست الأزمةُ بحصارِ المحكمةِ الدستوريةِ لمرّتينِ، وجاء بيان عصام الحداد ليزيدَ الأزمةَ اشتعالاً، لكن جاء للمحكمة الدستورية ما يشغلُها.
التخلصُ من تهاني الجبالي
خلالَ هذه الفترةِ أثبت الرئيسُ قدرتَه على القفزِ للأمام، فلا يترك للقوى المعاديةِ شلَّ حركتِه، والإيقاعِ به وهو في موقعِ الثباتِ، فقد كان معارضوه يطالبون بحلِّ الجمعيةِ التأسيسيةِ، وينتظرون حلَّها بحكمٍ قضائي، فتم الانتهاءُ من مشروعِ الدستورِ، وأصدرَ الإعلان الدستوري، فلما ثاروا عليه، قام بإلغائِه، مع تثبيتِ ما أنتجه من آثارٍ، وطلبوا بعدمِ تحصين التأسيسيةِ، فلم يكن لمطلبِهم معنى بتحديد موعد الاستفتاءِ يومَي 15 و22 ديسمبر، فطالبوا بوقف الاستفتاءِ، فلم يهتم بذلك، فدعوا جماهيرَهم للتصويت بـ لا، ففازت نعم، وتحرشت به المحكمةُ الدستوريةُ فشغلها بنفسِها بنصّ المادة 233 من الدستورِ الجديدِ، وفي خُطةٍ استهدفت الإطاحةَ بقاضيةٍ خرجت على مقتضى الواجب الوظيفي وتحولت إلى ناشطةٍ سياسيةٍ، تستغلُ ثقلَها الوظيفي، لتعارضَ الرئيسَ، دون أي ردعٍ من جهة العملِ، باعتبارها قاضيةً يستوجبُ عليها القانونُ أن تكون بعيدةً عن ممارسةِ العملِ السياسيِ حفاظاً على الاستقلال المفترضِ فيمَن يشغلُ وظيفةَ القاضي.
لقد انخرطت تهاني الجبالي القاضيةُ بالمحكمةِ الدستورية العليا، في النشاطِ السياسي بعد الثورةِ، وانضمت إلى كيانٍ سياسيٍ أسّسه الناشطُ ممدوح حمزة، لكن المحكمة في ظل هذه الأجواءِ الثوريةِ أصدرت بياناً تنبّه على أعضائها بما يفرضُه القانونُ وتقاليدُ القضاء على من يعملُ في هذه المهنةِ بضرورة البعدِ عن السياسة ممارسةً وتنظيراً، وكان معلوماً لكل متابعٍ أن البيانَ يستهدفُها، فتوقفت عن ذلك لبعضِ الوقتِ، قبل أن يستدعيها المجلسُ العسكريُ لتحريضها ضد أي رأيٍ من قبل القوى السياسيةِ أو الثوريةِ التي تشاركُ في اجتماعاتِ المجلسِ، وكان معلوماً لمن يحضرون أنها تتحدث بإشارةٍ يصدرها لها الفريقُ سامي عنان، رئيسُ أركان الجيش، بطرفِ عَينِه، حتى أصبح الأمرُ يلاحظُه الجميعُ، ولم تذكّر المحكمةُ في هذه الفترةِ بالتقاليدِ القضائية.
واستمرت المستشارةُ تهاني الجبالي في هذا الاتجاهِ، تعارضُ الرئيسَ المنتخبَ، وتشتغلُ بالسياسة، وبدت رئاسةُ المحكمة موافقةً على ذلك، أو مضطرةً لغضِ الطرفِ، وقد صار هناك من يُستدعى لحضور اجتماعاتٍ سياسيةٍ من قبل المجلسِ العسكريِ!
والجبالي هي أول قاضيةٍ في مصرَ، ولأن نظامَ مبارك وبتحريضٍ من قبل السيدة سوزان مبارك كان يستهدفُ تعيينَ المرأة في وظيفة القاضي، لتخاطبَ "الهانم" بذلك العالمَ الخارجيَ، والمنظماتِ المانحةَ للمساعداتِ لمنظمتها النسوية "المركز القومي للمرأة"، وتقديم نفسها على أنها  راعيةٌ لحقوق المرأة في مصرَ، ونظراً للنظرةِ المحافظةِ في السلكِ القضائي، فكانت المحكمةُ الدستورية العليا، هي خيارَها التكتيكيَ للقيام بهذه المَهمة، لاسيما مع وجودِ رئيسِها الجديدِ المستشارِ فتحي نجيب، الذي جاء لموقعِه من خارجِ المحكمةِ وبتزكيةٍ من حرمِ الرئيس، التي كانت تعرفُه عندما كان يشغلُ وظيفةَ مساعدِ وزير العدلِ لشؤونِ التشريع، وهو الذي شارك في صياغةِ التعديلاتِ التي أُدخلت على قانونِ الأحوالِ الشخصية، وإقرار الخُلع!
لقد اختار نجيبُ تهانيَ الجبالي كأول قاضيةٍ، وبدونِ استيفاءِ إجراءاتِ التعيينِ في هذا الموقعِ، فلم يتم اختيارُها عن طريقِ مسابقة، ولم تكن قانونيةً مرموقةً، لها أبحاثٌ أو دراساتٌ في مجال القانونِ وفروعِه المختلفةِ، فقد عرَفَها المحامون من خلال انتخابِها عضواً بمجلسِ النقابةِ ممثلةً عن القطاعِ العام، إذ كانت محاميةً لجامعةِ طنطا، ولم يكن قانونُ المحاماةِ يقبل محامِي القطاعِ العام أعضاءً في النقابةِ، لكنّ نقيبَ المحامين أحمد الخواجة في اتجاهه للبقاءِ طويلاً في موقعِ النقيب، عدّل القانونَ، بما يسمحُ بضم محامِي القطاعِ العام للنقابة وهم موظفون في الأصلِ، واستحدثَ لهم موقعاً في المجلسِ، كان من نصيبِ تهاني الجبالي لدورةٍ وربما لأكثرَ، تماماً كما استحدث مقعدَين للشباب، كانا من نصيبِ الإخواني مختار نوح، والناصري سامح عاشور، وهما من  تكفلَ بهما "الخواجة" برعايتِه وصنعَهما على عينِه، وكان الثلاثي على قائمتِه الانتخابيةِ ما مكّنهم من النجاح.
ومن حسنِ حظ تهاني الجبالي، أن من تم اختيارُه رئيساً للمحكمةِ الدستوريةِ هو المستشارُ نجيب الذي يعرفُها وقد كُلف من قبل "الهانم" بالبدءِ في تعيينِ قاضياتٍ، فاختارها، في بلدٍ توجدُ فيه أساتذةٌ من النساءِ بكليات الحقوق في عمومِ الجامعاتِ المصرية.
وكان اختياراً فقط من أجل الشكلِ، فلم تكتب حكماً، ولم تشارك في كتابةِ حكم، ولم تُفتِ في مسألةٍ دستوريةٍ، وانصبَّ كل نشاطِها على المقابلاتِ التلفزيونيةِ والصحفيةِ، باعتبارها أولَ قاضيةٍ في مصرَ، وجاءت الثورةُ لتصبحَ ناشطةً سياسيةً، ونجح مرسي لتبدو كما لو كانت متحدثةً باسمِ حزبٍ من أحزابِ المعارضةِ، وليست عضواً في هيئةٍ قضائيةٍ لها وزنُها واعتبارُها.
وقرّر القومُ في السلطةِ اصطيادَها، فكانت المادة (233) من الدستور التي نصّت على: "تؤلفُ أول هيئة للمحكمة الدستورية العليا عند العمل بهذا الدستور، من رئيسها الحالي، وأقدم عشرة من أعضائها ويعود الأعضاء الباقون إلى أماكن عملهم التي كانوا يشغلونها قبلَ تعيينِهم بالمحكمة".
وإذ نُشر الدستورُ الجديدُ في الجريدةِ الرسمية يوم 25 ديسمبر، فقد عقدت الجمعيةُ العموميةُ بالمحكمةِ الدستورية جمعيتَها العموميةَ في اليوم التالي 26 ديسمبر، بحضورِ رئيسِها والقضاةِ العشرة فقط، وتغيّب المستهدفون بالإبعادِ، بحسبِ الأقدميةِ وهم ستة من المستشارين، ثلاثة عادوا لهيئة المفوضين بالمحكمة، وعاد أحد القضاة لموقعِه في محكمةِ النقض، والقاضِي الخامس عاد لموقعِه في محكمةِ الاستئناف. أما تهاني الجبالي فعادت إلى الشارعِ لتمارسَ عملَها كناشطةٍ سياسيةٍ.
وقد أقامت تهاني الجبالي دعوى قضائية أمام المحكمة الدستورية العليا، تطلب بإلغاء قرار عزلها؛ والقضاء بانعدام الشرعية الدستورية لـ "الوثيقة المسماة بدستور جمهورية مصر العربية"، وعدم الاعتداد بالأثار المترتبة عليها وعدم دستورية نفاذها، واحتياطيا بعدم دستورية الإجراءات والقرارات التنفيذية للتفسير الظاهر للنص الانتقالي رقم 233 من الوثيقة المستفتى عليها والأثار المترتبة عليها من عزل الطالبة من وظيفتها كقاضية ونائب رئيس المحكمة الدستورية العليا وستة آخرين من نواب رئيس المحكمة!
ولم توافقها المحكمة على ذلك، وقضت في حكمها الصادر بتاريخ 5 مايو 2013م، برفض الدعوى!
وهو إجراء يؤكد عدم أهليتها للموقع الذي كانت تشغله، فكيف لقاضية بالمحكمة الدستورية، أن تطلب من المحكمة بطلان الدستور أو نص دستوري، وهو خارج اختصاص المحكمة؟ وكيف لها أن تلجأ إلى المحكمة بالطريق المباشر، ولو كان بالتحايل بتقديم الطلب لدائرة الأعضاء، ولم تعد عضوة، وطلبها خارج صلاحيات هذه الدائرة، ولا تقبل المحكمة الدستورية الدعاوى من الأفراد بالطريق المباشر؟
واللافتُ أن المعارضةَ في ذِروة هجومِها على مُسوَّدةِ الدستورِ، لم تشغلْها هذه المادةُ، التي استهدفت إخراجَ تهاني الجبالي من العملِ القضائي، وربما كانت هناك رغبةٌ من قضاةِ المحكمة في التخلصِ منها، لأن تعيينَها لم يكن برغبةٍ منهم، ولأنها اندفعت في طريقِ السياسةِ بشكلٍ أثّر على مكانتِها كقاضية.
وكان هذا درساً لقدرةِ النظامِ على الفعل، لكنه فقد قيمةَ ما فعلَ لعدم الإلحاحِ عليه والتذكير به في وسائلِ الإعلامِ، تماماً كما فقد قرارُ الإطاحةِ بوزير الدفاعِ ورئيسِ الأركانِ مفعولَه لنفس السببِ وقد بدأ الإلحاحُ على أن عزلَ طنطاوي وعنان، كان باتفاقٍ بينهما وبين الرئيسِ!
وفي هذه الأجواءِ أعلن اللواءُ أحمد زكي عابدين في يوم 3 يناير، وبدون مبررٍ منطقيٍ، أن المؤسسةَ العسكريةَ لا تعرفُ التآمرَ، وأن تعيين السيسي وزيراً للدفاع تمَّ بموافقة طنطاوي!
كان التعديلُ الوزاريُ قد صدر، وبقي زكي عابدين، رغم إعلانِه الانحيازَ لنظامِ مبارك، في اليومِ الأول للثورةِ، عندما كان محافظاً لكفر الشيخ.
ما لزوم هذا التصريحِ الآن؟!
لقد أثبتت الأيامُ أنها كانت حملةً موجهةً..
ومرةً أخرى بدا الرئيسُ وحكمُه في حالة استسلامٍ كاملٍ لهذه الدعايةِ، مع أنها غيرُ صحيحة.
كانوا ينزعون عنه دليلَ قوتِه، وظن في الصمتِ تواضعاً، مع أن ثقافتَه الدينيةَ فيها أن التكبُّرَ على المتكبرِ صدقةٌ.
لمتابعة الحلقة الأولى يرجى الضغط 

عام في القصر [الحلقة الأولى]

لمتابعة الحلقة الثانية يرجى الضغط

عام في القصر:  [الحلقة الثانية]

لمتابعة الحلقة الثالثة يرجى الضغط

عام في القصر [الحلقة الثالثة]

لمتابعة الحلقة الرابعة يرجى الضغط 

عام في القصر:  [الحلقة الرابعة]

لمتابعة الحلقة الخامسة يرجى الضغط 

عام في القصر : [الحلقة الخامسة]

لمتابعة الحلقة السادسة يرجى الضغط 

عام في القصر: [الحلقة السادسة]

لمتابعة الحلقة السابعة يرجى الضغط 

عام في القصر: [الحلقة السابعة]

لمتابعة الحلقة الثامنة يرجى الضغط

عام في القصر: [الحلقة الثامنة]

لمتابعة الحلقة التاسعة يرجى الضغط 

عام في القصر:[الحلقة التاسعة]

لمتابعة الحلقة العاشرة يرجى الضغط 

عام في القصر [الحلقة العاشرة]

لمتابعة الحلقة الحادة عشر يرجى الضغط 

عام في القصر: [الحلقة 11]

لمتابعة الحلقة 12 يرجى الضغط 

عام في القصر: [الحلقة 12]

لمتابعة الحلقة 13 يرجى الضغط 

عام في القصر [الحلقة 13]

لمتابعة الحلقة 14 يرجى الضغط 

المصدر
الجزيرة مباشر

وضاقت الأرض على الداعية ذاكر نايك

وضاقت الأرض على الداعية ذاكر نايك

لقد أوتي ذاكر نايك من العلم والقدرة الذهنية والذاكرة الحديدية ما جعله التلميذ النجيب للشيخ أحمد ديدات، بل وتفوق عليه في التأثير، واتساع الدوائر التي استطاع أن يصل إليها 
عامر عبد المنعم

انقلبت الدنيا على الدكتور ذاكر نايك، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وفوجيء الداعية الهندي الشهير بحصاره ومنعه من الكلام، والتضييق عليه، وشيطنته وتشويهه، لا لشيء إلا لأنه أقنع عشرات الآلاف من غير المسلمين بدخول الإسلام.
فجأة، هاج الهنود الهندوس والصينيون البوذيون في ماليزيا ولم يحتملوا محاضراته التي أدت لاعتناق الكثير منهم للدين الإسلامي، فاتهموه بإثارة الانقسام العرقي والتحريض على الكراهية وطالبوا بطرده من البلد المسلم!
استغل الهندوس والصينيون كلمات قالها في إطار مناقشات مع أطراف تطالب بطرده مثل أن الهندوس في ماليزيا "يتمتعون بحقوق أكثر 100 مرة من الأقلية المسلمة في الهند"، وقوله إن "الماليزيين الصينيين كانوا ضيوفًا في البلاد".
هذه التصريحات المجتزئة التي نشرها الإعلام الماليزي كان يمكن أن تمر بهدوء، لأنها كلمات عادية، وقيلت في إطار الرد على حملات عنصرية من خصومه، لكن اتساع الحملة الإعلامية ودخول سياسيين صينيين وهنود شركاء في التحالف الحاكم حولها إلى معركة سياسية، أزعجت حكومة مهاتير التي أعلنت إدانة التصريحات وإحالة ذاكر نايك للتحقيق.
يبدو أن مهاتير محمد وأنور إبراهيم شعرا بخطر التصعيد واتخاذه أبعادا دولية، فطلبوا من ذاكر الاعتذار فاستجاب واعتذر، ثم قررت الحكومة الماليزية امتصاص الموجة العنصرية بمنعه من إلقاء المحاضرات العامة مع رفض مطلب تسليمه للهند التي أسقطت عنه الجنسية وتطالب بمحاكمته.
تلميذ ديدات
لقد أوتي ذاكر نايك من العلم والقدرة الذهنية والذاكرة الحديدية ما جعله التلميذ النجيب للشيخ أحمد ديدات، بل وتفوق عليه في التأثير، واتساع الدوائر التي استطاع أن يصل إليها بأسلوب منطقي وجذاب، وطريقة جديدة في الدعوة الإسلامية.
كان للقناة الفضائية التي أنشأها "السلام" تأثيرا كبيرا وتوصيل دعوته للعالمية، فهي تبث بالإنجليزية والأردية والبنغالية وأخيرا بالصينية على أكثر من قمر وعلى يوتيوب وأيضا على تطبيق على الموبايل، وأصبحت المناظرات التي يحضرها الآلاف في الساحات والميادين وملاعب الكرة يناظر فيها غير المسلمين تثير الإعجاب وتبهر مشاهديه.
استطاع ذاكر نايك الذي يحفظ القرآن والإنجيل والتوراة وكتب الهندوس وبوذا حفظا جيدا أن يقنع غير المسلمين بطريقة مبتكرة ليس فيها هجوم على الديانات الأخرى وإنما بإثبات حقيقة التوحيد وتعاليم الإسلام من كتبهم التي يقدسونها، مما حقق له الاحترام الواسع في أنحاء العالم.
تخصص ذاكر نايك في مقارنة الأديان والجدال بالتي هي أحسن، وحرص على التركيز على القضايا الروحية ولم يتبن أي مواقف سياسية، وابتعد عن تناول السياسات العالمية، وهذا جعل المواقف الغربية منه محايدة.
 فاز ذاكر نايك في عام 2015 بجائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام، وتسلم الجائزة في احتفال كبير حضره الملك سلمان، وفي هذا الحفل قرر التنازل عن قيمة الجائزة للوقف المخصص للإنفاق على القناة الفضائية، وحصل على الكثير من الجوائز باعتباره رمزا للاعتدال.
التعصب الهندوسي
نجح ذاكر نايك في مواجهة التضييق الذي تفرضه الحكومة الهندية على المسلمين بقناته الفضائية التي دخلت كل بيت، وأصبحت محاضراته مثار نقاش وجدل على المستوى الشعبي، وكان يحرص على عدم انتقاد سياسات الحكومة وعدم الحديث عن التمييز العنصري والاضطهاد الذي تعاني منه الأقلية المسلمة في الهند التي يبلغ عددها 200 مليون من إجمالي السكان الذي يزيد عن مليار نسمة.
 لكن تجنب الاصطدام لم يشفع له حيث صدر قرار من الحكومة التي يسيطر عليها حزب بهارتيا جاناتا الهندوسي المتعصب بالقبض عليه بتهمة التحريض على الكراهية واعتبار الفضائية التي يصدرها وسيلة لغسيل الأموال!
لم تقنع الاتهامات الهندية الإنتربول الدولي الذي تلقى أكثر من مطالبة رسمية بتسليمه، وأعلنت رئاسة الإنتربول في كل مرة عدم جدية الاتهامات الهندية، وطالبت الحكومة الهندية بتقديم لائحة تفصيلية بالاتهامات وإثباتات قاطعة.
ودارت عجلة المطاردة، فقررت بنغلاديش منعه من دخول البلاد واتهمته بدعم الإرهاب عقب تفجيرات وقعت بها وزعمت أن أحد المتهمين كان من مشاهدي قناته الفضائية! وحظرت حكومة سريلانكا الفضائية بعد التفجيرات التي وقعت بها مؤخرا والتي اعترف الرئيس السريلانكي فيما بعد ان تجار المخدرات هم الذين نفذوها، وأيضا قررت بريطانيا منعه من دخول أراضيها بعد ضغوط من طوائف كشف ذاكر نايك بطلان عقائدها في محاضراته.
الهنود المسلمون المنسيون
ما يجري مع الدكتور ذاكر نايك يكشف محنة المسلمين في الهند، الذين يتعرضون للاعتداءات والمطاردة منذ نجاح الاحتلال البريطاني في تقسيم القارة الهندية، فالمسلمون الذين يعيشون في أنحاء الهند ولم يكونوا ضمن خط التقسيم في باكستان يتعرضون للظلم على أيدي المتطرفين الهندوس.
ورغم أن المسلمين يشكلون نسبة تتراوح بين 15% و20% من السكان فإنهم ممنوعون من التوظيف في مؤسسات الدولة والجيش والشرطة والقضاء، وتعاني مناطقهم الفقر والأمية، ولا تتوقف المذابح التي يتعرضون لها بتشجيع من الحكومة وصمتها، والتي وصلت إلى حرق المنازل وهدم المساجد.
ومنذ استقلال الهند عام 1947 لا تتوقف عمليات تهجير المسلمين وطردهم، سواء من قراهم ومنازلهم، أو عدم الاعتراف بهم مثل ما يجري في ولاية آسام شرقي الهند، حيث نزعت السلطات مؤخرا الجنسية عن عدد يصل إلى 4 ملايين مسلم.
آخر ممارسات الحزب الهندوسي الحاكم القرار الأخير بإلغاء الحكم الذاتي لولاية كشمير ذات الأغلبية المسلمة وضمها للهند بالقوة، وتجاهل القرارات الدولية بأحقيته أهلها في إجراء الاستفتاء للانضمام إلى باكستان، وهذا يعني تفاقم الاضطهاد واستمرار معاناة الكشميريين.
لعل ما يحدث مع ذاكر نايك يفتح الملف الأصلي للمسلمين في الهند، الذين يتجاهلهم قادة الدول العربية والإسلامية، ويتركونهم يواجهون وحدهم التمييز العنصري والاضطهاد الديني، خاصة مع تصاعد الموجة العالمية المعادية للإسلام.
***
إن حصار الداعية العبقري الدكتور ذاكر نايك ومطاردته في كل الدول لمنعه من الكلام يؤكد قوة الإسلام في جذب العقول والقلوب، وأن سلطان الكلمة أقوى من كل أسلحة الدنيا، وفي  الوقت نفسه يكشف ما وصلت إليه أمتنا من الضعف، لدرجة أن الداعية المسلم الواعي المؤثر لا يجد دولة تستضيفه وتمكنه من تبليغ رسالة الإسلام.

الهجرة باقية .. ماظلت العداوة دائمة..

الهجرة باقية .. ماظلت العداوة دائمة..


د.عبدالعزيز كامل
من قال إن الهجرة ذكرى مَرَّتْ..وفضيلة انقطعت ؟!.. إنها شِرعةٌ دائمة.. وسنةٌ دائبة.. تتكرر بتكرار موجباتِها..ووجود أسبابها التي لن تنقع مادام هناك حزب للرحمن وحزب للشيطان ..
** صحيح أن هجرة سيد المرسلين ستظل أعظم معالم الطريق في نصرة الدين..وأن ما كان بعدها من هجرة أصحابه إليه قد مضى فضلها لأصحابه الأولين ، حيث (لاهجرة بعد الفتح ).. ولكن أنواعا من الهجرة بقيت مع ذلك..وستظل وارفة الظلال عظيمة الأثقال لكل الموحدين إلى يوم الدين ..
** كل مسلم لا غنى له عن هجرة..كما لا فكاك له عن جهاد ،كما في الحديث : (الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللهِ ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذَّنُوبَ ) رواه الترمذي وصححه الالباني، وفي معنى الحديث قال ابن تيمية رحمه الله : " ( الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ ) فَيُؤْمَرُ بِجِهَادِهَا ، كَمَا يُؤْمَرُ بِجِهَادِ مَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعَاصِي وَيَدْعُو إلَيْهَا ، وَهُوَ إلَى جِهَادِ نَفْسِهِ أَحْوَجُ ؛ فَإِنَّ هَذَا فَرْضُ عَيْنٍ ، وَذَاكَ فَرْضُ كِفَايَةٍ " .
** وقد قال ابن القيم في كتابه (طريق الهجرتين) ما ملخصه :
" السائر إلى الله والدار الآخرة؛ لا يتم سيره ولا يصل إلى مقصوده إلا بقوتين: قوة عِلمية، وقوة عَملية، فالبقوة العِلمية يبصر منازل الطريق ومواضع السلوك فيقصدها سائرًا فيها، ويجتنب أسباب الهلاك ومواضع العطب وطُرُق المهالك المنحرفة عن الطريق الموصل،وبالقوة العَملية يسير حقيقة، فيضع عصاه على عاتقه ويشمر مسافرًا في الطريق قاطعًا منازلها منزلة بعد منزلة، فكلما قطع مرحلة استعد لقطع الأخرى، واستشعر القرب من المنزل فهانت عليه مشقة السفر .. "
** نوع آخر من الهجرة سيظل باقيًا ما بقي الجهاد..و (الجهاد ماض الى يوم القيامة)...فهو باق لبقاء عداوة الكفار الذين قال الله تعالى عنهم : ( وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا)[البقرة/٢١٧]..
فماداموا يقاتلوننا سيظل باب الهجرة مفتوحًا لقتالهم..
أو لاعتزال فتنتهم وإضلالهم، ولهذا ثبت في الحديث أنه:(لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا قُوتِلَ الْعَدُوُّ) رواه النَّسائي بإسناد صحيح
** فما دام هناك شياطين يوسوسون وأعداء يقاتلون.. ستظل الهجرة والجهاد باقيان و ( لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها) أخرجه أبو داود وصححه الألباني..
كتب الله لنا ولكم أجور المجاهدين وبلغنا وإياكم منازل المهاجرين..

مواهب الزعيم

مواهب الزعيم


 فهمي هويدي   
بتاريخ : 2017-06-28

هذه قصة لها مغزاها العميق وقعت عليها قبل عدة أشهر، واحتفظت بها كى أستفيد منها فيما أكتب. ورغم أننى ظللت أستحضرها فى مناسبات كثيرة خلال تلك الفترة، إلا أننى كنت أتردد فى نشرها خشية التأويل وسوء الفهم. وقد وجدت فى مناسبة العيد فرصة لنشرها باعتبارها مادة من خارج الأحداث التى تضغط على أعصابنا طول الوقت. 
ومن باب الاحتياط ولقطع الطريق على الخبثاء والمتأولين أنبه إلى أن أى تشابه بين شخوصها وبين أى من النماذج المحيطة بنا يظل محض مصادفة ليس أكثر.
تتحدث الرواية عن ملاك كان مسئولا عن قبض الأرواح ثم إعادة منحها للمواليد الجدد. وقد تعرض ذلك الملاك لمأزق حيَّره ذات مرة. إذ فرغت القائمة من أسماء الذين عليه أن يحصد أرواحهم، فى حين كان لديه العديد من المواليد فى حاجة إلى روح. حينئذ لجأ إلى أحد المحتضرين ممن كانت أرواحهم ستقبض بعد وقت قصير، فاتجه إليه يستعطفه لكى يعجل بقبض روحه قبل أن يحين أجله المحدد.
بعد أخذ ورد وافق المحتضر على ذلك، لكنه اشترط أن يطلع على مصير الشخص الذى ستئول إليه روحه. فعرض عليه الملاك ما توافر لديه من بيانات المواليد الجدد، إلا أن المحتضر لم يعجب بمصير أى منهم. أخيرا أغراه الملاك بمولود قال إنه سيصير زعيما فى بلده، وهو ما أثار اهتمام صاحبنا وإعجابه، بعدما وجد أن روحه ستحل فى زعيم قادم، فقال للملاك: الفكرة ممتازة. إذ لا أشك فى أن وجهه ستحيط به هالة من نور، والزعامة منقوشة على وجهه وستظهر ملامح عبقريته وهو طفل. لكن الملاك حين راجع البيانات الموجودة لديه هز رأسه أسفا وقال ليس الأمر كذلك، إذ لن تظهر عليه تلك العلامات، لأنه ستعتريه بضع أمارات من البلاهة.
فقال الرجل المحتضر: إذا فالنباهة ستبدو عليه فى مراحل الدراسة فيما بعد.
ــ بالعكس تماما، لأنه سوف يتعثر فى دراسته، وقد يرسب فى بعض صفوفها، لذلك فإن زملاءه سوف يصفونه بالغباء.
- لابد أنه سيكون بهى الطلعة مهيب الجانب وممشوق القوام.
ــ سيكون هزيلا وعليلا ومثيرا للعطف والتهكم من قبل زملائه.
- إذا ستبدو عليه علامات الزعامة حين بلوغه ودخوله المرحلة الجامعية، فيغدو قائدا طلابيا شجاعا وملهما يلهب الرفاق حماسة.
ــ أبدا، فكثيرا ما سيحتقره زملاؤه لفرط جبنه ووضاعته.
- سيكون ذرب اللسان قوى البيان محسودا بين أقرانه.
ــ انس مسألة البيان. لأنه ما إن يتفوه بشىء حتى يثير التندر والسخرية.
- لابد أن عبقريته ستنبثق فى الحياة العامة بعد الدراسة، فتتفتق شهامته ونبله وشجاعته وكل الصفات العظيمة التى تليق بزعيم.
ــ لا شىء مما تذكره إطلاقا، والكثير من عكس ذلك هو الصحيح.

عند ذلك الحد فاض الكيل بالمحتضر، واستشاط غضبا وحيرة فقال ضجرا: إذا بالله عليك، كيف سيصير ذلك الفاشل الكريه زعيما يقود قومه ويتحكم فى مقاديرهم؟.. تركه الملاك حتى سكن، ثم قال له بهدوء وبرود. لا عليك. بعد أن يصير زعيما، ستنهال عليه المدائح وسيكون كل ما ذكرته من الصفات الفريدة صحيحا، بل أكثر.

ضاعت عدن يوم ضيَعوا صنعاء ودمشق؟



ضاعت عدن يوم ضيَعوا صنعاء ودمشق؟


 وائل عصام 
النزاع بين السعودية والإمارات على عدن، مثال أخير وليس وحيدا على التخبط والفوضى العربية العارمة في إدارة ساحات المواجهة مع إيران، من العراق لسوريا للبنان وصولا حتى اليمن، ففي عدن لا وجود لهيمنة إيرانية أو لميليشيات أو قوى سياسية موالية لطهران، ويفترض بعدن، كونها مدينة كبرى تحت سيطرة التحالف المواجه للحوثيين، أن تكون ساحة دعم ومدد وفناء خلفيا، للانطلاق نحو صنعاء، حيث رمزية السيادة في اليمن المفقودة لصالح الحوثيين، وبدلا من أن تكون عدن مركز التنسيق بين التحالف ضد الحوثيين، تحولت إلى بؤرة صراع بين الحلفاء أنفسهم.

أصبح واضحا الآن، لماذا فشلت القوى المسلحة الموالية للتحالف، في وضع حد للحوثيين، رغم تمتع التحالف بالتفوق العسكري والغطاء الجوي، فخلل كهذا في القيادة، يضعف فرص أي قوة بالسيطرة حتى على مدينة صغيرة مثل الحديدة، شنت عليها ثلاث حملات كبرى. ولم تبدأ قصة التصدع في تحالف اليمن حديثا، بل سبقته عدة مراحل، كان أهمها انسحاب عدة دول من معسكر الحرب المدمرة التي قادتها السعودية، باكستان انسحبت مبكرا، ثم قطر، والان يتقاتل من بقي من هذا التحالف (الإمارات والسعودية) فيما بينهما على ما تبقى من «يمن» بين أيديهم.

هذا المشهد الذي يعكس هشاشة تحالفات الدول العربية ضد إيران، تكرر سابقا في عدة بلدان عربية، كالعراق وسوريا ولبنان، وإن لم يكن ملحوظا بوضوح، لطغيان التحدي الإيراني على ما عداه من أزمات، ففي غوطة دمشق، المحاصرة، ظل فصيلان مدعومان من السعودية وقطر، هما فيلق الرحمن وجيش الإسلام، متنازعين حتى تحت قصف النظام ثم اقتحامه، وظلت الأحياء التي يسيطران عليهما، تقاتل منفردة من دون تنسيق موحد، وهي ضمن جزء من ريف دمشق، أمام قوة عسكرية نظمت إدارة مقاتليها من طهران إلى بيروت.

وهذا لا يعني، أن اختلاف سياسة الداعمين هي التي قادت بالضرورة لتلك النزاعات كما هو شائع، بل إن قدرة الداعمين على لجم خلافات الفصائل ظلت محدودة، وهذا يعود بجزء أساسي منه أيضا، إلى شدة تباغض الفصائل وتنافسها الشديد في ما بينها، بمعزل عن خلافات الحكومات.

ولعل اللافت هنا، أن هذه الفوضى لا تقتصر على خلافات الحكومات فحسب، بل إنها ممتدة إلى الكيانات والفصائل المسلحة العربية التي تعمل في ساحات المواجهة لإيران، من العراق حتى سوريا، بل لعلها أكثر ترسخا بين تلك القوى المسلحة، باختلاف تشكيلها، قبلية كانت أو إسلامية معتدلة، أو حتى سلفية جهادية، حيث يذبح "إخوة المنهج" إخوانهم منذ سنوات، لذلك، تبدو هذه الفوضى العربية، متفشية، حكومة وشعبا، أنظمة وفصائل، قبائل وجهاديين، ولعلها تمنح تفسيرا لتخبط أكثرية عربية سنية في سوريا، في مواجهة نظام أقلوي يحكم البلاد بالنار والحديد منذ نصف قرن.

وفي العراق، كان الدعم السياسي والمالي يصب دوما في المكان الخطأ، فبعد سنوات من دعم السعودية لإياد علاوي، ثم التقارب والدعم الإعلامي للعبادي، أصبح خيار السعودية هو دعم رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، والإيحاء بأنه معاد للنفوذ الإيراني في العراق، قبل أن يتبين تداعي كل هذه الطروحات، فأهم قادة الميليشيات الشيعية الموالية لإيران، مثل قيس الخزعلي والكعبي، هم مساعدون سابقون لمقتدى الصدر وأبناء التيار الصدري، وهم عماد الكثير من الميليشيات المقاتلة في سوريا.

ضعف القيادة وسوء التنسيق والتردد، وغياب العقيدة والغبش في رؤية وفهم النزاع، ظل يطبع القوى الداعمة للفصائل والقوى السنية في العراق وسوريا ولبنان، ورغم امتلاك دول الخليج للوفرة المالية، فإن الصراعات الأخيرة في المنطقة، كانت مثالا جديدا لحقيقة قديمة عن محدودية خيارات من لا يمتلك سوى المال. أكثر الحكومات العربية التي دعمت الجماعات المسلحة المقاتلة للقوى المرتبطة بإيران، تقودها أنظمة غير متمرسة في الحرب وإدارة الصراعات، فهي إما شخصيات قبلية وصلت للسلطة بالوراثة والدعم الغربي، أو رجال أعمال، أو الاثنان معا، لذلك فإن تكوينها ينعكس في النهاية على طريقة إدارتها للنزاعات، بروح التنازع القبلي من ناحية، والاعتماد على الدعم والمؤازرة الغربية في مواجهة الخصوم، كما في الحصول على الحماية.

الغرس Culture

بسم الله الرحمن الرحيم
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
الغرس Culture

محمد جلال القصاص
من هنا وهناك.. مما قد حرفه من ثقافتنا ومما قد سرقه من تقنيتنا، ومما قد عثر عليه مشوهًا في الوثنية النصرانية والوثنية اليونانية، ومن تخاريف المعتوهين، وأحلام الطامحين، لملم الغربُ أشياءً وكون ما أسماه ثقافةً، وأسس عليها حضارةً، هي الأسوأ بين الحضارات.
اختار الغرب لتوصيف الثقافة مصطلح Culture، و كان يستخدم بمعنى الزراعة. 
شبهوا غرس الفكرة في العقل لإنتاج شخص بمواصفات محددة..أو للتحكم في سلوك شخص في اتجاهات محددة، بغرس الأرض بالبذر لإنتاج محصول معين. 
وفيما يخص تغيير الفرد المسلم، ومن ثم المجتمع المسلم اتخذ الغرب عدة خطوات:
أولها: غرسوا قيمهم في صدور أفراد بأدوات المعرفة الرسمية كالمدارس والبعثات العلمية، وغير الرسمية كالصحف والمجلات، فأنتجوا نخبة أحبتهم ونقلت عنهم. في جميع المجالات، وخاصة العلوم الانسانية: الأدب، والفن، والتاريخ (طه حسين ـ مثلًاـ في التعاطي مع التراث الإسلامي وما كتبه في الشعر الجاهلية، وغيره..).
ثانيها: غرس مؤسسات التغيير:
بعد أن شبت النخبة واشتدت عمد هؤلاء إلى تأسيس مؤسسات في جميع مجالات الحياة تنشر قيمهم، وتتحكم في المجتمع تبعًا لقيمهم هم. فكانت مؤسسة التعليم التي لم ترفع قيمة الفرد، وإنما فقط عملت على إنتاج موظف يدير الحياة بالحد الأدنى دون أن يطور مجتمعه. وكانت المؤسسة العسكرية التي لم تقاتلهم، بل خدعت الجماهير واقتتلت فيما بينها. ثم تحولوا لجبابرة يضطهدون شعوبهم ويسومنهم سوء العذاب. فهذه المؤسسة تعمل بشكل تلقائي في اتجاه توطين ثقافة تحول دون رجوع الأمة لمسارها التاريخي .. دون البدء في دورة حضارية جديدة نستعيد بها مجدنا، ونؤدي من خلالها رسالتنا.
وغرسوا مؤسسات الاقتصاد، .. جميع المجالات. فصار المجتمع بجميع تفاصيله في يد مؤسساتهم .
ثالثها: حماية هذه المؤسسات بالقانون الدولي، فلا تستطيع هذه المؤسسات أن تغير من سيرتها، ولا أن تتحرك بعيدًا عما يسمحون لها به. يكبلونها بالقانون الدولي ومن يحرسون ويطورون القانون الدولي.
ثمرة فكرة غرس القيم والأدوات: 
1. مجتمع مشتت لا إلى ثقافته الأولى، ولا إلى الغرب. 
2. تفريغ الفرد وانعدام قيمته الفعلية. فلم تنتج هذه المؤسسات مبدعين ولو حتى في إطار علماني قومي.
3. ضياع الهوية الخاصة بالأمة، ومن ثم غياب مشروعها الحضاري وتبعيتها للغرب. 
4. عرقلة المشروع الإصلاحي بهذه الترسانة الضخمة من النخبة والمؤسسات، وأدوات الفعل العلماني. 
5. أثمر هذا التحكم الشديد في جميع تفاصيل الحياة مشوهين فكريًا أو سلوكيًا.. حتى أولئك المعترضين على مؤسسات التغير التي غرسها الغرب، اتسم فعلهم بالمحدودية، محدود التواجد، ومحدود الأثر، فقد تواجدوا في بعض مجالات الحياة، ولم يستطيعوا امتلاك قوة نوعية للخروج من مخالب مؤسسات التغيير العلمانية.
6. سيطرة مؤسسات التغيير، والتي منها الدولة الحديثة نفسها، أوجد انحرافًا رئيسيًا في مسيرة النهوض الإسلامي، مفاده: التحول من فكرة النهوض الحضاري إلى النهوض بالدولة. 
محمد جلال القصاص

طريق الحرير التركي.. مشروع أردوغان لإنهاء سيطرة أمريكا على ممرات التجارة العالمية


طريق الحرير التركي.. مشروع أردوغان لإنهاء سيطرة أمريكا على ممرات التجارة العالمية 
معتز علي
باحث في الشؤون السياسية
ساهمت نظرية قوة البحار للأدميرال الأمريكي ألفريد ماهان في رسم تصور عالمي جديد لكيفية صعود الدول في بدايات القرن العشرين، ومدى إرتباط زيادة السيطرة البحرية لأسطول الدولة بتعاظم النفوذ الجيوسياسي لها، وكان لتلك النظرية دور فاعل في هندسة النظام العالمي الجديد وصعود أمريكا كقوة عظمى، فبعد قيام أمريكا بشق قناة بنما وصناعة ممر تجاري جديد، قامت بالسيطرة على كوبا ثم الفلبين بعد طرد النفوذ الأسباني منهما، مما سمح لها بالسيطرة على ممرات التجارة تدريجيا، فيما شكلت حرب السويس 1956 وأزمة كوبا 1962 أخر محاولات القوى العالمية لمشاركة أمريكا في السيطرة على الممرات والمضايق البحرية.

تلك السيطرة البحرية ساعدت أمريكا في إحكام قبضتها على التجارة العالمية وحشد الدول الصغيرة والإقليمية تحت عباءة الهيمنة الأمريكية، مما سهل فرض الدولار كعملة عالمية للتجارة دون مقاومة تذكر. إلا أن النمو التجاري للصين دفعها لمحاولة صناعة ممرات تجارية بديلة يكون فيها السيطرة الفعلية للصين، وزادت تلك التطلعات عقب ما حدث عام 1993 مع إحدى سفن الشحن الصينية والتي تم إحتجازها من قبل البحرية الأمريكية وتعرضها للتفتيش بحجة نقل مواد نووية لإيران. 


طريق الحرير الصيني
عقب انهيار الاتحاد السوفتي وتحديدا عام 1993، تزايدت الدعوات في تركيا لتدشين خط سكك يهدف لربط تركيا بالشعوب التركية التي تعيش حول بحر قزوين وزيادة الترابط الثقافي والاقتصادي بينها
حاولت الصين تشييد طرق بحرية بديلة عن الممرات التي تسيطر عليها أمريكا، في محاولة لتقليل الهيمنة الأمريكية على التجارة العالمية، ومحاولة منعها من استخدام السيطرة البحرية على الممرات والمضايق في أي حرب تجارية محتملة مع الصين، لذلك كان إنشاء ممرات بديلة هي ضرورة ملحة للأمن القومي الصيني. لذلك حاولت الصين حفر عدة قنوات ملاحية في كل من نيكارجوا وتايلاند، لتجنب المرور بقناة بنما ومضيق ملقا، إلا أن الضغوط الأمريكية على نيكارجوا وسلاح الانقلابات العسكرية في تايلاند قد أوقف المشروعين، في حين نجحت الصين بصعوبة في تدشين مشروع ممر جوادر الذي يربط غرب الصين بميناء جوادر الواقع ببحر العرب في باكستان.

وفي نفس السياق نجحت الصين في تسيير أول رحلة بالقطار من بكين إلى لندن عبر خط سكك حديد يمر بثماني دول من بينها روسيا، إلا أن طول المسافة التي تبلغ 12 ألف كيلو ترفع من تكلفة النقل وتحصر تلك الرحلات على نوعيات معينة من البضائع الثمينة. على الجانب الأخر تحاول الصين استثمار الجهود التركية في ربط هضبة الأناضول والبحر الأسود بدول وسط أسيا عبر شبكة من السكك الحديدية، حيث يؤدي إلتحام الصين مع تلك المنظومة إلى زيادة التبادل التجاري مع دول وسط أسيا، فضلا عن إمكانية نقل البضائع الصينية إلى البحر الأسود القريب من شرق أوروبا وشمال إفريقيا. 


طريق الحرير الحديدي
عقب انهيار الاتحاد السوفتي وتحديدا عام 1993، تزايدت الدعوات في تركيا لتدشين خط سكك يهدف لربط تركيا بالشعوب التركية التي تعيش حول بحر قزوين وزيادة الترابط الثقافي والاقتصادي بينها، وبرغم تعطله بسبب عدم وجود تمويل بعد رفض البنك الدولي والبنك الأوروبي تمويله بحجة تجاهله ربط أرمينيا بالخط، إلا أن المشروع عاد للواجهه عام 2007 بعد توفير التمويل له من قبل تركيا وأذربيجان، وتم إفتتاحه عام 2017، وقامت الصين بالاندماج بذلك الخط عبر تمديد سكك حديدية من غرب الصين إلى كازاخستان، لتعبر البضائع الصينية بحر قزوين بعبارات إلى أذربيجان، ثم استكمال الطريق إلى تركيا عبر سكك حديد باكو تبليسي قارص.

ومن ناحية أخري دخلت الصين في مفاوضات مع الحكومة التركية لتدشين المرحلة الثانية من المشروع لربط سكك حديد قارص بمدينة أدرنة القريبة من حدود بلغاريا، كما افتتحت تركيا سكك حديد تربط إسطنبول بصوفيا عاصمة بلغاريا وقريبا إلى بلغراد، في حين بدأت الصين فعليا في إعادة تهيئة خط سكك حديد يربط صربيا بالمجر، وعند اكتمال المشروع ستتمكن الصين من نقل البضائع إلى أوروبا في 15 يوم فقط بدلا من شهر ونصف.

الصين تعول على تركيا
تحاول الصين المضي في عدة محاور بمشروع طريق الحرير مثل ممر جوادر الباكستاني، فضلا عن سكك حديد تربطها بأوروبا عبر روسيا، إلا أن الطريق الأقصر والأكثر واقعية هو الطريق إلى الأناضول الذي يبدأ من غرب الصين إلى البحر الأسود ومنه إلى البحر المتوسط عبر مضيق البسفور، حيث يمثل النقل البحري الوسيلة الأرخص تكلفة لكثير من البضائع، وهو ما يدفعها إلى تعزيز العلاقات مع تركيا بشكل كبير، وفي هذا الإطار استحوذت شركة كوسكو باسيفيك الصينية العملاقة لشحن الحاويات على مينا كوموبورت في بحر مرمرة، الذي يعد ثالث أكبر ميناء في تركيا مقابل مليار دولار، لتقديم خدمات ملاحية ولوجيستية للسفن المارة.

إيران تتجه إلى الشمال
قامت إيران في 2018 بإنهاء النزاع التاريخي حول ثروات النفط والغاز في بحر قزوين، بعد التنازل عن بعض مطالبها، مما مهد لبدء محادثات بين روسيا وإيران حول الربط التجاري بين بحر قزوين وموانئ القرم في البحر الأسود، عبر نهر الفولجا وقناة الدون وصولا لجسر القرم، حيث سيتم مد طرق وسكك حديدية لربط إيران بالبحر الأسود، كما سمحت المصالحة الإيرانية مع دول بحر قزوين، إلى تسارع الخطي لمد خط غاز في قاع بحر قزوين من تركمنستان إلى أذربيجان ليشكل رافد أخر لمشروع تصدير غاز وسط أسيا إلى أوروبا عبر تركيا. ومن جهة أخري افتتحت الصين خط سكك حديدية تربطها لإيران عبر دول القوقاز، فضلا عن افتتاح إيران لخط سكك حديد إلى أذربيجان ليلتحم مع طريق الحرير الحديدي، وهو ما يمهد لربط إيران مع كل من الصين وأوروبا عبر تلك الشبكة من السكك الحديدية وما ينتج عنها من تقليل زمن نقل البضائع وتكلفة الشحن.

مضيق البسفور وقناة إسطنبول
تتضافر جهود دول وسط أسيا الرامية لنقل تجارتها من بحر العرب والخليج العربي إلى البحر الأسود حيث حرية الملاحة بعيدا عن النفوذ الأمريكي، وهو ما دفع دول وسط أسيا إلى تدشين عدة خطوط سكك حديدية لنقل تجارتها إلى موانئ البحر الأسود، حيث قامت كل من طاجكستان وأفغانستان وأوزباكستان بتدشين خط سكك حديد يربطهم بموانئ تركمنستان على بحر قزوين، ومنه تنتقل بضائع الدول الأربع إلى ميناء باكو بأذربيجان الذي يستقبل البضائع من الصين وكازاخستان أيضا، لتنتقل كل تلك البضائع عبر السكك الحديد إلى موانئ جورجيا روسيا وتركيا في البحر الأسود.


وفي إطار ذلك أعلن أردوغان منذ عدة سنوات عن رغبته في حفر قناة غرب إسطنبول موازية لمضيق البسفور الذي تتكدس أمامه السفن باستمرار فضلا عن حوادث السفن نتيجة الضباب وضيق الممر، حيث تصل عدد السفن المارة في البسفور إلى أكثر من 50 ألف سفينة سنويا، والتي تتعطل الملاحة فيه بشكل متزايد في ظل مشاريع الأنفاق والكباري والسكك الحديدية على جانبيه، مما يجعل من مشروع حفر قناة إسطنبول المزمع تنفيذه قريبا، محاولة لتقليل الضغط عن مضيق البسفور فضلا عن مصدر كبير للدخل، حيث من المتوقع أن تدر القناة دخلا يتجاوز ثمانية مليارات دولار سنويا. فمع بدء ربط الصين ودول أسيا الوسطي عبر شبكة سكك حديدية سريعة مع تركيا والبحر الأسود، يتوقع أن يزيد عدد السفن إلى 100 ألف سفينة سنويا عام 2050، وهو ما يمهد لإعلان إسطنبول مركز تجاري عالمي، ينافس فرنكفورت ولندن ونيويورك.
تغير خطوط التجارة
من المعروف تاريخيا أن اكتشاف الأسبان لطريق رأس الرجاء الصالح قد ساهم في بروز عدة قوى غربية مثل أسبانيا والبرتغال وهولندا وإنجلترا، في مقابل خفوت نجم دولة المماليك بعد 20 عاما فقط من تحول تجارة أوروبا من مصر والشام إلى الطريق الجديد، وما صحبه من انخفاض المكوث والضرائب بشكل كبير، وساهم في إضعاف دولة المماليك وسقوطها. ثم قام الأسطول الأمريكي بوراثة مكانة الإمبراطورية الإسبانية بعد طردهم من بحر الكاريبي نهاية القرن التاسع عشر، وامتد نفوذ الأسطول الأمريكي ليسيطر على كل المضائق والممرات البحرية التي تمر من خلالها معظم تجارة العالم من نفط وبضائع عبر سبعة أساطيل بحرية.
قلب العالم
وبنفس المقياس نستطيع أن نقول أن تلاقي رؤية أردوغان مع زعماء الصين وروسيا ساهمت في انشاء ممرات تجارية لربط قلب العالم القديم ببعضه، فضلا عن تمديد أنابيب لنقل الغاز والنفط من حقول الإنتاج في أسيا إلى أماكن الإستهلاك في أوروبا عبر تركيا مثل السيل التركي ومشروع تاناب، مما يزيد من ترابط المصالح في منطقة أوراسيا، بعيدا عن النفوذ الأمريكي الذي يضعف بشكل مضطرد. فهل تشهد السنوات القادمة تغير في الخريطة الجيوسياسية للعالم بعد تغير مسارات التجارة العالمية من الجنوب إلى منطقة قلب العالم مرة أخرى؟