الأربعاء، 31 أكتوبر 2018

أين الجثة يا صاحب المنشار؟

أين الجثة يا صاحب المنشار؟


الحل في إسطنبول وليس في واشنطن والعواصم الأوربية، ولن يقبل أردوغان إلا بعزل بن سلمان ومحاكمة المتهمين في تركيا، وانقاذ المملكة من الشبكة الصهيونية

عامر عبد المنعم
الطريقة التي قتل بها جمال خاشقجي صدمت كل إنسان على وجه الأرض؛ فالجريمة لم تتوقف عند سفك دم صحفي، لا يملك غير قلمه، على يد فرقة اغتيال، أرسلها حاكم يريد أن يرعب معارضيه، وإنما تم استخدام المنشار لتمزيق الجثة إربا إربا، ثم إخفاء الأشلاء في أكثر من مكان، وبعضها بالتذويب في الحمض!
كثيرة هي الجرائم التي يشهدها العالم، لكن لم يحدث أن تكشفت التفاصيل الكاملة كما تم مع خاشقجي في القنصلية السعودية بإسطنبول؛ فالمكان والشخص جعلا القاتل هذه المرة عاريا أمام العالم، فالدولة التي اختارها القاتل ليجعلها ضحية هذه المؤامرة الشريرة أمسكت برقبته، والشخص الذي أراد القاتل أن يكون أمثولة وعبرة لغيره أصبح دمه لعنة تلطخ وجهه، لا يستطيع الفكاك منه.
هذه البشاعة التي أعادتنا إلى جرائم الإنسان البدائي وعصور ما قبل التاريخ تؤكد أن أمتنا تواجه خطرا جديدا لم يكن متوقعا، وهو تخلي بعض حكام العرب عن إنسانيتهم والتنصل من الإسلام وتعاليمه وارتكاب أفظع الكبائر من أجل الكرسي.
لم تكن جريمة قتل قابيل لأخيه هابيل بهذه العدوانية والغدر، حيث شعر قابيل بالندم ودفن الجثة، وتعلم من الغراب كيف يواري سوأة أخيه، ولكن في جريمة خاشقجي، رفض القاتل أن يترك الجثة ليتم دفنها، ويماطل حتى الآن في تقديم أي معلومة عن مكانها.
ما تسرب من معلومات تقول إنهم قطعوا أصابعه التي يكتب بها، وقطعوا رأسه قبل تمزيق باقي الجسد، وتصوير هذه الفظاعات بالفيديو ليراها صاحب قرار الإعدام، ليستمتع بمشاهدة الضحية، وكأنه يذبح كبشا ويمثل به، في مشهد يثير الاشمئزاز من هذه الروح السادية!
أردوغان وترمب
معركة إدانة القتلة في جريمة جمال خاشقجي عليها اتفاق دولي، لكن الصراع الآن على من يمسك الملف وتوظيفه، حيث يريد ترمب استخدام الجريمة للابتزاز والاستيلاء على أموال السعودية، والسطو على احتياطي البترول، وتنفيذ استراتيجيات موضوعة سلفا لتقسيم المملكة.
في المقابل يمسك أردوغان بالملف ويرفض أن يتركه لترمب، ويعمل على إدانة القتلة ومعاقبتهم، واقترح محاكمتهم في تركيا لقطع الطريق على التدخل الأجنبي، ومنع استخدام الجريمة لمعاقبة المملكة والدخول في طريق مجهول.
الحرص من أردوغان على محاصرة القاتل ولف الحبل حول رقبته وتجنيب بلاد الحرمين العقوبات الدولية هو الذي جعله يتأخر في إعلان الأدلة وبث التسجيلات، وكثف الضغط على القصر السعودي للاعتراف بالجريمة وهذا ما حدث بالفعل رغم المراوغة.
أمام الضغط التركي المتواصل والحملة الإعلامية الدولية التي تقودها واشنطن بوست التي تبحث عن الثأر لكاتبها البارز اعترف القصر السعودي بمقتل جمال خاشقجي داخل السفارة، وقدم أكثر من رواية خلاصتها إبعاد ولي العهد من الاتهام، وتقديم كباش للفداء.
مأزق بن سلمان
كان بن سلمان يعول على ترمب وصهره كوشنر في إغلاق الملف وتبرئته من دم خاشقجي، ولكن الموجة العالمية كانت أشد وأقوى من الاحتواء، فاضطر ترامب إلى التراجع والانسحاب والإعلان عن تسليم الملف للكونغرس، فلم يكن أمام ولي العهد غير استجداء رضا أردوغان بكلمات مصطنعة عن متانة العلاقة بين السعودية وتركيا، ولكن أردوغان رد عليه بمطالبته بمكان الجثة وقال له " إن غدا لناظره قريب".
يحاول بن سلمان تقديم رواية تقترب من الرواية التركية ولكنه يمتنع عن تقديم أهم إجابتين لأن فيهما رقبته، الأولى: أنه لا يعترف بأنه القاتل، ويزعم أن الجريمة ارتكبها معاونوه دون استشارته، والثانية: عدم تقديم أي معلومات عن الجثة المختفية، والزعم بأنها سلمت إلى متعهد محلي مجهول، لأن ظهورها سيكون صادما وسيفجر موجة غضب عالمي.
يراهن بن سلمان على الوقت ويتوهم أنه في صالحه، ويظن أنه يستطيع شراء سكوت العالم والإفلات بدفع المال كما اعتاد، لكن هذه المرة اتسعت الدائرة، بقوة دفع الموقف التركي والدولي ولم يعد ممكنا خاصة أن أردوغان هو الذي يمسك بملف القضية ويرى أن المؤامرة تستهدفه هو شخصيا وحزب العدالة والتنمية.
على العكس فإن الوقت ليس في صالح بن سلمان؛ فحتى لو أصرت السعودية على الروايات الكاذبة للجريمة فإن المعلومات التي أعلنها الأتراك كانت هي الأكثر مصداقية، خاصة أن تركيا أطلعت الكثير من الدول على بعض الأدلة التي جعلت كل من يزور تركيا يعود غاضبا على الأمير السعودي، وبعضهم اتهمه بالاسم بالوقوف خلف الجريمة.
العقوبات الدولية
من غير المتوقع أن يسلم بن سلمان نفسه لحبل المشنقة بإرادته، كما أنه من غير المتوقع أن يضحي من أجل بلده ويقدم استقالته من منصبه ليضع نفسه تحت المقصلة، ولا يبدو أمامنا منافس له قوة داخل القصر، يستطيع إنقاذ المملكة وتنصيب ملك جديد أو ولي عهد آخر، وهذا ما سيعرض السعودية للحصار الدولي والعقوبات.
لم يعد أمام ولي العهد الكثير من المناورات، ولن يقتنع أحد بتمثيلية محاكمة المتهمين داخل السعودية، وسيظل المطلب التركي هو الإجابة على الأسئلة التي طرحها أردوغان وأهمها أين جثة خاشقجي؟ وإذا أصر بن سلمان على موقفه فإن أردوغان سيكون مضطرا في النهاية لإعلان ما لديه من تسجيلات والتي حسب كل من استمع إليها تدين بوضوح الحاكم الفعلي للسعودية.
نحن أمام تكرار لتجربة العراق الذي تعرض للحصار الدولي بعد توريط صدام حسين في غزو الكويت، مع الفارق بين دوافع الشخصين والخلاف في التفاصيل، لكن هذه المرة الحل في إسطنبول وليس في واشنطن والعواصم الأوربية، ولن يقبل أردوغان إلا بعزل بن سلمان ومحاكمة المتهمين في تركيا، وانقاذ المملكة من الشبكة الصهيونية التي تحارب الإسلام في بلاد الحرمين وفي دول المنطقة.


للقصة بقية - خاشقجي وثمن الكلمة ���� ����

هل دفع جمال خاشقجي ثمن كلمته؟


الغريب أنه لا توجد معارضة حتى يمارس هذا القمع"؛ هذا ما قاله الصحفي السعودي جمال خاشقجي في حلقة سابقة من برنامج "للقصة بقية".
لم يكن خاشقجي معارضا بل كان ناصحا أمينا؛ فلماذا مورس عليه هذا القمع وبأبشع صورة، لكن الرجل أزعج القوم فأرادوا كتم صوته. ورغم الروايات السعودية المتعددة التي يُكشف من خلالها عن اعترافات بالقتل فإنها تظل منقوصة. لقد أرادوا كتم صوته لكنه كان مدويا وأيقظ الجميع؛ جمال قال كلمته ورحل.
حلقة (2018/10/29) من برنامج "للقصة بقية" ناقشت مشاريع الصحفي الراحل خاشقجي التي كان يعمل عليها قبل وفاته، ورصدت -عبر مقربين منه- همومه وتطلعاته، وفنّدت الأكاذيب بشأن عودته المحتملة إلى السعودية قبل مقتله.
ثقة بالقنصلية
قال الإعلامي والأكاديمي عزام التميمي إن جمال طمأن الجميع -عند إخباره لهم بعزمه على زيارة القنصلية السعودية بإسطنبول- بأن من فيها لا يمكنهم أن يقدموا على فعل شيء يؤذيه لأنهم لا يمتلكون القرار.
وأوضح التميمي أن جمال بعد عودته إليهم من زيارته الأولى للقنصلية أخبرهم بأن من فيها كانوا على قدر عالٍ من اللباقة في التعامل معه. وأكد أن ما يشاع عن عودته إلى السعودية كذب لأنه قد عزم -منذ مغادرته لها- على ألا يعود إليها.
وأما الأكاديمي وأستاذ الإعلام السياسي السعودي أحمد بن راشد فقال إن جمال كان دائما يكرر أن في عنقه بيعة، وأنه يحب الملك سلمان ويعتقد أن ولي العهد سيقود البلاد إلى مستقبل مزدهر.
وأضاف التميمي أن جمال نادى ببعض الإصلاحات التي لا تمس نظام الحكم السعودي، لكن المستبد يبحث عمن يصفق له ويرفض الناصح الأمين. أما جمال فكان يبحث عن المواطنة الصالحة بمفهومها العام وليس بمفهوم الطغاة.
وأكد أن صورة السعودية بعد مقتل خاشقجي اختلفت وتحولت إلى صورة سيئة للغاية وشديدة القتامة، وأنه لا يعتقد أن محمد بن سلمان سيلقى مستقبلا أي ترحيب في المجتمع الغربي، فكل ما بذله من حملات لتسويق نفسه فشلت بسبب قتل جمال. والحقيقة أن خاشقجي كان يؤثر في الغرب ببضع كلمات ولا يحتاج لتلك الأموال كي يؤثر فيهم.
شهيد الإصلاح
وأردف التميمي قائلا: "منذ اليوم الأول لمعرفتي بجمال وهو يحمل هم الأمة، ويبحث عن كيف يخدمها ويحسن صورتها أمام الغرب، وأغلب المشاريع التي اشتغلنا عليها معا كان هو الرجل المجهول فيها، ورغم ظهورنا فإنه كان صاحب الدور الأكبر فيها".
ويرى راشد أن جمال شهيد الربيع العربي لأنه كان يبحث عن مستقبل ووضع أفضل لكل الدول العربية، وهو آخر ضحايا الثورات المضادة. فقد كان يبحث عن الديمقراطية ولا علاقة له بالإخوان المسلمين، وقتله بهذا الشكل أحدث صدمة للجميع، ومن الصعب السكوت عما حدث له.
ويؤكد التميمي أن دم جمال قدم لنا وضعا مختلفا، ويجب علينا بذل الجهود للكشف عن هذه الجريمة، وكان هناك تخوف من أن يضيع دم جمال بين المصالح وأن تخضع تركيا لمصلحتها وتقبل بصفقة عابرة لإقفال الملف، لكنها لم تخذل دم جمال.
ويضيف راشد انه رغم قسوة اللحظة فإنه متفائل بأن السعودية ستتغير وبأن دم جمال لن يذهب هدرا، ورسالته ورؤيته المحبة للوطن يجب أن تكون على عاتقنا جميعا، والأمل قائم بأن يجري صانع القرار في السعودية التغيير الفعلي نحو الأفضل قبل فوات الأوان.

قضية وحوار : مع أحمد بن راشد بن سعيّد

قضية وحوار : مستقبل قوى التغيير بعد اغتيال خاشقجي

مع البروف أحمد بن راشد بن سعيّد

خمس سنوات من الربيع الإسرائيلي


خمس سنوات من الربيع الإسرائيلي


 وائل قنديل

أكثر من ثمانمائة شهيد على يد نظام حسني مبارك، في أحداث الحرب على ثورة يناير/ كانون ثاني 2011، أضيف إليهم نحو ثلاثة آلاف شهيد في المرحلة الأعنف من حرب النظام العسكري على الثورة بدءً من يونيو/ حزيران 2013، ناهيك عن عشرات الآلاف من المدفونين أحياء في زنازين عبد الفتاح السيسي، وآلاف المقتلعين من أوطانهم.

هناك، في سورية، أكثر من 350 ألف شهيد، وملايين المحذوفين من تعداد الوطن، بين نازح وسجين، سقطوا ضحايا الحرب على ثورة شعبٍ حلم بالديمقراطية والعدالة والحرية. وفي ليبيا، سقط عدة آلاف من القتلى ضحايا تمكين الجنرال خليفة حفتر، بدعم السيسي والقوى المعادية للربيع العربي. ولا يختلف الأمر كثيرًا في اليمن، ليصبح لدينا في المجمل مئات آلاف من ضحايا حرب الأنظمة على ثورات الشعوب، تلك الأنظمة التي تلعق الأحذية طلبًا للسلام الزائف والتطبيع، بوصفه ضمانة الاحتفاظ بالسلطة، والحجّة أنها تريد الحفاظ على الدماء والأرواح، وتعفي شعوبها من مواجهة الاحتلال الصهيوني، وتصنع لهم التنمية، وتحقق لهم الأمان والاستقرار.

لو قارنت بين عدد شهداء العرب ضد الاحتلال الصهيوني لفلسطين والأراضي العربية وعدد الضحايا الذين قتلتهم الحكومات العربية، وهي تحارب سعي الجماهير إلى التحرّر من القمع والاستبداد والفساد، ستجد أن خسائر العرب في زمن السلام الصهيوني الزائف عشرات، بل مئات أضعاف مرحلة المواجهة والسعي إلى تحرير الأرض والإرادة. وبالتالي لا يمكن الاعتداد أبدًا بما تلوكه ألسنة عرب الهرولة والانسحاق أمام إسرائيل أنها تتجرّع التسوية حقنًا للدماء والحفاظ على أرواح المواطنين.

بل ينطق الواقع بأن الأنظمة الباحثة عن دفء العلاقة مع المحتل إنما قتلت شعوبها الثائرة إنفاذًا للرغبة الصهيونية، وحمايةً للاحتلال الإسرائيلي من أمواج الربيع العربي الذي اهتزت معه أركان الاحتلال، واعتبره الخطر الأكبر على وجود الكيان الصهيوني على أرض فلسطين.

كان الربيع العربي استحضارًا لقوة الجماهير في معادلة الصراع، واستدعاءً للمواطن في صراع الوجود، وإحياءً للقضية المحورية المركزية في التاريخ العربي الحديث. وقد عبر رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، عن ذلك في قوله إلى إن الخطر على الكيان الصهيوني إنما يأتي من قوة الرأي العام العربي، وقال في نوفمبر/ تشرين ثاني 2017، في كلمةٍ أمام الكنيست، بمناسبة 40 عاماً على زيارة الرئيس المصري الأسبق، أنور السادات، إسرائيل وإلقائه خطاباً أمام الكنيست، إن "الشعوب العربية والرأي العام العربي تعرّضت، على مدار سنين طويلة، لعملية غسيل دماغ وتشويه لصورة إسرائيل، إلى درجةٍ بات وكأن هناك حاجة لإزالة طبقات جيولوجية من الوعي العربي لتحسين صورة إسرائيل، وللوصول إلى سلام بين الشعوب". واعتبر، في تغريدةٍ له على موقع تويتر في ذلك الوقت، أن"أكبر عقبة أمام توسيع دائرة السلام ليست زعماء الدول التي تحيط بنا، بل هي الرأي العام في الشارع العربي الذي تعرّض على مدار سنوات طويلة لدعاية عرضت إسرائيل بشكل خاطئ ومنحاز".

من أجل ذلك، كان الدعم الصهيوني المطلق لمجازر عبد الفتاح السيسي لتأمين حكمه مصر بالقمع والإرهاب المسلح، والتعبير، تصريحًا وتلميحًا، بأن بقاء بشار الأسد في السلطة فوق أشلاء مئات آلاف من الشعب السوري، يحقق مصلحةً وجوديةً لإسرائيل، فكلاهما، مع جنرالات الإبادة في ليبيا واليمن، يحققون الهدف الصهيوني الأسمى، وهو تحييد الرأي العام وإزاحة الجماهير من المعادلة، بالقتل والسجن والتغريب، بوصفها العقبة أمام التمدّد الإسرائيلي في المنطقة، عبر مجموعة من الحكام يحافظون على أرواح شعوبهم بإسقاط المواجهة مع الاحتلال، ثم يتولون هم حصد هذه الأرواح، كي يخلو لهم طريق التطبيع، طريق الاستمرار في السلطة.

ولذلك لم يكذب الصهاينة، حين اعتبروا أنهم يعيشون ربيعًا عبريًا بامتياز، صنعته وحاربت من أجله وتحميه بالدم أنظمة عربية،على مدى خمس سنوات، بدأت بفرض عبد الفتاح السيسي حاكمًا على مصر، فصار نموذجًا يُحتذى لحكامٍ يعتبرون إسرائيل مصدر السلطات.

إنهم يقتلون المواطن العربي في الميادين، وفي الزنازين، وفي القنصليات، يقتلونه على الحدود، ثم يطرقون باب إسرائيل، زاعمين أنهم يطلبون السلام والتطبيع، حقنًا لدماء شعوبهم.

الثلاثاء، 30 أكتوبر 2018

الأمير المُحارب

الأمير المُحارب
سيتجاوز محمد بن سلمان تداعيات مقتل خاشقجي،
لأنه يُحكم قبضته على أجهزة الأمن السعودي .
يزيد صايغ
29 أكتوبر 2018
تتواصل التكهنات بأن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان قد يُطاح به، أو قد يتم تحجيمه إلى حد كبير نتيجةً لمقتل جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في اسطنبول مطلع الشهر الجاري.
إلا أنه من المستبعد جداً أن تسلك الأمور هذا المنحى، على الرغم من مطالبة بعض الحكومات الغربية بإجراء تحقيقٍ مناسب، ومن القرار الذي اتخذه مسؤولون ماليون كبار في العالم وبعض الشركات العالمية بالعدول عن المشاركة في مؤتمر الاستثمار الدولي الذي عُقِد في الرياض بين 23 و25 تشرين الأول/أكتوبر. إنه موقف قوي غير مسبوق، لكن حتى لو أسفر ذلك عن فرض عقوبات أكثر تشدّداً في حال ثبتت مسؤولية الأمير محمد عن الجريمة، فهو لن يحافظ على بقائه وحسب، إنما سيستغل أيضاً ردود الفعل الشاجبة ليرسّخ مكانته باطراد على المستوى الداخلي.
عندما يتعرّض الحكّام السلطويون إلى الضغوط، لايتخلّون عن السلطة، بل يُمعِنون أكثر في فرضها، أياً يكن الثمن، ومحمد بن سلمان هو من أكثر المرشّحين للتصرف على هذا النحو. لقد أثار ترسيخ الأمير محمد لسلطته منذ تعيينه ولياً للعهد في حزيران/يونيو 2017، انتقادات متكررة. بيد أن معظم التكهّنات عن مصيره تغفل عن الإشارة إلى أنه عمدَ، في إطار دوره الموازي كوزير للدفاع، إلى تشديد قبضته على الأجهزة العسكرية والأمنية في السعودية.
في السابق، كانت هذه المؤسسات تشكّل إلى حد كبير إقطاعات منفصلة يرأسها أعضاء من الأسرة المالِكة. وقد أتاحت لهم هذه المنظومة، إلى جانب الحفاظ على حصصهم الفردية الخاصة في النظام السياسي، جمع ثروات طائلة من خلال عقود البناء والمشتريات المنبثقة عنها. ولاتزال عملية إصلاح الأجهزة الدفاعية والأمنية في المملكة وإعادة هيكلتها، عملاً قيد التطوير بغية تحسين إمكاناتها التشغيلية وأدائها، لكنها أتاحت لمحمد بن سلمان إبعاد جميع خصومه الأساسيين.
المؤشّر الأوضح عمّا تقدّم كان في حزيران/يونيو وتموز/يوليو 2017، عندما أقال الملك سلمان وزير الداخلية آنذاك، الأمير محمد بن نايف، ووضعَ جميع أجهزة مكافحة الإرهاب وأجهزة المخابرات الداخلية تحت مظلّة هيئة واحدة جديدة، وهي رئاسة أمن الدولة الخاضعة إلى إمرة محمد بن سلمان. ومن الأجهزة التي نُقِلت لتصبح جزءاً من الهيئة الجديدة المديرية العامة للمباحث التي تُعتبَر جهازاً نافذاً. وإلى جانب السيطرة على هذه الأجهزة والأدوار، تحوّلت رئاسة أمن الدولة والوكالات التابعة لها – مثل مركز المعلومات الوطني الذي نُقِل أيضاً من عهدة وزارة الداخلية - إلى مَحاور وجهات متلقّية للاستثمارات الكبرى في الأمن السيبراني. وقد جاء ذلك استكمالاً لنزعة الاستثمار في برامج التجسّس وفي التجسس الرقمي لاستخدامها ضد المعارضين. وتعود هذه النزعة إلى مالايقل عن أربع سنوات، وفق ماورد بالتفصيل في تقرير صادر عن Citizen Lab ومقرّه تورونتو.
لقد ترافقت إعادة التنظيم مع تغيير الحرس في الجيش وسلك الضباط الأمنيين. فقد استبدل الملك سلمان قائد الحرس الملَكي في تموز/يوليو 2018، وعيّن، في شباط/فبراير 2018، قائداً جديداً لهيئة الأركان في القوات المسلحة السعودية، فضلاً عن تعيين قادة جدد لسلاح البر والدفاع الجوي. وهؤلاء، إلى جانب قادة سلاح الجو والسلاح البحري، خاضعون مباشرة لإمرة محمد بن سلمان. ووفقاً لوثيقة تخطيط غير منشورة استشهد بها المحلل المتخصص في الشؤون الدفاعية، نيل بارتريك، من المزمع تعيين 800 ضابط جديد بحلول أواخر العام 2019.
من شأن ترفيع جيل كامل من الضباط الشباب الذين يكنّون الولاء لولي العهد أو الذين من الممكن أن يُفيدوا من المجالات التي يُتيحها للحصول على ترقية سريعة ومناصب قيادية مهمّة، أن يؤدّي إلى ترسيخه أكثر في موقعه. ويشتمل ذلك على تدابير مثل ترقية رئيس جهاز رئاسة أمن الدولة ونائبه إلى مرتبة الوزراء، ويتعزّز من خلال استبدال الضباط والمسؤولين في وزارة الداخلية المرتبطين بمحمد بن نايف، بآخرين موالين للأمير محمد بن سلمان.
حتى في الحالات التي لايدين فيها الضباط، في شكل كامل، بتعيينهم إلى محمد بن سلمان، كما هو الحال في الحرس الوطني السعودي، فإن الإبقاء على الفصل بين الحرس الوطني ووزارة الدفاع يدرأ التهديدات من الجهازَين معاً. غير أن الاتجاه في المدى الطويل يؤشّر إلى ترسيخ سيطرة محمد بن سلمان الذي ليس لديه، وفق مايُشير إليه بارتريك، نائب وزير دفاع، لكنه في صدد توسيع الهيكلية التنظيمية للوزارة من خلال تعيين خمسة مساعدين جدد لوزير الدفاع وثلاثة وكلاء.
في موازاة ذلك، اتخذ محمد بن سلمان خطوات حازمة وواسعة لإعادة هيكلة المصالح الاقتصادية والتجارية للقطاعَين الدفاعي والأمني وتوسيعها. تأسست الشركة السعودية للصناعات العسكرية في أيار/مايو 2017 كفرعٍ دفاعي تابع لصندوق الاستثمارات العامة، أي صندوق الثروة السيادية السعودي الخاضع حصراً لإمرة محمد بن سلمان. وقد أُنشئَت الهيئة العامة للصناعات العسكرية في آب/أغسطس 2017 للاهتمام بشؤون المشترياتالخاصة بوزارتَي الدفاع والداخلية وغيرهما من الأجهزة مثل رئاسة أمن الدولة. إشارة هنا إلى أن الشركة السعودية للصناعات العسكرية والهيئة العامة للصناعات العسكرية تخضعان إلى سيطرة لجنة وزارية يرأسها محمد بن سلمان.
في حين أن هذه الخطوات تهدف ظاهرياً إلى كبح الفساد والكمّ الكبير من العمولات التي يتم تقاضيها في قطاع عالي الربحية، إلا أنها تسبّبت بنقلٍ واسع للأصول والصلاحيات من الخصوم المحتملين، ومنها محفظة شؤون الذكاء السيبراني التي كانت من مسؤولية وزارة الداخلية ونُقِلت إلى عهدة رئاسة أمن الدولة. كما منحت هذه الخطوات أيضاً محمد بن سلمان أصولاً مالية إضافية، على الرغم من أن أجهزة على غرار الشركة السعودية للصناعات العسكرية قدّمت أداء دون المستوى، وذلك نظراً إلى قدرته على توجيه الاستثمارات والعقود المموَّلة من صندوق الاستثمارات العامة نحو الأجهزة الدفاعية والأمنية المفضَّلة لديه. وقد عزّز الأمير محمد هذه النزعة عبر إصدار أوامره، في تموز/يوليو 2018، لمراجعة العقود الدفاعية القائمة، ماشكّل انعكاساً لخطواته الآيلة إلى مراجعة عقود بناء مدنية واسعة أو إلغائها منذ العام 2016، مستخدِماً سلطته الموازية كرئيس لمجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية.
هذه الآليات غير مكتملة، وقد يكون مصير بعضها الفشل. فليس أكيداً، على سبيل المثال، أن قيادة العمليات المشتركة المنوي إنشاؤها في إطار المؤسسة العسكرية – كجزءٍ من خريطة الطريق لتطوير وزارة الدفاع والتي صادق عليها الملك سلمان في تموز/يوليو 2017 – سوف تُبصر النور. بيد أن الأثر التراكمي هو ذو طبيعة تحوّلية: يجري التخلّص من إطار العمل الدفاعي والأمني الذي كان مجزّأً في السابق واستبداله بإطار أكثر وحدوية، في انعكاس لاتجاهٍ مماثل داخل الدولة السعودية. مايقوم به الأمير محمد ليس أمراً غير معهود أو جديداً بالكامل، بل إنه متجذّر بقوّة في التغييرات الداخلية في الميدانَين الاقتصادي والمؤسّسي، والتي تشهدها المملكة منذ سنوات.
أياً تكن تداعيات مقتل خاشقجي، محمد بن سلمان في موقعٍ يُخوّله مقاومة أي محاولة داخلية لخلعه من منصبه. ونظراً إلى حجم الارتباط الاقتصادي الغربي مع السعودية، يتطلب الأمر مستوى من العقوبات الدولية التي تفوق التصوّر تماماً من أجل التأثير قليلاً في موقعه الداخلي. وحتى لو حدث ذلك، سيتعيّن على الحكومات الغربية أن تُهدّد القطاعَين الدفاعي والأمني السعوديين بالشلل التام قبل أن تتمكّن من التصدّي للنزعة التي يتّبعها محمد بن سلمان.

جواديات

جواديات









الاثنين، 29 أكتوبر 2018

شنجول وسقوط الدولة العامرية



شنجول وسقوط الدولة العامرية

تولية عبد الرحمن المنصور المعروف بشنجول وانقلاب أهل الأندلس عليه وسقوط حكم بني عامر
د. راغب السرجاني 
من خَلْف ستار الخلافة الأموية ظلَّ الحاجب المنصور بن أبي عامر يحكم الأندلس ابتداءً من سنة (366هـ= 976م) وحتى وفاته –رحمه الله- سنة (392هـ= 1002م)، وقد استخلف على الحجابة من بعده ابنه عبد الملك بن المنصور، فتولَّى الحجابة منذ قُتل والده وحتى وفاته سنة (399هـ= 1009م) أي سبع سنوات متصلة، سار فيها على نهج أبيه في تولِّي حُكم البلاد، فكان يُجاهد في بلاد النصارى كل عام مرَّة أو مرَّتين، كل هذا وهو -أيضًا- تحت غطاء الخلافة الأموية.

في هذه الأثناء وعند بداية ولاية عبد الملك بن المنصور أمر الحجابة كان الخليفة هشام بن الحكم (هشام المؤيد) قد بلغ من العمر ثمانية وثلاثين عامًا، ومع ذلك فلم يطلب الحُكم، ولم يحاول قط أن يُعمل نفوذه وسلطانه في بلاد الأندلس، فكان قد تعوَّد على حياة الدعة واستماع الأوامر من الحاجب المنصور ومن تلاه من أولاده.

عبد الرحمن شنجول

في سنة (399هـ= 1009م) توفي الحاجب المظفر، فتولَّى أمر الحجابة من بعده أخوه عبد الرحمن بن المنصور المشهور بعبد الرحمن شنجول[1]؛ حيث كان أولاد بني عامر يتملَّكُون زمام الأمور في البلاد، وأخذ -أيضًا- يُدير الأمور من وراء الستار، لكنه كان مختلفًا عن أبيه وأخيه، فإضافة إلى أن أُمَّه كانت بنت ملك نافار وكانت نصرانية، فقد كان عبد الرحمن بن المنصور شابًّا ماجنًا فاسقًا، شَرَّابًا للخمر، فعَّالاً للزنا، كثير المنكرات، فكرهه الناس في الأندلس [2].

وفوق ذلك فقد قام عبد الرحمن بن المنصور بعمل لم يُعهد من قَبْلُ عند العامريين، وهو أنه أجبر الخليفة هشام المؤيد في أن يجعله وليًّا للعهد من بعده، وبذلك لن يُصبح الأمر من خَلْفِ ستار الخلافة الأموية كما كان العهد حال تولِّي والده محمد بن أبي عامر، أو أخيه عبد الملك بن المنصور، فكان أن ضجَّ بنو أمية لهذا الأمر، وغضبوا وغضب الناس أجمعون، لكن لم تكن لهم قدرة على القيام بأي ردِّ فعل؛ خاصة وأن عبد الرحمن بن المنصور قد جعل جميع الولايات في أيدي العامريين وفي يد البربر، الذين هم أتباع العامريين منذ أيام الحاجب المنصور[3].

سقوط الدولة العامرية

ومع كل هذا الفسق وهذا المجون الذي كان يعيشه عبد الرحمن بن المنصور إلاَّ أن الشعب كان قد تعوَّد حياة الجهاد، والخروج كل عام إلى بلاد النصارى، فلمَّا خرج شنجول على رأس جيش من الجيوش إلى الشمال، انتهز الناس الفرصة وأرادوا أن يُغَيِّرُوا من الأمر، فذهبوا إلى هشام المؤيد في قصره وخلعوه بالقوَّة، وعَيَّنُوا مكانه رجلاً من بني أمية اسمه محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر (من أحفاد عبد الرحمن الناصر)، وما أن طار الخبر إلى عبد الرحمن شنجول حتى بدأت الجموع التي معه تنفضُّ من حوله شيئًا فشيئًا، فلمَّا دخل إلى قُرْطُبَة كان الناس قد انفضوا عنه وانحازوا إلى محمد بن هشام الذي تلقَّب بـ«المهدي»، ثم ما لبث أن أرسل إليه المهدي جماعة قبضوا عليه وقتلوه وأرسلوا إليه برأسه[4].

وتقول بعض الروايات أنه التجأ إلى دَيْر فأعطاه أحد رهبانه طعامًا وشرابًا، ثم عثر عليه رجال بني أمية سكران، فأظهر الخوف والجزع، وادعى دخوله في طاعة المهدي، فلم يشفع له ذلك فقتلوه[5].

واشتعلت الثورات في الأندلس، فكأنَّ مقتل عبد الرحمن بن المنصور واشتعال الفتن والثورات في الأندلس كانا بميعاد، فمنذ أن قُتِلَ عبد الرحمن بن المنصور انفرط العقد تمامًا في البلاد، وبدأت الثورات تكثر والمكائد تتوالى، وبدأت البلاد تُقَسَّم.

[1] شنجول: هو لقب كانت أمه تدعوه به منذ صغره، باسم سنجول Sanchuelo، تذكراً منها لأبيها سانشو غرسيه ملك نافار الذي أهدى ابنته للمنصور بن أبي عامر فتزوجها واعتنقت الإسلام وحسن إسلامها.

[2] ابن عذاري: البيان المغرب، 3/38، وابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص66.

[3] ابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص94، وتاريخ ابن خلدون، 4/149، والمقري: نفح الطيب، 1/426.

[4] انظر: ابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص96، وتاريخ ابن خلدون، 4/149، والمقري: نفح الطيب، 1/426.


[5] ابن عذاري: البيان 
 المغرب، 3/72.



   فتنة شنجول".. كيف بدت 
  الأندلس آخر أيام الخلافة ؟ 
كان الخليفة الحكَم المستنصر بن عبد الرحمن الناصر (350 - 366هـ/961- 977م) آخر عظيم أموي في الأندلس على الحقيقة، وإن جاء بعده أمويون ضعفاء. لقد أنجب الحكمُ ولدين، هما عبد الرحمن الذي مات طفلاً، وهشام الذي اضطر الحكَم إلى إعلانه وليا للعرش قُبيل وفاته سنة 365هـ، حين نزل به مرض الموت منذ عام 364هـ، وما لبث المستنصر أن وفاته المنية سنة (366هـ/976هـ) عن عُمر ناهز الرابعة والستين عامًا.


الحاجب المنصور بن أبي عامر

كان هشام المؤيد بن المستنصر في الثانية عشرة من عمره حين ارتقى إلى سدة العرش، وكانت بجواره أمه صبح البشكنجية وصية على ولدها الخليفة القاصر، على أن القوة الحقيقية كانت بيد رجلين، الأول جعفر بن عثمان المصحفي الحاجب، وقائد الشرطة محمد بن أبي عامر الذي كان على صلة وثيقة بصبح حين كان وكيلا لأعمال وأملاك ولدها هشام الثاني المؤيّد. وإثر تنافس محموم بين الرجلين، تمكن محمد بن أبي عامر من استصدار مرسوم من الخليفة القاصر بمساعدة من أمه، يأمر فيه بعزل المصحفي وسجنه سنة 371هـ، وهو ما تم له، ثم أمر ابن أبي عامر بعدما استتب له الأمر، بإقصاء صبح حليفته السابقة، والحجر على ولدها هشام المؤيّد، ولُقب بالمنصور، ودُعي له على المنابر[1]، وبهذا أطلت الدولة العامرية برأسها في الأندلس، منذ تلك اللحظة ولمدة ربع قرن قادم بوصاية على الأمويين تشبه ما قام به البويهيون والسلاجقة في المشرق على بني العباس.
تمثال للحاجب المنصور بن أبي عامر الذي لم يهزم قط (327هـ/938م - 392هـ/1002) 


تمكّن المنصور من قيادة الأندلس ببراعة على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية، واتسعت غزواته وفتوحاته في الشمال، حتى إنه حين وفاته قد جمع غبار تلك المعارك التي بلغت أكثر من خمسين غزوة وأوصى أن تنثر على كفنه.

خلف المظفّرُ عبدُ الملك بن محمد بن أبي عامر أباه في الحجابة في رمضان سنة 392هـ، وهي بمثابة رئاسة الحكومة والدولة على الحقيقة مع وجود الخليفة الضعيف المحجور عليه هشام المؤيّد بن الحكم، الذي أقرّه على ما كان عليه والده المنصور، ولقد شابه المظفر عبد الملك أباه في اليقظة والذكاء والحنكة والمهارات السياسية والعسكرية، غير أنه كان أقل منه في المعرفة والعلم، وسار على درب والده في جهاد الإفرنج النصارى في شمال الأندلس، فغزاهم ست غزوات في عصره القصير كُتب له فيها الظفر والنصر، لكن باغته الموت وهو ما يزال شابًا في الرابعة والثلاثين من عمره في 16 صفر سنة (399هـ/ أكتوبر (تشرين الأول) 1008م)، وقد قيل إن أخاه عبد الرحمن هو الذي دسّ له السم حسدًا وغيرة[2].

شنجول يُوقد الفتنة!
كان عبد الرحمن الذي لقّب نفسه الناصرَ قد أطلق عليه أهل قُرطبة "شنجول"؛ ذلك أنه لم يكن أخا شقيقا للمظفر عبد الملك الذي كانت أمهم سلمة حرة، لكن عبد الرحمن كان حفيداً لسانشوغرسية ملك نافار، وكانت أمه الأميرة النافارية حينما تزوجت المنصور قد اعتنقت الإسلام، وتسمّت باسم "عبدة"، وكان ولدها عبد الرحمن "أشبه الناس بجده" النافاري الإسباني. وكان لهذه الأرومة الفرنجية الواضحة، أثرها في انصراف الناس عن محبته والعطف عليه، وكان يزيد في هذه الوحشة بين عبد الرحمن وبين الشعب، انحرافه وخلاله السيئة، فقد كان فاجرًا كثير الاستهتار والمجون، يقضي معظم وقته في الشراب واللهو[3].

"قرر عبد الرحمن التوجه صوب قرطبة مع نفر من بعض أنصاره الإسبان من مقاطعة كريون في جلّيقية، ظنًا منه أنه متى ما ظهر في قرطبة فإن الناس سينصرونه، لكن هذا القرار كان حتفه"

لم يكن عبد الرحمن يجاهر بالعصيان، ويستهزئ بالشعارات المتبعة، ويحقر من أصحاب المكانة من الأشراف والأكابر، ويجاهر بالطغيان فقط، بل فوق ذلك أرهب الخليفة الضعيف -هشام المؤيد- واضطره إلى إعلانه وليا للعهد في سابقة لم تحدث، يريد بذلك نزع الخلافة وانتقالها من بني أمية إلى بني عامر، وقد كان أبوه المنصور أشد منه قوة، وأكثر حنكة وذكاء، قد استمر في حكم الأندلس مع وجود هشام أكثر من ثلاثين عاما، ولم يجرؤ على هذه الخطوة لعواقبها الوخيمة في نفوس الشعب الأندلسي، لكن عبد الرحمن شنجول استصدر الأمر، وأعلنه على عامة الناس بقرطبة في (15 ربيع الأول 399هـ/نوفمبر 1008م)، بُعيد أيام قليلة على ارتقائه للحجابة ووفاة أخيه المظفر[4]!


رأت الأسرة الأموية في قرطبة أن عبد الرحمن بن المنصور العامري قد بلغ من الطيش مداه، فسعت سرًا إلى تأليب الناس، وصنع التحالفات ضده، وانتهزت فرصة خروجه لغزو الممالك المسيحية في الشمال، وكانت غزوة فاشلة بكل المقاييس لخروجها في الشتاء، وعدم الإعداد الجيد لها، وكونها مجرد دعاية لشنجول، حتى أعلن أحدهم وهو محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر تزعّمه لحركة العصيان والانقلاب على الحاجب عبد الرحمن "شنجول"، وبالفعل نجح الأمير الأموي بمساعدة عامة الناس في حركته، فاحتل قصر الإمارة في قرطبة، وأذعن الحرس له، وتمكن من خلع قريبه الخليفة الضعيف -هشام المؤيد- في (17 جمادى الآخرة سنة 399هـ/ 16 فبراير 1009م)، ولُقّب بالمهدي بالله، وعين ابن عم له وليا لعهده هو سليمان بن هشام بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر، وقد عاث الناس في مدينة الزاهرة التي بناها المنصور العامري حتى استحالت خرابًا[5].


وصل الخبر إلى الحاجب عبد الرحمن العامري، فبادر إلى خلع نفسه من ولاية العهد والاكتفاء بالحجابة، وأرسل إلى أهل قرطبة بذلك بُغية التعاطف معه، لكن أحدًا لم يأبه له، وحاول أن يأخذ العهد على كبار رجال جيشه بنُصرته في المواجهة المرتقبة أمام الأمويين، لكنهم لم يفعلوا، وتخلوا عنه، حتى إن والي طُليطلة أحد أشد الموالين لأبيه المنصور لم يقف بجوار شنجول في هذه المحنة، وبدلاً من الفرار والتخفي، قرر عبد الرحمن التوجه صوب قرطبة مع نفر من بعض أنصاره الإسبان من مقاطعة كريون في جلّيقية، ظنًا منه أنه متى ما ظهر في قرطبة فإن الناس سينصرونه، لكن هذا القرار كان حتفه، فما كاد يقترب من قرطبة حتى تمكن الجند الموالي للمهدي بالله الخليفة الجديد من القبض عليه وقتله[6].

خلافة المهدي الطائش
أحسّ المهدي بالقوة المفرطة بعد القضاء على خصومه، وكان كما يقول أديب الأندلس ومؤرخها، لسان الدين بن الخطيب "جرار جسور، ثائر مخاطر، خليع، مداخل للصقورة والفتاك، لا يدري في أي واد يهلك"[7]، لم يكن المهدي الأموي مثل سابقيه من الأمويين، مثل المستنصر وجده الأكبر الناصر، هؤلاء العظماء الذين حكموا الأندلس بالسياسة الثاقبة، وبالقوة واللين والذكاء، والنظر إلى تقديرات المواقف والعواقب.

حرّض المهدي على قتل البربر، وجعل لرؤوسهم أثماناً، ففتكَ العامة بكثير منهم، ومن بينهم عدة من الزعماء، ونهبوا دورهم، واغتصبوا النساء وسبوهن، كل ذلك في مناظر مثيرة من السفك والاعتداء الغاشم (مواقع التواصل)

في تلك الأثناء، استغل المهدي وجود شبه بين موتى أحد النصارى في قرطبة وبين الخليفة المخلوع هشام المؤيّد بن المستنصر، فأعلن عن وفاته ليأمن عدم الانقلاب عليه، وبالفعل أقنع كبار القوم وعامة قرطبة بهذا الخبر.



حين رأى المهدي أن الأمور قد استقرت له، أطلق العنان لشهواته ومجونه، بصورة أفقدته تأييد أقرب المُقرَّبين له وهو ولي العهد سليمان بن هشام الأموي، الأمر الذي أخذ معه قرارًا بسجن ولي العهد وعددا من كبار الأسرة الأموية، وقرر تسريح سبعة آلاف جندي من الجيش، ثم إنه لم يكتف بهذه العداوات، فجرّ على نفسه عداوة أخرى أطم وأعظم حين أعلن عداوة البربر، وكان المهدي بالله يمقتهم أشد المقت لأنهم كانوا عضد المنصور ابن أبي عامر على الأمويين[8].



رأى بعض كبار الأسرة الأموية أن ما يفعله المهدي يضعهم جميعًا على المحك، ويُدخلهم في عداوة مباشرة مع طوائف وقبائل قرطبة وبقية الناس في الأندلس كافة، فقرر هشام بن سليمان والد ولي العهد أن يتحالف مع بقايا القادة العسكريين العامريين الصقالبة والبربر، فأرسلوا إلى المهدي بالله طالبين منه خلع نفسه عن العرش، والإفراج عن ولي العهد سليمان بن هشام، لكن محمد المهدي بالله لم يلتفت لهم، وحين وصل الطرفان إلى لحظة الصدام، كانت المواجهة التي لابد منها.

خرج محمد المهدي بالله في جموعه لمواجهة خصومه، ودار القتال بينهم على مدار يومين متواليين في قرطبة، وقد أسفرت المعركة عن هزيمة هشام وجموعه من البربر والعامريين، فأُسر هشام وابنه وأخوه أبو بكر ونفر من الزعماء الآخرين، فأصدر المهدي قراره بقتلهم جميعاً. وانهالت الدهماء على دور البربر، فأعملت فيها التدمير والنهب حتى دخل الليل، وكان ذلك في أواخر (شوال 399هـ/يونيو 1009م). ودافع البربر عن أنفسهم، ثم انسحب معظمهم إلى أرملاط (Guadimellato) ضاحية قرطبة، ووقع القتال بقرطبة بين من تبقى منهم وبين العامة، وحرّض المهدي على قتلهم، وجعل لرؤوسهم أثماناً، ففتكَ العامة بكثير منهم، ومن بينهم عدة من الزعماء، ونهبوا دورهم، واغتصبوا النساء وسبوهن، كل ذلك في مناظر مثيرة من السفك والاعتداء الغاشم؛ واختفى كثير من زعمائهم. وتوجس المهدي من العواقب، فأصدر للبربر أمانًا، ونادى بالكف عنهم[9].

المصادر
1محمد عبده حتاملة: مدخل لدراسة تاريخ الأندلس ص89
2ابن عذارى: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب 3/37
3محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 1/623.
4تاريخ ابن خلدون 6/148.
5المقّري: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب 1/426.
6ابن عذارى: البيان المُغرب 3/70.
7ابن الخطيب: أعمال الأعلام ص109.
8محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 1/643.
9محمد عبد الله عنان: السابق 1/645.



برنامج مفارقات

برنامج مفارقات 
تقديم
 أ.د.صلاح الدين سلطان

1/3

2/3



3/3

الربيع والتطبيع لا يلتقيان



الربيع والتطبيع لا يلتقيان

 وائل قنديل

في سالف الأيام، كان العرب يتنافسون على لقب الأكثر بعدًا عن التطبيع مع الصهاينة، والأعلى صوتًا في رفض الالتحاق بالمشروع الأميركي، والأوضح موقفًا في التمسّك بالحق الفلسطيني، كاملًا غير منقوص.

أما الآن، فجاء الوقت الذي يتصارع فيه العرب على من يكون الأكثر تطبيعًا، يستوي في ذلك التطبيع المباشر، الصريح، كما في حالة سلطنة عمان، أو التطبيع الموارب، كما في حالة توافد البعثات الرياضية الصهيونية على عواصم خليجية أخرى، الدوحة وأبو ظبي والمنامة، أو في تسهيل وصول صحافي إسرائيلي إلى الرياض والمدينة المنورة، بزعم أنه تسلّل خفيًة.

الأسوأ أن التهافت على التطبيع صار جزءًا من إدارة الصراعات العربية - العربية، مكايدة واستقواءً وحجزًا للأماكن المميزة في القطار الإسرائيلي الأميركي، وكأن تل أبيب صارت المخرج من الأزمات، تشدّ إليها الرحال، حين يستعر الصراع بين الأشقّاء العرب.

بهبوط طائرة رئيس حكومة الاحتلال الصهيوني في مطار مسقط، مرورًا بأجواء السعودية والبحرين وقطر والإمارات، نكون بصدد زلزالٍ عنيف، يحمل الكيان الصهيوني إلى العمق الخليجي، من دون أدنى ممانعةٍ، إذ استبق الصهاينة قفزة سلطنة عمان بالوصول، بأعلامهم الرياضية، إلى الدوحة وأبو ظبي، ومن ثم لم يعد أحدٌ يملك القدرة، أو الجدارة، لانتقاد أحد، فالكل في التطبيع عربٌ، ثم يأتي أول توابع الزلزال بالإعلان عن مفاوضاتٍ مباشرةٍ بين البحرين والكيان الصهيوني لإقامة علاقات كاملة وعلنية.

في هذه اللحظة البائسة، بات أقصى ما تطمح إليه عاصمة عربية أن يقال إنها الأكثر تسامحًا وسعة صدرٍ مع رافضي التطبيع، وبعد أن كان معيار المفاخرة أن هذه العاصمة أو تلك عصيةٌ أكثر من غيرها على الاختراق التطبيعي، يتدنّى المعيار إلى الأكثر تسامحًا مع مظاهر الاحتجاج الخجول على الأنشطة التطبيعية، باعتبار ذلك دليل تنوّع وقبول للاختلاف في وجهات النظر.

تتيح هذه الوضعية لجمهور نظام عبد الفتاح السيسي، الذي هو منتج صهيوني بالأساس، فرصة التندر والسخرية من عواصم عربية كانت، حتى وقت قريب، تظهر اندهاشًا وامتعاضًا من هذا التماهي والانصهار الكاملين بين قاهرة الانقلاب العسكري، المدعوم إسرائيليًا، والاحتلال الصهيوني، المخدوم سيسيًا، الأمر الذي باتت معه أبواب التطبيع مفتوحةً، من دون مزايدة أو معايرة، إذ لم يعد مقبولًا، منطقيًا أو أخلاقيًا، أن يأتي شخصٌ ويبرّر التطبيع في نقطة، ويهاجمه في نقطة أخرى، فإذا اتفقنا على أن كل التطبيع جريمة في أي وقت.. وفي أي مكان، فإن إدانته واجبةٌ بالدرجة ذاتها، بصرف النظر عن حجمه وعن مرتكبه.

والحاصل أن تيار التطبيع لم يجد كل هذه المساحات المفتوحة للتمدّد إلا مع انكسار موجة الربيع العربي، ولو نظرت إلى ثورات الشعوب العربية قبل خمس سنوات، ستجد القضية الفلسطينية في القلب منها، ورافدًا أساسيًا من روافد الغضب والرغبة في التغيير والتحرّر من أنظمةٍ حكمت بالاستبداد والقمع، بحيث كان الربيع العربي سيرًا في الطريق المعاكس لنهج التطبيع، حيث تتأكد المعادلة بأن الربيع والتطبيع لا يلتقيان، فالذي يقف مع التطبيع سيكون بالضرورة ضد الربيع ولو قال فيه شعرًا.

وعلى ذلك، ليس غريبًا أن من يحاربون الربيع العربي، على مدار السنوات الخمس الماضية، هم الأكثر هرولةً في اتحاه التطبيع، والأشد تلمظًا من مشروع مقاومة الانقلابات والاحتلال، إذ يشكلون فيما بينهم محورًا معاديًا للتغيير والتحرير معاً.

الأحد، 28 أكتوبر 2018

شاهد وسجين..

شاهد وسجين.. مبارك ومرسي وجها لوجه أمام المحكمة

قررت محكمة مصرية الأحد استدعاء الرئيس المخلوع حسني مبارك للشهادة في القضية المعروفة باسم "اقتحام السجون" أو "اقتحام الحدود الشرقية" التي يحاكم فيها الرئيس المعزول محمد مرسي.
وبذلك قد يتواجه مبارك الذي أطاحت به ثورة شعبية يوم 25 يناير/كانون الثاني 2011، مع مرسي الذي جاءت به الثورة ذاتها كأول رئيس مدني منتخب ديمقراطيا في تاريخ مصر.
وأفادت وسائل إعلام مصرية بأن محكمة جنايات جنوب القاهرة قررت تأجيل إعادة محاكمة مرسي و27 آخرين بينهم المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين محمد بديع، المحبوسين جميعا.
وأوضح مصدر أن المحكمة قررت التأجيل لجلسة 7 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل لسماع أقوال رئيس مكتب مخابرات حرس الحدود بمحافظة شمال سيناء (لم تذكر اسمه)، كما حددت المحكمة جلسة 2 ديسمبر/كانون الأول المقبل لسماع أقوال مبارك.
وخلال جلسة اليوم، قال اللواء حبيب العادلي -آخر وزير داخلية في عهد مبارك- في شهادته أمام المحكمة إن اقتحام السجون تم بمساعدة عناصر أجنبية.
ويُعد قرار المحكمة باستدعاء مبارك للشهادة في القضية القرار الأول من نوعه منذ الإطاحة به يوم 11 فبراير/شباط 2011.
يُذكر أن مرسي وعدد كبير من قيادات جماعة الإخوان المسلمين كانوا قيد الاعتقال عند اندلاع ثورة يناير 2011، ورغم ذلك يحاكمون بتهمة "اقتحام السجون" تزامنا مع الثورة.
وعقب الثورة، وُجهت العديد من التهم لمبارك ورموز نظامه من بينها الاشتراك في قتل متظاهرين والفساد، وتمت تبرئته منها.
وأمضى مبارك جزءا قليلا من مدة محاكمته في سجن طرة جنوبي القاهرة، في حين مكث غالبية المدة الماضية في مستشفى المعادي العسكري.
في حين يُعيد القضاء محاكمة مرسي في قضيتين ألغت محكمة النقض أحكامهما، الأولى الإعدام في قضية "اقتحام الحدود الشرقية"، والثانية هي "التخابر مع حركة حماس" الصادر فيها حكم بالسجن 25 عاما.
كما سبق أن صدر حكم نهائي بحق مرسي بالسجن 25 عاما في قضية "التخابر مع قطر" في سبتمبر/أيلول 2017 بخلاف حكم نهائي بالسجن 20 عاما في أكتوبر/تشرين الأول 2016 في القضية المعروفة إعلاميا بـ"أحداث الاتحادية"، في إشارة إلى القصر الرئاسي.
وهناك أيضا قضية "إهانة القضاء" التي قضت المحكمة فيها في وقت سابق من الشهر الجاري بالحبس ثلاث سنوات بخلاف حكم نهائي بإدراجه على "قوائم الإرهاب" لمدة ثلاث سنوات.

علمانية وإلحاد

علمانية وإلحاد

د.محمد عمارة

كانت تركيا كمال أتاتورك (1881 - 1938م) هي الدولة الإسلامية الوحيدة التي طُبقت فيها وفرضت عليها العلمانية الكاملة، بل والمتوحشة والمجنونة!

فلقد تم تحريم تدريس الدين في المدارس، وبُدلت الحروف العربية في الكتابة بالحروف اللاتينية، ففقد الشعب ذاكرته الإسلامية، وانقطعت صلاته بتاريخه وتراثه الإسلامي، وحرّموا الأذان باللغة العربية، وجاؤوا بالقانون السويسري ليحكم الأحوال الشخصية للأسر التركية المسلمة، ومُنع طبع الكتب الإسلامية، وتم تغيير الزي، وطلب من علماء الإسلام لبس القبعات بدلا من العمائم، وشُنق منهم الكثيرون الذين رفضوا زي الخواجات! ووصل الأمر إلى حد خشية الآباء تعليم أبنائهم آيات القرآن الكريم، بل وإخفاء المصاحف حتى لا تظهر في البيوت!

وحلت - في الثقافة والفكر والإعلام والتعليم - كلمات "الطبيعة والتطور والقومية التركية" محل كلمات "الله والرب والخالق والإسلام"!

وأصبح الإيمان بالله والغيب والملائكة والبعث جهلا يثير سخرية النخبة العلمانية وغضب الحكام، وصدرت في إسطنبول عام 1932م "دائرة معارف الحياة"، وجاء فيها بالحرف الواحد:
"إن الفكرة التي تريد الأديان الموجودة حاليا أن تبينها هي أن الله واحد، وأنه هو الذي خلق الكون، ولكن التقدم العلمي بدأ يوضح شيئا فشيئا بأن هذه الفكرة باطلة، وأنه لا وجود لشيء اسمه الله، وقد انتشرت فكرة عدم الاعتقاد بالله بين أوساط المثقفين"!

وجاء في هذه الموسوعة - أيضا - تحت عنوان "آدم وحواء":

"تذكر كتب الأديان أن آدم هو أول إنسان أتى إلى الدنيا، فحسب الأساطير الدينية، فإن الله قام بخلق الإنسان بعد الأرض، كما خلق في الوقت نفسه امرأة باسم حواء ووضعهما في الجنة، ولكنهما طردا من الجنة ونزلا إلى الأرض بعد قيامهما بأكل الثمرة التي حرمت عليهما، ومن تناسلهما وُجد الناس الحاليون، ويستحيل اليوم الإيمان بهذه الأسطورة الدينية، ذلك لأن العلم كشف تقريبا عن كيفية ظهور الإنسان"!


ولم يقف الأمر عند نشر المادية والإلحاد والسخرية من الدين في دوائر المعارف وكتب النخبة، وإنما فرض الإلحاد على مناهج التعليم وعقول التلاميذ الصغار، فجاء في كتاب "اللغة التركية والأدب التركي" الذي يدرسه الطلاب في المدارس: "من المعلوم أن الإنسان مخلوق من قبل الطبيعة"!

وفي إنكار النبوة والوحي والرسالة، جاء في هذا الكتاب: "كان الإنسان في أول الأمر عبد للطبيعة، ثم أضيفت عبودية أخرى إلى هذه العبودية، وهي العبودية للأشخاص الذين ادعوا وصول القوة والحكم لهم من السماء"!!

ووقف المعلم في المدرسة مخاطبا تلاميذه الصغار قائلا: "أيها الصغار ما رأيكم هل هناك شيء اسمه الله؟! 

فلما صرخ أحد التلاميذ قائلا: "نعم يوجد"، ضحك المعلم وقال: "لا وجود لمثل هذا الشيء أيها الصغار، فهذه حكايات العجائز، وهي كذب"!

نعم، لقد فرض هذا الكفر والإلحاد على تركيا، لكن الإيمان الإسلامي صمد، بل قذف بهذا الغلو العلماني إلى مزبلة التاريخ، فهل يتعظ غلاة العلمانيين؟!

فوق السلطة - خاش ما طاش

فوق السلطة - خاش ما طاش



             خاش ما طاش          

تناولت حلقة برنامج "فوق السلطة" (2018/10/26) موضوعاتها تحت العناوين التالية: مسلسل خاش ما طاش انطلق بروايات هندية. ترامب من راحة الضمير إلى الشك بالأمير. أمطار الدوحة لا تغسل التطبيع الرياضي.
وقد بدأت الحلقة بحديث مقدمها عن حاجته إلى العلاج: "فعلا أحتاج للعلاج؛ أعتقد أن أحد لا يصدقني وأنا أتبنى الروايات السعودية الرسمية بأن المملكة كإدارة لا دخل لها في غزوة القنصلية، ولا في عملية أسنان المناشر؛ لكن العالم لا يصدقني".
لقد كان الأمير محمد بن سلمان محقا عندما قال لـ"بلومبيرغ" إن جمال خاشقجي غادر القنصلية، صحيح أنه لم يغادرها حيا كقطعة واحدة.. لكنها غادرها على دفعات.
الرواية السعودية الرسمية الأولى جاءت مسلوقة أو كالبصلة المحروقة، لقد كُتبت على عجل، وعلى نحو جعل كثيرا يظنون أن مخطط الجريمة وسيناريو الرواية كُتبا بقلم واحد؛ لكن إذا ضاق بكم الحوار فعليكم بالمنشار.
حياة جمال
وتساءلت الحلقة هل تدخل دماء خاشقجي مؤشرات البورصة؟ وهل يدفع الإنسان العربي أصلا ثمن جنسيته غير المحمية؟
لا يستطيع ترامب إعادة جمال للحياة، لكن جمال يستطيع الآن إعادة الحياة إلى عشرات المصانع الأميركية بدمائه الزكية والريالات السعودية، فيأتي من الأميركيين مَن يقول للسعودية: خذوا نفطكم وارحلوا.
واختُتمت الحلقة باستعراض عينات من السباق الحاد بين إعلام الرياض وإعلامالقاهرة على الطمع في الذاكرة القصيرة للمشاهدين، ثم انتهت بأن الخلاصة -في قضية خاشقجي- هي ما تفضل به الكاتب السعودي تركي الحمد، حين قال إن قتل خاشقجي نفذته "عصابة تحكم دولة وتحكم شعبا".

بين سيرتين: موسى وعمر

بين سيرتين: موسى وعمر 

الخميس 01 شعبان 1438 الموافق 27 إبريل 2017






إذا كان الرجل العظيم هو من يجعل من حوله يشعرون أنهم عظماء، فذلك هو ما فعله موسى -عليه السلام- حين جعل من القوم المُستضعَفين بمصر قوة موحدة، تتحدى الطغيان وتفارق الأوطان، وهو ما فعله عمر الفاروق -رضي الله عنه- حين يمم وجهه شطر فارس والروم، وأطلق حركة الفتوح، وحقق نبوءة: (أخَذَ الدَّلو عُمَر فَاسْتَحَالَتْ غَرْبًا فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَفْرِى فَرْيَهُ حَتَّى رَوِىَ النَّاسُ)، ذاك ابن عمران، وهذا عمر، ذاك موسى الكليم، وهذا عمر الفاروق.

ومن لطائف التدبير السياسي الإسلامي؛ أنه إذا كان خُلُق الرجل العظيم يميل إلى اللِّين، فينبغي أن يكون خُلُق نائبه يميل إلى الشِّدة؛ وإذا كان خُلُقه يميل إلى الشِّدة، فينبغي أن يكون خُلُق نائبه يميل إلى اللِّين؛ ليعتدل الأمر، كما ذكر العلماء، ولهذا كان هارون الموصوف باللِّين وزيراً لموسى الموصوف بالشِّدة في الحق، وكان عمر الموصوف بالشِّدة في الحق وزيراً لأبي بكر الصديق الموصوف باللِّين، وكان أبو بكر يؤثر استنابة خالد بن الوليد المعروف بالشِّدة، وكان عمر يؤثر عزل خالد، واستنابة أبي عبيدة بن الجراح؛ لأن خالداً كان شديداً، كعمر بن الخطاب، وأبا عبيدة ليِّن كأبي بكر -رضي الله عنهم أجمعين-.

والحق ركنان: بنّاءٌ وهدّام.

ذاك عاصر فرعون المتألّه وتربى في ظلّه، ولم ينتقص هذا من ثقته بنفسه، ولا إدراكه لهويته، ولا صدقه مع ذاته.

وهذا عاصر فرعون هذه الأمة وكان من أخواله، ولم يؤثر هذا على استقلال شخصيته، ولا إقدامه على اعتناق الدين الجديد.

ذاك نبي معلَّم مكلَّم، وهذا صِدِّيق شهيد ملهَم، وكلاهما له من شفوف النفس وزكاء القلب وتواضع الكبار، ما يستلهم به موارد الحق ومواقع الصواب.

تشابها في الخَلْق والجسامة والطول، وتشاكلا في الأخلاق والطبائع والعقول.

الجاذبية والسر الغريب (الكاريزما)، القيادة الفطرية، والقوة الحيوية المؤثرة، قوة باعثة مشفوعة بالرحمة، لا قوة متسلطة طاغية، أولياء لله من هذه الأمة كأنبياء بني إسرائيل.

لا غرو أن يقارن الاسم الاسم، ويقارب الرسم الرسم.

نفوسٌ صادقة مع ذاتها ومع ربها، فلا عجب أن تتصل قلوبهم بالسماء، فتكون راسخة في الطمأنينة، حتى عندما ترتجف الأرض من تحت الأقدام، صعد موسى عليه السلام الجبل ومعه سبعون رجلاً من قومه، فرجف بهم الجبل، فقال: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} (155:الأعراف).

وفي صحيح البخاري: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صعد جبل أحد، وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فقال: « اثْبُتْ أُحُدُ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِىٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ »، انتهى الموقف بكل هدوء.

في أسرى بدر رأى أن يُجندل الأسرى على جنوبهم، فكان شبيهاً لموسى: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} (88:يونس).

أتى بصحيفة من التوراة، فبادره رسول الله: (لو كان أخي موسى حيَّاً ما وسعه إلا اتباعي).

يذهل لخبر الرحيل، فيتمعّر حباً، ويرقى المنبر متحدّثاً بالظن أن رسول الله ما مات، ولكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى إلى ربه، كان يستحضر موسى حتى في هذه الليلة الظلماء.

غضب موسى للإسرائيلي المظلوم وأردى المعتدي، فكانت بداية مفاصلته للقصر وخروجه من مصر.

وغضب عمر من حصارٍ ظالمٍ فأعلن إسلامه وقاتل دونه، وهاجر علانية.

نمطٌ من العظماء يتميّز بالقوة والشدة والصلابة والحزم:

في الخطاب الموسوي: {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا} (102:الإسراء).

وفي الخطاب العمري لأبي سفيان: (أنا أشفع لكم؟ لا والله، والله لو لم أجد إلا الذَّر لقاتلتكم به).

يأخذ موسى برأس أخيه يجره إليه، في لحظة انفعال وغيرة على التوحيد، ويشتد عمر على أبي هريرة؛ حياطةً للدين وخشية من سوء الفهم للوعد بالجنة لمن شهد شهادة الحق: (لا تبشر الناس أخشى أن تبشرهم فيتكلوا).

شدة موسى مع فرعون، مع بني إسرائيل، مع أخيه، حتى مع الحجر حين ضربه بعصاه حين ذهب بثوبه على ضفة النهر.

وشدة عمر على نفسه، وأمرائه، وأبنائه، وخدمه، حتى مع الحجر الأسود: (إِنّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ ، وَلَوْلاَ أَنِّى رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ) (متفق عليه).

جرأة موسى حتى في حواره مع ربه حين سأل بإدلال المحب: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} (143:الأعراف).

جرأة عمر في صلح الحديبية: (عَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا؟)، وفي الصلاة على "عَبْدِ اللهِ بن أُبَيّ بن سَلُول": (أَتُصَلِّي عَلَيْهِ وَهُوَ مُنَافِقٌ؟, وَقَدْ نَهَاكَ اللهُ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُمْ)، وفي أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَا رَسُولَ اللهِ, لَوْ أَمَرْتَ نِسَاءَكَ أَنْ يَحْتَجِبْنَ) (رواه البخاري ومسلم).

وجرأة أخرى في مراجعة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ففي صحيح البخاري: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَسِيرُ فِى بَعْضِ أَسْفَارِهِ ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَسِيرُ مَعَهُ لَيْلاً ، فَسَأَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنْ شَيْءٍ فَلَمْ يُجِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا عُمَرُ ، نَزَرْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ، كُلُّ ذَلِكَ لاَ يُجِيبُكَ . قَالَ عُمَرُ فَحَرَّكْتُ بَعِيرِى ثُمَّ تَقَدَّمْتُ أَمَامَ الْمُسْلِمِينَ ، وَخَشِيتُ أَنْ يَنْزِلَ فِيَّ قُرْآنٌ ، فَمَا نَشِبْتُ أَنْ سَمِعْتُ صَارِخًا يَصْرُخُ بِي -قَالَ- فَقُلْتُ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ فِيَّ قُرْآنٌ . وَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ « لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَىَّ اللَّيْلَةَ سُورَةٌ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ ، ثُمَّ قَرَأَ (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) ».

حسمٌ مع رؤوس الخيانة بلا تردد، خطاب موسى للسامري كخطاب عمر لابن سلول.

انكسارٌ عند الخطأ: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} (16:القصص).

وقال عمر في خلوته: (عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ! بَخٍ بَخٍ.. وَاللَّهِ لَتَتَّقِيَنَّ اللَّهَ أَوْ لَيُعَذِّبَنَّكَ).

غضبٌ لله يثور ثمّ يسكت فيأخذ موسى الألواح.

يسمع عمر من يسبّه: (وَاللهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ، وَلَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ)، فيهمّ به فيُذكّره جليسه بـ{وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (199:الأعراف)، فوالله ما جاوزها وكان وقَّافاً عند حدود الله.

شخصيات حاسمة عظيمة تصنع الفرق، بعد موسى عبدوا العجل واستضعفوا هارون وتآمروا لقتله، وكان عمر الباب الذي يكسر فتظهر الفتن.

التواضع والبساطة لا تمنع الهيبة والخشية من المؤاخذة، فهذا النمط الحازم لا يهادن الخطأ ولا يصبر عليه.

كان فرعون يخاف من موسى: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا} (35:القصص).

وكان عمر مهيباً يَفْرَقُ الشيطان من ظلّه.

نكل بنو إسرائيل عن دخول القدس، ودخلها عمر بجند الله.

القيادة تحتاج لأتباع جيدين!

سقى موسى للفتاتين، وأبصر عمر ناراً تضوي فقال: أرى قوماً قصر بهم البرد والليل، فحمل جراب دقيق وشحم، وطبخ لهم، وسمع المرأة تقول: الله حسيبنا على عمر يتولى أمرنا ويضيعنا!

رقةٌ أمام حالات الضعف الإنساني ونجدةٌ وشهامة لا تعرف الرياء، ولا تنشغل بهما عن هم غيرها.

في الجاهِلِيَّةِ وَالإِسلامِ هَيبَتُهُ تَثني الخُطوبَ فَلا تَعدو عَواديها

في طَيِّ شِدَّتِهِ أَسرارُ مَرحَمَةٍ لِلعالَمينَ وَلَكِن لَيسَ يُفشيها

وَبَينَ جَنبَيهِ في أَوفى صَرامَتِهِ فُؤادُ والِدَةٍ تَرعى ذَراريها

أَغنَت عَنِ الصارِمِ المَصقولِ دِرَّتُهُ فَكَم أَخافَت غَوِيَّ النَفسِ عاتيها

كانَت لَهُ كَعَصا موسى لِصاحِبِها لا يَنزِلُ البُطلُ مُجتازاً بِواديها



وعيٌ بالمتغيرات وتكيُّف مع المستجدات، ما بين القصر إلى الاستخفاء إلى الصحراء إلى مَدين، وما بين الإسلام العلني فالهجرة فالوزارة فالإمارة.

{الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} (26:القصص)، توسّم فتاة ذكية خليقة بأن تكون زوج نبي، وهما شرط النجاح القيادي في رؤية عمر: (أشكو إلى الله ضعف الثقة وخيانة القوي).

العدالة والأمانة وإجراء الحق على القريب والبعيد، ومواجهة التحديات والمصاعب بلا تردد، وتكريس الحياة للمبادئ العظيمة.

قيادة نادرة استثنائية تتخذ القرار الحازم الحكيم وتمضي إليه بثقةٍ دون التفات، فربما كان بينها وبين الأتباع مسافة غطّاها هارون المحبب في قومه، كما غطّاها عثمان وأصحاب الشورى لدى عمر.

تمنى موسى القرب من الأرض المقدّسة عند احتضاره، وكان في دعاء عمر: اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك وموتاً في بلد رسولك.

أيقن موسى ألا فكاك من الموت فقال: ربّ فالآن، وقال عمر: اللهم كثرت رعيتي ورقّ عظمي فاقبضني إليك غير مفتون ولا مضيّع.

موسى يلطم ملك الموت، وعمر يخاطب شاباً بشأن إسبال ثوبه ويوصي بالمهاجرين والأنصار، وبطنه يَثْعَبُ.

رباطة جأش حتى اللحظة الأخيرة.

عاشوا حياةً واحدة، لكنها تشعّبت وأشرقت في أرواحٍ أحبتهم، وارتسمت في عيونٍ لمحتهم، وألهمت من بعدهم معاني الصبر والإحسان والأمل.

هكذا كانوا ..

إيَّاك أن تأخذ من موسى: {فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ} (15:القصص)، وتنسى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي..} (16:القصص).

أو أن تأخذ من عمر: (لو لم أجد إلا الذَّر لقاتلتكم به..)، وتنسى (أرى قوماً قصر بهم البرد والليل..).

إيَّاك أن تأخذ من موسى قوته وتنسى رقته.. أو من عمر حزمه وتنسى عدله..

هي معادلة الجناحين..

قوة اليد في أخذ الحق، وقوة الظهر في تحمّل المسؤولية..

لا تطل يدك وتضعف ظهرك، ولا تنظر لزاوية دون أخرى.