الخميس، 30 يونيو 2022

مأساة العربية في موطنها

 مأساة العربية في موطنها

سيد أمين


هناك العديد من الأخطار التي تواجه اللغة العربية في داخل أقطارها، وتشكل تهديدا جوهريا لها، ورغم ذلك لا وجود لأي ردّ جادّ ومناسب من قبل الجهات المختصة بحماية الثقافة والتراث والهوية تجاهها، خاصة أن اللغة تشكل في الواقع هوية البلاد، وبالانتساب إليها أطلق علينا “البلاد العربية”.

وما يزيد الطين بلة، أن الإعلام بكافة أنواعه الرسمي والخاص، يتصدر قائمة أكثر الوسائل مساهمة في تسارع وتيرة هذا الانهيار، مع ملاحظة أن هذا الإعلام في البلدان العربية -بكل أنواعه أيضا- يخضع لرقابة الدولة الصارمة، ولا يمكن أن يمرّ أي توجه فيه دون رغبة السلطة.

ومن جانب آخر، أضفت مسألة العولمة، والتفوق التكنولوجي الغربي، وتدفق الإعلام من شمال العالم إلى جنوبه حيث تقبع أمتنا العربية، والإعلام الإلكتروني، ولغته، وأدواته، وطبيعة مستخدميه، تعقيدا كبيرا للأزمة، مسّ بضرّ جميع لغات العالم تقريبا، وفي مقدمتها العربية.

ومصدر فداحة الضرر الواقع على اللغة العربية هنا يعود إلى ما تمتلكه من رصانة وبلاغة لا تتناسب مع تعجل ومحدودية ثقافة ووعي الكثير من مستخدمي تلك التقنيات والتطبيقات.

وفي المقابل جاء الأمر ذاته بفائدة كبيرة للغات المسيطرة على الإنترنت في العالم كالإنجليزية، والفرنسية، والإسبانية، والصينية.

 اللهجات العامية

وتأتي مشكلة اللهجات “العامية” أو “الدارجة”، لتضرب اللغة العربية في مقتل، نظرا لأن الطعنة هنا تأتيها من الناطقين بها، وممن يفترض فيهم حمايتها.

فالعامية لم تكتف بابتذال الكلمات والمصطلحات وتسطيحها، بل إنها اختلقت كلمات ومصطلحات ومعاني لتشكل قواميس خاصة بها، وجرى الترويج لها تحت شعارات خادعة، كالشبابية، والعصرية، وخفة الدم.. إلخ.

هذا الابتذال أضر خارجيا باللغة العربية حيث كان سببا في وقف بعض الجامعات العالمية إيفاد طلابها لدراسة العربية في بيئتها الأصلية، لأنهم كانوا يعودون ولم يتعلموا العربية، ولكنهم تعلموا لهجات البلاد التي أوفدوا إليها.

والأنكى من ذلك أنه تم “تغريب” ونبذ من يتحدث العربية الفصحى في الشارع ووسائل الإعلام، والسخرية منه، باعتباره يعاني من إعاقة ذهنية، مع أنهم هم -وليس هو- الأحق بتلك السخرية.

وهناك من دلل على أن انتشار اللهجات العامية في البلدان العربية تم بقصد استعماري، حيث ذكرت الدكتورة نفوسة زكريا سعيد في كتابها “تاريخ الدعوة إلى العامية في مصر”، أن هذه الدعوة بدأت في منتصف القرن التاسع عشر على يد كتاب ومستشرقين أجانب، ونجح الأمر بعد دعوات “التمصير” التي حدثت بعد ذلك، فخرجت “العامية المصرية”.

وغني عن البيان أن الاستعمار البريطاني حينما عجز عن فرض لغته في البلاد بسبب تفشي الفقر والأمية، عمل على فصل مصر من محيطها العربي تحت دعاوى “تمصير” لغتها العربية.

ولكن من بوارق الأمل، أن العامية العربية واجهت أيضا معضلات في طريقها لتحل محل العربية الفصيحة، أهمها أن كل قطر أو إقليم عربي صارت له لهجته الخاصة، مما تعذر معه انتشار لهجة عامية موحدة، ورجح انتشار اللهجات العربية المسيطرة بسبب السينما والإعلام ووسائل التواصل، كالمصرية والسورية، فقلل ذلك من حدة تشظي اللهجات.

كما زكى شعور الانتماء العربي حالة التفاعل بين اللهجات المحلية والتقريب بينها، خاصة أن العربي من الخليج إلى المحيط مهتم بطبيعته بما يحدث في باقي الأقطار العربية، وبالتالي فهو مضطر لفهم لهجاتها والتواصل مع سكانها، وهو ما ساعد على تقريب الألسنة.

كما أن الكثير من اللهجات الدارجة في مناطق البادية لا تزال تستخدم الألفاظ والمصطلحات التي امتازت بها العربية الرصينة.

 اللغات الأجنبية

ومن الأخطار التي تحيق بلغتنا القومية، ذلك السيل الجارف من المدارس الأجنبية التي تفشى إنشاؤها في جميع البلدان العربية، يرافقه طوفان من مدارس اللغات الخاصة والحكومية، بما لا يتناسب في الكم والكيف مع المدارس المعنية بتدريس العربية.

وخذ مثلا مصر؛ فقد كشفت دراسة بجامعة جنوب الوادي تحت عنوان “نشأة وتطور مدارس اللغات التجريبية الرسمية في مصر وبداية انتشارها” للباحث صبري الأنصاري إبراهيم وآخرين أن “مصر انفردت عن باقي الدول العربية والإسلامية في نهاية السبعينيات بإنشاء مدارس لغات رسمية، ثم صدر بعد ذلك القرار الوزاري رقم 94 لسنة 1985لتنظيمها”.

وغني عن البيان أنه جرى في ذات التوقيت، توقيع اتفاقية كامب ديفد التي أحدثت تطبيقات شروطها السرية التي تتكشف بين الحين والآخر تغييرات سلبية كبيرة في المجتمع المصري، ومن غير المستبعد أن يكون تغيير طبيعة التعليم بينها.

ولقد كانت هناك اعتراضات كبيرة من قبل التربويين والمهتمين بالتعليم على تلك المدارس لما تؤدي إليه من تشتيت الهوية الوطنية والإضرار باللغة العربية، لكن الأمر استقر لهذه المدارس وبدأت تتوسع حتى وصل عددها طبقا لإحصائية حديثة لوزارة التربية والتعليم المصرية إلى 2397 مدرسة.

هذا في حين تتردد معلومات بين التربويين -لا نستطيع التحقق منها- بأنه منذ عام 1990 لم يتم بناء مدارس حكومية عربية جديدة.

يقابل ذلك تقزيم لدور المدارس الأزهرية، سواء في الكليات التي يمكن الالتحاق بها، أو في توظيف خريجيها، مع كثافة المناهج، وعجز هائل في المعلمين، وزيادة نسب التسرب التعليمي، كل ذلك غيبها من أولويات الطلاب وأولياء الأمور، وأخرجها من المنافسة.

كما يظهر الإعلام شريكا في الجريمة مرة أخرى، حيث تظهر الأعمال الدرامية والفنية أن من لا يدخل في حديثه الكلمات الأجنبية هو الأقل تعليما ووعيا وثقافة مقارنة بغيره.

……

لذلك يجب على الحكومات العربية أن توقن بأنه لا يمكن أن يستقر انتماء في نفوس طلاب لا يتعلمون لغتهم، ولا يدرسون ثقافتهم، وأن من يزرع الشوك يجني الجراح.

عدم الوعي بالحركة الصليبية

 عدم الوعي بالحركة الصليبية

أ.د/ علي بن محمد عودة.

هذه الصفة اتصف بها عدد من زعماء المسلمين في عصر الحروب الصليبية ، فلم يدركوا طبيعة الحركة الصليبية وأبعادها وخطورتها. ومنهم على سبيل المثال : 

السلطان كيكاوس بن كيخسرو سلطان سلاجقة الروم الذي يحكم الأناضول.

ففي سنة ٦١٤ هجرية وصلت طلائع الحملة الصليبية الخامسة إلى الشام ، ونزلت في عكا ، وشن الصليبيون غارات ناهبة على بيسان وكل المناطق الواقعة بين القدس والجولان. ثم ابحر الصليبيون إلى مصر بهدف الإستيلاء عليها وتوالت الإمدادت من الغرب الصليبي وحاصروا برج السلسلة عند مدخل دمياط حصاراً شديداً وكان هذا البرج كما يقول المؤرخون قفل الديار المصرية ، إذ تمتد منه سلسلة ثقيلة إلى داخل دمياط تمنع السفن المعادية من الدخول في نهر النيل الى داخل مصر.

وكان السلطان ابوبكر العادل (شقيق صلاح الدين) لايزال حياً ، فامر ابنه الأشرف موسى ، ملك الجزيرة الفراتية ، بمهاجمة الصليبيين في الشام ليخفف الضغط على أخيه الكامل محمد بن العادل الذي يرابط أمام الصليبيين عند دمياط. وبدأ الاشرف موسى في تنفيذ أمر أبيه فهاجم حصن الأكراد الخاضع لفرسان الإسبتارية. وخلال ذلك جاء كيكاوس بقواته بهدف انتزاع حلب من الأيوبيين ، فترك الاشرف حصار حصن الأكراد وعاد بقواته إلى الخلف لصد عدوان كيكاوس الذي جاء هجومه على ممتلكات الأيوبيين في أحلك اللحظات ، وأعمته اطماعه الشخصية عن ادراك الخطر الذي هدد المسلمين جميعاً.

وتمكن الأشرف من صد كيكاوس عن حلب ، لكنه عاد الى الجزيرة لمواجهة عدد من المتمردين الذين حرَّضهم كيكاوس واستمالهم إلى جانبه ، وانشغل الاشرف زهاء ثلاث سنوات في مواجهة المتمردين حتى قضى عليهم جميعاً. وفي سنة ٦١٨ هجرية ذهب بقواته الى مصر وانضم إلى قوات أخويه الكامل محمد ، صاحب مصر ، والمعظم عيسى صاحب الشام. وتمكن الاخوة الثلاثة من إنزال الهزيمة بالحملة الصليبية الخامسة فعادت إلى أوربا تجر أذيال الخيبة والندامة. ويتضح لنا عدم وعي كيكاوس بطبيعة الحركة الصليبية وبخاصة الحملة الخامسة ، فيما لو افترضنا ان الحملة الصليبية نجحت  في انتزاع مصر وبقية الشام من الايوبيين ، عندها يصبح الصليبيون يطوقون مملكة كيكاوس من الجنوب ، ولن يتورعوا عن مهاجمته.

 المصدر: موقع أ.د/ علي بن محمد عودة.

مقدمة ووقائع غزوة أحد

مقدمة ووقائع غزوة أحد


غزوة أحد لم تكن معركة في الميدان وحده؛ إنما كانت معركة كذلك في الضمير.. كانت معركة ميدانها أوسع الميادين. لأن ميدان القتال فيها لم يكن إلا جانبًا واحدًا من ميدانها الهائل الذي دارت فيه.. ميدان النفس البشرية، وتصوراتها ومشاعرها، وأطماعها وشهواتها، ودوافعها وكوابحها، على العموم.. وكان القرآن هناك. يعالج هذه النفس بألطف وأعمق، وبأفعل وأشمل ما يعالج المحاربون أقرانهم في النزال!

حصيلة ضخمة من التوجيهات القرآنية بعد الأحداث

وكان النصر أولًا، وكانت الهزيمة ثانيًا وكان الانتصار الكبير فيها بعد النصر والهزيمة.. انتصار المعرفة الواضحة والرؤية المستنيرة للحقائق التي جلاها القرآن؛ واستقرار المشاعر على هذه الحقائق استقرار اليقين. وتمحيص النفوس، وتمييز الصفوف، وانطلاق الجماعة المسلمة- بعد ذلك- متحررة من كثير من غبش التصور، وتميع القيم، وتأرجح المشاعر، في الصف المسلم. وذلك بتميز المنافقين في الصف إلى حد كبير، ووضوح سمات النفاق وسمات الصدق، في القول والفعل، وفي الشعور والسلوك. ووضوح تكاليف الإيمان، وتكاليف الدعوة إليه والحركة به، ومقتضيات ذلك كله من الاستعداد بالمعرفة، والاستعداد بالتجرد، والاستعداد بالتنظيم، والتزام الطاعة والاتباع بعد هذا كله، والتوكل على الله وحده، في كل خطوة من خطوات الطريق، ورد الأمر إلى الله وحده في النصر والهزيمة، وفي الموت والحياة، وفي كل أمر وفي كل اتجاه.

وكانت هذه الحصيلة الضخمة التي استقرت في الجماعة المسلمة من وراء الأحداث، ومن وراء التوجيهات القرآنية بعد الأحداث، أكبر وأخطر- بما لا يقاس- من حصيلة النصر والغنيمة.. لو عاد المسلمون من الغزوة بالنصر والغنيمة.. وقد كانت الجماعة المسلمة إذ ذاك أحوج ما تكون لهذه الحصيلة الضخمة.. كانت أحوج إليها ألف مرة من حصيلة النصر والغنيمة. وكان الرصيد الباقي منها للأمة المسلمة في كل جيل أهم وأبقى كذلك من حصيلة النصر والغنيمة. وكان تدبير الله العلوي من وراء ما بدا في الموقعة من ظواهر النقص والضعف والتميع والغبش في الصف المسلم، ومن وراء الهزيمة التي نشأت عن هذه الظواهر.. كان تدبير الله العلوي من وراء هذا الذي وقع وفق سنة الله الجارية، حسب أسبابه الطبيعية الظاهرة، تدبيرًا كله الخير للجماعة المسلمة في ذلك الحين، لتنال هذه الحصيلة الضخمة من العبرة والتربية، والوعي والنضج، والتمحيص والتميز، والتنسيق والتنظيم. وليبقى للأمة المسلمة في أجيالها المتعاقبة هذا الرصيد من التجارب والحقائق والتوجيهات التي لا تقدر بثمن. ولو كان هذا الثمن هو النصر والغنيمة!

التعقيب القرآني على أحداث المعركة

لقد انتهت المعركة في ميدان الأرض، ليبدأها القرآن في ميدانها الأكبر: ميدان النفس، وميدان الحياة الشاملة للجماعة المسلمة.

وصنع بهذه الجماعة ما تصنعه يد الله، عن علم وعن حكمة، وعن خبرة، وعن بصيرة. وكان ما شاءه الله وما دبره. وكان فيه الخير العظيم، من وراء الضر والأذى والابتلاء الشاق المرير.

ولعل مما يلفت النظر في التعقيب القرآني على أحداث المعركة هو ذلك الازدواج العجيب بين استعراض مشاهدها ووقائعها، والتوجيهات المباشرة على هذه المشاهد والوقائع.. وبين التوجيهات الأخرى المتعلقة بتصفية النفوس، وتخليصها من غبش التصور، وتحريرها من ربقة الشهوات، وثقلة المطامع، وظلام الأحقاد، وظلمة الخطيئة، وضعف الحرص والشح. والرغبات الدفينة.

ولعل مما يلفت النظر أكثر، الكلام- في صدد التعقيب على معركة حربية- عن الربا والنهي عنه، وعن الشورى والأخذ بها، على الرغم مما كان للشورى من معقبات ظاهرية في النتائج السيئة للمعركة!

ثم.. سعة المساحة التي يعمل فيها المنهج القرآني في النفس البشرية، وفي الحياة الإنسانية، وتعدد نقط الحركة فيها، وتداخلها، وتكاملها العجيب..

إعداد وتعبئة الجماعة المسلمة للانتصار الكبير في كل الميادين

ولكن الذين يدركون طبيعة هذا المنهج الرباني لا يعجبون لشيء من ذلك الازدواج وهذه السعة، وهذا التداخل، وهذا التكامل. فالمعركة الحربية في الحركة الإسلامية ليست معركة أسلحة وخيل ورجال وعدة وعتاد، وتدبير حربي فحسب.. فهذه المعركة الجزئية ليست منعزلة عن المعركة الكبرى في عالم الضمير، وعالم التنظيم الاجتماعي للجماعة المسلمة.. إنها ذات ارتباط وثيق بصفاء ذلك الضمير، وخلوصه، وتجرده، وتحرره من الأوهاق والقيود التي تطمس على شفافيته، وتقعد به دون الفرار إلى الله! وكذلك هي ذات ارتباط وثيق بالأوضاع التنظيمية التي تقوم عليها حياة الجماعة المسلمة، وفق منهج الله القويم. المنهج الذي يقوم على الشورى في الحياة كلها- لا في نظام الحكم وحده- وعلى النظام التعاوني لا النظام الربوي. والتعاون والربا لا يجتمعان في نظام!

والقرآن كان يعالج الجماعة المسلمة، على إثر معركة لم تكن- كما قلنا- معركة في ميدان القتال وحده. إنما كانت معركة في الميدان الأكبر. ميدان النفس البشرية، وميدان الحياة الواقعية.. ومن ثم عرج على الربا فنهى عنه؛ وعرج على الإنفاق في السراء والضراء فحض عليه؛ وعرج على طاعة الله ورسوله فجعلها مناط الرحمة؛ وعرج على كظم الغيظ والعفو عن الناس، وعلى الإحسان والتطهر من الخطيئة بالاستغفار، والتوبة وعدم الإصرار؛ فجعلها كلها مناط الرضوان. كما عرج على رحمة الله المتمثلة في رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم ولين قلبه للناس. وعلى مبدأ الشورى وتقريره في أحرج الأوقات. وعلى الأمانة التي تمنع الغلول. وعلى البذل والتحذير من البخل في نهاية ما نزل في التعقيب على الغزوة من آيات..

عرج على هذا كله. لأنه مادة إعداد الجماعة المسلمة للمعركة في نطاقها الواسع؛ الذي يتضمن المعركة الحربية في إطاره ولا يقتصر عليها. معركة التعبئة الكاملة للانتصار الكبير.

الانتصار على النفس والشهوات والمطامع والأحقاد، والانتصار في تقرير القيم والأوضاع السليمة لحياة الجماعة الشاملة.

الانتصار في المعركة الحربية يسبقه انتصار في المعارك الشعورية والأخلاقية والنظامية

وإذن فهذه التوجيهات الشاملة ليست بمعزل عن المعركة. فالنفس لا تنتصر في المعركة الحربية إلا حين تنتصر في المعارك الشعورية والأخلاقية والنظامية، والذين تولوا يوم التقى الجمعان في أحد إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا من الذنوب. والذين انتصروا في معارك العقيدة وراء أنبيائهم هم الذين بدأوا المعركة بالاستغفار من الذنوب، والالتجاء إلى الله، والالتصاق بركنه الركين. والتطهر من الذنوب إذن والالتصاق بالله، والرجوع إلى كنفه من عدة النصر، وليست بمعزل عن الميدان! واطراح النظام الربوي. إلى النظام التعاوني من عدة النصر؛ والمجتمع التعاوني أقرب إلى النصر من المجتمع الربوي. وكظم الغيظ والعفو عن الناس من عدة النصر، فالسيطرة على النفس قوة من قوى المعركة، والتضامن والتواد في المجتمع المتسامح قوة ذات فاعلية كذلك.

حقيقة الانتصار في ميزان الله

ولا قيمة ولا وزن في نظر الإسلام للانتصار العسكري أو السياسي أو الاقتصادي؛ ما لم يقم هذا كله على أساس المنهج الرباني، في الانتصار على النفس، والغلبة على الهوى، والفوز على الشهوة.

وتقرير الحق الذي أراده الله في حياة الناس. ليكون كل نصر نصرًا لله ولمنهج الله. وليكون كل جهد في سبيل الله ومنهج الله. وإلا فهي جاهلية تنتصر على جاهلية. ولا خير فيها للحياة ولا للبشرية. إنما الخير أن ترتفع راية الحق لذات الحق. والحق واحد لا يتعدد. أنه منهج الله وحده. ولا حق في هذا الكون غيره. وانتصاره لا يتم حتى يتم أولًا في ميدان النفس البشرية. وفي نظام الحياة الواقعية. وحين تخلص النفس من حظ ذاتها في ذاتها، ومن مطامعها وشهواتها، ومن أدرانها وأحقادها، ومن قيودها وأصفادها. وحين تفر إلى الله متحررة من هذه الأثقال والأوهاق. وحين تنسلخ من قوتها ومن وسائلها ومن أسبابها، لتكل الأمر كله إلى الله، بعد الوفاء بواجبها من الجهد والحركة. وحين تحكم منهج الله في الأمر كله، وتعد هذا التحكيم هو غاية جهادها وانتصارها. حين يتم هذا كله يحتسب الانتصار في المعركة الحربية أو السياسية أو الاقتصادية انتصارًا في ميزان الله. وإلا فهو انتصار الجاهلية على الجاهلية، الذي لا وزن له عند الله ولا قيمة!

وقائع غزوة أحد

كان المسلمون قد انتصروا في بدر، ذلك الانتصار الكامل، الذي تبدو فيه- في ظل الظروف التي وقع فيها- رائحة المعجزة. وقد قتل الله بأيديهم أئمة الكفر ورءوسه من قريش. فرأس في قريش أبو سفيان بن حرب- بعد ذهاب أشرافهم في بدر- فأخذ يؤلب على المسلمين لأخذ الثأر. وكانت القافلة التي تحمل متاجر قريش قد نجت فلم تقع في أيدي المسلمين؛ فتآمر المشركون على رصد ما فيها من أموال لحرب المسلمين.

وقد جمع أبو سفيان قريبا من ثلاثة آلاف من قريش وأحلافهم والأحابيش وخرج بهم في شوال من السنة الثالثة للهجرة؛ وجاءوا معهم بنسائهم ليحاموا عنهن ولا يفروا. ثم أقبل بهم نحو المدينة، فنزل قريبًا من جبل أحد.

الاستشارة ثم العزم والمضي والتوكل على الله

واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه: أيخرج إليهم، أم يمكث في المدينة؟ وكان رأيه ألاَّ يخرجوا من المدينة، وأن يتحصنوا بها؛ فإن دخلوها قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة، والنساء من فوق البيوت. ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبي (رأس المنافقين) فبادرت جماعة كبيرة من الصحابة- ومعظمهم من الشبان ممن فاتهم يوم بدر- فأشاروا عليه بالخروج وألحوا عليه في ذلك. حتى بدا أن هذا هو الرأي السائد في الجماعة. فنهض صلى الله عليه وسلم ودخل بيته- بيت عائشة- رضي الله عنها- ولبس لأمته، وخرج عليهم، وقد انثنى عزم أولئك. وقالوا: أكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج! فقالوا: يا رسول الله، إن أحببت أن تمكث في المدينة فافعل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه.

وألقى عليهم بذلك درسًا نبويًا عاليا؛ فللشورى وقتها حتى إذا انتهت جاء وقت العزم والمضي والتوكل على الله. ولم يعد هناك مجال للتردد، وإعادة الشورى والتأرجح بين الآراء.. إنما تمضي الأمور لغاياتها ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء..

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى في منامه: أن في سيفه ثلمة، ورأى أن بقرًا تذبح، وأنه أدخل يده في درع حصينة.. فتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته. وتأول البقر بنفر من أصحابه يقتلون. وتأول الدرع بالمدينة.. وكان إذن يرى عاقبة المعركة. ولكنه في الوقت ذاته كان يمضي نظام الشورى، ونظام الحركة بعد الشورى.. لقد كان يربي أمة. والأمم تربى بالأحداث، وبرصيد التجارب الذي تتمخض عنه الأحداث.. ثم لقد كان يُمضي قدر الله، الذي تستقر عليه مشاعره، ويستقر عليه قلبه، فيمضي وفق مواقع هذا القدر، كما يحسها في قلبه الموصول..

انتفاء الخبث عن جيش المسلمين

وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف من أصحابه، واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بمن بقي في المدينة، فلما صار بين المدينة وأحد، انعزل رأس النفاق: عبد الله بن أبي بنحو ثلث العسكر. وقال: يخالفني ويسمع للفتية! فتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام- والد جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- يوبخهم ويحضهم على الرجوع. ويقول: تعالوا قاتلوا في سبيل الله، أو ادفعوا. قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع! فرجع عنهم وسبهم.

التجهيزات النبوية للمعركة

وسأله قوم من الأنصار أن يستعينوا بحلفائهم من يهود.. فأبى صلى الله عليه وسلم فالمعركة هي معركة الإيمان والكفر فما ليهود بها؟ والنصر من عند الله- حين يصح التوكل عليه وتتجرد القلوب له- وقال: «من رجل يخرج بنا على القوم من كثب؟» فخرج به بعض الأنصار حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي، وجعل ظهره إلى أحد، ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم.

فلما أصبح تعبأ للقتال في سبعمائة، فيهم خمسون فارسًا، واستعمل على الرماة- وكانوا خمسين – عبد الله بن جبير، وأمره وأصحابه أن يلزموا مركزهم، وألا يفارقوه ولو رأوا الطير تتخطف العسكر.

وكانوا خلف الجيش. وأمرهم أن ينضحوا المشركين بالنبل لئلا يأتوا المسلمين من ورائهم.

وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين. وأعطى اللواء مصعب بن عمير. وجعل على إحدى المجنبتين الزبير بن العوام، وعلى الأخرى المنذر بن عمرو. واستعرض الشبان يومئذ، فرد من استصغره عن القتال. وكان منهم عبد الله بن عمرو، وأسامة بن زيد، وأسيد بن ظهير، والبراء بن عازب، وزيد ابن أرقم، وزيد بن ثابت، وعرابة بن أوس، وعمرو بن حزام. وأجاز من رآه مطيقًا. وكان منهم سمرة بن جندب، ورافع بن خديج، ولهما خمس عشرة سنة!

وتعبأت قريش للقتال وهم في ثلاثة آلاف. وفيهم مائتا فارس. فجعلوا على ميمنتهم خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل.

ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه إلى أبي دجانة سماك بن خرشة. وكان شجاعًا بطلًا يختال عند الحرب.

تحقق نصر المسلمين أول النهار

وكان أول من بدر من المشركين أبو عامر الفاسق. وكان يسمى الراهب فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق. وكان رأس الأوس في الجاهلية. فلما جاء الإسلام شرق به، وجاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة، فخرج من المدينة، وذهب إلى قريش يؤلبهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحضهم على قتاله. ووعدهم بأن قومه إذا رأوه أطاعوه ومالوا معه. فكان أول من لقي المسلمين. فنادى قومه، وتعرف إليهم. فقالوا له: لا أنعم الله بك عينًا يا فاسق! فقال: لقد أصاب قومي بعدي شر! ثم قاتل المسلمين قتالًا شديدًا.

ولما نشب القتال أبلى أبو دجانة الأنصاري بلاء حسنًا. هو وطلحة بن عبيد الله، وحمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، والنضر بن أنس، وسعد بن الربيع..

وكانت الدولة أول النهار للمسلمين على الكفار؛ حيث قتل من هؤلاء سبعون من صناديدهم. وانهزم أعداء الله وولوا مدبرين. حتى انتهوا إلى نسائهم. وحتى شمرت النساء ثيابهن عن أرجلهن هاربات!

آثار مخالفة الرماة لأمر رسول الله

فلم رأى الرماة هزيمة المشركين وانكشافهم، تركوا مراكزهم التي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يبرحوها وقالوا: يا قوم، الغنيمة! الغنيمة! فذكرهم أميرهم عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسمعوا، وظنوا أن ليس للمشركين رجعة! فذهبوا في طلب الغنيمة، وأخلوا الثغر في أحد!

عندئذ أدركها خالد، فكّر في خيل المشركين، فوجدوا الثغر خاليًا فاحتلوه من خلف ظهور المسلمين. وأقبل المنهزمون من المشركين حين رأوا خالدًا والفرسان قد علوا المسلمين، فأحاطوا بهم!

وانقلبت المعركة، فدارت الدائرة على المسلمين، ووقع الهرج والمرج في الصف، واستولى الاضطراب والذعر، لهول المفاجأة التي لم يتوقعها أحد.

وكثر القتل واستشهد من المسلمين من كتب الله له الشهادة. وخلص المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أفرد إلا من نفر يعدون على الأصابع قاتلوا عنه حتى قتلوا. وقد جرح وجهه صلى الله عليه وسلم وكسرت سنه الرباعية اليمنى في الفك الأسفل. وهشمت البيضة على رأسه. ورماه المشركون بالحجارة حتى وقع لجنبه، وسقط في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق قد حفرها وغطاها! يكيد بها المسلمين. وغاصت حلقتان من حلق المغفر في وجنته.

إشاعة مقتل رسول الله وموقف أنس بن النضر

وفي وسط هذا الهول المحيط بالمسلمين صاح صائح: أن محمدًا قتل.. فكانت الطامة التي هدت ما بقي من قواهم، فانقلبوا على أعقابهم مهزومين هزيمة منكرة لا يحاولون قتالًا، مما أصابهم من اليأس والكلال!

ولما انهزم الناس لم ينهزم أنس بن النضر رضي الله عنه وقد انتهى إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار قد ألقوا بأيديهم! فقال: ما يجلسكم؟ فقالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استقبل المشركين ولقي سعد بن معاذ فقال: يا سعد واها لريح الجنة إني أجدها من دون أحد! فقاتل حتى قتل.. ووجد به بضع وسبعون ضربة. ولم تعرفه إلا أخته. عرفته ببنانه..

مصرع أبي بن خلف

فلما امتدوا صعودًا في الجبل أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بن خلف على جواد له اسمه العود. كان يطعمه في مكة ويقول: أقتل عليه محمدًا. فلما سمع بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بل أنا أقتله إن شاء الله» فلما أدركه تناول صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث وطعن بها عدو الله في ترقوته فذهب يخور كالثور. وقد أيقن أنه مقتول. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل! ومات بالفعل في طريق عودته!

حديث الكفر والإيمان بين أبي سفيان وعمر بن الخطاب

وأشرف أبو سفيان على الجبل فنادى: أفيكم محمد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تجيبوه» فقال: أفيكم ابن أبي قحافة؟ فلم يجيبوه. فقال: أفيكم عمر بن الخطاب؟ فلم يجيبوه. ولم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة.

فقال: مخاطبًا قومه: أما هؤلاء فقد كفيتموهم. فلم يملك عمر رضي الله عنه نفسه أن قال: يا عدو الله. إن الذين ذكرتهم أحياء. وقد أبقى الله لك ما يسوؤك! فقال: قد كان في القوم مثلة، لم آمر بها ولم تسؤني! (يشير بذلك إلى ما صنعته زوجه هند بجثمان حمزة رضي الله عنه بعد أن قتله وحشي. حين بقرت بطنه، واستخرجت كبده. فلاكتها ثمّ لفظتها!).

ثم قال: اعلُ هُبل! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا تجيبونه؟» قالوا: بماذا نجيبه؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل. قال: لنا العزى ولا عزى لكم! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تجيبونه؟ قالوا: بماذا نجيبه؟ قال: قولوا: «الله مولانا ولا مولى لكم». قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر والحرب سجال. فقال عمر رضي الله عنه: لا سواء. قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.

حمراء الأسد ودور معبد بن أبي معبد الخزاعي

ولما انقضت المعركة انصرف المشركون، فظن المسلمون أنهم قصدوا المدينة لسبي الذراري وإحراز الأموال. فشق ذلك عليهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه «أخرج في آثار القوم، فانظر ماذا يصنعون، وماذا يريدون. فإن هم جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة. وإن كانوا ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة. فوالذي نفسي بيده لو أرادوها لأسيرن إليهم ثم لأناجزهم فيها».

قال علي: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون. فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل، ووجهوا مكة.

فلما كانوا في بعض الطريق تلاوموا فيما بينهم، وقال بعضهم: لم تصنعوا شيئًا، أصبتم شوكتهم وحدهم، ثم تركتموهم وقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم. فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم.. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى في الناس، وندبهم إلى المسير إلى لقاء عدوهم وقال: «لا يخرج معنا إلا من شهد القتال». فقال له عبد الله بن أبي: أركب معك. قال: «لا» فاستجاب له المسلمون على ما بهم من الجرح الشديد والخوف؛ وقالوا: سمعًا وطاعة. وأستأذنه جابر بن عبد الله. وقال: يا رسول الله إني أحب ألا تشهد مشهدًا إلا كنت معك، وإنما خلفني أبي على بناته يوم أحد، فأذن لي أسير معك، فأذن له، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه حتى بلغوا حمراء الأسد؛ وأقبل معبد بن أبي معبد الخزاعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن يلحق بأبي سفيان فيخذّله، فلحقه بالروحاء، ولم يعلم بإسلامه، فقال: وما وراءك يا معبد؟ فقال: محمد وأصحابه قد تحرقوا عليكم، وخرجوا في جمع لم يخرجوا في مثله، وقد ندم من كان تخلف عنهم من أصحابهم.

فقال: ما تقول؟ فقال: ما أرى أن ترتحل حتى يطلع الجيش وراء هذه الأكمة! فقال أبو سفيان: والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم. قال: فلا تفعل فإني لك ناصح! فرجعوا على أعقابهم إلى مكة.

ولقي أبو سفيان بعض المشركين يريدون المدينة؛ فقال: هل لك أن تبلغ محمدًا رسالة، وأوقر لك راحلتك زبيبًا إذا أتيت إلى مكة؟ قال: نعم. قال: أبلغ محمدًا أنا قد جمعنا الكرة لنستأصله ونستأصل أصحابه. فلما بلغهم قوله قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل. ولم يفت ذلك في عضدهم. وأقاموا ثلاثة أيام ينتظرون. ثم عرفوا أن المشركين أبعدوا في طريقهم إلى مكة منصرفين فعادوا إلى المدينة..

حياة خير البرية وأصحابه نموذج عملي للتضحيات

كان عمرو بن قميئة من المشركين الذين خلصوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أفرد في فترة اضطراب المعركة، عقب تخلي الرماة عن أماكنهم، وإحاطة الكفار بالمسلمين، والصيحة بأن محمدًا قتل، وما صنعته في صفوف المسلمين وعزائمهم.

 وفي هذه الغمرة التي يطيش فيها الحليم كانت أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية تقاتل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتالًا شديدًا. وقد ضربت عمر بن قميئة بسيفها ضربات عدة، ولكن وقته درعان كانتا عليه. وضربها هو بالسيف فجرحها جرحًا شديدًا على عاتقها..

 وكان أبو دجانة يترّس بظهره على النبي صلى الله عليه وسلم والنبل يقع فيه، وهو لا يتحرك، ولا يكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 وكان طلحة بن عبيد الله يثوب سريعًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقف دونه وحده، حتى يصرع..

 في صحيح ابن حبان عن عائشة قالت: قال أبو بكر الصديق: لما كان يوم أحد، انصرف الناس كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم فكنت أول من فاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرأيت بين يديه رجلًا يقاتل عنه ويحميه. قلت: كن طلحة! فداك أبي وأمي! كن طلحة! فداك أبي وأمي! فلم أنشب أن أدركني أبو عبيدة بن الجراح. وإذا هو يشتد كأنه طير، حتى لحقني، فدفعنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا طلحة بين يديه صريعًا. فقال صلى الله عليه وسلم: «دونكم أخاكم فقد أوجب» وقد رُمي النبي صلى الله عليه وسلم في وجنته، حتى غابت حلقة من حلق المغفر في وجنته. فذهبت لأنزعها عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو عبيدة: نشدتك الله يا أبا بكر إلا تركتني! قال: فأخذ أبو عبيدة السهم بفيه، فجعل ينضنضه كراهة أن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استل السهم بفيه، فندرت ثنية أبي عبيدة. قال أبو بكر: ثم ذهبت لآخذ الآخر، فقال أبو عبيدة: نشدتك الله يا أبا بكر إلا تركتني! قال: فأخذه، فجعل ينضنضه حتى استله، فندرت ثنية أبي عبيدة الأخرى.. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دونكم أخاكم فقد أوجب» قال: فأقبلنا على طلحة نعالجه. وقد أصابته بضع عشرة ضربة.

 وجاء علي- كرم الله وجهه- بالماء لغسل جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يصب الماء على الجرح، وفاطمة- رضي الله عنها- تغسله. فلما رأت أن الدم لا يكف، أخذت قطعة من حصير، فأحرقتها، فألصقتها بالجرح فاستمسك الدم.

 وقد مصّ مالك والد أبي سعيد الخدري جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنقاه. فقال له: «مجه» فقال: والله لا أمجه أبدًا! ثم ذهب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا».

 وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش. فلما رهقوه قال: «من يردهم عني وله الجنة؟» فتقدم رجل من الأنصار، فقاتل حتى قتل. ثم رهقوه فقال: «من يردهم عني وله الجنة وهو رفيقي في الجنة» فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما انصفنا أصحابنا» ثم جالدهم طلحة حتى أجهضهم عنه، وترس عليه أبو دجانة بظهره كما أسلفنا، حتى انجلت الكربة.. وقد بلغ الإعياء برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وهو يصعد الجبل والمشركون يتبعونه أراد أن يعلو صخرة فلم يستطع لما به، فجلس طلحة تحته حتى صعدها. وحانت الصلاة. فصلى بهم جالسًا.

مواقف مضيئة للصحابة رضي الله عنهم

 إن حنظلة الأنصاري (الملقب بحنظلة الغسيل) شد على أبي سفيان، فلما تمكن منه حمل على حنظلة شداد ابن الأسود فقتله. وكان جنبًا. فإنه لما سمع صيحة الحرب وهو مع امرأته، قام من فوره إلى الجهاد. فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن الملائكة تغسله. ثم قال: «سلوا أهله ما شأنه؟» فسألوا امرأته، فأخبرتهم الخبر!

 وقال زيد بن ثابت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أطلب سعد بن الربيع. قال: فجعلت أطوف بين القتلى، فأتيته وهو بآخر رمق، وبه سبعون ضربة، ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم.

فقلت: يا سعد. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليك السلام، ويقول لك: أخبرني كيف تجدك؟ فقال: وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام. قل له: يا رسول الله أجد ريح الجنة. وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن خُلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف. وفاضت نفسه من وقته.

 ومر رجل من المهاجرين برجل من الأنصار، وهو يتشحط في دمه، فقال: يا فلان. أشعرت أن محمدًا قد قتل؟ فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم.

 وقال عبد الله بن عمرو بن حرام: رأيت في النوم، قبل أُحد، مبشر بن عبد المنذر يقول لي: أنت قادم علينا في أيام. فقلت. وأين أنت؟ فقال: في الجنة، نسرح فيها حيث نشاء. قلت له ألم تقتل يوم بدر؟ فقال: بلى. ثم أحييت. فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «هذه الشهادة يا أبا جابر».

 وقال خيثمة- وكان ابنه قد استشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: لقد أخطأتني وقعة بدر، وكنت والله عليها حريصًا، حتى ساهمت إبني في الخروج، فخرج سهمه، فرزق الشهادة. وقد رأيت البارحة ابني في النوم في أحسن صورة، يسرح في ثمار الجنة وأنهارها يقول: الحق بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدت ما وعدني ربي حقًا. وقد- والله يا رسول الله- أصبحت مشتاقًا إلى مرافقته في الجنة. وقد كبرت سني، ورق عظمي، وأحببت لقاء ربي. فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة، ومرافقة سعد في الجنة. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. فقتل بأحد شهيدًا.

 وقال عبد الله بن جحش في ذلك اليوم: اللهم إني أقسم عليك أن ألقى العدو غدًا فيقتلوني ثم يبقروا بطني ويجدعوا أنفي وأذني. ثم تسألني فيم ذلك؟ فأقول: فيك!

 وكان عمرو بن الجموح أعرج شديد العرج وكان له أربعة بنين شباب يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا. فلما توجه إلى أحد أراد أن يتوجه معه فقال له بنوه: إن الله قد جعل لك رخصة، فلو قعدت ونحن نكفيك! وقد وضع الله عنك الجهاد. فأتى عمرو بن الجموح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله. إن بنيّ هؤلاء يمنعونني أن أخرج معك. والله إني لأرجو أن استشهد فأطأ بعرجتي هذه في الجنة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد».

وقال لبنيه: «وما عليكم أن تدعوه؟ لعل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة؟». فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل يوم أحد شهيدًا.

 وفي مضطرب المعركة نظر حذيفة بن اليمان إلى أبيه والمسلمون يريدون قتله لا يعرفونه وهم يظنونه من المشركين. فقال حذيفة: أي عباد الله أبي. فلم يفهموا قوله حتى قتلوه. فقال: يغفر الله لكم. فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤدي ديته. فقال حذيفة: قد تصدقت بديته على المسلمين. فزاد ذلك حذيفة خيرًا عند رسول الله.

مصاب رسول الله والصحابة في حمزة بن عبد المطلب

وقال وحشي غلام جبير بن مطعم يصف مصرع حمزة سيد الشهداء في هذه الغزوة: قال لي جبير: إن قتلت حمزة عم محمد فأنت عتيق. قال: فخرجت مع الناس. وكنت رجلًا حبشيًا أقذف بالحربة قذف الحبشة قلما أخطئ بها شيئًا. فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة وأتبصره حتى رأيته كأنه الجمل الأورق يهد الناس بسيفه هدا ما يقوم له شيء. فوالله إني لأتهيأ له أريده وأستتر منه بشجرة أو بحجر ليدنو مني. إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزى فلما رآه حمزة ضربه ضربة كأنما اختطف رأسه فهززت حربتي حتى إذا رضيت عنها دفعتها عليه فوقعت في ثنته (أحشائه) حتى خرجت من بين رجليه. وذهب لينوء نحوي فغلب. وتركته وإياها حتى مات. ثم أتيته فأخذت حربتي ورجعت إلى المعسكر فقعدت فيه. إذ لم تكن لي بغيره حاجة. إنما قتلت لأعتق..

وقد جاءت هند بنت عتبة زوج أبي سفيان، فبقرت بطن حمزة، وأخرجت كبده، ولاكتها فلم تقدر عليها. فألقتها..

ولما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد المعركة على جثمان حمزة رضي الله عنه تأثر تأثرًا شديدًا. وقال صلى الله عليه وسلم: «لن أصاب بمثلك أبدًا. وما وقفت قط موقفًا أغيظ إلي من هذا». ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكلت شيئًا؟» قالوا: لا. قال: «ما كان الله ليدخل شيئًا من حمزة في النار».

وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفن شهداء أحد في مصارعهم ولا ينقلوا إلى مقابر المدينة. وكان بعض الصحابة قد نقلوا قتلاهم. فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم برد القتلى إلى مصارعهم فردوا. ووقف- صلوات الله وسلامه عليه- يدفن الرجلين والثلاثة في اللحد الواحد. وكان يسأل: أيهم أكثر أخذًا في القرآن؟ فإذا أشاروا إلى رجلَ قدمه في اللحد. ودفن عبد الله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح في قبر واحد لما كان بينهما من المحبة.

فقال: «ادفنوا هذين المتحابين في الدنيا في قبر واحد».

غزوة أحد في كلمات

هذه بعض اللقطات من المعركة التي تجاور فيها النصر والهزيمة لا تفرق بينهما إلا لحظة من الزمان وإلا مخالفة عن الأمر وإلا حركة من الهوى وإلا لفتة من الشهوة! والتي تجاورت فيها القيم العالية والسفوح الهابطة! والنماذج الفريدة في تاريخ الإيمان والبطولة وفي تاريخ النفاق والهزيمة!

وهي مجموعة تكشف عن حالة من عدم التناسق في الصف حينذاك كما تكشف عن حالة من الغبش في تصورات بعض المسلمين.. وهذه وتلك أنشأت- وفق سنة الله وقدره- هذه النتائج التي ذاقها المسلمون؛ وهذه التضحيات الجسام التي تتراءى على قمتها تلك التي أصابت رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي لا شك أن الصحابة حين ذاك كانوا يحسونها بعمق وعنف ويرونها أشد ما نالهم من الآلام. وقد دفعوا الثمن غاليًا ليتلقوا الدرس عاليًا وليمحص الله القلوب ويميز الصفوف وليعد الجماعة المسلمة للمهمة العظمى التي ناطها بها: مهمة القيادة الراشدة للبشرية وإقرار منهج الله في الأرض في صورته المثالية الواقعية..

المصدر

في ظلال القرآن تفسير سورة آل عمران.

اقرأ أيضا

غزوة بدر الكبرى.. وقفات وتأملات

معركة القادسية وزوال الإمبراطورية الفارسية

معركة شَقحَب أو معركة مَرْج الصُّفَّر

شيوع القتل.. الدواعي والعلاج

 شيوع القتل.. الدواعي والعلاج

د. عطية عدلان

أكاديمي- أستاذ الفقه الإسلامي

مدير مركز «محكمات» للبحوث والدراسات – اسطنبول

لم تكن بلادُنا في يوم من الأيام مرتعًا للجريمة، ولم تكن شعوبُنا موضوعةً تحت المرصد الذي يحصي أعداد الجرائم النوعية الشاذة التي تشيع بكثرة في المجتمعات المعاصرة،

كانت وما زالت بلادُنا وشعوبُنا تُسَجِّل أرقامًا قياسية في كل الدواهي التي تقع عليها،

كالجهل والمرض والفقر وغير ذلك مما لا ذنب لها فيه غالبًا، أمّا “الجريمة الشعبية” فهي -بالنسبة لما يجري في دول العالم بما فيها أمريكا وأوربا- قليلة وضئيلة، فما الذي تَغَيّر؟

حتى غَدَوْنا نَفْرِكُ أَعْيُنَنَا كل صباح على فاجعة تقصم الظهور؟!

فمن فتاة المنصورة التي قتلها زميلُها في وضح النهار برصاصات أطلقها عليها كأنّه يَتَعَلَّم فَنَّ التصويب،

إلى طالبة الأردن التي قتلها زميلُها أيضًا بالبرود ذاته، إلى فتاة الصعيد التي قتلها أخوها منذ أيام بِسِكِّينِهِ.

ظاهرة مخيفة

هذا اللون الجديد من ممارسة «القتل النوعيّ» لا تكفي الخلفيات العدائية لتفسيره واستكناه فلسفته،

لذلك تبرز «روح الإجرام» التي لم تكن موجودة من قبل، وتتصدر قائمة التفسيرات المحتملة لكل جريمة من هذه الجرائم،

فإنّه لمن المخيف حقًا أن نرى الأخَ يقتل أخته لخلافات عائلية،

والطالبَ يقتل زميلته لمناوشات عاطفية،

والزوجَ يقتل زوجته والزوجةَ تقتل زوجها، إنّه لون من القتل غريب ومزعج،

كما هو الحال في زنا المحارم وسائر ألوان الشذوذ، وسبب الخوف والانزعاج ليس فقط كثرة هذه الحوادث وتتابعها،

وإنّما السبب الأكبر هو فلسفة القتل، وكونه خلوًا من أيّ مبرر يمكن أن نفسر به عملية القتل ثم نجلس ونقول: هذا يفسر ولا يبرر.

هذه الظاهرة تمضي معها على التوازي ظاهرة أخرى تشاركها في كثير من خصائصها المزعجة تلك،

لذلك قد تساعدنا في الوصول إلى الأسباب الواقعية التي تقبع وراء الظاهرتين معًا ووراء كثير من المآسي التي يعانيها المجتمع،

والتي توشك هي الأخرى أن تُتَرْجَمَ في انحرافات أخلاقية وسلوكية، لا ندري إلى أيّ مدىً في الضياع تذهب بنا وبمجتمعاتنا، هذه الظاهرة هي ظاهرة الانتحار،

والانتحار جريمةٌ يرتكبها الشخص في حق نفسه، ولكنّها في نظر الشريعة الإسلامية كبيرة مغلظة، قد ترتقي إلى الكفر إذا تلبست باعتقاد فاسد كالسخط على قدر الله،

وسبب تحريمها أنّ نفس الإنسان ليست مملوكة له ليتصرف فيها بالإهدار بلا مسوغ شرعيّ،

كما أنّ الشريعة تدفع في اتجاه استدامة الحياة واستدامة الأمل، إلى حدّ أنّ المسلم إذا قامت الساعة وفي يده «فسيلة» فعليه أن يغرسها.

أسباب الظاهرة

لا ريب أنّ غيابَ الخطاب الشرعيّ وتَغْييبَ مصادره يتصدر الأسباب التي تكمن وراء هذه الجريمة وغيرها من الجرائم والانحرافات التي توشك أن تلتهم المجتمع،

ولا يخفى على أحد كيف يتم تجفيف منابع الدعوة والتربية، وكيف يحاصر المسجد وتصادر رسالته الإصلاحية،

وكيف يضَيَّق على الأزهر حتى صار يشتغل بالدفاع عن نفسه،

وكيْف يطَارَدُ ويلاحق كل داعية حرّ يأبى أن يدخل تحت هيمنة المنظومة الحاكمة،

وكيفَ يتم العدوان على ثوابت الدين ومحكماته باسم التجديد،

وكيْف تقدم النماذج السيئة من أمثال البلطجية الذين يمارسون الطرب.

لكنّ هذا السبب ليس هو السبب الوحيد ولا السبب الأكبر،

فلقد مرّ المجتمع المسلم في جميع بلادنا العربية والإسلامية بمثل هذا كثيرًا،

ولم يحدث له ما حدث ولم يَجْرِ له ما جرى، فهناك أسباب أعظم ضررًا وأبعد خطرًا،

ويأتي على رأس هذه الأسباب «الفراغ النفسي» بمعنى أنّ هذا الجيل يعيش بلا قضية،

وأخطر ما تتعرض له الشعوب أن تعيش بلا قضية، لذلك يُعَدُّ من أسباب نجاح الحكومات أن تجعل للجيل قضية ولو بالانتحال،

أمّا أن يكون سلوك الحكومات يميت الشعور بالقضايا التي تثقل أوطاننا،

ويصيب النفوس بالتبلد تجاه القضايا العامّة،

فإنّ هذا من شأنه أن يخلق في جوف كل إنسان قضية يشتغل بها، لا علاقة لها بعقل ولا شرع ولا ميزان.

العدمية المزدوجة

ولعل من الأسباب أيضًا تلك «العدمية المزدوجة»؛ فإنّ الشعوب إذا عدمت العيش الكريم ولم تعدم الأمل العظيم فإنّها تستمد من هذا الأمل سببًا لاستمرارها،

أمّا إذا عدمت المال والآمال فتلك عدمية مزدوجة لا تبقي للحياة قيمة في الحال ولا في المآل،

ولا يرى المرء بسببها فرقًا بين الحياة والممات، فيستخف بحياته وبحياة غيره، وترخص عنده النفس التي لا تقَيَّمُ بِفِلْس،

وليس يخفى على أحد -قارئًا كان أو أمّيًّا- الجهة التي تأتي منها هذه العدمية النكدة.

وثَمَّ عدمية مزدوجة أخرى هبطت على الشعوب من الجهة ذاتها، وهي انعدام الشعور بقيمة النفس مع انعدام المعرفة الشرعية بحرمة هذه النفس،

فلأنّ الحكومات تستسيغ القتل وتستمرئ التعذيب، ولأنّ المواطن لا يأمن على نفسه ولو كان في يوم من أيام دهره عبدًا لها،

فإنّه يعدم الشعور بقيمة النفس والمعرفة بحرمة هذه النفس، ومن هنا يسهل عليه قتل نفسه وقتل غيره.

أين السبيل؟

لا سبيل لإنقاذ مجتمعاتنا وعلاج هذه الانحرافات الخطرة قبل أن تتفاقم وتَعْتَاصَ على الحل إلا بأن يتحرك أصحاب الهمم العالية

الذين جعلهم الله في الإنسانية كالغدد الصماء في جسد الإنسان، وأن يحيوا الأمل في نفوس الناس،

وأن يبددوا اليأس الذي أطبق على قلوبهم، وأن يمنحوا الشعوب ثقة ببعث القضايا الكبرى في نفوسهم، وأن يجددوا الخطاب الشرعي المعتدل،

ويتوجهوا به إلى الشعوب، وإنّ لهم -إن فعلوا ذلك- أن يمدهم الله بقوىً ثلاثةٍ تتحرك تلقائيًا إذا تحرّك الكبار،

الأولى: القوة الذاتية التي يتميّز بها الخطاب الشرعي الصحيح المعتدل،

الثانية: الفطرة السوية التي فطر الله العباد عليها،

الثالثة: الطاقة السحرية التي لا تغيب إلا إذا غابت القيادة الرشيدة، طاقة «إيمان العوام».

 


د. عطية عدلان

أكاديمي- أستاذ الفقه الإسلامي

مدير مركز «محكمات» للبحوث والدراسات – اسطنبول