الثلاثاء، 30 يونيو 2020

عن السر الذي خبأته عنا الحياة

عن السر الذي خبأته عنا الحياة

أسعد طه

(1)

لا داعي لأن تكمل قراءة كلامي حتى نهايته إذا كنت تبحث عن حل سحري، لكن فقط انتبه من فضلك إلى الفقرة التالية، ثم بوسعك حينئذٍ أن تتوقف عن القراءة ولا تضيع وقتك. نعم أعرف أنك فقدت صديقاً في الثورة، وأن أصدقاءك الآخرين إما معتقلون وإما لاجئون، وربما أنت الآن هائم على وجهك في شوارع وأزقة أوروبا، أو ربما تبحث عن مركب تخاطر فيه بحياتك لتصل إلى حافة مدينة تقبلك كإنسان، فقط كإنسان. نعم.. نعم أعرف أنك محطم تماماً، وأنك تعتقد أن مستقبلك كله انتهى، بعد أن فقدت ماضيك، بصراحة شديدة لو كنت مكانك لكنت مثلك تماماً.

(2)

فلنعترف بداية بأن آباءنا وأمهاتنا أنجبونا وأرضعونا، وكبرونا، وألحقونا بالمدارس والجامعات، وأنهم فعلوا من أجلنا كل شيء بمقدورهم أن يفعلوه، باستثناء أمر واحد؛ أنهم لم يشرحوا لنا سر هذه الدنيا قطّ، وما الحكمة من الحياة، لماذا نعيش ولماذا نموت، ولماذا علينا أن نتحمل كل ما نتحمل.
إذاً فلتكن تلك هي مهمتك الآن، أن تفهم سر الحياة.
سأخبرك أنا، وأرجوك أن تخبر كل الناس.
في الحقيقة لك عندي خبران: أحدهما جيد، والآخر سيئ، فأما الجيد فهو أن كل ما تمر به الآن سينتهي، وأنك ستخرج من عثرتك، هذه سُنة الحياة التي لا تتغير، لا شيء يدوم أبداً، وأما الخبر السيئ فهو أنك بعد فترة ستواجه عثرة جديدة ومشكلة أخرى، لكن أعدك بأنها ستكون مختلفة عما سبقها، وهكذا إلى أن ينتهي عمرك.
نعم، الحياة ليست إلا مجموعة من العثرات، تخرج من واحدة، تلتقط أنفاسك، تهدأ، ثم لا تلبث أن تواجه عثرة أخرى، تختلف العثرات وشدتها ومواقيتها باختلاف الناس، لكن البشر يشتركون كلهم في هذا الأمر.
الحياة يا صاحبي ليست البتة مكاناً مناسباً لتسكن فيه وتستريح، الحياة ليست مكاناً للاستقرار، أنت يا عزيزي ومهما كان معتقدك لست إلا في رحلة طويلة تنتهي بما يتفق عليه كل البشر، ألا وهو الموت.
في هذه الرحلة ستمر بمسرات بلا شك، تتمتع فيها بمباهج الحياة، تتنفس بعمق، تضحك ملء شدقيك، تجني ثمار نجاحاتك، حتى تظن أنك وصلت إلى المستقر، لكن سرعان ما توجه لك الحياة لطمةً جديدة، قد تسقط، ثم تنهض، ثم تواصل وهكذا.
تستطيع أن تتوقف هنا عن القراءة إن لم يعجبك كلامي بأن الحياة ما هي إلا مجموعة من العثرات، لكن ربما يسرك أن تسمع إجابتي: إذا كانت هي كذلك حقاً، فما العمل؟

(3)

أي محاولة للاستسلام للواقع الذي تعيشه لا تعني أن هذا الواقع المؤلم سيبقى كما هو، بل سوف يزداد سوءاً، أنت الآن مخير بأن تغامر للخروج من هذه العثرة بأقل الخسائر أو أن تستسلم وتقبل بالأمر الواقع فتزيد خسائرك، وينحدر حالك أكثر وأكثر.
لا تعتقد أبداً، وصدقني في ذلك، أنك إذا قبلت بالخسارة وتعايشت معها، فإن ذلك سيستمر، لا، مطلقاً، الخسارة تزيد، الخسارة لا تتوقف أبداً إن أنت أعلنت الاستسلام.
يمكنك أن تشكو حالك لطوب الأرض، يمكنك أن تعلن تذمرك ليل نهار وفي كل مناسبة، لكن هذا لا يغير من أمرك شيئاً، ومرة أخرى ستزداد خسارتك، وستنحدر في عثرتك أكثر، الحقيقة لا أعرف كيف تفكر حين تعلن استسلامك، هل تقصد أن تبلغ طاغية بلادك بأنه انتصر عليك فعلاً، وأنه هزمك هزيمة لا تستطيع أن تقوم منها؟ هل تعلم مدى سعادته وزبانيته حين يعلمون أنك انتهيت؟ هل تعلم أن روح رفيقك الشهيد تتألم وأنت تعلن استسلامك مدعياً حزنك العميق؟ هل تعلم أنك خنته؟ نعم اسمع جيداً ما أقوله لك: أنت خنته، ليس عندما سقطت بل حين استسلمت، حين صممت أذنك عن روح رفيقك وهو يصيح لا تدعهم ينتصرون، لا تدعهم ينتصرون.
لا شأن لك بالسياسة، أنت مواطن طبيعي، إنسان عادي، لكن الظروف التي تمر بها بلادك هزمتك وأسقطتك، لقد ضاع مستقبلك ولا تعرف ماذا تفعل فآثرت السكون والبكاء، هل تعلم أنك بذلك إنما تمارس السياسة؟ ذلك عين السياسة، الصمت من أدوات السياسة، كل ما في الأمر أنك لست بقائد أو جندي، أنت مجرد أداة، أداة يفعل بها الآخرون ما يريدونه بصمتك، أنت بذلك إنما أردت أن تكون ريشة، مجرد ريشة، تحركها العواصف التي تمر بالمنطقة.
أنت لست بمؤمن على الإطلاق بأي دين؟ إذاً وقتك محدود، لن تعوضه في الآخرة، لأنها غير موجودة في نظرك فلماذا تستسلم، لماذا تفقد شيئاً لا تستطيع تعويضه؟
أعرف أنك ستقول مللنا الشعارات، وربما أدرت ظهرك لكلماتي ولم تكمل القراءة، بالتأكيد بوسعك ذلك إن لم يكن لديك الرغبة في أن تدرك أمراً لا يدركه كثيرون، وأريد أن أخبرك به.

(4)

قوة الداخل، لا تعرف كم أحب هذا التعبير، قوة ما بداخلك، وليس قوة ما بخارجك هي ما يجب اللجوء إليه، لكنك قد لا تحب ذلك ولا تريد الاعتراف به، فوجود الآخرين مهم لإلقاء اللوم عليهم وتحميلهم أسباب ما أنت فيه.
أنت في الداخل وحدك، أرني الآن ما هي قوتك، خذ هذا المثل، هل تتذكر حالك قبل رمضان، هل تتذكر صعوبة صيام يوم واحد، أو استحالة قيام ليلة واحدة؟ ثم يأتي الشهر الكريم وتُمضي ثلاثين يوماً على هذه الحالة، صياماً وقياماً، وبرغم تعبك فإنك في نهاية الشهر تشعر برضا كبير، وتدرك أنك كنت تمتلك القوة على صيام النافلة حين تحججت بأنه ليس بمقدورك.
الأمر نفسه ينطبق على أمور الدنيا، أنت تقدر، لكنك لا تريد، ربما مخافة التغيير وما يحمله من تبعات، ربما لأنك لا تثق بنفسك ولا تؤمن بها في حين تطلب من الآخرين أن يؤمنوا بك، ربما لأنك تخشى الهزيمة، ربما لأنك لا تعرف أن كل الذين نجحوا قد هُزموا ألف مرة من قبل، ربما لأنك تنتظر خروج المارد من المصباح ولا تريد أن تفهم أن المارد موجود فعلاً ولكن بداخلك وليس بداخل المصباح.
كثيرون منا لا يدركون قوة دواخلهم إلا عندما يكونون في موقف يواجهون فيه الموت فتخرج كل طاقاتهم الداخلية، يكتشفون كم كانوا أقوياء، يكتشفون ذلك متأخرين ربما.
خذ واحدة أخرى، عندما تهم بالعمل لا تشغل بالك بمراقبة شارة الإنجاز، كالذي يمارس الحمية الغذائية ويزن نفسه كل يوم ليقنع نفسه بجدواها.
حارب كأنك في قلب حريق تريد الفكاك منه، هل في خضم الحريق ستقف لتحسب الحسابات؟ كأنك تغرق، إذ تضرب البحر بكل قوتك ولا تترك نفسك ولو لحظة لتفكر هل سأنجح أم لا، ماذا حققت، هل أكمل؟ تعرف أنها أسئلة غبية في حينها.
كل يوم افعل شيئاً، شيئاً واحداً فقط، تقدم بخطوة، لن يتغير حالك بين يوم وليلة.
لا تفكر كثيراً وتغرق في التحليلات، الرشد أن تفكر، والرشد أحياناً ألا تفكر، امضِ فحسب.
ستخبت قوتك من حين لآخر، عد فذكرها بأن أحداً لا يأبه لك، ولن يمد أحد يد العون لك، وأنك وحدك المسؤول، وأن فشلاً أكبر في انتظارك وتدهوراً أسوأ إن أنت قبلت التوقف، لكن عليك أن تدرك مقتضيات المعركة.
أي معركة بالله عليك؟ لقد تركت ورائي كل المعارك.
قصدت معركتك أنت التي تخوضها كإنسان لتحيا كإنسان، هذه المعركة لها مقتضيات لا بد أن تدركها قبل خوضها.

(5)

ارسم خريطة لنفسك، حدد فيها بشجاعة وذكاء مواطن الضعف لديك ومواطن القوة، لا تقارن نفسك بالآخرين، نعم ما عندهم ليس عندك، ولكن ما عندك ليس عندهم، النقص سمة الحياة، ليس منا من هو كامل، فلا تشغل نفسك بهذه المعادلة، المهم أين نقاط قوتك وأين نقاط ضعفك.
عد إلى التاريخ وانظر كيف انتصرت جيوش صغيرة على جيوش أكبر منها عدداً وأكثر قوة وتسليحاً، هزموهم بالذكاء، بهذه الخريطة العظيمة التي أحدثك عنها، مواطن الضعف ومواطن القوة، كيف تستغل قوتك وكيف تقبل ضعفك وتتعامل معه.
ألا يزعجك أن تكون ذكياً بما يكفي ثم تُهزم وتوصم بالغباء، لأنك خضت معركة لم تدرها بشكل جيد، ولم تستغل فيها نقاط قوتك، وتدارِ عن خصمك نقاط ضعفك؟

(6)

وأخيراً، هل تعرف ماذا يعني أن تفوّض أمرك إلى الله، هل تدرك أهمية هذا الأمرِِ العظيم، هل تعرف أنها ليست مجرد كلمات تتمتم بها، هل تتذكر ما فعلت حين وقعت في مشكلة ضخمة ثم لجأت إلى عزيز وجلست عنده منكسراً وأبلغته بأن حيلتك قد نفدت، وأنك تفوض إليه أن يتدخل ويساعدك؟ ولله المثل الأعلى، كن كذلك مع ربك، اجلس بينك وبين نفسك، كن صادقاً معها، احتسِ فنجاناً من القهوة على حسابي، وفكر في الأمر، فإذا عزمت فأبلغ ربك بقلبك قبل لسانك، وبتركيز شديد وبجدية وبوعي بمعنى الكلام وتبعاته، أبلغه عز وجل أنك فوضت إليه أمرك، وأنك تطلب منه سبحانه ألا يكلك لنفسك طرفة عين، وأن يكتب لك التوفيق في معركتك.
لكن احترس! لا تستطيع أن تفعل ذلك، ولا أن تجرؤ على رفع يدك إليه سبحانه وتعالى بقائمة طلباتك قبل أن تكون قد بدأت، على الأقل بدأت، في تأدية واجبك نحو نفسك، افعل شيئاً، أي شيء، وكأنك تقول لست متسولاً، أنا شخص كامل الأهلية وبوسعي أن أتحمل المسؤولية، فنصر الله لا يأتي للكسالى الشكّائين.

(7)

الآن انتهت كلماتي، تستطيع أن تتوقف عن القراءة، لكن من فضلك لا تتوقف عن المعركة.ِ

نظرات وعَبَرات هل أعلنت منظمة التعاون الإسلامي الحرب على الإخوان؟



نظرات وعَبَرات 

هل أعلنت منظمة التعاون الإسلامي الحرب على الإخوان؟


كان المأمول من الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي أن يكون داعية للحوار وتعزيز الاستقرار في المنطقة العربية، وهو الذي وضع برنامجاً في المنظمة لإدارة الحوار بين الجماعات والفئات المختلفة من كافة الأطياف والملل والديانات، لإحلال السلام وتعزيز الاستقرار وإرساء أسس التعايش بين مكونات المجتمعات في الدولة الواحدة أو بين الدول، بدلاً من أن يتصدر لإثارة المزيد من الفتن في المنطقة ويقرع طبول حرب جديدة ضد الإخوان المسلمين، ويطالب بوضع استراتيجية محكمة للقضاء عليهم.

الهجمة الشرسة التي قام بها مؤخراً الأمين العام للمنظمة د. يوسف أحمد العثيمين، في بعض وسائل الإعلام، ضد الإخوان المسلمين، أثارت الكثير من الدهشة والاستغراب، حول الدوافع والتوقيت والأسباب التي تقف وراءها، فهل تكون هذه الهجمة مؤشراً على نية المنظمة الدعوة إلى تبني قرار يلزم الدول الأعضاء ويدفع الدول الغربية إلى اعتبار جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية؟ أم أنها إيذان بحملة تعسفية جديدة عليهم؟ أم أنها صرف لأنظار الناس عما لا ينبغي أن تدركه أنظارهم؟

محاور الهجوم

كان مقرراً لهذا المقال أن يتناول صناعة الاستبداد والدعائم التي يقوم عليها، ولكن أهمية حديث د. العثيمين والمخالفة الكبيرة لموقعه باعتباره الأمين العام للمنظمة من جهة، ولميثاق المنظمة وأهدافها وبرامج عملها من جهة أخرى، جعلتني أسارع في تأجيل مقالي المقرر وتناول هذا الموضوع، ليس دفاعاً عن الإخوان المسلمين أو هجوماً على الأمين العام، فالأمر الآن في المنطقة العربية أكبر بكثير، وأدعى من أي وقت مضى إلى توحيد الكلمة وجمع الصف واحتواء الأزمات وحقن الدماء ومعالجة المشكلات بالحوار والحكمة، ومنظمة التعاون الإسلامي هي أول جهة يفترض أن تتولى القيام بذلك انطلاقاً من ميثاقها وبرنامج عملها، وهي التي تؤكد دائماً في وثائقها على " الحفاظ على القیم الإسلامیة النبیلة المتمثلة في السلام والتراحم والتسامح والمساواة والعدل والكرامة الإنسانیة، وتعزیزھا".

ليس هذا دفاعاً عن الإخوان المسلمين أو هجوماً على الأمين العام للمنظمة، فالأمر الآن في المنطقة العربية أكبر من ذلك بكثير، وأدعى من أي وقت مضى إلى توحيد الكلمة وجمع الصف واحتواء الأزمات وحقن الدماء ومعالجة المشكلات بالحوار والحكمة.

جاء الهجوم الأكبر للأمين العام د. العثيمين في لقائه المسجل الذي بثته قناة سكاي نيوز عربية يوم الجمعة الماضي 26-6-2020م، حيث استغرق الحديث عن الإخوان المسلمين 20 دقيقة من إجمالي 26 دقيقة مدة اللقاء، وتركّز الهجوم على المحاور التالية (والكلام للأمين العام):
  • تأكيد أن تنظيم الإخوان المسلمين أخطر من داعش:
لأن داعش حديثة التكوين، وعناصرها يضمون أصحاب السوابق ومدمني المخدرات والمنتمين إلى عائلات مفككة، وبالتالي سهل القضاء عليهم رغم أنهم احتلوا ثلثي العراق وسوريا، بينما تنظيم الإخوان نشأ قبل أكثر من 70 عاماً بهدف الوصول إلى السلطة عن طريق الدين، وهم ليسوا مجرمين، فالتنظيم يشمل برلمانيين وسياسيين وأساتذة جامعات وطلاب جامعات وأطباء ومحامين، وتقريباً من مختلف فئات المجتمع من الناس الذين تعتبرهم ناجحين. والخطير في الأمر أن أفراد التنظيم يستخدمون أسلوب التقية، وعندهم الغاية تبرر الوسيلة، ولا يعترفون بالدولة القطرية، ونظرتهم أممية، وهم تنظيم دولي وليس محلي.
  • لا بد من تجريم التنظيم:
لأن جرائمهم واضحة، وفشلهم واضح، فهم لا يؤمنون أصلاً بالمبادئ التي يروجون لها، ويقتلون رجال الشرطة ورجال الأمن ويسرقون البنوك ويعتدون على ممتلكات الناس باعتبارها غنائم، والشباب الذين انضموا للتنظيم تجده في الغالب عنده مشكلة مع أسرته أو أهله أو ماضيه الاجتماعي. وقد نشرت جريدة اللوموند الفرنسية قبل سنتين أن الغالبية العظمى من الذين ارتكبوا عمليات إرهابية إما خريجو سجون أو من عائلات مفككة أو مدمنو مخدرات، ولا يعرفون شيئاً عن الإسلام.
  • نزع القداسة عن فقهائهم:
لا بد من نزع القداسة عن فقهائهم، لأنه أحد الوسائل التي نحاول أن نقنع الشباب بها، فهم لا يزرعون في أذهان الشباب الصورة الحقيقية للإسلام باعتباره دين الرحمة والسلام والمحبة، ولكنهم يقسمون العالم إلى دار حرب ودار سلم، وأن هؤلاء (الغرب) كفار ويجب قتالهم، وأنهم غنيمة للمسلمين، نساؤهم وأموالهم، وهم انتقائيون مع الآيات القرآنية فيختارون منها ما يستخدمونه للإقناع.
  • علاقتهم بالنازية وهتلر:
التأكيد على أن هناك صلة بين النازية وهتلر والإخوان، وقد ظهرت حديثاً كتب جادة تتحدث عن ذلك، وهناك تعاون قوي وموثق، ومن لم يطلع على هذه الكتب الجادة عليه أن يطلع عليها، فقد كانوا عبارة عن جنود لمساعدة النازية في الحرب العالمية، واستغلهم هتلر ليكونوا بوقا له في الدول العربية باسم الإسلام.
  • تأخر تجريم الإخوان عند الغرب:
من المؤسف أن هناك دول غربية ما زالت تفكر: هل تجرم الإخوان أم لا، وأعتقد أن الربط بين الإخوان والنازية مهم ليسهل على هذه الدول تجريم الإخوان. لقد وجد الإخوان في الدول الغربية ملجأً آمناً وخلقواً لأنفسهم دعاية بأنهم مضطهدون في بلدانهم بسبب فقدنهم الحرية السياسية، ولكن انقلب السحر على الساحر، عندما حاولوا أن يستثمروا الحرية بالإساءة إلى هذه الدول، وبدأت هذه الدول بترحيلهم إلى بلدانهم وإلى بلدان أخرى لمحاكمتهم، بل إن هناك أعمالا إجرامية تمت في هذه البلدان، وهذا معروف وموثق أمام وسائل الإعلام جميعاً.
  • استراتيجية القضاء على الإخوان:
الجانب الأمني مهم، ولكنه لا يكفي، فالجانب الفكري والثقافي مهم أيضا لفضح مخططات التنظيم، فلا بد من غربلة مناهج التعليم ومراقبة المنابر، وتفكيك محاضنهم، وتحريك الأغلبية الصامتة في الغرب وفي دولنا للتصدي لهم، واتباع النفس الطويل، فلا يمكن القضاء على هذا التنظيم في 5 دقائق أو 10 دقائق أو 7 سنوات، لابد من مواصلة الجهود وعدم الركون إلى النجاحات التي حققتها دولنا في مواجهة التنظيم.

ماذا لو تحول الإخوان المسلمون إلى دواعش جدد؟ كيف ستكون العاقبة في المنطقة العربية والإسلامية؟ وكم سنة أخرى سنستغرق في الاحتراب؟ كم نفساً ستُقتل؟ وكم روحاً ستُزهق؟، وكم سيبلغ حجم الدمار؟، وإلى أين سيصل إخفاقنا وتخلفنا؟


 مخالفة البروتوكول والأمانة

لم يقم الأمين العام للمنظمة د. يوسف العثيمين بهذه الهجمة الشرسة بصفته مواطنا أو أستاذا جامعيا أو كاتبا أو محللا من حقه أن يدلي برأيه في كافة القضايا والموضوعات، بغض النظر عمن يتفق معه أو يخالفه، ولكنه قام بذلك بصفته الأمين العام للمنظمة التي تولى منصبه فيها في نوفمبر 2016م، مخالفاً القواعد البروتوكولية والمهام الأساسية المنوطة به، إذ لا يحق له أن يتبنى موقفاً لم تتخذه المنظمة، ولا أن يدعو إلى أمر خارج ميثاقها وأهدافها وإرادتها، وشعارها الذي ينص على "الصوت الجامع للعالم الإسلامي"، فموقفه من موقفها، وإرادته من إرادتها، وهو في موقعه هذا يمثل ما يصدر عن دولها السبعة والخمسين من قرارات، وما تعتمده من خطط وبرامج وسياسات.
من حق الدول الأعضاء في المنظمة، أن تتخذ بصورة فردية ما تراه مناسباً من مواقف وقرارات تتعلق بمصالحها الوطنية وأمنها الداخلي والإقليمي، وإذا كان بضع دول من دول المنظمة تتفق في مواقفها مع د. العثيمين حول جماعة الإخوان المسلمين، واعتبرتها جماعة إرهابية، فإن الغالبية العظمى من دول المنظمة لم تفعل ذلك، بل إن أعضاء جماعة الإخوان المسلمين -باللافتات المختلفة للتنظيم- يعيشون في دولهم، ويتمتعون بكافة حقوقهم الوطنية، ويزاولون أعمالهم وأنشطتهم في مؤسساتهم في شتى المجالات، بل إن بعضهم يشاركون في السلطة بكل كفاءة واقتدار، فعلى أي أساس يتجاوز د. العثيمين موقعه ويحمل كافة الدول الأعضاء مثل هذا القرار. لا مجال هنا للآراء الشخصية، فما زال العثيمين في منصبه، وأجرى اللقاء في مكتبه، وشعار المنظمة في واجهة الكادر من خلفه، وتم تقديمه باعتباره الأمين العام للمنظمة.
من حق د. العثيمين أن يتبنى هذا الموقف وأن يردده في كافة المجالس التي يجلس فيها، ولكن في حالتين: الأولى عندما يصدر عن دول المنظمة بيان بذلك، والثانية عندما يترك منصبه في المنظمة.

 مخالفة الميثاق والتوجهات

لم تقتصر مخالفة د. العثيمين على المستوى البروتوكولي، بل تعدت ذلك إلى مخالفة ميثاق المنظمة وبرامجها وتوجهاتها، فقد ورد في ديباجة ميثاق المنظمة ما يأتي:
إذ نلتزم بمبادئ ميثاق الأمم المتحدة وھذا الميثاق، والقانون الدولي، قررنا:
  • الحفاظ على القیم الإسلامية النبيلة المتمثلة في السلام والتراحم والتسامح والمساواة والعدل والكرامة الإنسانية، وتعزیزھا.
  • السعي من أجل العمل على تعزيز دور الإسلام الرائد في العالم مع ضمان التنمية المستدامة والتقدم والازدهار لشعوب الدول الأعضاء.
  • تعزيز وتقویة أواصر الوحدة والتضامن بین الشعوب المسلمة والدول الأعضاء.
  • تعزيز حقوق الإنسان والحریات الأساسية والحكم الرشید وسیادة القانون والديمقراطية والمساءلة في الدول الأعضاء وفقا لأنظمتها الدستورية والقانونية.
وقد نص البندان الثالث والسابع في المادة الثانية على ما يأتي:
  • " تقوم جمیع الدول الأعضاء بحل نزاعاتها بالطرق السلمية، وتمتنع عن استخدام القوة أو التھدید باستخدامها في علاقاتها".
  • " تعزز الدول الأعضاء وتساند، على الصعيدين الوطني والدولي، الحكم الرشید والديمقراطية وحقوق الإنسان والحریات الأساسية وسیادة القانون".
وقد جاء في صفحة تاريخ المنظمة، أنها "تمثل الصوت الجماعي للعالم الإسلامي وتسعى لحماية مصالحه والتعبير عنها دعماً للسلم والانسجام الدوليين وتعزيزاً للعلاقات بين مختلف شعوب العالم"، وأن المنظمة "تنفرد بشرف كونها جامعة كلمة الأمة وممثلة المسلمين وتناصر القضايا التي تهم ما يزيد على مليار ونصف المليار مسلم في مختلف أنحاء العالم".

لماذا يدعو الأمين العام إلى هذه الحرب الشعواء، ولا ينطلق من ميثاق المنظمة فيدعو للحوار وحل المشكلات بالطرق السلمية والتصالح والاحتواء وتعزيز الحكم الرشيد والحريات الأساسية وحقوق الإنسان وسيادة القانون؟

فلماذا هذه الحرب الشعواء التي يدعو لها الأمين العام؟ لماذا لا ينطلق من ميثاق المنظمة ويدعو إلى حل المشكلات بالطرق السلمية والتصالح والاحتواء وتعزيز الحكم الرشيد والحريات الأساسية وحقوق الإنسان وسيادة القانون؟
تدير المنظمة أعمالها التنفيذية عن طريق ١٣ إدارة مختلفة المجالات والاختصاصات، من بينها إدارة الحوار والتواصل، التي كانت تسمى "إدارة شؤون الدعوة" حتى أبريل 2016م، ومن بين ما قامت به ما يأتي:
  • تأسيس مركز صوت الحكمة: بهدف "مواجهة الخطاب المتطرف وآلياته عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي وتجلية الفهوم المعتدلة والصحيحة للسياسات القرآنية والنبوية في بناء السلم الداخلي والخارجي، وعرضها كنموذج سامي لتحقيق رسالة الإخاء بين البشر" وقد باشر المركز نشاطه في عام 2019م.
  • مرصد الإسلاموفوبيا: ويختص بمراقبة الأحداث والمشاعر والحوادث الإجرامية ضد المسلمين وذلك على أساس يومي ومراقبة كل ما يتعلق بظاهرة الإسلاموفوبيا سلبا أو إيجابا على مستوى العالم، وإعداد تقرير سنوي عن حالة الإسلاموفوبيا لتقديمه إلى مؤتمر وزراء الخارجية للدول الأعضاء؛ والتنسيق مع الإدارات الأخرى مثل الشؤون السياسية والأقليات المسلمة، والهيئة الدائمة المستقلة لحقوق الإنسان بمنظمة التعاون الإسلامي بشأن القضايا ذات الصلة بظاهرة الإسلاموفوبيا.
ومن الأنشطة التي قامت بها الإدارة في سياق الحوار والتواصل، ما يأتي:
  • تنظيم مائدة مستديرة للحوار بين الأديان في شهر ديسمبر 2017 في العاصمة السنغالية داكار، بهدف إعطاء دفعة قوية لتنفيذ اتفاقات السلام في جمهورية أفريقيا الوسطى (CAR) وتعزيز دور القادة الدينيين في عملية السلام والمصالحة في البلاد.
  • وفي الشهر نفسه نظمت ورشة عمل استراتيجية في بانكوك جمعت بين قادة المجتمع المدني والديني وصانعي السياسات وممثلي الحكومة لتحديد التحديات التي تواجه المجتمعات الدينية في جنوب، وجنوب شرق آسيا.
  • وفي ديسمبر 2019م نظمت الإدارة ورشة عمل تحت عنوان: "معاً من أجل التنوع وتعزيز الحوار بين الأديان’‘ في العاصمة الإندونيسية جاكرتا، بهدف إثراء الحوار بين الثقافات وتعزيز التفاهم بين أتباع الأديان والحضارات ومنع النزاعات أو التخفيف من حدتها في جنوب شرق آسيا، حيث جمعت الورشة مشاركين من صّناع القرار السياسي والزعماء الدينيين من خلفيات بوذية وإسلامية، من إندونيسيا وميانمار وماليزيا وسريلانكا وتايلاند.
  • كما تهدف الإدارة إلى تنظيم مؤتمرات وورش عمل خلال عام 2020م للحوار الاسلامي الأرثودوكسي، والحوار الإسلامي البوذي، والحوار الإسلامي البروتستانتي، والحوار الإسلامي الكاثوليكي، والحوار الإسلامي الصيني، بالإضافة إلى الحوار الإسلامي – الإسلامي، في العديد من المجتمعات.
أليس من الغريب أن تنشط المنظمة كل هذا النشاط في تعزيز الحوار بين الجماعات والفئات المختلفة من كافة الأطياف والملل والديانات، لإحلال السلام وتعزيز الاستقرار وإرساء أسس التعايش بين مكونات المجتمعات في الدولة الواحدة أو بين الدول، ويأتي الأمين العام للمنظمة ليسعر الحرب ضد الإخوان المسلمين، ويطالب بوضع استراتيجية محكمة للقضاء عليهم؟ هل هذه الخطة هي التي ستحقق الاستقرار والسلام والرخاء والأمن والأمان في المنطقة؟ لماذا ليس لأمتنا نصيب من الحوار؟
ألم يفكر الأمين العام بالعواقب المترتبة على ذلك؟
هل هذا هو تصور الأمين العام لتنفيذ ميثاق المنظمة؟ هل هذا هو العمل الذي تم تنصيبه من أجله؟
ماذا لو تحول الإخوان المسلمون إلى دواعش جدد؟ كيف ستكون العاقبة في المنطقة العربية والإسلامية؟ وكم سنة أخرى سنستغرق في الاحتراب؟ كم نفساً ستُقتل؟ وكم روحاً ستُزهق، وكم سيبلغ حجم الدمار، وإلى أين سيصل إخفاقنا وتخلفنا؟ وقد ذكر الأمين العام في حديثه أن هذه الجماعة عمرها أكثر من 70 عاما، وأنها متجذرة في المجتمعات بصورة كبيرة، وأن لها من الكوادر ما يجعلها مؤثرة في مختلف القطاعات.

الإمام ابن حزم.. رئيس وزراء الأندلس

الإمام ابن حزم.. رئيس وزراء الأندلس الذي استشرف ضياعها وقدّم مشروعا فكريا في 80 ألف صفحة


عبد القدوس الهاشمي
30/6/2020
"والله لو علموا (= ملوك الطوائف) أن في عبادة الصُّلْبان تمشية أمورهم لبادروا إليها؛ فنحن نراهم يستمدّون النصارى فيمكنونهم من حُرُم المسلمين..، وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعا فأخلوْها من الإسلام وعمروها بالنواقيس، لعن الله جميعهم"!! هذا كلام رجل يعيش عصره أو بمعنى أدق يعيش أزمات عصره فيستشرف ما ستسبّبه من ضياع لمصره الأندلس. إنه الإمام ابن حزم (ت 456هـ) المؤسس الأبرز للمذهب الظاهري في الأندلس، وتأسيس مذهب أو التمكين له حدث حضاري كبير، وكل مذهب يواكب سياقَه متسلحا بمقولاته وأدواته الملائمة لزمانه، وهذا ما ينطبق تماما على المذهب الظاهري بالأندلس. والحقيقة أن من يَفْصِل مشروع أبي محمد الإصلاحي والإبداعي عن أزمات أندلس زمانه السياسية المتمثَّـلة في تشرذم ممالكه، والعلمية المتجلية في هيمنة التقليد؛ لن يتوصل إلى عمق هذا المشروع ومراميه البعيدة.
لقد كان السياق المؤسِّس لهذا المشروع جملة من المواقف السياسية والدينية؛ فقد اعترضت الأولى أحلامَ ابن حزم السياسية التي راودته مطلعَ حياته، وأجّجت الثانيةُ طموحاتِه الإصلاحية العلمية بعد مغادرته دهاليز السياسة، فأقبل على العلم الشرعي باعتباره البوابة التي سينفذ من خلالها إلى كل عقل، صارفا وجهه عن كل مطمع سياسي ومنصب دنيوي. وغايتنا في هذا المقال أن نعرض لك جانبا من سيرة هذه الشخصية الاستثنائية، متناولين أسباب نبوغها والسياق التاريخي والعلمي لمشروعها الإصلاحيّ الذي وقفت عليه حياتها لإحياء مرجعية نصوص الشرع؛ فلعل في سيرة هذا الإمام بوصلة هادية للعيش في زمننا هذا الذي يطبعه تيه سياسي وعلمي يكاد يطابق ما واجهه هو في عصره!
شروق من الغرب
قبل ساعة من شروق شمس نهار آخر يوم برمضان سنة 384هـ؛ شهدت قرطبة ميلاد "شمس العلوم" علي بن أحمد بن سعيد بن حزم (ت 456هـ) القائل:
أنا الشمس في جوّ العلوم منيرةً ** ولكنّ عيبي أن مطلعي الغرب!
كانت طفولته عيدًا ممتدًا؛ فقد نشأ في بيت وزارة وفضل، فوالده أحمد بن سعيد "الوزير المُعَقَّل في زمانه الراجح في ميزانه" -كما يصفه ابن بسام الشنتريني (ت 542هـ) في كتابه ‘الذخيرة‘ نقلا عن ابن حيان الأندلسي (ت 469هـ)- كان مشهورًا بالفضل والأدب، ووزيرا عظيم الجاه في بلاط مدبِّر الخلافة الأموية بالأندلس المنصور بن أبي عامر (ت 382هـ).
ولا نعرف عن أمِّه كبير شيء، فلم يحدثنا أبو محمد عنها، ومردُ ذلك في تقديرنا ما باح لنا به -في ‘طوق الحمامة‘- متحدثا عن "غيرة شديدة طُبعتُ عليها". وكذلك كان الحال مع زوجته وأخواته، فلم نقف في كتبه على ذكر لهنّ. وهذه من عجائب المفارقات عند أبي محمد الذي نشأ -حسبما يقوله- في حجور النساء مكتفيًا بمجالسهنّ عن مجالس الرجال، حتى فار شبابه ونبت شعر وجهه فصحب أبناء جنسه.
أما نسبه فيخبرنا ابن حزم أنه من أرومة فارسيّة، بيد أن ابن حيان الأندلسي (ت 469هـ) لم يقنع بما أخبر به أبو محمد عن نفسه؛ فقال -فيما نقله عنه الشنتريني المتقدم- إنه "كان من غرائبه انتماؤه لفارس واتّباع أهل بيته له في ذلك بعد حقبة من الدهر..، فقد عهده الناس خامل الأبوّة مولّد الأرومة (= الأصل) من عَجَم لَبْلَة (= مدينة كانت تابعة لإشبيلية).. فكيف ينتقل من رابية لبلة إلى قلعة إصْطَخْر بفارس!". ولكن الذهبي (ت 748هـ) -في ‘سير أعلام النبلاء‘- والمقّري (ت 1041هـ) -في ‘نفح الطيب‘- أثبتا له النسب الفارسي، ولم يرفعا بما قاله ابن حيان رأسًا.
ابن تيمية: كان لابن حزم من الإيمان والدين والعلوم الواسعة الكثيرة ما لا يدفعه إلا مكابر، ويوجد في كتبه من كثرة الاطلاع على الأقوال والمعرفة بالأحوال، والتعظيم لدعائم الإسلام ولجانب الرسالة ما لا يجتمع مثله لغيره
نشأ أبو محمد في قرطبة وهي آنذاك عاصمة الدنيا في الترف والتحضّر، كما كانت حينها "أكثر بلاد الأندلس كُتبًا، وأهلها أشد الناس اعتناء بخزائن الكتب، وصار ذلك عندهم من آلات التعيُّن (= الوجاهة) والرياسة"؛ كما يقول المقري. فأقبل ابن حزم على تحصيل العلوم والمعارف يدفع نهمته للعلم بالمطالعة، ودع عنك ما يقوله الناس من أنه لم يطلب العلم إلا بعد السادسة والعشرين، فهذا وهمٌ واضح يدل عليه قول الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- إنه تتلمذ على الإمام المحدِّث أبي عمر ابن الجَسور الأموي (ت 401هـ)، ويعزو إلى ابن حزم قولَه عنه: "هو أول شيخ سمعتُ عليه قبل [سنة] الأربعمئة"، فهذا نص صريح منه على أنه تتلمذ على الشيوخ حتى قبل بلوغه السادسة عشرة!
ثم إن جمعه لكافة فنون العلوم التي تقدم فيها أهل الأندلس قاطبة لا يتأتّى معه تصديق هذه الرواية الغريبة عن بدايته الدراسية المتأخرة، على أن أبواب المعرفة ليست محصورة على رواية الحديث ودراسة الفقه، وخاصة في بلاد الأندلس التي كان أهلها يقدمون حفظ القرآن والشعر وإتقان معارف اللغة على الفنون الأخرى. ولم يكن ابن حزم في ذلك بِدْعًا من أبناء وطنه؛ فقد أخبرنا بنفسه أنه تلقى بداية المعارف الإسلامية الأولى من جواري قصر والده الوزير، وفي ذلك يقول: "وهنّ علمنني القرآن، وروّيْنني كثيرا من الأشعار، ودرّبْنني في الخط". وفي هذا النص تجد نافذةً تُطلُّ منها على حالة أهل الأندلس الثقافية، وترى شيوع الثقافة داخل الدور وبين ربات الخدور!
كان أبو محمد منجمَ مواهب وروضة علوم؛ ولعل خير من عبّر عن سعة معارفه هو تلميذه النابغة القاضي والمؤرخ صاعد الأندلسي (ت 462هـ) الذي قال في تاريخه حسبما نقله عنه الذهبي في ‘السِّيَر‘: "كان ابن حزم أجمعَ أهلِ الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام وأوسعَهم معرفة، مع توسّعه في علم اللسان والبلاغة والشعر والسِّيَر والأخبار…، أخبرني ابنه الفضل (ت 479هـ) أنه اجتمع عنده بخط أبيه.. من تواليفه أربعمئة مجلد تشتمل على قريب من ثمانين ألف ورقة"!!
ومع مآخذ ابن تيمية (ت 728هـ) على ابن حزم؛ فإنه يشهد له -في ‘مجموع الفتاوى‘- بأن "له من الإيمان والدين والعلوم الواسعة الكثيرة ما لا يدفعه إلا مكابر، ويوجد في كتبه من كثرة الاطلاع على الأقوال والمعرفة بالأحوال، والتعظيم لدعائم الإسلام ولجانب الرسالة ما لا يجتمع مثله لغيره"!! كما نعته الذهبي (ت 748هـ) بأوصاف عديدة جامعة بينها أنه "الإمام الأوحد، البحر، ذو الفنون والمعارف.. الفقيه، الحافظ، المتكلم، الأديب، الوزير…، كان إليه المنتهى في الذكاء وحدة الذهن، وسعة العلم بالكتاب والسنة والمذاهب والمِلَل والنِّحَل، والعربية والآداب والمنطق والشعر، مع الصدق والديانة.. والسُّؤْدد والثروة وكثرة الكتب".
وقد علق عبد الواحد المراكشي (ت 647هـ) -في كتابه ‘المُعْجِب‘- على كلام صاعد هذا بعد أن عزا مضمونه إلى "غير واحد من علماء الأندلس"؛ فقال عن حجم تصانيف ابن حزم: "وهذا شيء ما علمناه لأحد ممن كان في مدة الإسلام قبله، إلا لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري (ت 310هـ)، فإنه أكثر أهل الإسلام تصنيفًا". ويضيف المراكشي: "ولأبي محمد بن حزم هذا منصب وافر من علم النحو واللغة وقسم صالح من قرض الشعر وصناعة الخطابة"؛ ولعل براعته في الخطابة من "بركات" صحبته للنساء، فقد ذكر رئيس وزراء بريطانيا بينجامين دزرائيلي (ت 1881م) -في مذكراته- أنه سُئل عن سرِّ فصاحته وبراعته في الخطابة، فقال لسائله: عليكَ بصحبة النساء!

مفاتيح نبوغ
يمكن تلخيص مفاتيح نبوغ ابن حزم في ثلاثة أسباب هي: الاستعداد الفطري لقوة حافظته وتعلُّق همته بالعلم؛ ثم التفرّغ لتحصيله؛ ثم البيئة العلمية الحافزة. أما حافظته فيصفها المؤرخ الأندلسي إليسع بن حزم الغافقي (ت 575هـ) فيقول: "أما محفوظه (= ابن حزم) فبحر عجّاج، وماء ثجّاج، يخرج من بحره مرجان الحِكَم..، ولقد حفظ علومَ المسلمين وأربى على أهل كل ملة ودين".
ولم يكن أبو محمد مكتفيًا بهذه الموهبة الإلهية، بل ظل متعهدًا لها متعاطيًا للأغذية المساعدة على تقوية الحافظة. قال أبو الخطاب ابن دحية (ت 633هـ) حسبما يرويه عنه الذهبي: "كان ابن حزم قد برِص من أكل اللُّبان وأصابه زَمانة (= مرض مزمن)"، كما عزا إلى الإمام الغزالي (ت 505هـ) إعجابه بابن حزم وشهادته له بـ"عِظَم حفظه وسيلان ذهنه"! على أن ثقة ابن حزم في حافظته كانت تدفعه أحيانا إلى التسرع في أحكامه على رجال الحديث جرحا وتعديلا؛ ولذلك يقول عنه الحافظ ابن حجر (ت 852هـ) -في ‘لسان الميزان‘- إنه "كان واسع الحفظ جدا، إلا أنه لثقته بحافظته كان يَهجُم على القول في التعديل والتجريح وتبيين أسماء الرواة، فيقع له من ذلك أوهام شنيعة".
وهنا نورد لك خبرين لهما دلالة واضحة على اتساع محفوظ ابن حزم وشغفه بالعلم؛ فقد قال مرة: "كنتُ معتقلًا (بين أواخر 414هـ وأوائل 415هـ) في يد [الأمير الأموي] الملقَّب بالمستكفي محمد بن عبد الرحمن (ت 417هـ) في مُطْبِقٍ (= سجن)، وكنت لا أؤمن قتله، لأنه كان سلطانًا جائرًا عاديًا قليل الدين كثير الجهل..، وكنتُ مفكرًا في مسألة عويصة.. فطالت فكرتي فيها أيامًا وليالي إلى أن لاح لي وجهُ البيان فيها..، فبالله الذي لا إله إلا هو.. لا يجوز القسم بسواه: أقسم لقد كان سروري يومئذ -وأنا في تلك الحال- بظفري بالحق فيما كنت مشغول البال به..، أشدَّ من سروري بإطلاقي مما كنت فيه"!! فهذا مقدار كَلَفِه بالعلم واستمتاعه بممارسته، حتى إنه ليقدم لذته على لذة الحياة والحريّة!
أما عن اتساع ذاكرته وكثرة محفوظاته؛ فيكفي في جلائه حفظُه -وهو الفارسي العرق- لأنساب العرب، بحيث استطاع أن يرسم خريطة نَسَبِية توضح -كما يقول في ‘جمهرة أنساب العرب‘- قوة "تواشج أرحام العرب" بجميع قبائلهم وعشائرهم. وفي إحاطته بنسب بني أمية منهم خبرٌ في غاية الغرابة، سجله لنا بقوله -في مقدمة ‘الجمهرة‘- مبينا الأهمية العملية لعلم النَّسَب: "لمّا مات بقرطبة محمد بن عُبيد الله (ينتهي نسبه إلى مروان بن الحكم الأموي ت 65هـ).. ورّثتُ أنا مالَه محمدَ بن عبد الملك بن عبد الرحمن.. بالقُعْدُدِ (= أقرب القرباء الموجودين إلى الميت) ودفعته إليه..، وما كان عند محمد بن عبد الملك هذا علمٌ بأنه مستحق لهذا المال..، فلولا علمي بالنسب لضاع هذا المال".
بلغ ابن حزم من سعة الاطلاع على كتب أهل الأديان أنه تمكن من الاحتجاج بنصوصها على أتباعها، ولذا يرى المستشرق الإسباني آسين بلاثيوس أنه سبق الأوروبيين ببضعة قرون إلى دراسة تاريخ الأديان الذي لم يُعرف في الغرب إلى في منتصف القرن التاسع عشر
لقد استكمل ابن حزم رحمه الله أدوات العلم بقوة حافظته وتوفُّر همته على التوسع فيه، فراح ينهل من مَعين مكتبات قرطبة مستعيضا بمطالعاته فيها عن الرحلة في طلب العلم، فحصّل بذلك علمًا وفيرًا ومتنوعا، ولم يترك فرعًا من فروع المعرفة الإسلاميّة إلا وخصّه بتأليف أو رسالة، حتى صار أكثر المؤلفين من علماء الإسلام تصنيفا حتى عصره؛ حسب شهادة المراكشي المتقدمة.
ولم تكن مطالعاتُ ابن حزم مطالعاتِ طالبٍ للتسليّة، وإنما مطالعات باحثٍ منقِّب ودارسٍ محقِّق، حتى إننا نراه في اطلاعه على كتب أهل الديانات قد انتهى به الضبط إلى الاحتجاج بنصوصها على أتباعها، ولذا يرى المستشرق الإسباني آسين بلاثيوس (ت 1944م) أن ابن حزم سبق الأوروبيين ببضعة قرون إلى دراسة تاريخ الأديان الذي لم يُعرف في الغرب إلى في منتصف القرن التاسع عشر.
ومن نماذج محاججته لهم بكتبهم ما جاء في رده -ضمن كتابه ‘الفصل‘- على إسماعيل ابن النغريلة اليهودي (ت 448هـ) حين ناقشه في قول نبي الله إبراهيم -عليه السلام- للنمرود عن زوجته سارة إنها "أخته"، فقد فنّد ابن حزم ما ذهب إليه ابن النغريلة من أن الأخت هنا يُقصد بها القرابة لا الأخوّة، ورد عليه قائلا: "يَمنع من صرف هذه اللفظة إلى القريبة ها هنا قوله (= إبراهيم فيما رُوي عنه في التوراة): لكنـ[ـها] ليست من أمي وإنما هي بنت أبي. فوجب أنه أراد الأخت بنت الأم..، فخلّط [ابن النغريلة] ولم يأتِ بشيء"!
ولم يكتف ابن حزم بمطالعة كتب الأوائل بل تعدى نهمُه المعرفيّ إلى مطالعة كتب خصومه التي لم يكن يرى فيها تأصيلًا ولا قوة استدلال، حيث يقول في إحدى رسائله: "فلعمري ما لشيوخهم (= أصحاب المذهب المالكي) ديوان مشهور مؤلَّف في نصِّ مذهبهم إلا وقد رأيناه". أما معرفة السُّنة التي هي أسّ مذهبه؛ فقد حاز قصب السبق فيها حتى قال: "وقد جمعنا.. صحيح أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجمهور ما رواه المستورون ممن لم يبلغوا مبلغ أن يُحتجّ بنقلهم، هذا أمر نهتف به ونعلنه على رغم الكاشح (= العدوّ) وصَغار وجهه، فمن استطاع إنكارًا فليُبرز صفحته، وليناظر مناظرة العلماء".

تفرغ كامل
وأما تفرغه للعلم درساً ومدارسة ومناظرة تصنيفا فكان من أكبر عوامله السياق السياسي في الأندلس حينها؛ ففي ذي القعدة سنة 414هـ أُعدِم "الخليفة" الأموي المستظهر عبد الرحمن بن هشام -حفيد عبد الرحمن الناصر (ت 350هـ)- بعد أن دامت "خلافته" شهرين "وَزَرَ له [فيهما] ابنُ حزم الظاهري"، كما يقول الذهبي في ‘السِّيَر‘. وهنا انتهت طموحات ابن حزم السياسية التي أوصلته إلى منصب "الوزير" الذي كان أيامها يعادل في الصلاحيات التنفيذية منصب "رئيس الوزراء" اليوم، وأقبل على العلم للتدريس وإعلاء ما اندرس من منار الشرع.
وها هنا مسألة لا بد أن نعرض لها وهي السرّ وراء انكماش ابن حزم عن السياسة رغم كونه من بيت تدبير ووزارة؛ فقد كان يرى في استمرار خلافة بني أميّة استمرارًا لوحدة المسلمين السياسية في الأندلس، وباختلال أوضاعها -بدءا من سنة 399هـ- طالع ابنُ حزم أشياء في الحياة السياسية نفّرته من الانشغال بها، وخاصة بعد فشل آخر محاولة لاستعادة الحكم الأموي مع صاحبه المستظهر، فدفعه القنوط من الإصلاح السياسيّ إلى تكريس حياته للإصلاح العلمي بشتى صنوفه.
ومما عزز ذلك لديه أن الأندلس عمّها التشظّي السياسي في زمن ملوك الطوائف (422هـ-484هـ)، واستتبع الفسادُ السياسي -رغم ما رافقه من ازدهار للعلوم والآداب- فسادًا مماثلا في مواقف بعض العلماء؛ فهذا ابن حيان الأندلسي المعاصر لابن حزم يحكي لنا المشهد العلمي كما يراه، فيقول فيما يرويه عنه الشنتريني في ‘الذخيرة‘: "ولم تزل آفة الناس -مذ خُلقوا- في صنفين منهم، هم كالملح فيهم: الأمراء والفقهاء..، فالأمراء القاسطون قد نكبوا بهم عن الطريق..، والفقهاء أئمتُهم صُموتٌ عنهم، صُدوفٌ (= منصرِفون) عما أكد الله عليهم في التبيين لهم، وقد أصبحوا بين آكل من حلوائهم خائض في أهوائهم، ومُستشعِرٍ مخافتَهم..، وأولئك هم الأقلون".
وهنا ملمحٌ مهمّ وهو أن اقتصار فقهاء السلطة على كُتب الفروع في بنائهم العلمي أضعف وازعهم الأخلاقيّ، لبعدهم عن الاشتغال بالنص الشرعيّ الذي ينبض بحمولته الأخلاقيّة. ولعلّ ابن حزم رأى أن في استعادة الاعتبار للنص الشرعي وسلطته استصلاحًا لمن مال من الفقهاء عن طريق التحرّز والورع. ولذلك فإنه فلم يرتضِ لنفسه السير مع أحد فريقيْ الفقهاء السابقيْن، فلم يخالط السلاطين ولا سكت عنهم، بل كان حاسمًا كل الحسم في وصف أحوالهم وبؤس واقعهم هم وعلماؤهم.
ابن حزم: تقاتل ملوكنا فتنة سوء أهلكت الأديان -إلا من وقى الله تعالى- من وجوه كثيرة.. وعمدة ذلك أن كل مدبّر مدينة أو حصن -في شيء من أندلسنا..- محارِبٌ لله ورسوله وساعٍ في الأرض بفساد، للذي ترونه عيانًا من شنهم الغارات على أموال المسلمين
فها هو -في إحدى رسائله- يخاطب مستمعيه قائلا: "فلا تغالطوا أنفسكم ولا يغرنكم الفساق والمنتسبون إلى الفقه، اللابسون جلود الضأن على قلوب السباع، المزينون لأهل الشر شرهم الناصرون لهم على فسقهم"؛ ثم يحرضهم على مقاطعة الفريقين ومقاومتهم: "فالمخلّص لنا فيها (= الفتنة) الإمساك للألسنة جملة واحدة إلا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذمّ جميعهم؛ فمن عجز منا عن ذلك رجوتُ أن تكون التقية تسعه، وما أدري كيف هذا؟ فلو اجتمع كل من يُنكِر هذا بقلبه لما غُلبوا" عن إصلاح الأحوال.
ونجده يشير لنا -من طرف خفيّ- إلى سبب انكفائه على العلم ومجانبة السياسة بقوله عن انحلال الدولة الأموية: "فهذا أمر امتحنا به نسأل الله السلامة، وهي فتنة سوء أهلكت الأديان -إلا من وقى الله تعالى- من وجوه كثيرة يطول لها الخطاب. وعمدة ذلك أن كل مدبّر مدينة أو حصن -في شيء من أندلسنا..- محارِبٌ لله ورسوله وساعٍ في الأرض بفساد، للذي ترونه عيانًا من شنهم الغارات على أموال المسلمين..، ضاربين للمكوس والجزية على رقاب المسلمين، مسلطين لليهود على قوارع طرق المسلمين في أخذ الجزية والضريبة من أهل الإسلام"!
ويستهزئ ابن حزم بهؤلاء الأمراء المتصارعين على شرعية وهمية، فيتحدث -حسب الذهبي في ‘السِّيَر‘- عن "فضيحة [هي وجود]: أربعة رجال في مسافة ثلاثة أيام يسمَّوْن ‘أمير المؤمنين‘ في وقت [واحد]…، فهذه أُخْلوقة لم يُسمع بمثلها"!! ثم يعلن لنا يأسه القاطع من صلاح هؤلاء الانتهازيين المتغلبين على أمور المسلمين فيقول: "والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها، فنحن نراهم يستمدون النصارى فيمكنونهم من حُرُم المسلمين وأبنائهم ورجالهم يحملونهم أسارى إلى بلادهم..، وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعا فأخلوْها من الإسلام وعمروها بالنواقيس، لعن الله جميعهم وسلط عليهم سيفا من سيوفه"!!
ولا يتوقف ابن حزم عند التشكيك في نيات ومصداقية هؤلاء الساسة، بل يصرح بأن سائر الأموال التي يتوسّعون فيها وينفقونها على وزرائهم والعاملين لديهم إنما هي أموال سُحْت، "وبرهان ذلك أني لا أعلم -لا أنا ولا غيري- بالأندلس درهمًا حلالًا، ولا دينارًا طيبًا يُقطع بأنه حلال". ولذا لا غرابة أن تدفع هذه الأحوال القاتمة ابن حزم للابتعاد عن المسرح السياسيّ ليجدّ في مشروعه الإصلاحي العلمي. وحسبك ثمرة لتفرغه أنه ترك -كما مرّ معنا- آثارا علمية تقدر بثمانين ألف صفحة في أربعمئة مجلد؛ فيا له من أثر، ويا له من تراث!!
بيئة طاردة
وأما دور البيئة العلمية الحافزة في نبوغه؛ فقد كان ابن حزم يعيش في بيئة طاردة سياسيا ومتعصبة مذهبيا؛ فدفعته بذلك أشد الدفع للإنتاج الفكري متسلحا بأدوات الجدل والمناظرة، فقد كان ذا طبيعة ناريّة تُشحذ حماسته بوجود المخالف، وتنتعش قريحته بحضور المعارض! وقد شاع عنه خبر حدّته وتكلَّم الناس في أسبابها حتى بالغوا في تفسير بعض نصوصه فيها، بل وتكلفوا في أمرها حتى قال ابن حيان إن "أكثر معايبه -زعموا- عند المُنصف له: جهله بسياسة العلم"، أي تركه ملاينة المخالفين!
ونحن نوقفك على بعض معالم البيئة الفقهية في الأندلس، وعلى تطرف بعض خصومه من أتباع المذهب المالكي الغالب على البلاد حينها؛ لتضع بعدها حدة ابن حزم وجسارته على خصومه في مكانها، وليستبين لك كيف كان في حدّته إحياءٌ للسنة بين أهل بلد لم تسعفهم هممهم في الوصول للمعين الأوّل للعلم الشرعي، فوقفوا حياتهم على كُتب مالك بن أنس (ت 179هـ) إمام مذهبهم. لقد وظّف حدته لتكون أداة فعّالة لإدارة الصراع مع المالكية، ولولاها لطمره تاريخ الأندلس المكتوب بأقلام خصومه، رغم أن الدقة تقتضي القول بأن طبيعته الناريّة الحادّة كانت تحيد عن السداد، فتنال من المذاهب الأخرى التي لم تكن ظاهرة بالأندلس مثل الحنفية والشافعية، وكذلك سائر الفرق الكلامية.
يصف لنا القاضي المالكي عياض اليحصبي (ت 544هـ) -في كتابه ‘ترتيب المدارك‘- بدايات دخول المذهب المالكي إلى الأندلس، وكيف استقر وتم تعميمه بقوة السلطان؛ فيقول: "أما أهل الأندلس فكان رأيهم -منذ فُتحت [البلاد]- على رأي الأوزاعي (ت 157هـ)، إلى أن رحل إلى مالكٍ [تلامذتُه]: زياد بن عبد الرحمن (الملقب ‘شَبَطون‘ ت 193هـ)، وقِـرْعوس بن العباس (ت 220هـ)، والغازي بن قيس (ت 199هـ) ومَن بَعدهم؛ فجاؤوا بعلمه وأبانوا للناس فضله واقتداءَ الأمّة به، فعُرف حقه ودُرّس مذهبه، إلى أن أخذ أمير الأندلس -إذ ذاك- هشام بن عبد الرحمن [الداخل] بن معاوية (ت 180هـ).. الناس جميعًا بالتزامهم مذهب مالك، وصيّر القضاء والفتيا عليه".
ويبدو أن اعتماد الأمويين لمذهب إمام المدينة النبوية مذهبا رسميا لدولتهم بالأندلس لم يكن يخلو من مناسبة سياسية يعززها تزامنه مع بداية ارتباط مذهب الحنفية بدولة بني العباس؛ فقد نمى إلى علم هشام المذكور أن الإمام مالكًا كان له مَيلٌ إليه لما سمعه من جميل سيرته من أحد تلاميذه الأندلسيين، وكان هشام -كما يقول الذهبي في ‘السِّيَر‘- "ديّناً ورعاً.. ويعدل في الرعية"؛ فقال مالك: "نسأل الله أن يزيّن حرَمَنا بمثله" من الملوك.
ابن حزم: مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان: مذهب أبي حنيفة فإنه لما ولِي قضاءَ القضاة أبو يوسف كانت القضاة من قِبَله، فكان لا يولّي قضاء البلاد إلا أصحابه المنتمين إلى مذهبه؛ ومذهب مالك بن أنس عندنا في الأندلس
ثم تكتمل الخلفية السياسية للترسيم النهائي للمالكية مذهبا للدولة باستحضارنا لآثار الصدام المسلح بين النظام الأموي وبعض كبار فقهاء المالكية، والذي بلغ ذروته بـ"ثورة الربض" سنة 202هـ التي حَسم فيها الأميرُ الحَكَم بن هشام (ت 206هـ) الصراعَ لصالح النظام، ثم رأى خليفتُه ابنُه عبد الرحمن بن الحكم (ت 238هـ) أن يحتوي الأمر بعقد تحالف جديد أعمق بين الدولة وأصحاب المذهب الغالب.
وهكذا صارت الدعوة إلى الالتزام بمذهب مالك جزءًا من هُوُّيّة الدولة، فاكتسب بذلك نوعًا من ‘الحصانة الدستورية‘ حتى إنهم "حمَوْهُ بالسيف عن غيره جملة"؛ كما يقول عياض. وظل تشدد السلطة الأموية بالأندلس في التمسك بالمذهب المالكي يتصاعد بتطرف حتى أصبح من يحيد عنه يوصف بأنه ضالٌّ مبتدع؛ فالقاضي عياض يقول إن الأمير الحَكَم المستنصر (ت 366هـ) كتب رسالة جاء فيها أن "كلّ مَن زاغ عن مذهب مالك فإنه ممن رِينَ (= طُبِع) على قلبه، وزُيِّن له سوء عمله"!!
وقد لاحظ ابن حزم أن المذهب المالكي لم يتخذ طريقا طبيعيا نحو اعتناق الأندلسيين له، بل كان فرضًا بسلطان الدولة؛ وفي ذلك يقول بنبرته الجازمة المعهودة: "مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان: مذهب أبي حنيفة (ت 150هـ) فإنه لما ولِي قضاءَ القضاة أبو يوسف (ت 182هـ) كانت القضاة من قِبَله، فكان لا يولّي قضاء البلاد -من أقصى المشرق إلى أقصى أعمال أفريقية (= تونس)- إلا أصحابه المنتمين إلى مذهبه [الحنفي]؛ ومذهب مالك بن أنس عندنا، فإن يحيى بن يحيى (الليثي ت 234هـ) كان مكينًا عند السلطان مقبول القول في القضاء، فكان لا يلي قاضٍ في أقطارنا إلا بمشورته واختياره، ولا يشير إلا بأصحابه ومن كان على مذهبه".
ولذلك لم يسلم أتباع المذاهب الفقهية من مضايقات فقهاء مالكية الأندلس النافذين حكوميا؛ فهذا الإمام الحافظ ابن الفرضي (ت 403هـ) يحكي لنا -في ‘تاريخ علماء الأندلس‘- كيف كانت تتم دعوة فقهاء المذاهب المختلفة إلى نبذ مذاهبهم والانتقال إلى مذهب الدولة؛ فيقول إن الفقيه القرطبي أبا كنانة زهير بن مالك البَلَوِي (ت نحو 239هـ) "كان فقيها على مذهب الأوزاعي على ما كانت عليه أهل الأندلس قبل دخول بني أمية..، وأن عبد الملك بن حبيب (رأْس المالكية بالأندلس ت 238هـ) كان يعذل (= يلوم) أبا كنانة على انحرافه عن مذهب أهل المدينة وتمسكه برأي الأوزاعي"!

تقليد مطبق
وقد يقول قائل إن الاقتصار على مذهب مَرْضِيّ من مذاهب الإسلام -كمذهب مالك- ليس فيه شناعة تستوجب أن يَبري لها ابن حزم أقلامه ويُفوّق سهامه. وقائل هذا يُجاب بأن الصورة لم تكتمل لديه، فالأمر لم يتوقف عند نصرة مذهب ومعاداة سواه، وإنما خالطه إهمال للحديث عند فقهاء المالكية النافذين سلطويا، واحتفاء بكُتب الفروع على حساب كُتب السُّنة، وسنبيّن لك هذا باستعراض لبعض رؤوس المذهب المالكي بالأندلس، وبيان ضعف بضاعتهم في الحديث.
فهذا قِرعوس بن العباس -وهو من أوائل من حمل عن مالك عِلمَه إلى الأندلس- يقول عنه ابن الفرضي: "وكان علمُه المسائلَ على مذهب مالك وأصحابه، ولا علم له بالحديث". وهذا يحيى الليثي الذي انتهت إليه رئاسة المذهب في الأندلس، وكان ممن وطّد للمالكية علاقتهم بالسلطة؛ يقول عنه الحافظ ابن عبد البر المالكي (ت 463هـ) إنه "انتهى السلطان والعامة إلى رأيه…، ولم يكن له بصرٌ بالحديث"! وكأن الذهبي لم يعجبه هذا الحكم المطلق على راوي ‘الموطأ‘ الأشهر عن مالك؛ فقال معلقا: "قلت: نعم؛ ما كان من فرسان هذا الشأن، بل كان متوسطا فيه".
وهذا عبد الملك بن حبيب -وهو وريث يحيى الليثي في رئاسة المذهب وصاحب كتاب ‘الواضحة‘ المحتفى به لدى مالكية الأندلس- يقول عنه ابن الفرضي: "لم يكن لعبد الملك بن حبيب عِلمٌ بالحديث ولا كان يعرف صحيحه من سقيمه". وقد نقل الإمام المالكي عياض -في ‘ترتيب المدارك‘- شهادة ابن الفرضي هذه في ابن حبيب دون تعليق فكأنه مُقرّ بصحتها. وكذلك كان أصبع بن خليل القرطبي (ت 273هـ) وقد دارت عليه الفتيا بالأندلس خمسين عامًا؛ يقول عنه ابن الفرضي: "لم يكن له علم بالحديث ولا معرفة بطرقه، بل كان يباعده ويطعن على أصحابه". وقال عنه ابن عبد البر -فيما رواه عياض- إنه "كان معاديًا للآثار، ليس له معرفة بالحديث، شديد التعصب لرأي مالك وأصحابه، ولابن القاسم (العُتَقي ت 191هـ) من بينهم".
وقد سعى فقهاء المالكية بمحدّث الأندلس بَقِيّ بن مَخْلَد (ت 276هـ) لدى السلطان، وما زالوا يُغْرونه به حتى اتهموه بالزندقة وحرضوا على قتله، هذا وهو حامل سنة النبي (ص) إلى أهل الأندلس، ومَن يسميه الذهبي بـ"شيخ الإسلام صاحب التفسير والمسند اللذيْن لا نظير لهما". ويرسم لنا الرحالة المقدسي البشاري (ت 380هـ) -في ‘أحسن التقاسيم‘- حدود معارف الأندلسيين بمصادر التشريع في زمنه؛ فيقول: "أما في الأندلس فمذهب مالك [هو المعتمَد]، وهم يقولون: لا نعرف إلا كتاب الله وموطأ مالك، فإن ظهروا على حنفي أو شافعي نفوْه، وإن عثروا على شيعي أو معتزلي ربما قتلوه"!
وقد كان ابن حزم يعيّر خصومه من فقهاء المالكية بضعفهم في الحديث، فيقول معلقا على طعنهم في أسانيد بعض الأحاديث: "أما قولهم: لِوَهْنٍ في طريقه (= ضعف سنده) فلم يصحّ، فهذا علمٌ ما يُدرى منهم أحدٌ يَدري فيه كلمةً فما فوقها"! ويقول راداًّ على اتهامهم له بضعف علمه بالحديث: "أما قولهم عنا بضعف الرواية والتعرّي من الشيوخ، فلو كان لهم عقول لأضربوا عن هذا، لأنهم ليسوا من أهل الرواية فيعرفوا قويها من ضعيفها، ولا اشتغلوا بها قطّ ساعة من الدهر، وما يعرفون إلا المدونة على تصحيفهم لها"!
وهذا القاضي ابن العربي (ت 543هـ) يحكي حالهم وهو نجم في سماء المذهب المالكي: "فصار التقليد دِينَهم والاقتداء يقينهم، فكلما جاء أحد من المشرق بعلم.. حقّروا من أمره إلا أن يتستر عندهم بالمالكية"، ثم يضيف: "فألزموا الناس العمل بمذهب مالك…، واستمرت القرون على موت العلم وظهور الجهل، فكلّ من تخصَّص لم يقدر على أكثر من أن يتعلَّق ببدعة الظاهر (= المذهب الظاهري)…، ثمَّ حدثت حوادث لم يَلْقَوْها في منصوص المالكية فنظروا فيها بغير علم فتاهوا..، ولولا أن طائفة نفرت إلى دار العلم [بالمشرق] وجاءت بلُباب منه -كالأصيلي (ت 392هـ) والباجي (ت 474هـ)- فرشّت من ماء العلم على القلوب الميتة وعطرت أنفاس الأمّة الزفِرة؛ لكان الدين قد ذهب"!!
والإنصاف يقضي بأنه كان على القاضي ابن العربي أن يذكر ابنَ حزم -وهو شيخ والدِه وزيرِ مملكة بني عباد وسفير دولة المرابطين إلى الخليفة العباسي ببغداد- في عِداد من أحيا مواتَ الأندلسيين؛ فقد شيّد أبو محمد بناء مدرسة الأثر بكتابه ‘المحلَّى بالآثار‘ وسوّرها بـ‘إحكام أصول الأحكام‘ فأعاد بذلك الاعتبار إلى السنّة المشرَّفة، ومع ذلك فـ"لم ينصف القاضي أبو بكر.. شيخَ أبيه في العلم ولا تكلم فيه بالقسط"؛ كما يقول الذهبي.

تعصب بالغ
ومن هنا ينبغي تناول مشروع ابن حزم الإحيائي في هذا السياق المعتم من تطفيف خصومه في حقه، وتسلّط أصحاب الفروع والتقليد على المجتمع المسلم بالأندلس، وإهمالهم للأصول الشرعية التي لها وحدها صبغة الإلزام؛ فردَّ بمشروعه الاعتبارَ للأصول، وفتح باب الاجتهاد بعد إغلاقه جراء فُشُوّ التقليد، وبالغ في توسيعه حتى أدخل فيه كل مسلم.
يقول البعض: "كان لسان ابن حزم وسيف الحَجّاج شقيقيْن" ويتخذون من هذا مطعنًا عليه، والواقع أن لسان ابن حزم كان يواكبه تعصب مذهبي متسلح بسيف الحجّاج المتمثل في السلطة، وقد لاحظ الذهبي -في السِّيَر‘- الصلة بين الأمرين، فقال إن ابن حزم "تعصَّب عليه المالكية لطول لسانه ووقوعه في الفقهاء الكبار"! لكن ما عسى أن يصنع صاحب الرسالة الإصلاحية إذا كانت كفة القوة تميل لخصمه، لقد وجد ابن حزم في النضال العلمي سبيلًا لإصلاح ما أفسده النافذون من فقهاء الأندلس الذين وصفهم هو بأنهم "بُكمٌ إذا ضمَّنا وإياهم مجلس، فإذا غابوا أتوْا بمثل هذه البلاغم العَفِنة المُضحِكة"!
لقد لقي ابن حزم عَـنَـتًا من متعصبي فقهاء عصره، وصار طلابه يستخْفون بنسبتهم إليه؛ فهذا أحد مريديه يكتب إليه -في رسالة ‘الهاتف من بعيد‘- طالبا منه ألا يكشف أمره أو يصرح باسمه في رده على رسالته وسؤاله، فقد صاروا "غرباء بين المتعصبين". ويبدو أن ابن حزم أدرك مع اكتهاله أنه ينبغي أن يغير إستراتيجيته، ويخرج من بين ظهراني خصومه إلى منطقة محايدة يشتغل فيها بالبناء والتدريس، فتوجه في سنة 430هـ إلى جزيرة ميورقة شرقي الأندلس ليستقر في كَـنَـف أميرها أحمد بن رشيق (ت 440هـ)، نازحًا عن مناطق الصراع وغلبة الخصوم بقرطبة ونظائرها من الحواضر الكبرى. وقد عاد هذا القرار بالخير على مذهبه، إذ تخرج على يديه من أهالي ميورقة من سيحمل مذهبه إلى المشرق ويطير باسمه في الآفاق، ذلكم هو تلميذه الحُميدي الأَزْدي (ت 488هـ) الذي "اختص به وأكثر عنه وشُهِر بصحبته"؛ كما يقول ابن بَشْكُوال (ت 578هـ) في كتابه ‘الصلة‘.
لكن عداوة فقهاء المالكية له لم تهدأ بنجاحهم في إبعاده عن قرطبة؛ فقد بلغه -وهو بميورقة- خبرُ إحراق أمير إشبيلية المعتضد بن عباد (ت 461هـ) لكتبه بتحريض من هؤلاء الفقهاء. ثم لما توفي أمير ميورقة عاد فقهاء المالكية إلى مطاردته وتشريده، و"طفق الملوك يُقْصونه عن قربهم ويسيّرونه من بلادهم، إلى انتهوا به إلى مُنقطَع أثَرِه بتُربة بلده بادية لبلة..، وهو في ذلك غير مُرْتَدِع ولا راجع إلى ما أرادوا به، يبث علمه فيمن ينتابه من بادية بلده من عامة المقتبسين، منهم من أصاغر الطلبة الذين لا يخشون فيه الملامة، يحدثهم ويفقههم ويدربهم، ولا يدع المثابرة على العلم، والمواظبة على التأليف"؛ حسب الشنتريني.
على أن أجواء الصراعات العلمية التي خاضها ابن حزم لم تمنعه من إنصاف خصومه والاعتراف بمزاياهم؛ فالذهبي يروي -في ‘السِّيَر‘- قوله في أحدهم: "ما لقيت أشد إنصافا في المناظرة من [الفقيه القاضي] ابن بشر (المعروف بابن غرسيَّة ت 422هـ)، ولقد كان مِن أعلم مَن لقيته بمذهب مالك، مع قوته في علم اللغة والنحو ودقة فهمه". وكذلك فعل مع مجادله الأشهر الباجي؛ فقد حكى الشنتريني أن ابن حزم "كان يقول: لم يكن لأصحاب المذهب المالكي بعد عبد الوهاب (البغدادي ت 422هـ) مثل أبي الوليد الباجي! وقد ناظره بميورقة ففلَّ من غَرْبه..، ولكن أبا محمد وإن كان اعتقد خلافَه فلم يطرح إنصافَه"! بل إنه ذكر -في كتابه ‘الفصل‘- ما يشير لاستفادته من الباجي آراء عقدية لبعض الفرق الكلامية!

استثناء حميد
لم يخلُ مشهد الصراع بين ابن حزم وفقهاء المالكية من حلقات وصل بين الطرفين، تراوحت بين الصداقة الحميمة واللقاء العلمي الساخن في مجالس المناظرة الحافلة بالجمهور؛ فمن أمثلة الأولى علاقة الودّ العميقة التي ربطت ابن حزم بابن عبد البر اللذين جمعتهما وشائج عدة ربما جعلتهما يخدمان مشروعا إصلاحيا واحدا وإن بأساليب منوّعة. فقد جمعت بينهما زمالةٌ في طلب العلم على شيوخ مشترَكين، واعتناقٌ خاطف منهما للمذهب الشافعي، وتمذهبٌ مؤقَّت لابن عبد البر بالمذهب الظاهري، وعنايةٌ عظيمة منهما بالحديث جعلتهما إمامين فيه غير منافَسيْن بقُطرهما؛ فقد ذكر الذهبي أن ابن عبد البر "كان ينبسط إلى أبي محمد.. ويؤانسه، وعنه أخذ ابن حزم فن الحديث..، كان أبو عمر أعلم مَن بالأندلس في السنن والآثار..، وكان في أول زمانه ظاهري المذهب..، كان كثيرا ما يميل إلى مذهب الشافعي".
ولذلك لا غرابة إنْ قرن الذهبي -في ‘السِّيَر‘- بين الرجلين في التميز العلمي على مستوى العالم الإسلامي؛ فقد نقل قولَ العز بن عبد السلام (ت 660هـ): "ما رأيت في كُتب الإسلام في العلم مثل ‘المحلَّى‘ لابن حزم، وكتاب ‘المُغْني‘ للشيخ موفق الدين (المقدسي ت 620هـ)"؛ ثم أضاف الذهبي: "قلت: لقد صدق الشيخ عز الدين. وثالثهما: ‘السُّنن الكبير‘ للبيهقي (ت 458هـ)، ورابعها: ‘التمهيد‘ لابن عبد البر". ويلفت النظر هنا أن ثلاثة من الأربعة اشتركوا في عصر واحد، يمثله عُمُر البيهقي (384-458هـ) المضاهي قدراً لعمر ابن حزم!
وأما المناظرات العلمية فأشهرها ما جرى بين ابن حزم وأبي الوليد الباجي -وقد جمعهما التتلمذ على شيوخ منهم "شيخ الأندلس" ابن مغيث القرطبي (ت 429هـ)- من "مناظرات ومنافرات" -وفق تعبير الذهبي في ‘السِّيَر‘- في بلاط ابن رشيق. وقد وجد الباجي -الذي كان رحل إلى المشرق فاستوعب حصيلة معارف أهله في العقليات والنقليات وتمرّن على فن المناظرات- العونَ من زميله في المذهب والطلب أبي عبد الله الميورقي (ت نحو 460هـ)، فقررا القضاء على تفرد ابن حزم بالمشهد العلمي فـ"تظافرا معا وناظرا ابن حزم فأفحماه وأخرجاه، وهذا كان مبدأ العداوة بين ابن حزم والباجي". وبالطبع لا يمكن للباحث التسليم بدعوى الإفحام هذه لغياب النصوص الكاملة لهذه المناظرات.
وبقدر ما كانت هذه المناظرات سببا في عزلة ابن حزم عن المجال العام؛ كانت مدخلا واسعا للباجي نحو هذا المجال الذي سرعان ما احتلّ فيه مكانة عظيمة لنجاحه في أمور ثلاثة: أولها تحييد رأس "الظاهرة الحزمية" في الأندلس عن الصدارة، وثانيها جمعه بين علوم الأثر ومذاهب الرأي في الفقه والعقائد، وثالثها الصلة القوية بجميع سلاطين الأندلس.
ابن حزم: الحظّ لمن آثر العلم وعرف فضله أن يستعمله جهده ويقرئه بقدر طاقته ويحققه ما أمكنه، بل لو أمكنه أن يهتف به على قوارع طُرُق المارّة، وتيسر له أن يهب المال لطلابه ويُجري الأجور للباحثين عنه، صابرا في ذلك على المشقة والأذى؛ لكان ذلك إحياء للعلم
ومع كل ما تقدم من مظاهر الصراع بين ابن حزم وخصومه؛ فإننا نرى لدى هذا الإمام ميلًا لجمع الكلمة وأن خصومته للفقهاء ليست عداوة لأتباعهم. فها -في ‘رسالة الإمامة‘- يجيب مَن سأله عن صحة صلاة المرء خلف إمام لا يدري مذهبه الفقهي بما يحقق وحدة المسلمين؛ فيقول: "إن البحث عن مثل هذا أحدثه الخوارج فهي التي كشفت الناس [عن] مذاهبهم وامتحنتهم في ذلك…، وما امتنع قط أحد من الصحابة.. ولا من خيار التابعين من الصلاة خلف كل إمام صلَّى بهم". ثم يختم فتواه بعبارة تبيّن لنا أنه كان يرى أن القيام بمشروعه الإصلاحي متعيِّنٌ عليه، وأنه لم يطلبه لشهوةِ شهرةٍ أو خصومةٍ أو رئاسةٍ، فيقول: "اللهُ يعلم أني غير حريص على الفتيا، ومَن عَلِمَ أن كلامه من عمله -مُحْصًى له مسؤول عنه- قلّ كلامُه بغير يقين".
وليس أبلغ في الدلالة على إحساس ابن حزم بنُبْل وأهمية مشروعه الإصلاحي من قوله الذي حكاه عنه أبو حيان الأندلسي (ت 745هـ) -في تفسيره ‘البحر المحيط‘- نقلا عن تلميذه الحافظ الحُميدي؛ وهو: "الحظّ لمن آثر العلم وعرف فضله أن يستعمله جهده ويقرئه بقدر طاقته ويحققه ما أمكنه، بل لو أمكنه أن يهتف به على قوارع طُرُق المارّة ويدعو إليه في شوارع السابلة وينادي عليه في مجامع السيارة، بل لو تيسر له أن يهب المال لطلابه ويُجري الأجور لمقتبسيه ويُعظم الأجعال (= الجوائز) للباحثين عنه ويُسني مراتب أهله، صابرا في ذلك على المشقة والأذى؛ لكان ذلك حظا جزيلا وعملا جيدا وسعدا كريما وإحياء للعلم، وإلا فقد دَرَس وطُمس ولم يبق منه إلا آثار لطيفة وأعلام داثرة"!!
لم يكن ابن حزم يعيش ترفًا فكريًا، فقد كان يرى في حياته مشروع إصلاح لاستنقاذ الشريعة من كتب الفروع الجامدة، وإعادة الناس إلى هدْي نصوص الوحي، ولعله لم يقصد أن يقوده طبعه وحدّته إلى الخصومات، وإنما وظّف بعض طباعه في معركة حياته، وشتّان بين الأمرين. وقد تركَ لنا -في رسالته ‘الأخلاق والسِّيَر في مداواة النفوس‘- ما يشير إلى مذهبه وأنه لم يتخذه ترفًا وافتعالًا؛ فقال: "وإياك ومخالفة الجليس ومعارضة أهل زمانك فيما لا يضرّك في دنياك ولا في أخراك وإن قلّ، فإنك تستفيد بذلك الأذى والمنافرة والعداوة… وإن لم يكن لك بُـدٌّ من إغضاب الناس أو إغضاب الله عزّ وجلّ..؛ فأغضب الناس ونافرهم، ولا تغضب ربك ولا تنافر الحق".
انتصار وحصار
وفي نهاية مسيرة علمية امتدت أربعة عقود (415-456هـ) بدأت بمأساة رجل دولة محطَّم الأحلام وانتهت بحصيلة معارف وافرة لإمام موسوعي ما زال يثير الاهتمام؛ توفي ابن حزم آخر شعبان سنة 456هـ في قرية ‘منت ليشم‘ ببادية لبلة، تاركاً مذهبًا شهد على انتشاره بالأندلس ألدُّ أعدائه، فهذا القاضي ابن العربي يتحدث -في ‘العواصم من القواصم‘- عن هيمنة مذهب الظاهرية على المشهد العلمي في الأندلس عشية مقدمه سنة 493هـ من رحلته إلى أقطار المشرق؛ فيقول: " حين عودتي من الرحلة ألفيت حضرتي (= مدينتي: إشبيلية) منهم طافحة ونار ضلالهم لافحة"!!
ومن المفارقات العجيبة أن المذهب الظاهري -ممثلا في تراث ابن حزم- وجد بعد قرن من وفاته نصيرا سلطانيا له من دولة الموحدين التي أسقطت دولة المرابطين سنة 541هـ، وخاصة في أيام المنصور يعقوب الموحدي (ت 595هـ) الذي يروي المقّري -في ‘الإحاطة‘- أنه كان معجبا بابن حزم، وأنه وقف يوما على قبره ثم قال: "كل العلماء عيال على ابن حزم"! ولعل هذا الإعجاب دفعه إلى "الثأر" لابن حزم من خصومه، فألزم الناسَ بالمذهب الظاهري وأمر سنة 591هـ بحرق كتب فروع الفقه المالكي، ليس في الأندلس فحسب وإنما في بلاد المغرب أيضا.
وعن هذه المحرقة يحدثنا شاهدُ عِيان على مشهد منها وقع في فاس، وهو المؤرخ المراكشي الذي يقول في كتابه ‘المُعجِب‘: "أمر [المنصور] بإحراق كتب المذهب [المالكي]..، لقد شهدتُ -وأنا يومئذ بمدينة فاس- يُؤتى منها بالأحمال فتوضع ويُطلق فيها النار…، وكان قصده في الجملة محو مذهب مالك وإزالته من المغرب مرة واحدة، وحمل الناس على الظاهر من القرآن والحديث. وهذا المقصد بعينه كان مقصدَ أبيه (= أبو يعقوب ت 580هـ) وجده (= عبد المؤمن ت 558هـ)، إلا أنهما لم يُظهراه وأظهره يعقوب هذا".
وإثر وفاة المنصور؛ تخلى خلفاؤه عن تراث الدعوة التَّوْمرتية التي اعتنقها آباؤهم، وعادت الدولة إلى اعتماد المذهب المالكي فخضع المذهب الظاهري والميراث الحزمي مجددا لحصار خصومه حتى سقطت الأندلس بالكامل، فابن خلدون (ت 808هـ) يحدثنا -في ‘المقدمة‘- عن وضعية هذا المذهب في عصره قبل قرن من سقوط غرناطة، فيقول: "ثم دَرَس مذهبُ أهل الظاهر اليوم بدروس أئمته وإنكار الجمهور على منتحله، ولم يبق إلا في الكتب المجلدة"!
ورغم حياته العاصفة بحروب السياسة وكروب التعصب طوال نصف قرن؛ فقد كان ابن حزم -رحمه الله- سمْحًا في وصف أخلاقه، وقد أطلعنا على جانب من رقته ولطفه يتنافى مع ما اشتهر عنه من الزعارة وشدة الأخلاق، وهو اشتهار كانت عباراته القادحة في المخالفين سببا فيه؛ فهو يحكي -في ‘طوق الحمامة‘- عن خصلة الوفاء لديه والأنْس بكل قريب منه، فيقول: "لا أقول قولي هذا ممتدِحًا [نفسي]، ولكن آخذاً بأدب الله عز وجل: «وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ»، ولقد منحني الله عز وجل من الوفاء لكل من يمتّ إليّ بِلَقْيَة واحدة، ووهبني من المحافظة لمن يتذمم مني ولو بمحادثة ساعة، حظًا أنا له شاكر وحامد..، وما شيء أثقل عليّ من الغدر"!
ولم يقتصر هذا الخُلُق على أصحابه وطلابه، وإنما عامل به أيضا مَن وقع في غرامها من النساء، وهي حبيبته أيام الصبا جاريتُه "نُعْم" التي نراه يتوجّع عليها متفجّعا على فقدانها: "ولو قـُبِل فداءٌ لفديتها.. ببعض أعضاء جسمي العزيزة عليّ مسارعًا طائعًا، وما طاب لي عيشٌ بعدها، ولا نسيتُ ذكرها، ولا أنِسْتُ بسواها"!!
المصدر : الجزيرة

سبع سنوات عجاف على انقلاب السيسي (1-2)

سبع سنوات عجاف على انقلاب السيسي (1-2)
جمال نصار
مرت سبع سنوات على الانقلاب العسكري الذي قاده عبد الفتاح السيسي، وأطاح بآمال وطموحات الشعب المصري، بعد ثورة كانون الثاني/ يناير 2011، التي شهد العالم كله بسلميتها وحضارتها وعظمتها. 

مرت سبع سنوات على قتل الحلم الذي سعى إليه المصريون، بانتخاب أول رئيس مدني بإرادة شعبية خالصة، بسبب تواطؤ العسكر مع بعض القوى المدنية، ما أدى إلى إجهاض الحلم قبل اكتماله.
  
انقضت هذه الأعوام وهي حبلى، ولا تزال، بالعديد من المؤامرات على الشعب المصري الذي صبر كثيرًا، وأراد أن يخرج من عنق الزجاجة، ولكن جبروت وتآمر العسكر أرجعه للقاع مرة أخرى. 

لقد مرت على السيسي ست سنوات في حكم مصر، منذ أن تسلم مقاليد الرئاسة في مصر رسميًا في 3 حزيران/ يونيو 2014، شهدت جميعها تكرار الوعود منه ومن إعلامه، بتغيير يجعل مصر "أدّ الدنيا"، ويجعل شعبها في أحسن حال، فبعد أن كان عام 2015 هو عام الرخاء الموعود، تأخر الوعد إلى 2016 مع مطالبات بالصبر، ثم تأجّل إلى 2017، وبعده إلى 2018 ثمّ 2019، حتى جاء الوعد الأخير قبل شهور بأن تصبح مصر بنهاية حزيران/ يونيو 2020 "حاجة تانية خالص"!

كشف حساب السيسي
بدأت سلسلة الوعود التي أطلقها السيسي منذ ترشحه للرئاسة للمرة الأولى، فلم يقدم خطة انتخابية، لكنه ظهر في لقاء تلفزيوني مع الإعلاميين إبراهيم عيسى ولميس الحديدي على قناة (CBC) المصرية، في 6 أيار/ مايو 2014، ليقول إن "المواطن سوف يشعر بتحسن خلال عامين، تحسن في الاقتصاد والتعليم والصحة في حياته عامة".

و في 23 أيار/ مايو 2015 أطلق السيسي وعدًا آخر قال فيه، إنه سيطلق شبكة طرق خلال عام تربط أنحاء البلاد، إلا أن هذه المشروعات ورغم تأخر تدشينها عن المدة التي أعلنها السيسي، انهار بعضها بعد عام واحد من افتتاحها، مثل مشروع الطريق الدائري الإقليمي الذي افتتح في 9 أيلول/ سبتمبر 2018، وبعد عام واحد في 23 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، حدث هبوط أرضي كبير فيه، وتوقف العمل به بسبب أمطار دامت لمدة ساعة واحدة.

وجدد السيسي وعد العامين، في 19 أيلول/ سبتمبر 2014، وأكد عليه مرة أخرى، بعد توليه منصب الرئاسة بشهرين، في كلمته بمناسبة عيد الفلاح، لكن يبدو أن مهلة العامين لم تبدأ مثلما توقع الجميع مع توليه مهام الرئاسة في شهر تموز/ يوليو 2014، إذ استمر يجدد وعد العامين حتى بعد مرور قرابة الستة أشهر على توليه المنصب، ففي افتتاح مشروعي مطار الغردقة الدولي والميناء البحري ردد مرة أخرى وعد العامين، دون حساب المدة المقتطعة قائلاً: "أيها المصريون البسطاء! اطمئنوا يا مصريين؛ خلال عامين سترون النتائج".

وعود متوالية ولا أمل في التغيير
وفي 13 نيسان/ أبريل 2016 وعد السيسي بأن أسعار السلع لن ترتفع، حتى ولو ارتفع سعر الدولار، ولم يكن هذا هو الوعد الأول الذي يخص الأسعار، فمنذ تولي السيسي الرئاسة يؤكد ويكرر ويعد أن السلع الأساسية لن تمس، رغم أن أسعارها ازدادت بنسب وصلت إلى 140% لبعض السلع.

وبعد عامين من وعده الأول إبان فترة ترشحه، وفي 28 كانون الأول/ ديسمبر 2016، لم يحن موعد الوفاء بالوعد مثلما توقع مؤيدوه، إنما حان موعد وعد جديد بخطة زمنية جديدة. جاء الوعد الثاني خلال كلمة ألقاها السيسي في مؤتمر في مدينة الإسماعيلية، وكانت تلك المرة المهلة المحددة ستة أشهر، أي في منتصف شهر كانون الثاني/ يناير من 2017 كان موعدنا مع "الأمور الأفضل كثيرًا" على حد قوله في تلك المرة.

وبعد انقضاء الستة أشهر، جدد السيسي في 24 تموز/ يوليو 2018، الطلب للمصريين بالصبر، قائلاً: "اصبروا وسترون العجب العجاب في مصر"، لكنه هذه المرة لم يحدد نوع العجب ولا مدة تحقيقه. 

وفي 1 كانون الثاني/ يناير 2019، بدأ السيسي العام الجديد بالدعوة لمبادرة "حياة كريمة"، التي تنضم لقطار الوعود بتوفير حياة كريمة للمواطن، وبرغم مرور أكثر من نصف عام إلا أنه ـ كالعادة ـ لم تتحقق بعد أية نتائج ظاهرة لتلك المبادرة في توفير حياة كريمة.

إهدار حقوق مصر المائية في نهر النيل
لم تجن مصر خلال السنوات السبع العجاف سوى الاستمرار في مفاوضات عبثية، حيث أضاع السيسي حقوق مصر في مياه النيل بالتوقيع على اتفاق الخرطوم ـ في استئناف المفاوضات حول سد النهضة الإثيوبي في 2015، رغم تأكيد المتحدث أن الدعوة تأتي في ذات اليوم الذي أعادت فيه السلطات الإثيوبية تأكيد اعتزامها السير قدمًا في ملء خزان سد النهضة دون التوصل إلى اتفاق، وهو الأمر الذي يتنافى مع التزامات إثيوبيا القانونية الواردة بإعلان المبادئ، ويلقي بالضرورة بظلاله على المسار التفاوضي.

إذا كانت مصر، على حد تعبير الدكتور عبد الله الأشعل، أفرطت في حسن الظن بأثيوبيا، وتجاهلت النذر وظلت حتى الآن تتصور أن المجاهرة بحسن النية يحرج إثيوبيا دوليًا، فهي سذاجة سياسية.

ومن أعظم المشاهد العبثية الكوميدية في هذا السياق، كان مشهد السيسي الهُمام وهو يُملي القسَم على آبي أحمد رئيس وزراء أثيوبيا بألّا يضر مصر، ويقسم على ذلك ثلاث مرات!

وإذا كانت مصر، على حد تعبير الدكتور عبد الله الأشعل، أفرطت في حسن الظن بأثيوبيا، وتجاهلت النذر وظلت حتى الآن تتصور أن المجاهرة بحسن النية يحرج إثيوبيا دوليًا، فهي سذاجة سياسية.

ومع فشل جميع جولات التفاوض خلال السنوات الماضية، تقول إثيوبيا إنها ماضية بخطتها لملء سد النهضة بحلول تموز/ يوليو المقبل، معتبرة أنه "لا حاجة لإخطار السودان ومصر بذلك"، وفي المقابل نجد فشلًا ذريعًا من الدبلوماسية المصرية في التعامل مع الملف، والوصول إلى طريق مسدود، ما يؤدي لا محالة لتعطيش المصريين، وتبوير الأراضي الزراعية.

مصير الفشل في ملف سد النهضة
تشير كل التقارير أن النتيجة ستكون وخيمة على مصر، من ذلك بوار وتصحّر قرابة مليوني فدان، أي نحو 18% من مساحة مصر الزراعية وهو ما يعني فقدان 6%، من إجمالي القوى العاملة وارتفاع معدلات البطالة بنسبة 17% إضافية من 11% حاليًا.

أما إذا انخفضت المدة إلى سبع سنوات فسيزيد العجز المائي في مصر بمعدل 12 مليار متر مكعب سنويًا، أي نحو 22% من إجمالي موازنة مصر الإجمالية السنوية من المياه، وبالتالي فقدان نحو 3 ملايين فدان، أي نحو 30% من المساحة الزراعية لمصر.

وسيؤدي ذلك إلى فقدان 9% من إجمالي القوى العاملة كحد أدنى، وارتفاع معدلات البطالة بنسبة 20% إضافية، وسيتسبب ذلك في مضاعفات اقتصادية واجتماعية خطيرة.

لكن السيناريو الأخطر بالنسبة لمصر هو ملء السد خلال ثلاث سنوات، إذ ستكون هناك عواقب وخيمة لملء السد خلال هذه المدة القصيرة، إذ ستفقد مصر نحو 27 مليار متر مكعب من المياه، أي نحو 50% من إجمالي موازنتها المائية السنوية، وستفقد تبعًا لذلك نحو 6.75 ملايين فدان، أي 67% من مساحتها الزراعية تقريبًا.

وسيتسبب ذلك في فقدان 21% من إجمالي القوى العاملة على أقل تقدير، وارتفاع معدلات البطالة في البلاد بنسبة 34% كحد أدنى، وستكون من تبعات ذلك مخاطر اجتماعية واقتصادية خطيرة مثل ارتفاع معدلات الجريمة، وزيادة احتمالات النزوح والهجرة غير النظامية.

وللحديث بقية إن كنا من أهل البرية..

https://twitter.com/drgamalnassar