الجمعة، 30 يونيو 2017

فوق السلطة - #حلف_رقاب.. يريد رأس #الجزيرة


فوق السلطة

 #حلف_رقاب.. يريد رأس #الجزيرة







توقفت حلقة الجمعة (2017/6/30) من برنامج "فوق السلطة" مع المطلب السادس لدول حصار قطر، المتعلق بإغلاق شبكة الجزيرة. قطر أعلنت أنها لن تسكتها، ويبدو أنالسعودية لن تتراجع عن هذا المطلب المزمن.
فلماذا لا نفكّر في حل وسط؟ هل يوجد خيار ثالث بين "التدييك" والتضييق؟ بين ديك يُعلن الصباح، وضيق يخنق الأنفاس.
من أكثر برامج الجزيرة إزعاجا للبعض، نشراتُها الإخبارية. فهذه الدولة فيها بطالة، وتلك تعاني من الاستبداد، وأخرى من الإرهاب، وغيرُها من القمع والسرقة والفجور والفساد.. ما شأنكم أنتم يا "جوازر" -على وزن دواعش- ما شأنُكم؟ لماذا لا تنتجون نشرة أخبار رصينة ولطيفة.
الاتجاه المعاكس: ألم تتعب الجزيرة من اتجاهها المعاكس؟ لماذا لا تفكر بنقاشات من خارج الصندوق الملتهب ببرنامج ينافق، آآ يوافق.. الاتجاهُ الموافق.
بلا حدود: لقد تحملَتك الحكومات يا الجزيرة عقدين من الزمن، وكان إزعاجك، بلا حدود.. فآن لكِ أن  تحسني اختيار ضيوفك، ومواضيع الحوار.
من أنت يا جزيرة حتى لا تتبدّلين. جزيرتان -لا جزيرة واحدة- نزحتا من بلد إلى بلد بجلسة واحدة، و"ما حدا فتح تمو".. باستثناء بعض المناوشات من الإعلام المصري.
قطر لا تلتزم بالتعهدات. كانت هذه "الكلمة المفتاح" التي وزعتها غرفة التحكم بإعلام حلف الرِقاب على قنواتها، في مهلة العشرة أيام للرد على الطلبات الـ13؟
يجب أن نتفهم مقاطعة الرياضيين المصريين لميكروفونات "بي إن سبورت"، فهم يطبقون القانون، وليسوا شركاء في القرار الذي يكبدُهم بالنتيجة خسائر فادحة على صعيد الشهرة.. يعني إذا أنت رياضي وما طلعت على "بي إن سبورت"، متل إذا أنت سياسي وما بتطلع على الجزيرة!
الشباب انتهوا من البقر، فاتوا بالحمير.. زورت جهة مجهولة تقريرا لبرنامج "الجزيرة هذا الصباح"، حول عمل مزرعة للحمير في تركيا، تبيع حليبها لمرضى السرطان للتداوي به عوضا عن الأدوية الكيمياوية المتعبة.
فعمد البعض إلى اجتزاء أقل من دقيقة من التقرير الذي يمتد لنحو أربع دقائق، ووضع التقرير المجتزأ في "السوشيل ميديا"، لإيهام المتصفحين بأن القطريين بدؤوا بشرب حليب الحمير، علما بأنه يباع في تركيا بسعر مرتفعٍ جدا كدواء.
من فبرك الفيديو، إما أنه منزعج من عدم حصوله على ما يفرح قلبَه من مشاهد جوع غير موجودة في قطر، ويجب ألا تكون موجودة في أي مكان.. وإما أنه يهزأ بحاجة مرضى السرطان لبديل طبيعي عن الحرق الكيمياوي المؤلم.

القاهرة 30 يونيو: انقلاب اعتدال

القاهرة 30 يونيو: انقلاب اعتدال

 وائل قنديل
بعد أربع سنوات من الكارثة، هل صار لديك شك في أن نظام عبد الفتاح السيسي هو ثمرة زواجٍ حرام بين المال الخليجي الكاره للربيع العربي والغل الصهيوني تجاه أي محاولةٍ للانعتاق من التبعية والطاعة للمشيئة الإسرائيلية في المنطقة؟

وأنت تسترجع ما جرى منذ 30 يونيو/ حزيران 2013، حاول أن تفكر قليلاً في مواقف الرباعي (السعودية، وتتبعها البحرين- الإمارات- إسرائيل- أميركا)، وبقليل من الجهد، ستكتشف أن هذا الرباعي يحتفل بحصاد ما زرعه في مصر الآن، ويحاول أن يشعل المنطقة كلها على رؤوس من فيها، من أجل الحفاظ على كنزهم الاستراتيجي الجديد، هذا الكنز رباعي الأبعاد، ويلبي مطالب أربعة أوغاد في وقت واحد.

دعني أذكّرك  بأن صحيفة عكاظ الملكية السعودية سبقت "الأهرام" الحكومية المصرية بثلاثة أيام فى التبشير والاحتفال بانقلاب وزير الدفاع على الرئيس المنتخب، حيث كتب رئيس التحرير السعودي، صباح الأحد 30 يونيو "العسكر يحكمون مصر لفترة قصيرة مؤقتة لا تتجاوز عاما".
 قلت وقتها إنك لو وضعت فى الاعتبار أن هذا النوع من الأخبار ينتمى إلى حصص الإملاء أكثر بكثير مما يعتمد على الشطارة الصحفية والدأب المهنى، بحيث يتحوّل كاتبه إلى وعاء أو "عامل ديليفري"، أو حمامة زاجل لتوصيل الرسائل، فإن علامات استفهام كثيرة تفرض نفسها، أهمها: لماذا تنفرد الصحيفة السعودية بخطط العسكر لمستقبل مصر قبل صحف القاهرة؟

لعلك تذكر، كذلك، أن العاهل السعودي كان أول من هنأ، وأول من بحث مع وزير الدفاع المصري الأوضاع في القاهرة، وأول من أمر بمنح مليارات خمسة من الدولارات لمصر المنقلبة، فسارت على دربه الإمارات، وضخّت ملياراتٍ في الوعاء الذي صنعته بالقاهرة، ثم أطلت إسرائيل برأسها تضغط على إدارة أوباما، كي لا توقف المساعدات المالية لجنرالات الانقلاب.

قبل أربع سنوات، لم تكن الصورة بالوضوح المتحقق الآن، فتلاشت الدهشة مما أسميته "ينبوع الحنان النفطي الذي انفجر بعد 30 يونيو" على نحوٍ مبتذلٍ يشبه انهمار"النقوط" في ساعات الانبساط، أو كما وصفته "يذكّرك هذا الرقص الثوري الماجن على إيقاع الوعود بالتدفقات المالية والنفطية من دول خليجية، ليس بينها وبين ثورة  يناير عمار، بأغنيةٍ شديدة الإسفاف في فيلمٍ منقوعٍ فى الإثارة والقتامة والدماء، أدّاها الممثل خالد الصاوى في فيلم اسمه "كباريه"، وبعض كلامها يقول "وبحيى السعودية والأمم العربية وبمسى على الإمارات عشان كلها دولارات".

عليك الآن، وأنت تتوقف عند مرور أربع سنوات، أن تجيب عن السؤال: ماذا أخذ المواطن المصري، وماذا أخذ الرباعي (الرياض ومعها المنامة- أبو ظبي - تل أبيب- واشنطن) من "30 يونيو"؟

السعودية أخذت جزيرتي تيران وصنافير، مشاركةً مع إسرائيل. والإمارات وضعت يدها على مصر كلها، بعد أن كان منتهى حلمها تدمير فكرة مشروع خليج السويس الذي بدأه الرئيس محمد مرسي.وتل أبيب صارت خجلى من عطايا السيسي، ورعاته، حتى تكاد تشعر بتخمةٍ تطبيعيةٍ، تستوجب إنشاء إدارةٍ تتولى المفاضلة والاختيار بين أفضل عروض الليكودين العرب، لإقامة علاقات تعاون وتحالف معها، وأميركا ترامب عادت تحلب نفط الخليج، بكمياتٍ أكبر مما سبق.

في المقابل، هل حصل المواطن المصري على شيءٍ، سوى النزيف الحاد في الكرامة الإنسانية والحرية والعدالة الاجتماعية؟

نعم، حصل على جنيه مصري منقوصاً من 250% من قيمته، وحصل على لتر وقود، بأربعة أضعاف سعره قبل الانقلاب السعودي الإماراتي الإسرائيلي على ثورة يناير.

حصلت كميات هائلة من المهانة والعار، والانهيار الشامل، الممتد من السياسة والاقتصاد إلى الحالة الاجتماعية والأخلاقية، في إطار حالة ردة حضارية عنيفة، وانسلاخ من قيمٍ تجسّد الحد الأدنى من الفطرة الإنسانية السوية، مصنوعةٍ بعنايةٍ وحساباتٍ دقيقة، لإنتاج مواطنٍ مهزوم وجودياً، في وطنٍ منهزم حضارياً، أكثر انكساراً من "القاهرة 30"، قاهرة محجوب عبد الدايم.

"ولا تهِنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون"


"ولا تهِنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون"


في هذه المرحلة من تاريخ أمتنا يجب على الدعاة والعلماء بثّ روح الصبر واليقين بموعود الله لهذه الأمة بالبقاء والتمكين والنصر مهما اشتدت الخطوب وتكالب الأعداء وتكاثروا من الداخل والخارج.

نعم؛ واقعنا صعب وأعداؤنا كثر وخبثاء، وفينا ضعف وفينا خونة وفينا منافقون، وفينا من يبذل جهده لنصرة الحق والإسلام في المكان الخطأ!

ولكن برغم هذا كله فإن التاريخ يخبرنا جميعا أن أمتنا تعرضت لأكثر من هذا وانتصرت، وذاقت هزيمة أشد من هذه ثم نهضت وتغلبت على خصومها وأصبحت قائدة للدنيا قرونا عديدة، ومن جهة أخرى فإن شدة العداوة التي تواجهها أمة الإسلام اليوم هي بسبب تزايد قوتها مما أخاف الأعداء.

فأمة الإسلام اليوم تشهد قوة إيمانية تسري في جنباتها في كل مكان، وها هو رمضان يظهر ذلك من امتلاء المساجد في أنحاء العالم وتوافد الملايين للكعبة مركز الإسلام، واحتفاء الكبار والصغار بالصيام وقراءة القرآن، وانتشار الحجاب، والإعراض عن الربا وبنوكِه، والإقبال على تعلم الشريعة، والتلاحم الرائع بين شعوب المسلمين على اختلاف لغاتهم وعرقياتهم، وعلوّ روح الفداء والبطولة في الجهاد والمقاومة ضد المحتل والمغتصب والظالم والمتجبر، والصبر على الآلام والجراح مع الثبات على الحق برغم التشريد والنزوح واليتم والترمل.

ومع هذه القوة المعنوية فإن بلاد المسلمين شهدت نهضة تعليمية بعد عقود من الأمية والجهل والتخلف، وشهدت تقدما اقتصاديا وعمرانيا بعد عقود من الفقر والعازة، وأصبح هناك نماذج تفوّق عالمية كماليزيا وتركيا ودول الخليج.

وأصبح عباقرة المسلمين وأذكياؤهم جزءا رئيسا من نهضة العالم والمدنية، سواء في بلاد المهجر أو في بلادهم حين تتوفر لهم الأسباب.

ولكل ما سبق فإن حركة الدخول في الإسلام من كل بلدان العالم وأديانه بمختلف شرائحهم ومستوياتهم الثقافية والاقتصادية أصبحت ظاهرة معلنة برغم كل حملات التشويه والتضليل ضد الإسلام والمسلمين، وأيضا فإن كل المؤشرات العالمية تصرّح بهيمنة الإسلام والمسلمين بعد عقود قريبة على سكان الكوكب، مما أفزع الأعداء الذين يلمسون انقراضهم بسبب مفاهيمهم المنحرفة تجاه الأسرة والمتعة واللذة.

إن إدراك هذه المعالم من قوة المسلمين اليوم مفتاح مهم لفهم سبب تلاحق المؤامرات والخيانات التي تصب على المسلمين لتفتيت صفّهم وإشعال الخلافات والصراعات بينهم وعرقلة كل الجهود المخلصة لتمتين قوتهم والقضاء على أعدائهم.

فالاحتلال اليهودي لفلسطين والأقصى يتم تجاهله عالميا، وتجاهل كل جرائمه وإرهابه وعنصريته طوال عقود طويلة ويتم وأد كل محاولة لإدانته دولياً ورسمياً وشعبياً ليبقى المسلمون في حالة حيرة واتهامات داخلية.

والطاغية المجرم بشار، ما الذي يبقيه لليوم موجودا إلا مكر الأعداء وخبثهم لعرقلة تحرر مسلمي سوريا من ربقة الظلم والطغيان مما يعرقل مطامعهم في خيرات سوريا من الغاز والبترول، أو الخشية من إقلاق اليهود في جبهة الجولان النائمة منذ عقود باسم الممانعة والمقاومة!

والغزو الإيراني الطائفي المباشر وعبر الوكلاء والفرقاء دون الدولاتي للدول العربية والإسلامية ما الذي يضفي عليه غطاء المشروعية سوى أنه يشغل المسلمين عن نهضتهم بالصراعات الداخلية والحروب الأهلية مع تدمير كل المكتسبات والبنى التحتية مما يحقق كل الأهداف الاستراتيجية للأعداء شرقا وغربا.

وما السكوت عن داعش وأخواتها ودعمها من قِبل العديد من الاستخبارات العالمية والإقليمية والمحلية إلا لتشويه صورة الإسلام في العالم وبين عامة المسلمين وحرف الصراع بين المسلمين وأعدائهم للصراع بين المسلمين وأبنائهم المخدوعين.

ولماذا قضايا الإسلام يدخلونها في دوامة المفاوضات لعقود وعقود دون نتيجة بينما قضايا غير المسلمين تبت بسرعة كفصل تيمور الشرقية عن أندونيسيا، أو فصل جنوب السودان، سوى الفزع من قوة الإسلام والخشية من المارد القوي أن يستيقظ بالكامل.

فمعرفة مواطن قوة الإسلام والمسلمين ومكائد خصوم الإسلام هي نقطة الأساس لفهم الدور المطلوب من المسلم اليوم ليكون في مربع نصرة الإسلام ويتجنب المكائد التي يدفعون لها المسلمين للإرهاب والتطرف أو الصدام الداخلي مما يفتت القوة الإسلامية والصف الإسلامي.

إن الفرد المسلم قد لا يمكنه أن يتدخل في سير القضايا الكبيرة بشكل مباشر لكنه يمكنه فعل ذلك بشكل غير مباشر من خلال الوعي بدوره ومن خلال الوعي بالأدوار التي تسلط عليه.

فوعي الفرد المسلم اليوم بدوره الحقيقي وهو الثبات على الحق ولزوم أمة الإسلام كخطوة أولى "فاستقم كما أمرت ومن تاب معك"، حيث يبقى الإسلام وشعائره وأحكامه هي الحكم والفيصل في الآراء والمواقف التي يلتزم بها من جهة، والحفاظ على البقاء مع الأمة المسلمة في همومها ومصالحها.

والخطوة الثانية التواصي بالحق والصبر بالحكمة والموعظة الحسنة بما لا يَنتج عنه مفاسد عليه أو على الأمة، إذ في هذه المرحلة من تاريخ الأمة لا يوجد في كثير من القضايا والمواقف السياسية والعامة حق صاف دائماً بل هو حق يشتمل على شيء من الباطل، فلذلك يلزم الحكمة في تأييد الحق وإنكار الباطل بما لا يضر بالمصلحة العامة.

ولنتذكر حوار الخليفة القدوة عمر بن عبد العزيز مع ولده عبد الملك حين قال لأبيه الخليفة الصالح: "يا أبتِ، مالك لا تنفذ في الأمور، فو الله لا أبالي في الحق لو غلت بي وبك القدور. قال له عمر: لا تعجل يا بنيّ، فإن الله تعالى ذمّ الخمر في القرآن مرتين وحرّمها في الثالثة، وأنا أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدفعوه وتكون فتنة".

واليوم نحن مطالبون بنصرة الحق والدفاع عن الإسلام والمسلمين وردّ عادية الأعداء بحسب الوسع والإمكان، ولكن نحن لا يمكننا أن نفعل كل المطلوب معاً، وهذا باب تختلف فيه الأنظار، فالواجب علينا أن نجتهد في ذلك ما أمكننا، ولا يعرقل بعضنا بعضا إذا لم نتفق على أجندة موحدة، بل ينشغل كل منا بثغرة من ثغور الإسلام، ولا نزيد الفرقة فرقة والخلاف خلافا.

وما يقع من خلاف وتصادم بين المسلمين إذا لم يمكننا الإصلاح وتسوية الخلاف وتعديل الأخطاء فلا نكون طرفا في الخصومة ونشعل نارها، ولنتجنب في هذه الفتن الإشاعات والأكاذيب والأراجيف التي يقف خلفها السفهاء والخبثاء، ولنحذر من الدعايات المنمقة والشعارات المزخرفة، فقد تميل بنا عن الحق والصدق، وكم عانت أمتنا من خداع الشيعة وأذنابهم بشعارات الممانعة والمقاومة وتحدي الشيطان الأكبر فإذا هم حلفاؤه وشركاؤه، فلنحذر من أمثال هذه الشعارات في صراعنا مع ملالي طهران الطائفيين، فإنهم يجيدون شق الصف وبناء شراكات تهدم الصف، ولنحذر من التساهل مع الغلاة والإرهابيين فهم خنجر في الظهر دوما، لقابليتهم للاختراق والتوظيف.

الخلاصة: لتكن بوصلتنا دوما مصلحة الإسلام، ولنراعِ قوتنا وضعفنا، ولا نهدم صفنا بعلاج خطأ بخطأ أكبر منه، وإذا اختلفنا في قضية فلنحذر أن نهدم بقية قضايانا المشتركة الأخرى، ولنتجنب فخاخ الإرهاب وردة الفعل المتهورة التي يدفعنا إليها الأعداء، ولنحرص على أن نبقى دوماً في خدمة الإسلام، وهذه المحنة لن تدوم وسرعان ما تزول.

الخميس، 29 يونيو 2017

كيف أسس محمد علي باشا للأجانب في بيت المقدس؟

كيف أسس محمد علي باشا للأجانب في بيت المقدس؟

محمد إلهامي




هذا هو المقال الرابع والأخير من هذه الورقة البحثية التي تتناول دور محمد علي باشا في تأسيس إسرائيل في فترة السنوات العشر التي حكم فيها الشام، وقد ألزمنا أنفسنا في هذه المقالات ألا ننقل معلومة إلا عن مصدر مؤيد لمحمد علي أو وثيقة رسمية من أرشيف دولته أو مصدر أجنبي (والمصادر الغربية معجبة بمحمد علي كذلك)، وقد رأينا في المقالات الثلاثة السابقة كيف استكثر محمد علي من اتخاذ اليهود في حاشيته وفي أعماله حتى الحساسة منها، وكيف سهل لهم التدفق والهجرة والإقامة في فلسطين، وكيف سمح لهم بالتسهيلات التجارية والاقتصادية والقانونية التي ترفعهم فوق أهل البلاد وتقلب الميزان الاجتماعي للشام.
 (راجع المقالات تفضلًا: الأول، الثاني، الثالث).
والآن نختم بدوره في تأسيس النفوذ الأجنبي وتضخيم صلاحيات القناصل الأجانب، حيث بدأت القنصليات الأجنبية تغزو القدس وتهيمن بحمايتها على غير المسلمين، وهو الأمر الذي كانت له آثار بعيدة، ولم تستطع الدولة العثمانية أن تلغيه فيما بعد.

رابعًا: تضخم نفوذ القناصل الأجانب

افتتحت القنصلية البريطانية في القدس لأول مرة في عهد سلطة محمد علي (1839م)، وهي القنصلية التي ستتولى حماية اليهود والبروتستانت المسيحيين في بيت المقدس والشام، وستبذر في هذه الأرض البذور الأولى للصهيونية بما كان لها من النفوذ، وكان ويليام تيرنر يونج أول قنصل في القدس، و«قد اهتم على وجه خاص بيهود الإشكنازيم، وأيضًا كانت بريطانيا تود إنشاء «محمية» لها في القدس احتذاءً بفرنسا وروسيا حيث إنه لم تكن هناك طائفة بروتستانتية يسبغ القنصل عليها حمايته، فقد وجد أن اليهود الأوروبيين كانوا دون كفيل أجنبي، ومن ثم نَصَّب نفسه راعيًا لهم… وبحلول شهر ديسمبر من عام 1938، ونتيجة لمساعي يونج الحميدة تم السماح للجمعية اللندنية لترويج المسيحية والتي تُعرف أيضًا بـ«جمعية لندن لليهود» بالعمل في القدس. وبدأت طلائع المبشرين البروتستانت في الوصول إلى المدينة المقدسة»[1].
لقد أسست سياسة إبراهيم لنفوذ القناصل الأجانب، إذ كانت القوانين تدفع بالأموال – ومن ثم النفوذ والعلاقات الاجتماعية – لتستقر في حجر القناصل، لقد «أتيح للأجانب ولقناصل الدول أن يكونوا أحرارًا في البلاد، وأن يتَّجروا بلا عائق ولا مانع مع أن تجارتهم كانت محصورة ببعض الموانئ، ولكن القناصل الذين اتخذوا الامتيازات تكأة لهم أَلَّفوا من أنفسهم دولة في الدولة، وكانوا يعطون الحماية لمن أرادوا. وبما أن متاجر الأجانب كانت تدفع 3 بالمائة ومتاجر الرعية كانت تدفع 20 بالمائة، فقد أخذ القناصل أكثر التجار تحت حمايتهم ليعفوا من زيادة الرسوم الجمركية»[2].
وقد استثمر اليهود هذا الوضع المريح فأقدموا على محاولة الاستيلاء على حائط البراق من المسجد الأقصى، وأعانهم على هذا القناصل، وقد احتفظت لنا السجلات بوثيقة تتضمن شكوى شيخ المغاربة في بيت المقدس إلى إسماعيل عاصم حكمدار حلب من أن اليهود ما زالوا يتعاظم أمرهم ويزيدون في الإيذاء عند حائط البراق، فمن بعد ما كانوا يزورون الحائط زيارة عادية هادئة صارت تتعالى أصواتهم وتتكاثر أعدادهم ويزيدون طقوسهم حتى كأنه صار كنيسًا لهم، ثم أرادوا أن يُبَلِّطوا الأرض التي أمام الحائط، وهو أمر جديد لم يسبق لهم أن تجرؤوا عليه، ثم إنه سيؤدي إلى إغلاق طريق مؤدٍ إلى وقف إسلامي آخر بتلك المنطقة، وقد دُعِمت شكوى شيخ المغاربة بقرار من «مجلس شورى القدس»، ومن ثَمَّ قرر إسماعيل عاصم منع اليهود من إحداث شيء جديد، لكن ما لبث أن جاء أمر من القنصل الإنجليزي إلى متسلم القدس بأن يسمح لليهود بما أرادوا، فأصدر متسلم القدس أمرًا بالسماح، ثم اعترض مجلس شورى القدس، فرُفِع الأمر لإبراهيم باشا الذي لم يبال به وفوض إسماعيل عاصم في القرار، وهو ما مآله عمليًّا إمضاء رغبة اليهود المدعومة بقوة القنصل الإنجليزي[3].
وكان القناصل يستخدمون نفوذهم في الدفاع عن غير المسلمين من أهالي الشام، ومن غريب ما وقع في مثل هذا الأمر أن المسلمين كانوا يتخذون زي اليهود ليتخلصوا من التجنيد الذي لم يكن يشمل اليهود والنصارى، فانتبه إلى هذا المكلف بجمع، أو بالأحرى: خطف، الشباب للتجنيد فأخذ يجمع الكل، فأخذ ضمن من أخذهم جملة من اليهود والنصارى، ورغم أن الخطأ لم يستغرق سوى ساعات إذ بدأ شباب اليهود والنصارى يعودون في عصر اليوم نفسه إلا أن السلطة عاقبت اليوزباشي الذي لم يتحقق في جمعه أُخِذ منه سيفه ونيشانه وضُرِب بالسياط أمام القنصل الفرنسي بودين وأُنْزل رتبتيْن[4].
وذات يوم وقعت جريمة قتل لأحد رهبان النصارى (حادثة الباديري)، فجندت لها سلطة الشام كل طاقتها للبحث عن الفاعلين، واتخذت التعذيب سبيلًا حتى على يهودي مشتبه فيه، ومع هذا فقد حضر إليهم يهودي إفرنجي تدل الدلائل على معرفته بالمجرمين وحاول التشفع في اليهودي المُعذَّب، ثم خرج ولم يُعتقل أو يُحقق معه ولم يُتَتَبَّع، رغم أن خروجه كان لإنقاذ القتلة الذين لم يعترف عليهم بعد اليهودي المقبوض عليه! ثم وبعدما ثبتت التهمة عليهم بالاعتراف والإقرار جاء قرار سيادي من محمد علي بالعفو عنهم لما تحرك إليه اليهود الأوروبيون[5]!
ولقوة نفوذ القناصل كان إبراهيم باشا رغم قسوته العنيفة على من يتمردون عليه لا يستعمل نفس تلك القسوة مع غير المسلمين، فمن ذلك أنه حين خرَّب الكرك أمهل النصارى ثلاث ساعات يخرجون فيها من البلد وينقلون منها ما استطاعوا من أرزاقهم، ثم اجتاح البلد ونفذ فيها مذبحته فكان عساكره يقتلون من لقوه وينهبون ما وجدوه ثم جعل البلد ركامًا[6]. وتسجل وثيقة عسكرية جملة غريبة ترد في أمر موجه إلى خفتان باشا في جهة دمشق يقول: «نظرًا لقيام النصارى في جبل الدروز اجمعوا الهناديين وامكثوا بأثقالكم حيث أنتم وليس لكم أن تعتدوا عليهم في هذه الآونة لأني أريد أن أخمد فتنتهم دون أن أمسهم»! ثم نجد وثيقة أخرى بأمر عسكري آخر إلى سليمان باشا «بإبداء النصح والعظة إلى الثوار»، ويتكرر هذا الطلب بالنصح والعظة[7]!
ومما يُرثى له أن المسلمين اضطروا أن يمتهنوا أنفسهم للقناصل للنجاة من بطش سلطة إبراهيم، وذلك أن قوانين التجنيد الإجباري – التي كانت في ذلك الوقت استعبادًا لا رحمة فيه ولا أمل في النجاة منه – كانت تشمل المسلمين ويُعفى منها المسيحيون واليهود، فكان المسلمون «ذوو المقام النبيل يعملون قواسين وخدمًا وسواسًا عند القناصل الأوروبيين، وحتى عند وكلائهم وتراجمهم من أتباع السلطان، ومن الرعايا المحتقرين ليتجنبوا خدمة الصف استنادًا إلى المعاهدات التي تضمن حصانة العاملين في القنصليات»[8].
لقد أهين الشعور الديني للمسلمين بشدة – كما يقول قسطنطين بازيلي – حتى كان بعضهم يقول لبعض «الدولة صارت دولة نصارى خلصت دولة الإسلام»[9]، وقد بلغ الحال في ثورة الشام الأولى أن شابًا تركيًا ذهب من يافا إلى نابلس حيث صنع صليبًا من الخشب، وصعد إلى مئذنة الجامع الكبير في نابلس وبيده ذلك الصليب، فأخذ يصيح من فوق المئذنة: هل ذهب دين محمد وانقضى؟ هل ارتفع الصليب على الهلال؟ من كان منكم مسلمًا فليقاتل هذا النصراني إبراهيم باشا[10].
ويمكن اختصار الانقلاب الذي تم في أحوال الأجانب والقناصل في قصة المستر فارين القنصل الإنجليزي، فقبل حقبة محمد علي لم يكن يستطيع أجنبي «التجول في البلاد إذا لم يكن مرتديًا الملابس الوطنية أو يحرسه الجند، حتى إن إنكلترا عينت المستر فلرين قنصلًا لها في دمشق في سنة 1829، فلم يستطع دخول دمشق وأقام في بيروت»[11]، وظل مقيمًا أربع سنوات حتى استولى إبراهيم باشا على دمشق، فرتَّب له دخولًا أسطوريًّا أورده مؤلف «مذكرات تاريخية» على هذا النحو:
«كان ترتيب دخوله (هكذا) طَلَع لملاقاته عمر بك أمير اللواء، واستنظره في قصر عبد الرزاق باشا الذي بالمرجة، وصُحْبته ألف عسكري نظام، وكان برفق القنصل حاضر من بيروت أربعة وعشرون خيال في بيارق النظام، وقواصته عدة ثمانية وعبدين وتراجمين ثلاثة وكيخية وخزندار، وحول في قصر عبد الرؤوف باشا عند عمر بك وتفكجي باشي واستقام مقدار نصف ساعة، وقام ركب، ومشيوا قدامه ألف عسكري نظام في الموسيقا، وبين باشي وبعده ثلاثون قواصًا من قواصة الوزير، بعده الخيالة الذين حضروا معه من بيروت ببيارقهم، وبعده التفكجي باشي وجماعته، وبعده قواصته لابسين طقومة ورديًا جزايرليًا مقصبًا، وبيدهم عصي فضة مكوبجين (ذات قبضة) على كسم صليب، وبعدهم التراجمين في الشالات الكشمير في الخيل المنظومة، وبعدهم القنصل راكب على راس خيل من الخيول الجياد، عدته مشغولة في الصرما، ولابس على راسه برنيطة محجرة بالألماس، وفي راسها جملة ريش أبيض وأحمر، ويرمي سلامًا، ووراه كيخية وخزنداره وعبيده، وتنظر العالم [أي: وترى الناس] منتشرة من عند قصر المرجة شي لا ينحصي. وحكم طريقه على الدوالك، على بيت يوسف باشا، على باب السرايا، على سوق الأروام وسوق الجديد، على باب القلعة، على باب البريد، على سوق الحرير، على البزورية، على ماذنة الشحم، على الخراب، على طالع القبة، على حمام المسك، على باب توما، على حمام البكري، على زقاق القميمم (القميلة)، على بيته، فكانوا قبل بمدة آخذين له بيت قزيها الذي قدام قناية الحطب، ودخلوا العساكر جميعها لعند بيته فحالًا رفعوا له البنديرة فوق باب البيت على راس السطوح، وثاني يوم وضع فوق باب البيت نيشان المملكة (الآرما) مصورًا فيها تاج الملك وحصان وسبع، وكان يوجد قدام باب بيته على مدة سبعة ثمانية أيام مثل فرجة الحاج (بكثرة) الناس فوق بعضها بعض هذا ما كان من مادة دخول القنصل»[12].
وهكذا صار القناصل قوة فوق قوة السلطة نفسها، وقد استمر إنشاء القنصليات الأجنبية التي أسس محمد علي لوجودها حتى بعد رحيل سلطته؛ فلقد صار النفوذ الأجنبي قوة حقيقية قائمة، وصار ذلك النفوذ موضع تنافس غربي لا تقوى الدولة العثمانية في حالها آنذاك على اقتلاعه، «فخلال السنوات الخمس عشرة التالية كانت فرنسا وبروسيا وروسيا والنمسا قد فتحن قنصليات لها في المدينة المقدسة، وأصبح هؤلاء القناصل ذوي حضور بالغ الأهمية في المدينة… بيد أنه كان لكل منهم أجندته السياسية، وكثيرًا ما أدى ذلك إلى الصراع في المدينة المنقسمة على نفسها بالفعل. ووجد السكان المحليون أنفسهم طرفًا في صراعات القوى الأوروبية»[13].

[1] كارين أرمسترونج، القدس، ص565، 566.
[2] داود بركات، البطل الفاتح إبراهيم، ص143.
[3] أسد رستم، المحفوظات الملكية المصرية، 4/294 وما بعدها، (رقم الوثيقة 6205 بتاريخ 4 محرم 1256هـ).
[4] مجهول، مذكرات تاريخية، ص80، 81.
[5] مجهول، مذكرات تاريخية، ص117، 121، 122؛ وانظر: إيلي ليفي أبو عسل، يقظة العالم اليهودي، (القاهرة: مطبعة النظام، 1934م)، ص154.
[6] مجهول، مذكرات تاريخية، ص78.
[7] أسد رستم، المحفوظات الملكية المصرية، 4/356 (وثيقة رقم 6312 بتاريخ 3 ربيع الآخر 1256هـ).
[8] قسطنطين بازيلي، سورية وفلسطين تحت الحكم العثماني، ص162.
[9] مجهول، مذكرات تاريخية، ص59، 60.
[10] داود بركات، البطل الفاتح إبراهيم، ص139.
[11] داود بركات، البطل الفاتح إبراهيم، ص189؛ مجهول، مذكرات تاريخية، ص25.
[12] مجهول، مذكرات تاريخية، ص68، 69.
[13] كارين أرمسترونج، القدس، ص565.

الأسوأ لم يأت بعد

الأسوأ لم يأت بعد


محمد إلهامي

وللأمانة يجب أن نعرف أن الأسوأ لم يأت بعد، وأن استمرار السيسي ونظام العسكر سيذهب بنا إلى أسوأ وأضل وأبأس مما نحن فيه الآن.

وقد قلت كثيرا، وأقول، وسأقول:
طالما ظل الطاغية في أمن وحوله عصبته القوية فإن الناس لن تثور عليه ولن تهدم قصره ولو ماتت من الجوع.. وقد جرى في مصر نفسها عدد من المجاعات أكل فيها الناس الكلاب والحمير الميتة، ثم أكلوا جثث موتاهم، ثم أكلوا جثث أبنائهم الموتى من الجوع.. وكانت العصابات تخطف الناس لتذبحهم وتشويهم وتأكلهم.. وقد حدث كل هذا ولم يتغير الحاكم.

وقد وصل فرعون في الجبروت والتكبر حد أنه كان يأمر بقتل الأطفال الرضع.. ولا يثور أبو الولد المقتول مما سكنه من هيبة فرعون وسلطانه وقوته.. ويبتلع موت ابنه في صمت.. 

وقد حدثونا شهود عيان عن صدام حسين الذي كان يقتل الشاب المعارض له برصاصة في رأسه، ثم يأتي بوالده ليستلم جثته، فيدفع ثمن الرصاصة قبل أن يستلمها.

الثورة لحظة فارقة.. لحظة فارقة.. لحظة فارقة..
كلما تمكن الطغيان كلما صعب خلعه.. وربما استحال خلعه، ثم يكون سقوطه على يد احتلال خارجي.. فيذوق الناس سوط الطغيان ثم سوط الاحتلال وتكون أزمنة وملاحم حتى تتكون حركة مقاومة من جديد.
وكل ساعة تتأخرها الثورة عن خلع نظام هي رصيد في ميزان النظام وطعنة في قلب الثورة.. والواقع أن من يصرف عن مواجهة الطغيان إما جاهل مغفل وإما خبيث حقير.. مهما تكن أسبابه المعلنة، من أول العودة إلى التربية والإعداد والتعلم والتكوين وحتى تسويق الحل السياسي مع النظام المجرم.

نعم.. الأسوأ لم يأت بعد!

وقد كان الفلاحون في زمان الملكية والاحتلال يأكلون يوميا خبز الذرة الأحمر مع المخلل الحارق لا يعرفون غيره طول حياتهم، ويذهب سائر جهدهم لإقطاعي ربما كان شحاذا يونانيا قبل أن يهاجر إلى مصر هجرة غير شرعية فيجد فيها من القوانين والامتيازات الأجنبية ما يجعله في سنين من الأثرياء الكبار.. والفلاحون يعتادون على هذا الظلم ويفلسفونه ويبررون لأنفسهم.. ويكون غاية مقاومة بعضهم أن يسرق شيئا ضئيلا من حقه، وهو يقول: نفسي نفسي!

(وقد أنصح هنا بقراءة كتاب "الوسية" الذي كتبه د. خليل حسن خليل، وهو الجزء الأول من مذكراته الرباعية الأجزاء.. وقد تم تحويل الكتاب إلى مسلسل ولكن الكتاب أفضل بكثير من المسلسل، وإني أنصح به لما فيه من الوصف الدقيق فضلا عن الأسلوب الأدبي والقصصي الذي لا يمله القارئ غير المعتاد على قراءة التاريخ.. أما قارئ كتب التاريخ فهو يعرف الكثير من المصادر بأقلام مصريين وأجانب أيضا)


الأسوأ لم يأت بعد، ولكنه بالتأكيد سيأتي طالما بقي نظام السيسي والعسكر..

ونحن في عالم متقارب، فكل ثورة في أي مكان هو إضافة للشعوب وخصم من رصيد الطغاة والمحتلين.. 
وكل نصر في كل مكان هو كذلك، مثلما أن كل هزيمة لثورة في أي مكان كذلك أيضا.. 
حتى هزيمة داعش في الموصل والرقة هي في النهاية وبغض النظر عن كل تفاصيل إضافة لرصيد الاحتلال والطغاة وخصم من رصيد الشعوب.. فضلا عن هزيمة الثورة في سوريا أو حماس في غزة أو الإخوان في مصر واليمن أو الثورة في ليبيا أو حراك الريف في المغرب أو طالبان في أفغانستان أو الروهينجا في بورما ... إلخ .. إلخ.. إلخ!

فضلا عن انهيار أنظمة داعمة للمقاومة -مهما كانت حساباتها وتفاصيل سياساتها- كقطر وتركيا.. فهذه طعنات هائلة في قلب الأمة وثوراتها، وانتصارات كبرى في رصيد الطغاة والمحتلين.


الأسوأ لم يأت بعد.. لكنه سيأتي باستمرار تلك الأنظمة!
فكل دعم لأي نظام هو جريمة في حق الأمة.. وربما يكون أكبر المجرمين شيخ يبايع حاكما هو في ميزان الشرع -في أدنى الأحوال- مختلف في كفره، وأما سياساته وطريقته وعلاقاته فكفر بواح واضح ظاهر.. تنطق به وسائل إعلامه وصحفيوه ورجال حكمه.

نسأل الله أن يهيئ لأمتنا أمر رشد، يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيه أهل معصيته، ويُحكم فيه بكتابه



ما وراء الحصار الثاني

ما وراء الحصار الثاني


منصف المرزوقي

رئيس تونس السابق

من بين كل المطالب السريالية التي تقدّم بها الجيران الجائرون لرفع الحصار عن قطر؛ المطلب "المنطقي" الوحيد هو المتعلّق بالقضاء على قناة الجزيرة، لماذا؟ لأنه لا أحد يستطيع تصوّر  انطلاق الربيع العربي -الذي شكّل أخطر وآخر تهديد للأنظمة الاستبدادية العربية- دون "الجزيرة".
هذا الربيع ليس له سبب واحد أو أب واحد، وإنما أسباب عدة وآباء كُثر. لكن من الثابت أن من بين الأسباب دور القناة، ومن بين الآباء رجل سيضعه المؤرخون في مقدمة القائمة، وهو الذي أسّسها عام 1996 وحماها منذئذ، متحملا ضغوطا تهدّ الجبال الرواسي.
إنه الأمير حمد بن خليفة آل ثاني. ويا لرمزية أن يكون من بين آباء الربيع العربي محمد البوعزيزي، بائع الخضر الذي انتحر لأنه لا يجد عشاء ليلة، إلى جانب أمير إحدى أغنى دول العالم.
سؤال نادرا ما يُطرح: لماذا لعب الرجل دورا بمثل خطورة إعمال المعول في الأنظمة الاستبدادية الفاسدة السائدة آنذاك في كل أرجاء الوطن العربي، وكل العوامل الموضوعية تؤهل النظام القطري ليكون واحدا منها؟
الظاهرة غير مفهومة بالتحليل التاريخي الكلاسيكي، كما يحبّه المؤرخون الماركسيون خاصة. فبنية قطر الثقافية والاجتماعية والاقتصادية منتصف التسعينيات لم تكن تختلف في شيء عن بنية السعودية والإمارات والبحرين.
الربيع العربي ليس له سبب واحد أو أب واحد، وإنما أسباب عدة وآباء كُثر. لكن من الثابت أن من بين الأسباب دور قناة الجزيرة، ومن بين الآباء رجل سيضعه المؤرخون في مقدمة القائمة، وهو الذي أسّسها عام 1996 وحماها منذئذ، متحملا ضغوطا تهدّ الجبال الرواسي، إنه الأمير حمد بن خليفة آل ثاني

ما الذي جعل قطر تخرج إذن -منذ تلك الفترة- على محيطها، و"الجزيرة" رمز هذا الخروج وأداته الأخطر؟
هنا يتدخل عامل الشخص الذي لا تعيره النظريات البنيوية للتاريخ الأهمية التي يستحقها، رغم أن أول من اكتشف النار والبخار ونواة الذرة لم يكن جمعا أو قوة عمياء، وإنما هو شخص عرف استغلال ظروف موضوعية، وغيّر بمفرده مجرى التاريخ.
هذا العامل الذاتي المؤثر على ديناميكية العوامل الموضوعية، هو -في قضية الحال- الذكاء غير العادي لشخص غير عادي.
فالأمير حمد، فهِم ما لم يفهمه من يحاصرون اليوم بلده. هو فهم أن النظام السياسي القديم انتهى، وأن النخب الفاسدة المكروهة من شعوبها ستنقرض مثلما انقرضت في أوروبا وأميركا، وأنه لم يعد هنالك مجال للوصول للعقول والقلوب إلا بالاصطفاف إلى جانب الشعوب، والتجاوب مع آلامها وآمالها.
بطبيعة الحال لا مجال لتفسير الأمر بالقومية كما يفهمها ويمارسها بشار بن أبيه.
ماذا وراء الخيار إذن؟ محرّك الخيار لم يكن لا الديمقراطية ولا الثورية (أو الثورجية كما يسميها أعداء الربيع العربي)، وإنما ما يمكن تسميته الوطنية العربية، أي الشعور بالغيرة على مصلحة العرب أينما كانوا، والوقوف مع شعوب الأمة بدعمها معنويا وماديا.
فإذا أرادت الشعوب الثورة، فالوطنية العربية مع الثورة. وإن هي أرادت الديمقراطية، فالوطنية العربية مع حق هذه الشعوب في الديمقراطية. في كل الحالات هي دوما في صفّ المقاومة، التي تمثلها اليوم حركة حماس
التي قبِلت دول النظام القديم أن تصنّفها في خانة الإرهاب، وأن تضرب عليها الحصار الأول عندما استولى السيسي على الحكم ليمسح ثورة 25 يناير المجيدة.
باعتمادها هذه الوطنية العربية التي كانت "الجزيرة" لسانها، استطاعت قطر أن تضرب ألف عصفور بحجر واحد.
حين لم يستقطب الاستبدادُ الخليجي وغير الخليجي إلا سقط المتاع من مرتزقة السياسة والثقافة وسلاحه الوحيد "الرز"؛ استطاعت قطر أن تستقطب -بما وفرته من حرية- خيرة العقول وأنظف السياسيين، وأن تجعل من الدوحة أهم عاصمة عربية إعلاميا وثقافيا.
كما استطاعت أن تبني لها قوة سياسية تفوق حجمها السكاني بكثير، وأن تلعب دورا رئيسا في أحداث الربيع العربي الذي يظن الأغبياء أنه انتهى، والحال أنه في بداياته.
لا غرابة في هذه الحالة أن تصبح قطر العدوّ الأول لأنظمة الاستبداد، خاصة أن الابن من منظورها أضاف "خيانة" جديدة لـ"خيانة" الأب. فالأمير تميم لم يكتف بمواصلة مسيرة والده، بل زاد من الشعر بيتا وهو يؤسس جائزة دولية لمحاربة الفساد، والكل يعلم كم الفساد هو النواة والركيزة الأساسية لهذه الأنظمة.
***
هنا لا بدّ من وقف التحديق في الشجرة التي تحجب الغابة، وأخذ نظرة شاملة تضع الحصار الثاني والأول في أوسع سياق، ألا وهو تاريخ النظام السياسي العربي ككل.
مغزى الصراع حول قطر اليوم أكبرُ بكثير من غضبة مزمنة من أول قناة عربية، أو تنافس بين أنظمة خليجية، أو بالطبع من حسد وغيرة فاشلين تجاه ناجحين.
للإيجاز والولوج مباشرة إلى لبّ الموضوع؛ هذه ملاحظات تضع الأمر في نطاقه الأوسع، أي في إطار الصراع الجبار والمصيري للأمة بين النظام السياسي القديم الذي لم يمت بعدُ، والنظام الجديد الذي ما زال في طور الولادة، حسب التعبير الشهير للفيلسوفة الألمانية هنّا أرندت:
1- النظام السياسي العربي الحالي -خلافا لما يتصوره البعض- ليس جديدا إلا في مظهره وإخراجه. هو في جوهره -سواء أكان ملكيا أو"جمهوريا"، "حداثيا" أو"إسلاميا"، "مدنيا" أو عسكريا- ذلك النظام الذي وصفه (ولم يدعُ إليه) عبد الرحمن بن خلدون منذ ستة قرون.
إنه نظام العصبية المبني على تصوّر السلطة -بما هي نفوذ وثروة واعتبار- غنيمةَ حرب توزَّع بين المنتصرين، وهم دوما طائفة أو قبيلة أو مؤسسة عسكرية، يجمعها أقصى قدر ممكن من التضامن للحفاظ جماعيا على ما سلبوه بالثورة أو بالحيلة من الآخرين.
2- مثل هذا النظام -بتقسيمه المجتمع إلى سادة ورعايا- لا يفرز إلا الظلم والتمرّد، وتوجّسا مزمنا لكل الأطراف من بعضها. إنه وضع خطير متقلّب، الحاكم فيه مثل راكب حصان جامح، يمكن أن يلقي به في كل لحظة على الأرض فتتكسّر فقرات عنقه.
لا يوجد بيد الحاكم "الخلدوني" لترويض الحصان الخطير إلا نفس الأدوات منذ بداية انتصاب مثل هذا النظام:
- شراء الضمائر، وهذا ما يجعل الفساد والإفساد ركنا أساسيا لديمومته.
- السيطرة على العقول بالسيطرة على منابر المساجد، واليوم على منابر وسائل الإعلام.
- العنف بكل مظاهره وخاصة التعذيب، لزرع الخوف والثني عن كل مطلب محاسبة، وبالطبع بحجة محاربة الإرهاب. وبخصوص هذا الأخير، لم أعد أصدّق أن أصحاب القرار في الغرب يجهلون أنه من المنتوجات الإجبارية للنظام السياسي العربي القديم.
هو بداهة نتاج ظلمه وفساده. هو نتاج التعذيب الوحشي في سجونه، وهو نتاج تلفزيوناته في الثمانينيات التي كانت تدعي محاربة اليسار بالخطاب الديني. وهو نتاج مخابراته التي تخترق وتستعمل المجموعات الإرهابية لحشد دعم الغرب والطبقات الوسطى.
 الإرهاب إذن ملتصق بالنظام العربي القديم التصاق الظل بالماشي في الشمس، والانتهاء منه لا يكون إلا بنهاية النظام الذي ولّده.
لكن أصحاب القرار في الغرب بحاجة لهذا الإرهاب حاجة النظام القديم إليه، فهو يكفل لهم السيطرة على الأنظمة وعبرها على الشعوب العربية وحتى على شعوبهم. وفي آخر المطاف، ما التكلفة بالنسبة لهم؟ 1% ضحايا من الغربيين و99% من العرب والمسلمين، مما يعني أن اتهام قطر بالإرهاب قمة المكر وسوء النية وقلب الحقائق.
أصحاب القرار في الغرب بحاجة للإرهاب حاجة النظام العربي القديم إليه، فهو يكفل لهم السيطرة على الأنظمة وعبرها على الشعوب العربية وحتى على شعوبهم. وفي آخر المطاف، ما التكلفة بالنسبة لهم؟ 1% ضحايا من الغربيين و99% من العرب والمسلمين، مما يعني أن اتهام قطر بالإرهاب قمة المكر وسوء النية وقلب الحقائق

3- ابتداء من ثمانينيات القرن الماضي التي شهد فيها العالم اكتساح الموجة الإسلامية والموجة الديمقراطية تقريبا في نفس الوقت، دخل النظام القروسطي مرحلة النزع الأخير.
فالمجتمعات العربية شهدت نقلة نوعية لم تعرفها من قبل؛ فتزايد الطلب على الحريات، وأصبح الفساد مرفوضا من قطاعات متزايدة، وولّد القمع حركات مقاومة سلمية أو عنيفة تزداد تجذرا وقوة.
أما معركة القلوب والعقول فقد خُسرت تماما، إذ أفلتت منابر المساجد لتكون صوت التمرّد الإسلامي وولّد بعضها حركات إرهابية، وأفلتت المنابر الإعلامية البالغة التعدد والتنوع لتكون صوت الرفض الديمقراطي.
وقضى الإنترنت مجددا على آخر وهم بالسيطرة على فكر ومخيلة الشعوب. ثم تدفقت الأجيال الجديدة التي لا تربطها أي صلة بالعقليات القديمة والأساليب البالية، والتي أسميها الـ e-generations.
4- قامت الثورات العربية في سياق هذه التغييرات المجتمعية العميقة، لكي يتم التلاؤم بين الواقع الجديد ونظام سياسي يكفل كل الممكن من المساواة والكرامة والفعالية، لإدارة دواليب دولة يجب أن تخدم الجميع وليس فئة واحدة فقط.
إلا أن النظام القديم -عن غباء وخوف- رفض كل تأقلم إلا في قَطر والمغرب، بينما جنّد في جل بلدان المشرق ما بقي له من طاقات للتعرّض لظاهرة ظنها عابرة يمكن القضاء عليها، وهي تحوّل تاريخي بحجم تحرك الصفائح الجيولوجية الحاملة للقارات والبحار.
5- بعد الموجة الأولى للثورات العربية تجنّد النظام السياسي القديم، وربح معركة مصر وتونس وليبيا بوضع العراقيل لكسر هذه الموجة. ثم انطلق بكل ما يملك من مال وسلاح لربح الحرب، بعزل غزّة وأساسا بضرب مراكز الدعم للربيع، أي تركيا وقطر. لكن شوكته تكسرت ببسالة المقاومة في غزة وبفشل الانقلاب في تركيا، واليوم بفشل حصار قطر.
فالتعاطف الكبير الذي أظهرته شعوب الأمة دوما مع قضية الشعب الفلسطيني، وأظهرته البارحة مع رجب طيب أردوغان، وتظهره اليوم تجاه قطر؛ هذا التعاطف -إضافة إلى عزل أبواق النظام السياسي القديم الفاسد في كل بلداننا- هو أسطع دليل على صحّة الرهان الذي اتخذه الأمير حمد في منتصف التسعينيات، وعلى غباء رهان مَن يحاصرون بلده اليوم.
هم في الحقيقة الذين يوجَدون في أصعب وضع، ولا أحد يعلم كيف سيخرجون منه... و"الصيفَ ضيّعتِ اللبن".
المضحك المبكي في هذه التراجيديا -التي أصبحت العائلات الخليجية الممزقة تعيش على عبثها وإجرامها- أن المحاصرين لقطر يتصورون أن بداخلها بعبعا مخيفا يمكن خنقه بالحصار. والحال أن البعبع يتمطى داخل بلدانهم في شكل الأجيال ''الإلكترونية''.
للأسف ما زالت في الأفق معارك ضارية بعد معركة قطر، ولا أحد يعلم أي حصار ثالث ورابع سيضرب ضدّ كل دولة ينتصب فيها النظام السياسي العربي الجديد. فالنظام القديم مستعدّ للتحالف مع الشيطان وليس فقط مع إسرائيل، التي لا ترى في الحرب الأهلية العربية إلا فرصة ذهبية لمزيد من تدمير أمتنا، ووضع أشلائها تحت وصايتها

إنها كل هذه الأجيال الجديدة الغاضبة وراء حواسيبها، التي تحررت من إعلام الزيف، والتي تمارس حرية التقييم طول اليوم، وتصل إلى كل المعلومات خاصة تلك المتعلقة بالفساد، ولن تقبل أن يتواصل التعامل معها كرعايا من قِبل مجموعات فاسدة فاقدة للهيبة والشرعية والمصداقية.
6- جوهر الموضوع اليوم إذن هو وصول الصراع بين نظام سياسي عربي قديم لم يلفظ -إلى حدّ الآن- آخر أنفاسه، ونظام سياسي عربي جديد يُطلق أولى صرخات الولادة؛ وصول هذا الصراع إلى ذروته.
للأسف ما زالت في الأفق معارك ضارية بعد معركة قطر، ولا أحد يعلم أي حصار ثالث ورابع سيضرب ضدّ كل دولة ينتصب فيها النظام السياسي العربي الجديد. فالنظام القديم مستعدّ للتحالف مع الشيطان وليس فقط مع إسرائيل، التي لا ترى في الحرب الأهلية العربية إلا فرصة ذهبية لمزيد من تدمير أمتنا، ووضع أشلائها تحت وصايتها.
7- يجب ألا نغالي في التفاؤل بخصوص المستقبل، لأن الدمار الذي نراه في كامل الوطن العربي -والذي يستشري كالنار في الهشيم- ليس إلا في بدايته.
على الناس هنا أن يتذكّروا الثمن الذي دفعته أوروبا لتجدُّدها ما بين 1914 و1945 (أكثر من ستين مليون قتيل وتدمير شبه كامل لأغلب مدن القارة العجوز)، أو الثمن الذي دفعته الصين بين 1849 و1949 (مئات الحروب والمجاعات والتدخلات الأجنبية وعشرات الملايين من الموتى بالجوع والحروب).
لا أعتقد أننا سنتفادى دفع مثل هذا الثمن الباهظ لتدمير كل ما يجب تدميره من دول قُطرية مصطنعة الحدود، وأنظمة فاسدة، وأيديولوجيات غبية، وعادات وتقاليد بالية.
يجب أيضا ألا نغالي في التشاؤم. من المؤكد أن البدائل تتبلور ببطء لكن بثبات، حتى داخل الأنظمة الاستبدادية نفسها، وبعضُ عقلائها يفهمون أنه بوسع سياسات متهوّرة -كالتي تُمارَس اليوم ضد قطر ودول الربيع العربي- أن تعجّل بالانهيار، وإنه من الممكن أن يكون المسؤولون عن هذه السياسات آخر ممثلي سلالاتهم، يحفرون قبورهم بأظافرهم وهم لا يعلمون.
لكن الأهم هو التطور داخل المجتمعات المتزايدة وعيا وقوة وجسارة. إن الأنظمة عادة تموت في العقول والقلوب بضعة عقود قبل موتها في الواقع؛ فالنظام السوفياتي لم ينهر في التسعينيات وإنما بدأ قبل ذلك بكثير. وما انهياره في التسعينيات إلا نهاية عملية صامتة أخذت وقتها قبل أن تترجم إلى أفعال.
كذلك القول عن بدائلنا نحن؛ فبعضها على السطح كما هو الحال في تونس، والبقية مثل الجزء المخفي من جبل الجليد: أحلام ومشاريع كلها تدور حول شعوب من المواطنين لا من الرعايا، سلطة وظيفية لا سلطة غنيمة، شفافية تنهي الفساد، حريات وحقوق.
ودولة قانون ومؤسسات، احترام للتعددية، تعايش سلمي مبني على مواطنة جديدة، واتحاد بين دول ديمقراطية وشعوب حرة، تتعاون بينها لمواجهة تحديات القرن الواحد والعشرين.
نحن لا نرى القوى التي تتجمع في الخفاء تأهبا لإعادة البناء فوق الخراب، مثلما لا نرى ما يعتمل داخل العقول والقلوب. لكنك تسمع أحيانا بقصة تؤكد لك صحة الآمال التي تمكننا من مواصلة المشي بثقة في طريق الآلام.
آخر ما سمعته عن هذه القوى التي بدأت من الآن تتهيّأ بصمت للأخذ بزمام الأمور عندما تنتهي فترة التدمير: مجموعة مهندسين سوريين وألمان يحضّرون -والحرب لم تنته بعدُ- خطط إعمار حلب.
سنعيد إعمار حلب وتعز والموصل وبنغازي. وسنعيد خاصة إعمار العقل العربي وسنبني على أنقاض النظام ''الخلدوني'' نظاما سياسيا عربيا، يصبح جزءا من الحل لا أكبر جزء من المشكلة. المسألة مسألة وقت؛ فلا ترضخوا للإحباط... "ولا بدّ لليل أن ينجلي".

الأربعاء، 28 يونيو 2017

أرطغرل وأردوغان وتفسير الحاضر بالتاريخ

أرطغرل وأردوغان وتفسير الحاضر بالتاريخ

اللافت للانتباه تجاهل فضائيات عربية لمسلسل أرطغرل التركي لما فيه من رسائل ومضامين إسلامية وسياسية، تتعلق بتوجهه الإسلامي الصريح والصدام مع الصليبية العالمية

عامر عبد المنعم


حقق المسلسل التركي "قيامة أرطغرل" أكبر نسبة مشاهدة لعمل فني إسلامي، ورغم أن المسلسل يحكي قصة تاريخية عن تأسيس الدولة العثمانية في القرن الثالث عشر وصراع المسلمين مع القوى الأجنبية المحاربة للإسلام في ذلك الوقت فإنه يحتوي على رسائل ومضامين تجعله وكأنه يتحدث عن واقعنا المعاصر بكل تفاصيله.
المسلسل يدور حول البطل التركي أرطغرل بن سليمان شاه ووالد عثمان مؤسس الدولة العثمانية، ويتناول رحلة قبيلتهم التركمانية بحثا عن وطن، بعد الاجتياح المغولي للعالم الإسلامي، وفي هذه الرحلة خاض أرطغرل ومحاربوه معارك شرسة مع المغول القوة الصاعدة في الشرق، وحاربوا الصليبيين القوة الزاحفة من الغرب.
في رحلتهم للتوجه إلى الأناضول حقق أرطغرل انتصارات كبيرة، لفتت الانتباه إلي قوته ورفعت من شأنه، فأعطاه أمير الدولة السلجوقية السلطان علاء الدين الأول قطعة  أرض على حدود الإمبراطورية البيزنطية انطلقوا منها لتأسيس السلطنة التي تحولت إلى خلافة.
نجح المسلسل في تقديم صورة الصراع الذي كان يعيشه العالم الإسلامي في هذه الفترة، وكيف تسببت الانقسامات والضعف في زيادة النفوذ الصليبي، وتجنيد الجواسيس والوزراء في القصور لتدمير الدول من داخلها.
يركز المسلسل على مواجهة المسلمين مع القوى الخارجية المعادية، ودور الخيانة في استنزاف قوتهم، في إشارات ذكية لما تواجهه الدولة التركية من مؤامرات، إلا أن الرسالة التي تتكرر في كل الحلقات هي الثقة في الانتصار رغم كل العراقيل.
ورغم الملاحظات العديدة على "قيامة أرطغرل" فإن المسلسل يذكرنا بحقبة مضيئة من تاريخنا الإسلامي، ويعرض جانبا من البطولات التي تدعو للفخر وتعيد الثقة لشباب الأمة الذين أضعفت معنوياتهم كثرة المذابح التي يتعرض لها المسلمون بأسلحة الدمار التي تملكها الجيوش التي تحتل البلدان الإسلامية وتمارس القتل والتدمير.
تجاهل الفضائيات العربية
من اللافت للانتباه تجاهل فضائيات عربية لمسلسل أرطغرل لما فيه من رسائل ومضامين إسلامية وسياسية، تتعلق بتوجهه الإسلامي الصريح والصدام مع الصليبية العالمية بكل وضوح، ولكن رغم هذا فإن المسلسل حقق أعلى نسبة مشاهدة في العالم لعمل تلفزيوني.
النجاح الذي حققه المسلسل في تركيا طبيعي، ولكن أن يحظي بالانتشار في الدول العربية والعالم رغم الحصار فهذا تأكيد على تأثيره الطاغي وأنه ليس فقط عمل فني وإنما جهد استثنائي متعدد الأبعاد؛ فالجمهور العربي يتابع المسلسل أسبوعيا، مدبلجا وبالترجمة، وقد لاحظت أن بعض صفحات الفيسبوك تلجأ إلى البث المباشر للمسلسل، أثناء إذاعته بالتركية مع ترجمة فورية يقوم بها متطوعون، دون انتظار الترجمة الرسمية التي تتم بعدها بساعات قليلة.
وبسبب هذا التأثير الكبير في معركة الوعي أظن أن هذا المسلسل من الأسباب التي أشعلت غضب أوربا على أردوغان؛ فتوظيف الفن لتوجيه المجتمع إلى ثوابته وهدم عقود من الإفساد باسم الفن يعيد تركيا إلى تاريخها ويذيب الأسوار والحواجز النفسية التي وضعها الغرب منذ سقوط الخلافة.
أهمية الدعم الحكومي
الذي زاد من حرفية وتميز المسلسل ووفر له كل أسباب النجاح دعم الرئيس رجب طيب أردوغان له، بشكل متواصل، ووقوف حكومة العدالة والتنمية خلفه، كأحد أدوات القوة الناعمة لإعادة صياغة المجتمع على القيم الإسلامية.
كانت مبادرة ذكية من أردوغان أن ينزل بثقله وحكومته لاستخدام الفن كأداة ضمن أدوات التغيير والتأثير وعدم ترك هذا المجال لخصومه، وتوظيف صناعة الفن التركية التي تسيطر على شاشات العالم بالمسلسلات الدرامية بتقديم فن راقٍ، يبني ولا يهدم، يستفيد من التقنيات والإمكانات المتاحة لكسب معركة العقول والأفكار.
لقد أثبت المسلسل أن الفن الهادف يحتاج إلى حكومة واعية تدعمه، نظرا للتكلفة الكبيرة والميزانيات التي تحتاجها الأعمال الضخمة، فمعظم الحكومات تستخدم الفن لإلهاء الشعوب حتى لا يفكر المواطنون فيما يقلق الحكام، ولهذا يرتبط الفنانون بأنظمة الحكم، التي تمسك بكل خيوط هذه الصناعة.
الأتراك والإسلام
نجح المسلسل في تصحيح صورة الدولة العثمانية التي تم تشويهها بهدف تشجيع القومية والتعصب الوطني على حساب الوحدة الإسلامية، ومع أن الفساد الذي أصاب السلطنة في أواخر عهدها كأي إمبراطورية عندما يحين خريفها ساهم في تقديم صورة سلبية عنها، فإن بداياتها القوية والاستمرار لستة قرون مدعاة للتقدير والاحترام.
إن أرطغرل واحد من قائمة طويلة من الأبطال في التاريخ الإسلامي الذين يظهرون عظمة الإسلام الذي استوعب كل الأعراق والأجناس، وعندما ضعفت قوة العرب حملت الشعوب الأخرى الراية، ومن هذه الشعوب الأتراك الذين اعتنقوا المذهب السني ولعبوا دورا مهما لخدمة الإسلام  في المنطقة الممتدة من الهند وغرب الصين وحتى الأناضول، ولهم تاريخ جليل في الدفاع عن الأمة الإسلامية قبل تأسيس الدولة العثمانية.
من هؤلاء القادة التركمان العظام السلطان محمود الغزنوي الذي أسس دولة قوية في آسيا وفتح الهند التي كان يحكمها المسلمون حتى قدوم الاستعمار الانجليزي، ومنهم سلجوق الذي أسس الدولة السلجوقية الكبرى وحفيده طغرل بك الذي أنقذ الخلافة العباسية من الشيعة بعد أن استنجد به الخليفة العباسي، وقضي السلاجقة على الدولة البويهية الفارسية التي احتلت العراق.
ومن السلاجقة الكبار ألب أرسلان بن شقيق طغرل بك أول من كسر البيزنطيين وهزمهم في موقعة ملاذكرد الشهيرة وأسر الإمبراطور البيزنطي رومانوس الرابع ووسع الدولة السلجوقية في آسيا الصغرى، ومن القادة من أصل تركي عماد الدين زنكي وابنه نور الدين محمود الذي حارب الصليبيين في الشام.
ولأن الأتراك كانوا قبائل بدوية تتسم بالقوة والبأس فإن الدول المسلمة كانت عبر التاريخ تستعين بهم كمقاتلين في الجيوش، وقد استفادت منهم الدولة الأيوبية إلى أن زال ملكهم فأسس المماليك الأتراك دولتهم في مصر، وهزموا التتار، وأنهوا الوجود الصليبي في الشام، ونقلوا الخلافة من بغداد إلى القاهرة، ودافعوا عن الأمة إلى قيام الخلافة العثمانية.
***
التنوع العرقي كان من عوامل قوة المسلمين، فالإسلام جمع كل ألوان البشر بدون تمييز وذابت فيه الأمم والشعوب وانصهرت، فأنتجت سبيكة صلبة، ولائها للدين فقط، تجاوزت القوميات والتعصب للجهات وروابط الدم، فانتصرت الأمة على خصومها.
مسلسل أرطغرل نموذج لفن حقيقي، يعيد تقديم تاريخنا بدون تشويه، فن هادف، يشعل الحماس، ويبدد اليأس والإحباط، ويذكر أجيالنا الجديدة بماضيهم المشرف، ويكشف لهم صورة عن رموز المسلمين تساعدهم في فهم الحاضر بشكل أفضل.

حصار الحقيقة..(1)


حصار الحقيقة..(1)

د.عبدالعزيز كامل
الحصار الخليجي المضروب على قطر منذ عدة أسابيع...والحصار المجوسي الصليبي الروسي المتواصل على الموصل والرقة وغيرهما منذ عدة شهور.. والحصار اليهودي والغربي العربي المفروض على غزة وحدها منذ عدة سنوات.. وعلى فلسطين كلها منذ عدة عقود... وأنواع الحصارات العدوانية الممتدة على كثير من الشعوب الإسلامية منذ عدة قرون... 
كلها حصارات تندرج تحت بنود (صدام الحضارات) الجاري تهيئة ميدانه وتدريب فرسانه منذ عهود...

حصارات السنوات والآونة الأخيرة رغم تنوع أصنافها ..سياسيًا ..أو عسكريًا..أو اقتصاديًا..أو ثقافيًا وتقنيًا..أو حضاريًا ودينيًا .. يجمعها جميعًا أن الحقيقية الكاملة من وراء فرضها غائبة.. وأسرار سيرها ضائعة..وأخبار نتائجها مموهة أومميعة.. لأن (الصندوق الأسود) لأسرار كل حصار مطلوب أن يظل مغمورًا في أعماق المحيطات التي لاقرار لها إلا عند أصحاب القرار الدولي...

(حصار الحقيقة).. أصبح أفصح لغات عصر الدجل الذي نعيشه.. فالكُل يكاد يدخل في حصار الكُل ..ويُعَمِّي الحقائق ويُغَميها عن الكُل.. لحسابات تكاد تخفى عن الكُل، إلا من يريد الهيمنة على الجميع باسم إرادة "المجتمع الدولي".. الجامع لأصدقاء نادي (الطاغوت الدولي) المكون من الأعضاء الدائمين في هيئة الأمم المتحدة علينا.. تحت قيادة "الأمة الملعونة".. التي تريد فرض قيادتها وكلمتها على أنحاء الأرض المسكونة في عصر العلو الكبير..

لهذا.. فإن نوعًا خاصًا من أنواع الحصار سوف يطغى – من اليوم فصاعدًا - على غيره من أنواع الحصار ؛ وهو (الحصار الإعلامي) وذلك كلما اقتربنا من محارق (أم المعارك) المسماة عندهم بـ (صراع الحضارات) المسمى عندنا بـ (صدام المشروعات في أرض النبوات والنبوءات).. والهدف من ذلك الحصار الإعلامي؛ هو (حصار الحقيقة) حتى لا يدري القاتل فيم قَتَل، ولا يدري المقتول فيم قُتِل..في زمن (الهَرْج) الذي فسرته الأحاديث بأنه (القتل..القتل)..!

الحصار الإعلامي الذي بدأ مع الثورات المضادة بإغلاق أو محاصرة أو مسخ القنوات والمواقع والمنابر الإسلامية؛ سيتسع ويمتد إلى كل منفذ يمكن من خلاله وصف الحقيقة أو نصف الحقيقة أو بعض الحقيقة لمن يريدها ويسعى إليها.. وما ضيق الطواغيت الأصاغر بمثل (قناة الجزيرة) رغم أنها لا تذكر إلا نصف الحقيقة.. إلا ترجمة للنوايا المُبَيتة تجاه غيرها من المنابر التي يمكن أن توصل كلمة حق، مهما كان شكلها وقدرها وصيغة نشرها..

ولأن الحق شقيق الحقيقة..فإن الحقائق كلما غابت ضُيِّعت الحقوق..ولهذا ينبغي للإسلاميين من الآن فصاعدًا ؛ تدبر أمرهم في إيجاد بدائل لمنابر للتواصل مع أمتهم.. فالحق لن يمر للناس إلا من خلالهم..والحقوق لا يمكن استعادتها إلا على أيديهم..
ولحكمة بالغة كان النبي - صلى الله عليه وسلم – يبايع أصحابه على قول الحقيقة المجردة؛ والقيام بالحق المجرد،؛ حتى في زمان التجرد للحق والصدق، كما ثبت ذلك في الحديث المتفق عليه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : ( بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة ، في اليسر والعسر ، والمنشط والمكره ، و ألا ننازع الأمر أهله ، وأن نقول - أو نقوم - بالحق حيثما كنا ؛ لا نخاف في الله لومة لائم) ...
فاللهم أعِنا على قول كلمة الحق..لا نخاف في الله عتاب لائم، ولا عقاب لئيم..

لماذا لم يرد اسم حماس في قائمة المطالب السعودية المقدمة إلى قطر؟

Why Hamas was not on the Saudi list of demands for Qatar
لماذا لم يرد اسم حماس في قائمة المطالب السعودية المقدمة إلى قطر؟




تم استبعاد اسم حماس من القائمة السعودية المقدمة إلى قطر. قبل ذلك بأيام قليلة أبرم أحد رجال فتح الأقوياء صفقة مع واحد من قادة حماس – غير أن أحداً من الحركة سواه لم يكن على علم بذلك. والآن تهدد هذه الصفقة بشق الحركة.

لوحظ أن اسما واحدا أسقط من قائمة المطالب الثلاثة عشر التي تقدمت بها السعودية إلى قطر ومنحتها مهلة عشرة أيام لتنفيذها.

ما من شك في أن الحركة المقصودة تحظى بحماية قطر. وما من شك أيضا في أنها خرجت من رحم جماعة الإخوان المسلمين، وفي أنها تسعى إلى تدمير دولة إسرائيل. وكانت قد صدرت بحقها مطالبات من قبل وزير الخارجية السعودي عادل الجبير وسفيرة أمريكا في الأمم المتحدة نيكي هيلي على حد سواء بأن يدرج مجلس الأمن الدولي اسمها في قائمة المنظمات الإرهابية. 

ومع ذلك يبدو أن اسم حماس قد أسقط من قائمة المطالب التي سلمت إلى قطر يوم الجمعة الماضي. 

قبل أيام قليلة من الكشف عن هذه القائمة، وقع حدث مثير آخر في القاهرة. محمد دحلان، الخصم اللدود للرئيس الفلسطيني محمود عباس، والرجل الذي يموله ويحميه الإماراتيون، كان موجودا في المدينة لمقابلة رجلين من حركة حماس، أحدهما مسؤول منتخب فيها. 

أكدت صحيفة الرسالة، وهي مطبوعة تابعة لحركة حماس في قطاع غزة، أن الاجتماع حصل فعلاً ولكنها نفت أن يكون دحلان نفسه قد شارك فيه. 

ولكن في الحقيقة لم يقتصر الأمر على وجود دحلان، رجل فتح القوي – والذي حاول تنفيذ انقلاب استباقي على حركة حماس في غزة عام 2007 – ومشاركته في الاجتماع، كما بلغني. بل الأهم من ذلك أن يحيى السنوار، زعيم حماس الذي انتخب مؤخرا في غزة كان موجودا أيضا. 

تقدم دحلان من السنوار بخطة شاملة، كانت خلاصتها على النحو التالي: "تسمحون لي أنتم بالعودة إلى غزة وأنا أتعهد لكم بتخفيف الحظر المفروض عليكم من الجانب المصري من الحدود".

خرجت صحيفة الفجر الموالية للنظام في مصر بتفاصيل إضافية، حيث زعمت أن دحلان سيترأس الحكومة في غزة ويتحكم بالمعابر مع مصر وإسرائيل وكذلك بالشؤون المالية بينما تحتفظ حماس بوزارة الداخلية ويعامل موظفوها على أنهم جزء من الإدارة. قد لا يتحقق شيء من ذلك، ولكن ما كشفت عنه الصحيفة كفيل بأن يسلط الضوء على الأقل على معالم الطريق نحو المستقبل. 

ونظرا لأن الحصار المفروض على الجانب المصري من الحدود أعتى وأشد وحشية من ذلك الذي تفرضه إسرائيل نفسها، فما من شك في أن هذا العرض مغر. بل وصل الإغراء إلى الحد الذي دفع السنوار إلى مصافحة يدوية تعبيرا عن الدخول في الصفقة. وخلال أيام قليلة بدأت شاحنات الوقود تعبر الحدود عند نقطة رفح باتجاه غزة. 

المشكلة الوحيدة في هذا الترتيب الجديد تكمن في أن بقية حركة حماس لم تعلم عنه شيئا. 

أربعة أعوام.. واجتماع واحد

معلوم أن السنوار هو زعيم حركة حماس داخل غزة. ولكن، إذا ما أخذنا بالاعتبار أن حماس تتوزع في قطاعات ثلاث هي غزة والضفة الغربية والشتات، فغزة على أهميتها التي تنبع من أنها تشكل دولة الأمر الواقع، إلا أنها مجرد واحدة من ثلاث. 

وهذه القطاعات الثلاثة يترأسها مجلس شورى هو الذي ينتخب رئيس المكتب السياسي التنفيذي. الرئيس الحالي لهذا الجهاز التنفيذي هو إسماعيل هنية، والذي حل محل خالد مشعل في الانتخابات التي جرت في الدوحة الشهر الماضي. وهذه هي المرة الأولى في تاريخ الحركة التي يعيش فيها رئيس الجهاز التنفيذي داخل غزة وبذلك تكون تحركاته مقيدة بسبب الحصار. 

يقال بأن هنية أخبر زملاءه في قيادة الحركة بأنه لم يعلم باجتماع السنوار مع دحلان ناهيك عن أن يكون قد أقر القرار الذي يروى أنه تمخض عنه. 

إلا أن هذا الإجراء، وهو الأول الذي يتخذه السنوار بوصفه رئيسا لحركة حماس في قطاع غزة، تسبب في نشوب أزمة غير مسبوقة داخل الحركة ككل، والتي حرصت على مدى عقود في انتهاج سياسة التفكير الملي والحذر في أي خطوات تتخذها، ولم تقطع بشأنها إلا بعد فترات مطولة من التشاور والحوار مع كافة قطاعات الحركة. 

بينما استغرق تعديل ميثاق الحركة أربعة أعوام من النقاش الداخلي إلا أن تعديل السياسية التي انتهجتها الحركة على مدى أحد عشر عاما منذ بدء الحصار لم يستغرق من السنوار سوى اجتماع واحد. 

وبحسب ما أخبرني به مصدر مطلع فإن "هذا أمر خطير جدا وغير مسبوق بالنسبة للحركة. بل يمكن اعتباره محاولة سافرة لشق حركة حماس، والتي لم تلبث منذ عام 1992، وهو العام الذي انتقلت فيه القيادة الكلية للحركة إلى خارج قطاع غزة، تتخذ قراراتها الاستراتيجية بعد نقاشات جماعية مطولة واستشارات كلية مكثفة".

وأضاف المصدر: "تسعى دولة الإمارات العربية المتحدة إلى تقليص دور تركيا وقطر في قطاع غزة. بل يريد دحلان ومعه الإمارات توجيه ضربة قاصمة إلى المحور القطري التركي وشق حركة حماس".

مغازلة ترامب

ما من شك في أن العرض الذي تقدم به دحلان إلى حماس لتخفيف الحصار سام ومغر في نفس الوقت. 

وكان طوني بلير قد تقدم من قبل بعرض مشابه إلى خالد مشعل ضمن سلسلة من المحادثات التي جرت بين الرجلين وكنت أول من كشف النقاب عنها. عرض بلير على مشعل رفع الحصار مقابل اتفاق هدنة. إلا أن المحادثات فشلت لأنها لام تحظ بتأييد لا إسرائيل ولا مصر. إلا أن مشعل كان حذرا من مقايضة ما تعتبره حماس حقا في مقاومة الاحتلال بشحنة من المعكرونة والشوكولاتة. 

ولكن، بالمقارنة، تعتبر الأحوال في غزة هذه المرة أسوأ بكثير مما كانت عليه من قبل. ففي ظل التهديدات التي وجهها ترامب، طلب عباس من إسرائيل تقليص التيار الكهربائي الذي تزود به قطاع غزة من ست ساعات إلى ساعتين في اليوم (وذلك أن السلطة الفلسطينية وليس إسرائيل هي التي تدفع تكلفة الكهرباء التي يزود بها القطاع). هذا الإجراء، بالإضافة إلى قراره قطع رواتب موظفي السلطة في غزة، بما في ذلك مخصصات معتقلي فتح في السجون الإسرائيلية، تسبب في إلحاق أضرار جسيمة بشعبية عباس وما يحظى به من تأييد. 

عندما رفع أحد أنصار عباس صورة له داخل ساحات المسجد الأقصى في يوم عيد الفطر، انقضت عليه الجماهير ومزقت الصورة وهي تهتف "خائن، خائن".  

ربما شعر عباس بأنه لم يعد أمامه من خيار آخر، وذلك في خضم التنافس المحموم والفتاك لكسب ود ترامب بين عباس وخصمه ومنافسه الرئيسي محمد دحلان. 

سبق أن جرب دحلان في إحدى المرات العودة إلى فلسطين عبر محاولة إجراء مصالحة مع عباس، إلا أن الزعيم الفلسطيني رفض ذلك وأقصى مؤيدي دحلان من اللجنة المركزية لحركة فتح. والآن يحاول دحلان الدخول من خلال طريق جديد، هذه المرة عبر غزة وحماس. 

تضافرت مجموعة من الأحداث والظروف على تهيئة الأجواء التي عقد فيها اللقاء مع السنوار، وعلى رأسها ذلك البيان الذي ألقاه ترامب أمام خمسين من زعماء العرب والمسلمين في الرياض والذي أعلن فيه أن حركة حماس منظمة إرهابية، بالإضافة إلى العداوة المعلنة تجاه حركة حماس من قبل الأنظمة العربية، ثم محاولة دحلان الأخيرة لشراء تأشيرة دخول إلى قطاع غزة من حركة حماس. 

حلقة غزة

حتى هذه اللحظة، يوفر عباس ودحلان، كلاهما، خدمة للمصالح السعودية والإماراتية والتي ترغب في رؤية حماس تتراجع ويتضاءل حجمها ورؤية النفوذ القطري في غزة يتآكل. من المعلوم أن قطر هي أكبر متبرع دولي لقطاع غزة، حيث تعهدت بمبلغ 1.3 مليار دولار لإعادة الإعمار. وتدفع قطر بشكل مباشر للعمال في مواقع البناء. في ظل معدل بطالة يصل إلى 40 بالمائة فإن تلك الأموال وتلك الوظائف هي اللعبة الوحيدة في المدينة. 

لا غرو في أن الحصار المفروض على دولة قطر مرتبط في نهاية المطاف بالحصار المفروض على قطاع غزة. 

يذكر أنه حتى ساعة اللقاء الذي جرى في القاهرة، كانت حماس، كحركة، تنتهج أسلوبا يعتمد ضرب طرفي حركة فتح المتنافسين بعضهما ببعض. 

فبطلب من عباس، سمحت حماس لمئات من أعضاء حركة فتح في قطاع غزة بالسفر إلى الضفة الغربية حتى يتمكنوا من التصويت لمرشحي عباس لانتخابات اللجنة المركزية لحركة فتح. وكان المقصود من هذه العملية هو إقصاء دحلان ومؤيديه من السلطة وإبقاؤهم بعيدا عن الضفة الغربية. 

في نفس الوقت أرسلت حماس مندوبين لها للمشاركة في اجتماعات القاهرة التي قربتهم أكثر فأكثر من دحلان، الذي يعتبر، وتؤيده في ذلك مصر، أن هذه استراتيجية ناجعة. 

بالنسبة لحماس، تعتبر الدروس المستخلصة من الصراع على النفوذ في الخليج ومن الخلاف داخل حركة فتح غاية في المرارة. 

لقد قامت حماس بالفعل باستبدال ميثاقها الأصلي بوثيقة تعترف بحدود إسرائيل لعام 1967. وما فعلت الحركة ذلك إلا لتسهل على جميع الفصائل الفلسطينية تبني موقف مشترك، وكذلك أيضا لتساعد الدول العربية التي كانت تسعى جاهدة لإنعاش المبادرة العربية للسلام. فماذا كان الرد السعودي على مبادرة قصد منها "تطرية" الموقف التفاوضي؟ إعلان حماس منظمة إرهابية.  

وكم يشبه ذلك ما حصل لحركة فتح عبر تاريخها. لقد طُلب من الحركة تقديم التنازل تلو الآخر، ولم يحصلوا في المقابل على شيء، وما جنوه جراء ذلك هو أنهم فقدوا ما كانوا يتمتعون به من تأييد، وتحول بشكل عام إلى حماس. فإذا ما بدأت حماس بفقد ما لديها من رصيد شعبي كما حصل مع فتح من قبل، فلن يعود هؤلاء المؤيدون إلى فتح، وإنما سينضمون إلى صفوف الجماعات التكفيرية مثل تنظيم الدولة الإسلامية. 

خرج السنوار بعد ما يقرب من عشرين عاما في الاعتقال لدى الإسرائيليين بسمعة أنه عسكري متشدد. وكان قد أفرج عنه كجزء من عملية التبادل مع الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليت. 

لعل الانجذاب نحو التفاوض معه يشبه إلى حد بعيد ما شعر به البريطانيون حينما فتحوا بابا للحوار مع مايكل كولينز، زعيم الجيش الجمهوري الإيرلندي والبطل الثوري في حرب التحرير الإيرلندية. إلا أن كولنز سرعان ما تحول إلى ذلك الرجل الذي أعطى الأوامر بفتح النار على المحاكم الأربعة في إيرلندا بقذائف المدفعية مستهدفا رجاله السابقين الذين شكلوا الجيش الجمهوري الإيرلندي المعارض للمعاهدة مع البريطانيين، فكانت تلك هي الشرارة التي أطلقت الحرب الأهلية الإيرلندية. 

هل يرغب السنوار في أن يكون ذلك الشخص الذي يسير على خطا كولنز أم الشخص الذي يسير على خطى محمود عباس؟.

(ميدل إيست آي)