الأربعاء، 30 يونيو 2021

هكذا انتصر أردوغان على العلمانية في تركيا

 هكذا انتصر أردوغان على العلمانية في تركيا

حمزة تكين

يكرس الدستور التركي الذي وضع عام 1981، العلمانية وذلك في المواد الثلاثة الأولى منه، وهي المواد التي يجب عدم المساس بها وفق المادة الرابعة من الدستور.

وللعلمانية مفاهيم وتفسيرات متعددة هنا وهناك، تكاد أن تكون محاربة كاملة للدين وفصله بسلبية كبيرة عن الدولة، وهذا ما كان واقعا في تركيا خلال العقود الماضية.

حيث كانت العلمانية بمفهومها الغربي، غطاء لمحاربة الدين والمتدينين وسلخ المجتمع المسلم عن تاريخه الإسلامي المشرف.. حتى أتى حزب العدالة والتنمية ومؤسسه رجب طيب أردوغان بمفهوم جديد للعلمانية استطاع أن يقتلع هذا الغطاء ويبدأ مسيرة إعادة الأصل لأصله.

حقيقة، إن المفهوم الجديد للعلمانية الذي أتى به حزب العدالة والتنمية وبالتحديد مؤسس الحزب رجب طيب أردوغان لا يتعارض مع أصول الإسلام، بل يحمي هذه الأصول من أن تكون أداة سياسية لخدمة السلطة، أو من أن يكون لأي سلطة استبدادية توجهات تحارب من خلالها الإسلام وتقمع أهله.

مفهوم العلمانية الذي أتى به أردوغان، مخالف كليا لمفهوم العلمانية في الغرب، والذي تحكم بتركيا لعقود ماضية.. نعم الكلمة نفسها ولكن بمفهومين مختلفين.

مفهوم العلمانية لدى حزب العدالة والتنمية وبالتحديد وأردوغان هي معيشة كل المجموعات الدينية والفكرية بالطريقة التي يريدونها وقولهم لأفكارهم كما يؤمنون بها، وقيام الدولة بتأمين كل المعتقدات.

وضمن هذا المفهوم، فإن الأفراد لا يمكن أن يكونوا علمانيين، فقط الدولة يمكن أن تكون علمانية أي ترفع من مفهوم التسامح مع المعتقدات كافة والوقوف على مسافة واحدة من المعتقدات كافة.

ماذا يعني هذا الأمر، أن الأفراد لا يمكن أن يكونوا علمانيين، فقط الدولة يمكن أن تكون علمانية.. أي أنه من حق الفرد في الدولة أن ينتسب لأي دين أو أي معتقد أو أي فكر أو أي توجه، فمن حقه أن يقول أنا مسلم أو مسيحي أو يهودي، ولا يحق له أن يقول أنا علماني لأن العلمانية ليست دينا أو معتقدا، إنما هي جزء من منظومة الحكم، وهي شأن خاص بالدولة تحترم من خلاله كافة معتقدات الآخرين.

نعم.. في ظل العلمانية المتطرفة الرافضة للدين وأصوله، والتي كانت تحكم تركيا، ومازالت بعض آثارها موجودة حتى اليوم، كان لابد من ذكاء وهدوء بمواجهتها بعيدا عن العواطف والتسرع والانسياق للشعارات الرنانة، فأتت فئة من المجتمع التركي أبقت على الكلمة بكل حروفها، ولكنها غيرت مفهومها.

وبالفعل نجح نموذج حزب العدالة والتنمية تجاه العلمانية، في حين فشلت نماذج أخرى، فهو لم يستخدم العنف ولم يستخدم مفهوم قمع الآخر كما فعل الكثيرون هنا وهناك.. وفشلوا في نهاية المطاف، بل أصبحوا منبوذين في مجتمعاتهم.

من يراجع التاريخ يجد أن العلمانية بمفهومها المتطرف الغربي، أتت ردا على هيمنة الكنيسة على السلطة في الغرب، ولم تكن هذه الهيمنة هيمنة إيجابية على الإطلاق، فأتت العلمانية متطرفة كارهة لكل ما هو ديني، ونجحت فعلا بفصل الدولة عن سلطة الدين.

أما مفهوم العلمانية التي أتى بها أردوغان وحزبه فهي تحرير الدين من سلطة الدولة.. أي العكس تماما لما قامت به العلمانية الغربية.

فنزع هذا المفهومُ أي سلطة للدولة تستغلها لمحاربة الدين، خاصة الإسلام، وحفظ أيضا استغلال السلطة للدين وأصوله.

يمكن القول أيضا إن هذا المفهوم أعاد الدين إلى الحياة بعد أن كان محاربا مضطهدا ملاحقا، يسجن علماؤه ويتم الانقلاب على سياسييه، كما يحصل اليوم في بعض دول الشرق الأوسط تماما..
هكذا كانت تركيا سابقا مع المفهوم المتطرف للعلمانية، حتى جاء حزب العدالة والتنمية وأوقف هذا المفهوم السلبي المضر بالمجتمعات، وأحيا مفهومه الجديد، الذي تمكن من خلاله وبالحكمة والهدوء من إعادة الدين للحياة من جديد.

ليس المصطلح هو المهم، بل مضمونه، وخاصة في هذا العالم الظالم أهله وقوانينه الظالمة.. وما يجب أن يكون معايير رفض أو قبول هذا المضمون، هو مقاصد التشريع الإسلامي.

فإن وافق مقاصد التشريع فهو مقبول، وإن خالف هذه المقاصد فهو مرفوض.

يعني، مفهوم العلمانية الذي قدمه أردوغان (في ظل الظروف العصبة والحساسة والخطيرة في تركيا). هل وافق أو خالف مقاصد الشريعة؟!

في ظل التربص بالنهضة التركية الجديدة، لابد من حنكة وذكاء بالتعامل مع كل المتربصين، داخليا وخارجيا، فأبقى أهل الفهم والعقل المصطلحات، ولكن غيروا مفاهيمها بما تبدأ بالتطابق مع مقاصد الشريعة الإسلامية.. لماذا الشريعة الإسلامية بالتحديد؟؟
لأن الشعب 99% من الشعب التركي مسلم.

أليس من مقاصد الشريعة الإسلامية أن تكون الدولة الحاكمة عادلة تجاه رعاياها لأي دين أو معتقد انتموا.

أليس من مقاصد الشريعة الإسلامية أن تكون الدولة الحاكمة تحترم كل رعاياها بغض النظر عن دينهم أو فكرهم أو معتقدهم.

أليس من مقاصد الشريعة الإسلامية ألا تكون الدولة الحاكمة قامعة للحريات وخاصة الدينية منها.

وهذا هو مفهوم العلمانية التي جاء بها حزب العدالة والتنمية وأردوغان في وقت كانت فيه العلمانية المتطرفة تقمع كل هذه المفاهيم الإيجابية.

مفهوم لا يعادي الدين ولا يصادر الحريات الدينية.. أوليس هذا ما جاء به الإسلام من السلام والتعايش مع الأديان والمذاهب الموجودة في بلاد المسلمين، وكل هذه القيم موجودة في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.

وهذا ما أتى به حزب العدالة والتنمية وأردوغان من مفهوم جديد للعلمانية أن تعيش كل المجموعات الدينية والفكرية بالطريقة التي يريدونها، والتعبير عن أفكارهم كما يؤمنون بها، وقيام الدولة بتأمين كل المعتقدات، والاجتهاد بتأمين مصالح الناس بما لا يتعارض مع أسس الدين.

العالم محكوم اليوم بنظم علمانية متطرفة وسياسات ظالمة لا تهتم لا بإنسانية ولا بحقوق إنسان ولا بدين ولا بأخلاق.. لذلك فإن المسلم الساعي للعمل الطيب العادل التنموي في هذا العالم عليه أن يكون حكيما هادئا ذكيا غير متسرع وغير مندفع لعواطفه، يعرف متى يضرب ومتى يتقدم ومتى يتراجع ومتى يتكلم ومتى يسكت، وذلك كي يتمكن من تحقيق ما يريد وما أتت به الشريعة الإسلامية.

رغم كل ظلم العالم للإنسانية والأديان والأخلاق.. مازال هناك بصيص أمل وصورة نجاح نشهدها بأم أعيننا فلا داعي لفقدان الأمل ولا داعي لليأس

لقاء مع الدكتور محسن العواجي

دكتور محسن العواجي ضيف مع 

  الدكتور عزام التميمي ..

مراجعات



تم تسجيل هذه الحلقة عــ 2008ــام

ذات صلة

الدكتور محسن العواجي ضيف برنامج في الصميم مع عبدالله المديفر

انتشار “الكورونا” .. وإنكار القانون الأساس للعالَم

 انتشار “الكورونا” .. وإنكار القانون الأساس للعالَم

لا يزال انتشار وباء فيروس “كورونا” مستمرا، ولا يزال فزع العالَم منه قائما؛ يتحسس الناس فوت اللذات وذهاب الدنيا وهم ينسون سنة الله التي أجراها في عباده.

مقدمة

يحترم الناس قوانين الطبيعة والفيزياء والكيمياء ويبنون عليها حضارتهم المادية؛ لكنهم يرفضون الاعتراف بالقانون الأعظم الذي يسير عليه العالَم، ويتنكّرون له.

وهذا القانون هو ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِه﴾ (النساء: 123)وهو أثر لخلق السماوات والأرض بالحق، ولحقيقة ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ (القيامة: 36)وبالتالي المسؤولية عن الأفعال.

ومن ثم تبدو الحقيقة أنه مع كل عمل مسؤولية، ومع كل تفريط أو ذنب عقوبة مقترنة..

فمع كل افتراء على الله أو كذب عليه أو على خلقه عقوبة مقترنة، ومع كل تفريط في الأعراض أو دياثة عقوبة مقترنة، ومع اللذة المحرمة عقوبة مقترنة، ومع كل كِبر عقوبة مقترنة، ومع كل تفريط عقوبة مقترنة، ومع كل استهتار عقوبة مقترنة، ومع كل تشويه لبريء وظلم له؛ عقوبة.. وهكذا.

وهذه العقوبة لا تحددها أنت، ولا يحددها المجتمع، ولا تحددها الحضارة الغربية، ولا الجاهلية المعاصرة؛ بل يحددها رب العالمين فهو الملك ونحن عبيده، وتلك أفعالنا ومسؤولياتنا.

ولا يملك الناس رفاهية أن يتعدوا حدود الله أو يتنكروا لشرعه أو يضيعوا حقوقه، ثم يرفضون العقوبة المقترنة أو يتصورون أنها لا تكون..! هذا وهْم.

فالقاعدة هي المسؤولية عن الأفعال. فإذا نلت ما حرم الله وارتكبت أو تعديت حدوده أو تركت ما أمر؛ وتريد أن تأخذ هذا الجانب دون عقوبته فأنت تعاند القانون الأساس الذي قام عليه العالَم. وهذا ليس لك؛ بل عليك العمل، ولله تعالى الحكم والعقوبة، ولذا قال المتحسّرون في الآخرة ﴿إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ﴾ (غافر: 48). فالحكم لله تعالى لا لأحد من دونه.

هكذا إذن؛ إن الحياة جادة. والقوانين التي أجرى الله عليها العالم في شأن حقه تعالى ووظيفة العبودية التي خلق الناس من أجلها هي قوانين حق، وسنة قائمة لا تبديل لها، وهي سنة دقيقة دقة ما تراه من المعادلات الكيميائية ومسلَمات الفيزياء التي تبني عليها الحضارة المعاصرة.

فعلى المستوى الفردي؛ إن أعرضت عن ذكر الله كانت المعيشة الضنك، وإذا تكبرت عاقبك بالصَغار والهوان، وإذا حقدت أو حسدت أكلا قلبك، وإذا فحُشت افتقرت.. وغير ذلك مما ارتبطت فيه العقوبة بالمخالفة والجريمة أو بالتضييع والتفريط.

وعلى المستوى الجماعي فكما أخبر سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأمم:

إذا انتشرت الفواحش وأصبح التعري قاعدة للحياة وعلّموا الأولاد الصِغار “حق الشذوذ..!” وسرَت الدياثة في الرجال ـ إن افترضنا كونهم رجالا..! ـ انتشرت الأوبئة والطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم؛ فكان “الزهري” و”السيلان” و”الإيدز” و”سارس” ثم “كورونا”، وإن لم ينتهوا سيأتي جديد.

وإذا منعوا الزكاة والصدقة ولم يصبحا نظاما عاما تقوم عليه الدولة بجندها وعمالها وروعي الفقير؛ عوقبوا بمنع القَطر من السماء وجف النيل وتحكم أوباش الأرض في شريان الحياة لأرض الكنانة.

ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله وخانوا العهود وتراجعوا عن مبادئهم ومواقفهم، وتكلم الناس بالأمر وعكسه، وأصبحوا على موقف وأمسوا على آخر؛ إلا سلط الله عليهم عدوًّا من غيرهم عليهم، بل من أوباش مجتمعاتهم وتقافزت القرود على دفة قيادة الأمة.

وإذا تركوا الحكم بما أنزل الله وجاء العلمانيون وتحكم العسكر وظهر الملاحدة جعل الله بأسهم بينهم، وتعادَى الناس، وتباغضوا، وتففكت المجتمعات وخرج أسوأ ما في الناس، واشتكى الناس من توحش أفراد المجتمع ومن نزع التراحم وافتقاد الترابط..

وإذا ظلموا الأبرياء وشوَّهوا الشرفاء وتعايش المجتمع مع الظلم وهو مرتاح لا يشتكي ولا يرفض ولا يئن..! إلا عمت ظلمات الظلم على المجتمع..

هكذا وجدنا العقوبات. كما أخبر الصادق صلى الله عليه وسلم.

نفحة من عذاب ربك

فإذا وجدت عقوبة الوباء المنتشر مرعبة يخفق قلبك لها، وتنظر حولك فتخشى خسارة أحبابك أو تخشى قدومك على الله ـ إن كنت مؤمنا ـ  أو خسارة حياتك وملذاتك ـ بمنطق الملاحدة ـ ؛ فاعلم أنها مجرد نفحة من عذاب الله، وأنها لا شيء أمام بدايةِ مباشَرة الغيب عند معاينة رسل الله من الملائكة عند الاحتضار أو ما في البرزخ والقبور، أو يوم لقاء الله القريب.

فإذا قُيّض لك من يأتي في الإعلام فينكر الآخرة ويجحد لقاء الله تعالى، وقعد لك على الطريق في هذه اللحظات الحرجة التي نعيشها اليوم ويأخذ بيدك لتخسر دينك في لحظات ينبغي فيها الإقبال على الله؛ فاعلم أنها خطة السوء فالشياطين تخاف بعد جهدها الطويل خلال السنوات السابقة أن يتوب غاوٍ وأن يهتدي ضال؛ فأجلبت عليك بقاذوراتها البشرية من يوسوس لك حتى الرمق الأخير ليضمن لك الهلاك.

وإذا رأيت من يعالج الأزمة على أنها أزمة دنيوية تتطلب المرح والرقص في الحجر الصحي، والموسيقى والمهرجانات..! فإنها موجة غفلة يزيدها المغفلون داءا فوق الداء وقيحا فوق الصديد.

خاتمة

يا أيتها البشرية ويا أيها المسلمون..

لن يمر قتل مئات آلاف المسلمين بلا عقوبة، ولن يمر سجن العلماء والدعاة والشرفاء وخيرة الأمة وأولياء الله، بلا عقوبة.

ولن تنتشر الإباحية ويتواطأ الناس على الفجور والمجون والتعري، بلا عقوبة. ولن يستطيل الظلم وتركن له المجتمعات بلا عقوبة. ولن يقود السفهاء والمجرمون بلا عقوبة.

فإذا أدركت هذا وأردت الخروج من سوء ما قُدّر فاخرج من سوء الأفعال. فإذا تصورت الخروج الفردي؛ فاعلم أنه لا بد من الخروج الجماعي من الذنوب وتغيير الحال على المستوى العام ﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (المائدة: 74).

فكما كانت المخالفات عامة يتواطأ عليها المجتمع وتدفع اليها الحكومات؛ فالرجوع والخروج من المخالفات يجب أن يكون جماعيا؛ تعود فيه “المجتمعات” و”المؤسسات” والأفراد الى رب العالمين.

هذا هو الطريق كما أخبر الله، فمن عرفه وسلكه فاز؛ وإلا فحق قول ربنا ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ﴾ (الزخرف: 76)


هوامش:

  1. هذا مضمون حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم: « يا معشر المهاجرين، خمسٌ إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قطُّ حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم يُنقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم». (رواه ابن ماجه في سننه)
    وهو مثال على العقوبات لبقية الجرائم. نسأل الله العافية.

قالــــوا

قالــــوا
"الغرب يتسامح مع كل المعتقدات والملل، حتى مع عبدة الشيطان، ولكنه لا يظهر أي تسـامح مـع المسـلمين، فكل شـيء مسموح إلا أن تكون مسلمًا."
د. مراد هوفمان
كاتب ودبلوماسي ألماني

قالــــوا

لقد كان العربُ صخورا وجنادل يوم كان مِن أسمائهم صخر وجندلة، وكانوا غُصصا وسموما يوم كان فيهم مرّة وحنظلة ؛ وكانوا أشواكا وأحساكا يوم كان فيهم قتادة وعوسجة ، فانظر ما هم اليوم ، وانظر أيّ أثر تتركه الأسماء في المسمّيات ، واعتبر ذلك في كلمة (سيدي) وأنها ما راجت بيننا وشاعت فينا إلا يوم أضعنا السيادة، وأفلتت مِن أيدينا القيادة ، ولماذا لم تشِع في المسلمين يوم كانوا سادة الدنيا على الحقيقة؛ ولو قالها قائلٌ لِعُمَر لهاجت شرّته، ولبادرت بالجواب درّته. 
- محمد البشير الإبراهيمي

قالــــوا
إلى البكائين على ما فات, المتحيّرين وراء تحقيق المعجزات, الدائرين حول محور من أنفسهم يصارعون المنى وتصارعهم دون الانتهاء إلى قرار, إلى هؤلاء نوجه كلمة (وليم جيمس) "إن بيننا وبين الله رابطة لا تنفصم, فإذا نحن أخضعنا أنفسنا لإشرافه سبحانه وتعالى تحققت أمنياتنا وآمالنا كلها".
 -الشيخ محمد الغزالي


قالــــوا

الناس حين يفقدون الضمير لا يغنيهم عنه شيء .. فالضمير الانساني قبس من نور الله لا يكون للناس هدى بغيره وكل فضيلة تنقلب نقصاً وكل خير يصبح شراً وكل عقل يصير خبالا ما لم يكن للناس من ضميرهم هاد .. مثلهم في ذلك مثل المدينة المظلمة إذا طلع عليها القمر كانت معالمها ومبانيها هداية لأهلها تريهم أي طريق يسلكون أما إذا أظلمت عليهم حقاً فإن هذه المعالم الجميلة والمباني الرائعة تصبح كلها عقبات وعثرات يصطدمون بها فتؤذيهم وتضلهم .. كذلك الناس في حياتهم , أن يشرق عليهم الضمير تكن فضائلهم رشدا وأن يظلم عليهم يكن كل ما فيهم من عقل وخير عليهم وبالا. 
- محمد كامل حسين ( أستاذ جراحة عظام  وأديب )

30 يونيو: انقلاب على النيل

30 يونيو: انقلاب على النيل



وائل قنديل

"إنهم يتأنقون في ثياب من اللغو المهترئ استعدادا للذهاب إلى عرس الدم، يطلقون الرصاص على كل دعوة لحوار إنساني متحضّر، يعفي المواطن البسيط من أن يلقى مصير الأرانب التي تموت فوق العشب تحت أقدام أفيال متصارعة، لا يشغلها البشر ولا العشب الأخضر، فكل ما يهمها أن تقتل خصمها وتلقى بجثته في النهر... النهر الذى بات مهددا هو الآخر ويواجه مصيرا أكثر بؤسا".

كان ذلك قبل انقلاب وزير الدفاع على رئيس الجمهورية المنتخب بعشرين يومًا، وبعد أن مرت ثمانية أعوام كاملة، ها هو نهر النيل يتصدّر قائمة ضحايا تلك الجريمة، التي وقعت في الثلاثين من يونيو/ حزيران 2013 بعد أن قدمه عبد الفتاح السيسي ثمنًا لاعتراف أفريقي، من بوابة إثيوبيا، بشرعية انقلابه، وإنهاء تعليق عضوية مصر في الاتحاد الأفريقي، الرافض لمنطق الانقلابات العسكرية.

حين استقبلت إثيوبيا السيسي للحصول على توقيعه على اتفاقية 2015 المعروفة باسم "إعلان المبادئ" الخاصة بمياه نهر النيل، قلت إن دراما رحلة عبد الفتاح السيسي إلى بلاد الحبشة لا تختلف عن رحلة أنور السادات إلى القدس المحتلة، كلتاهما تراجيديا مؤلمة، أفسدت المستقبل، من أجل لحظة نشوة فردية عابرة، وكلاهما عينه على لجنة تحكيم مهرجان الانسلاخ من استحقاقات التاريخ، وبديهيات الجغرافيا.

كلاهما كان يبحث عن ذاته الفردية، ويستدر آهات الإعجاب بالقفزة التاريخية، طلبا لمجد شخصي زائف، تعرف الميديا الغربية جيداً كيف تصنعه، وتقدمه في أغلفة أنيقة لكل مهووس بالعظمة والصور التذكارية، وكما ذهب خمر لقب "بطل الحرب والسلام" برأس أنور السادات، ها هو رأس السيسي يشتعل بجنون عظمة ما أسبغه عليه الإثيوبيون من صفات، عقب إذعانه أمام الحلم الحبشي بسد النهضة، وتقديمه صك الاعتراف المجاني بالسد الذي يضع مصر في فوهة العطش، تماما كما منح السادات صك الاعتراف بالعدو الصهيوني، مخرجا مصر من معادلة الصراع، وبانياً سداً شاهقاً بينها وبين محيطها العربي.

كان السيسي قد سافر إلى الحبشة، تسبقه عناوين تدير الرأس، تصنفه أول حاكم مصري تستقبله أديس أبابا في زيارة ثنائية خاصة منذ ثلاثين عاماً، وتصوره قائداً جسوراً ينسف ألغام التاريخ الشائك، ليتلقفه الإثيوبيون، ويسمعونه ما يدركون أنه مفتون به، فيباغته رئيس الوزراء، في ذلك الوقت، هاي ﻻميريام ديسالين¡ بجملة في منطقته الحساسة "في بلادنا نتفاءل بالزعماء الذين تهطل اﻷمطار عند حضورهم، وأن السيسي حضر وهطلت اﻷمطار في وقت غير معتاد من العام".

أوجه الشبه بين "كامب ديفيد السادات" و"إعلان مبادئ السيسي" كثيرة ولا تحتاج لمزيد من الأدلة على أن السيسي وضع قضية نهر النيل بتصرف واشنطن، وفي ذلك يمكن الرجوع للمقالة المنشورة للسفير المصري في واشنطن قبل شهور قليلة، والتي تستغيث بالولايات المتحدة لتمنح مصر حصتها من المياه، حتى وصلنا إلى ذلك التصريح المهين لمعنى السيادة الوطنية، والخادش لقيمة استقلال القرار الوطني، والذي جاء على لسان المتحدث الإقليمي باسم وزارة الخارجية الأميركية، صامويل وربيرج، وقال فيه إن بلاده لن تترك 100 مليون مصري بدون مياه.

حسنًا، بهذا التصريح الذي احتفت به الدوائر السياسية والإعلامية المصرية، تصبح قضية مياه النيل بعهدة الإدارة الأميركية، مثلها مثل قضية القدس والمستوطنات، وما نحن إلا طارقي أبواب ومتسولي ضغوط على الطرف الآخر، المتعنت، وهو مدرك أنه ليس أفضل من أن تكون واشنطن هي الحكم والراعي.

كان نهر النيل طوال الوقت من أدوات الضغط السياسي على مصر، وفي ذلك تشير مقالة  للدكتور أستاذ الأراضي والمياه، صلاح طاحون، قبل عشر سنوات، إلى أنه ليس ببعيد عن الذاكرة¡ أنه عندما استعصت مصر الناصرية على الولايات المتحدة تحت حكم لندون جونسون، أرسل أفواجا من الخبراء الأميركيين مدفوعي الأجر، انتهوا بمجهود كبير من إعداد تصميمات وخطط تنفيذ 26 من السدود المتفاوتة السعة بامتداد النيل الأزرق، تحتجز أمامها 120 مليار متر مكعب من المياه، تستخدم في الزراعة المروية وتوليد الكهرباء. وعندما صفت الأجواء السياسية نامت سدود النيل الأزرق في أدراج النسيان، إلى حين.

الآن، تتطاير العناوين الضخمة والشعارات المدوية عن أن مياه النيل قضية وجودية، غير أنه على مستوى الأفعال تبدو المسألة وكأنها قضية وجود عبد الفتاح السيسي في السلطة، ومن ثم يصبح النيل عنده مجرد ورقة من أوراق لعبة سياسية، يستعملها لنفسه، ولعل ذلك يفسر تلك الثقة التي تتحرك بها إثيوبيا في الوقت الذي تحدده، وبالإيقاع الذي تريده، وفي الاتجاه الذي تختاره، بينما جنرال الكلام مستمر في مضغ الشعارات وبصقها في وجوه جماهيره الغفيرة، فتشتعل بالتصفيق الحاد.

الثلاثاء، 29 يونيو 2021

ذكرى الإنقلاب العسكرى الدموى المشؤوم فى مصر فى 30 يونيو 2013

ذكرى الإنقلاب العسكرى الدموى المشؤوم فى مصر فى 30 يونيو 2013

التاريخ يسجل خيانة العسكر

 


بقلم الخبير السياسى والإقتصادى

د.صلاح الدوبى 

جنيف – سويسرا 

 “بلادي وإن جارت علي عزيزة، وأهلي وإن ضنوا علي كرام“.. كانت تلك آخر كلمات الرئيس الراحل محمد مرسي ، قبل وفاته داخل قفص زجاجي بقاعة محكمة جنايات القاهرة، الذي كان شاهدا على آخر لحظات حياة أول رئيس مصري منتخب ديمقراطيا في 17 حزيران/ يونيو 2019 ..

كانت تلك الكلمات تقطر حباُ لهذا الوطن فكان جزاؤه القتل العمد لطي صفحة  ثورة يناير المجيدة ومكتسباتها .

وبعد  رحيل الرئيس الشهيد الذي أخلص لوطنه وأراد له أن ينتج دواءه وغذاءه وسلاحه .. فدفع حياته ثمن .. نجد مصر ” للخلف در” على يد النظام العسكري .. شعب مقهور بعد أن ظفر بكامل حريته على يد رئيسه المدني المنتخب .. والفقر والجبايات باتت سياسة ممنهجة قتلت أي أمل في تحسين مستوى المعيشة .. والتردي طال كل مناحي الحياة ..بل حتى حقوق مصر المائية التاريخية تعرضت للضياع .

وأغلقت السلطات المصرية الملف، وقالت إن وفاة مرسي طبيعية، إثر تعرضه لنوبة قلبية ثناء جلسة محاكمته بإحدى القضايا الستة التي اتهمه بها النظام العسكري الحاكم.

التواطؤ الدولي حال دون محاكمة قتلة الرئيس الشرعي لمصر .. ورفعت دعوى قضائية أمام المحاكم الفرنسية العليا لطلب تشريح جثمان الرئيس  دون جدوى

وعلى صعيد متصل .. النظام العسكري يواصل التنكيل بأسرة الرئيس الشهيد بعد قتله   ..  وتوفي نجله عبدالله في ظروف غامضة عقب وفاة أبيه ..  وتحوم شكوك كبرى حول دور أجهزة السيسي في اغتيال الأب والابن .. بينما صدر حكما نهائيا بحق الابن الثاني  المحامي “أسامة” والذي جرى اعتقاله قبل سنوات..   بسجنه “10”سنوات في قضية “فض اعتصام رابعة .

 الانقلاب استبق الانتقام من أبناء الرئيس بالانتقام من أبناء إخوته..  ففي نوفمبر 2014 تم اعتقال ابن شقيقه محمد سعيد مرسي الطالب وقتئذ بجامعة الزقازيق ثم الحكم عليه بالمؤبد.

جريمة قتل لا شك فيها, ارتكبها الانقلاب العسكري ضد الرئيس المدني المنتخب الأول في تاريخ مصر, ولأنها كانت جريمة قتل بالفعل سارع الانقلابيون الدمويون في إخفاء معالمها بالإسراع في الدفن, في الظلام, وبعيدا عن مسقط رأسه بقريته بمحافظة الشرقية, فضلا عن منع صلاة الجنازة عليه والاكتفاء بأفراد من أسرته لتشييعه, ومخالفة رغبة الأسرة في ذلك, ومنع وسائل الإعلام من التغطية.

المجرمون من هم ؟

1ـ عبد الفتاح السيسي قائد الانقلاب الذي يعاني من غياب الشرعية ويمثل له صورة الرئيس مرسي كابوسا بالرغم من وفاته فهو الرئيس الشرعي المنتخب, وأول رئيس مدني, وكان انتخابه حقيقيا نزيها بشهادة الجميع.

2ـ أدوات الانقلاب وأولها القاضي الظالم المستشار محمد شيرين فهمي الذي ترك الرئيس الشهيد مغمى عليه لمدة 20 دقيقة، ما يتجاوز سوء المعاملة إلى قرار فعليّ بالقتل أمام الشهود, وثانيها النائب العام الذي قرر سريعا التحفظ على كاميرات القاعة وإصداره «أمراً» بدفن الجثمان بسرعة، وثالثها الأجهزة الأمنية, ورابعها الأذرع الإعلامية للانقلاب التي فتحت سيلا من الأكاذيب والادعاءات الباطلة في محاولة بائسة لتغييب وعي الجماهير.

3ـ الرعاة الدوليون لقائد الانقلاب، حيث تتعامل هذه الدول مع قاتل سفاح في مصر, وتستقبله في زيارات رسمية, وتأتي لزيارته كذلك, كما لو كان حاكما منتخبا من شعبه, وليس منقلبا قاتلا لمواطنيه, لا يحترم القانون ولا يعترف بحقوق الإنسان, وهذه الدول سقطت في امتحان الإنسانية والأخلاق تماما عندما اكتفت بتحقيق مصالحها مع سفاح يقتل أفراد شعبه.

4ـ الرعاة الإقليميون لحكم العسكر, وهم محور الثورة المضادة, السعودية والإمارات والكيان الصهيوني, وهم يد واحدة على الشعوب العربية, وهم صانعو الانقلاب الحقيقيون, ويرون في مطالبة الشعوب بحريتها جريمة لا تغتفر, وقد بيتوا أمرهم على الحيلولة دون تحقيق حلم الربيع العربي.

5ـ المنظمات الدولية التي تجاهلت التقارير المؤكدة عن مؤامرة يدبرها الانقلاب في مصر ضد الرئيس الشرعي بقتله بالإهمال الطبي في السجن, وهذه المنظمات مصر عضو فيها, وكان يمكنها التدخل لمنع الجريمة, لكنها لم تفعل.



هل إنتهت مصر بعد إنقلاب 3 تموز/ 30 يونيو 2013 واحتل كرسى الرئاسة  لصا ومهرّبا لأموال الشعب وفاتحا حسابا في مصارف أجنبية،ومنذ ذلك التاريخ أصبح أكثر الناس فاسدين، وأضحى الفاسدون مهربين، وتحول المهربون إلى عملاء يطعنون وطنهم من الخلف ..

في مصر إذا كان الطاغية ديكتاتورا أنجب الوطن طغاة صغارا، فالضابط طاغية، والعسكري طاغية، والمخبر طاغية، والفاكهاني طاغية، والحلاق طاغية، وتحولت كل الوظائف إلى مهَن للصوص فقط، ثم انتقلتْ إلى مرحلة التلصص، والتجسس، والتعاون، والبلاغ الأمني، ولم تسلم أي عائلة فى ام الدنيا من متعاونين مع أجهزة الطاغية بالابلاغ أو بالصمت أو بالخوف.

وإذا كان الطاغية جاهلا، وربع أمي، يصبح الجهل أفيون الشعب، ويتساوى الإعلامي بمدمن المخدرات، وتسقط مفردات اللغة من اللسان إلى البالوعة، فيتلقاها الشعب كأنها مغارة علي بابا، ويتجسد الصحفي في الصرف الصحي، وتختار أجهزة الدولة الساقطة أعداء الثقافة من مؤخرة الكتاب.

وإذا كان الطاغية سجانا في صورة سيد الشعب، وتمساحا في ملابس حيوان أليف، وذئبا يرعى الغنم، وسيفا يمتشق الزهرة ليقطع رقبة من يشمها، وتبني سيدة مصر المحروسة في مقابل كل سجن جديد قصرا جديدا فرفاهيةُ السجان من عذابات الموجوع على البرش في زنزانة ضيقة.

فى مصر المحروسة إذا احتفل الطاغية بقطع رقبة، يقوم الجبناء بتجسيد رغبته، ويعرف المنافقون ولعه بالمشنقة، ويحضر له الأفاقون أمثال مفتى الجمهورية شوقي إبراهيم عبد الكريم علّام ، ومحمد مختار جمعة وزير الأوقاف متهمين قبل الصلاة وبعدها ويضيفوا على التهمة الكاذبة آيات بينات؛ فتحيد أدعية الناس من مناهضة الظلم إلى مظالمة النهضة، ولا يحتاج الحاكم مصاص الدماء لرقبة حسناء يشفط دماءها، إنما يأتوه بأنهار من الدماء كما كان الاستعمار يفعل في دول العالم الفقير.

وفى ام الدنيا منذ حكم العسكر تنتقل الوشاية من لسان أو من قلم الجبان إلى مكتب الأمن الوطني بأسرع من الصوت، ويلتحق المواطنون بوظيفة متعاونين أو صامتين أو وشاة أو غدارين فلا يبقى في الوطن من الأشراف غير الحيوانات المفترسة في الغابة؛ فقد تكون أرحم بقوانينها من المصرى بكتبه المقدسة.



الإعلاميين المصريين فضيحة لأرض الكنانة أكثر الإعلاميين المصريين يحتاجون لعلاجات نفسية وفكرية ومستشفى العباسية، ونزع حالة الخوف من السلطة وقد يكون السبب التقرب من سلطات الأمن والاستخبارات التي يتبرع الإعلامي بفتح خط ساخن بينه وبينها، بثمن أو مجانا، أو بضمان حماية في المطار أو في الصحيفة أو في الاستديو.
قد يكون السببُ أنها المهنة الوحيدة واليتيمة التي اقتحمها أنصافُ أميين، وكارهو الكتاب، ومبغضو المعلومات، وكُسالىَ المعرفة، فإذا تناقشوا أو تحاوروا أو تجادلوا فستسقط قلوبهم في صدورهم، وورقة التوت عن أدمغتهم!.

وقد يعود الأمر إلى الغيرة أو التنافس على الجلوس على حجر السلطة أو المقابل المالي أو يرجع الأمر إلى أن الإعلامي يستطيع أن يكتشف زيف وغش وفبركة التاريخ الصحفي والثقافي والفكري والحزبي والقصري  لدى زميله فيكشفه، ويكشف سوءاته، أو يتكاشفا فتسقط مهابة القلم أو اللسان أمام زميل من نفس الكار.

يضحك السيسى بدون أي سبب في كل اجتماع يحضره ويلقى فيه بخطاب، ثم يقهقه كالبلهاء، فإذا ضحك المحيطون به من وزراء ومحافظين ومستشارين وكبار الضباط، فقد ضمن لنفسه خطّ الدفاع الأول، وإذا ضحكت جماهير الشعب، وصفقت، وهللت؛ فهذا يعني أن العبودية تمتد في طول مصر وعرضها.

هويّة الأمة الإسلامية

     هويّة الأمة الإسلامية




هذه الأمة وُلدت بالإسلام، إذ هو الرحِم الذي وُجدت به، فهو مبرر وجودها ومحور تجمعها، ومحدد وظيفتها، وهو الذي أعطاها الملامح والدور في التاريخ. لا تقوم مقامَه أرضٌ ولا جنس ولا عرق.

أهمية الهوية

ليس تحديد “الهويّة” ترفاً فكرياً، أو جدلاً فلسفياً. بل هو أمر جاد يتعلق ـ بل يقرر ـ طبيعة الصراع المصيري للأمة مع أعدائها “إذ أن الإنسان لا يستطيع أن يحدّد موقفه من غيره، قبل أن يحدد موقفه من نفسه: من هو؟ من يكون؟ وماذا يريد؟

وبدون هذا الحسم “للهويّه” الذاتية، لا يمكن تحديد أي موقف فعّال من أي قضية من قضايا المصير والتقدم والحياة الكريمة”. (1)

ولذلك فلابد أن نسأل أنفسنا: من نحن؟ وما هي هويتنا بالتحديد؟

فإذا حددنا هويتنا، انتقلنا علي ضوء ذلك إلي تحديد ماذا نريد؟ ومن ثم كيف السبيل؟

وإذن فتحديد الهويّة يعرّفنا بأهدافنا التي نريدها، والأسلوب(2) الذي نتوصل به إلي هذه الأهداف.

فما هي هويتنا..؟

 لا شك أن هويتنا الأصلية هي الإسلام.

وأن “الإسلام (كانتماء) هو القاسم المشترك الوحيد لأمة متكاملة كبري، ولا شيء غيره. وإذا ما نحّينا الإسلام جانباً، فمن المستحيل أن نجد قاسماً مشتركاً آخر نتفق عليه وتلتقي عنده الأمة الإسلامية، فلا “الأرض” ولا “اللغة” ولا “التاريخ” يمكن أن تكون القاسم المشترك لأمتنا، وذلك لأن الأرض واللغة والتاريخ تعتبر امتدادا للإسلام”. (3) الذي هو الهوية الراسخة في نفوس أفراد الأمة، والتي تهدي رؤيتهم إلي مختلف القضايا، وتعطيهم الوعي الصحيح والرؤية الواضحة والزاد الحقيقي في مواجهة أعداء الأمة الإسلامية .

وهذه هي عبرة التاريخ، ودرس الواقع في الأمة الإسلامية..؟!

فأمّا إنها عبرة التاريخ :

“فإن العالم الإسلامي كان أمة واحدة تظله راية لا إله إلا الله محمد رسول الله.

وكان المسلم يخرج من “طنجة” حتي ينتهي به المقام في “بغداد” لا يحمل معه جنسية قومية أو هويّة وطنية، وإنما يحمل شعاراً إسلامياً هو “كلمة التوحيد”، فكلما حَلّ أرضاً وجد فيها له إخوة في الإيمان وإن كانت الألسنة مختلفة والألوان متباينة؛ لأن الإسلام أذاب كل تلك الفوارق واعتبرها من شعارات الجاهلية”. (4)

ويحكي لنا التاريخ كيف سافر “ابن بطوطة” من:

“شاطئ المحيط الأطلسي إلي شاطئ البحر الهادي، ولم يُعتبر في قُطر مرّ به أجنبياً، بل واتته الفرصة حيثما حل لأن يصبح قاضياً أو وزيراً أو سفيراً، ولم يراقَب في حركاته وسكناته، ولم يسأله أحد عن هويّته أو جنسيته أو مهنته أو وطنه”. (5)

فقد كان أفراد الأمة في تحرّكهم بين بلد وآخر من بلاد الإسلام لا يحتاجون إلي تأشيرات دخول أو خروج، لأن الإسلام بلور “هويتهم” الحقيقية، ومنحهم “الجنسية” الإيمانية، وزوّدهم بروح الأخوة والمودّة.

لقد كان الفرد من عامة الأمة لا يرى في غير الإسلام سبباً للتجمع، بل يرى أنه وحده أساس الانتماء، وأنه وحده رابطة الولاء. ولذلك لم تكن لديه قابلية للشعور بالغضاضة في أن يعيش علي أرضه ـ بل ويحكمه ـ “مسلم” من بلد أخرى؛ فصِفة “الإسلام” تجُبّ ما عداها، ورابطة “الدين” تغني عما سواها.

نظرة المسلمين لإخوانهم من غير “الوطن”

ولذلك رأينا في مصر مثلاً أنه ” كانت نظرة المصريين دوماً إلي المماليك ـ  وهم ليسوا أُولي جذور مصرية ـ نظرة المسلمين إلي مسلمين، الذين قد تكون لهم ـ كحكام ـ مظالم وشرور، ولكن هذه النظرة ما تعدّت ذلك إلي اعتبارهم وافدين علي الوطن”. (6)

ومن ناحية أخرى كانت نظرة الفرد من عامة الأمة إلي العالم من حوله، نظرة إسلامية محددة،  يعتبر الفرد فيها أن الأرض التي يسيطر عليها النظام الإسلامي، وتحكمها الشريعة الإسلامية هي “دار الإسلام”.. وأن الأرض التي لا يسيطر عليها الإسلام ولا تحكمها الشريعة الإسلامية هي “دار الحرب”.

ولذلك كانت “الأمة” تقاوم الغزو الغربي الصليبي مقاومة إسلامية “وتنظر إليه على أنه غزو من قبل (الكفار) لبلاد (الإسلام) تنبغي مجاهدته وإزالته، وتقاوم ما وسعتها المقاومة عملية تنحية الشريعة الإسلامية وإحلال القوانين الوضعية محلها، علي أساس أن هذا كفر يخرج الأمة من الملة إذا رضيت به.. كما جاهدت “الأمة الإسلامية” في مصر حملة نابليون الصليبية، ومنعته من إحلال قانونه محل الشريعة الإسلامية، وكما جاهد المسلمون في الشمال الأفريقي ضد الغزو الصليبي الفرنسي، وفي الهند ضد الغزو الصليبي الإنجليزي، وفي أندونيسيا ضد الغزو الصليبي البرتغالي ثم الهندي..

وباختصار في كل مكان واجهت فيه الأمة الإسلامية غزو أوروبا الصليبية لبلادها”. (7)

وبقي الدين عنصراً بارزاً في وعْي أفراد الأمة، وبقي الإسلام هو المُشَكّل لهوية الأمة الإسلامية  فهو الذي يقوم عليه التصور العقدي العام في الأمة، وهو الذي ينشّط حركة الفرد في محيطه الفردي والجماعي وإن اعترى ذلك فتور في الفعالية..

وضوح هوية الإسلام في مقاومة نابليون في مصر

“وكانت هذه الحقيقة من الوضوح بحيث فرضت نفسها علي الفرنسيين وهم يعدّون العُدة للتعامل مع الشعب المصري، حتى يمكن القول بأن الباب الذي اعتمده نابليون للدخول إلي المصريين كان باب الدين، الذي استغله نابليون منافقاً، بصورة ساذجة وسطحية؛ فهذا هو المنشور الذي وجّهه نابليون للمصريين وقد افتتح بعبارة تقول:

“بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله لا ولد له، ولا شريك له في ملكه”

ثم يقول:

“يأيها المصريون قد قيل لكم إنني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم، فذلك كذب صريح فلا تصدقوه، وقولوا للمغتربين أنني ما قدمت إليكم إلا لأخلّص حقكم من يد الظالمين، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالي، وأحترم نبيه والقرآن الكريم”

ثم يضيف كاذباً”

“أيها المشايخ والقضاة والأئمة والجرننجية وأعيان البلد، قولوا لأمتكم: إن الفرنساوية هم أيضاً مسلمون مخلصون (وفي النص الفرنسي : محبون للمسلمين المخلصين)..!!

ويدل ذلك على أن نابليون حينما أراد أن يقدّم الفرنسيين للشعب المصري، بالصورة التي يعلم أنها مظنة القبول عنده، قدمهم كـ “كمسلمين مخلصين” أو علي أقل تقدير “محبين للمسلمين المخلصين”!!

لقد كان المدخل بالقطع ذا علاقة بالإسلام، الذي ظل ـ رغم كل ما شاب وجوده الحقيقي من خلل ـ سمْتاً غالباً في المجتمع، يراه الناس أساس التجمع وسبب الدولة”. (8)

ولذلك فإن المصريين حين قاتلوا الحملة الفرنسية، لم يقاتلوهم بوصفهم “مصريين” إزاء “فرنسيين”.. وإنما بوصفهم “مسلمين” يقاتلون “الكفار” الذين يحتلون أرضهم.

والدليل على أنها كانت حرباً جهادية إسلامية ضد “الصليبيين” أن علماء الدين كانوا هم قادتها، وأن غضب نابليون انصبّ علي “الأزهر” بوصْفه عنصر المقاومة للغزو الصليبي.. وتأتي قمة الدلالة في كون سليمان “الحلبي” الذي قتل كليبر لم يكن “مصرياً”، إنما كان “مسلماً” دفعه إسلامه إلي قتل قائد الحملة الصليبية الموجهة إلي أرض إسلامية.

مثال آخر في ثورة 1919 في مصر

وإذا مضينا مع التجربة الإسلامية، وجدنا المثال الآخر الذي يدل على أن الإسلام “كهويّة” للأمة،  كان دائماً يعبئ طاقات الأمة ويوحدها، ويجعلها أكثر صلابة في مواجهة أعدائها.

وذلك المثال هو ثورة 1919م في مصر.

لقد قامت الثورة تعبيراً عن غضب الأمة المختزَن منذ عهد الاحتلال، واشترك فيه الشعب كله إلى أقاصي الصعيد، وكانت الجماهير تستمع إلي خطباء الأزهر الذين يُشعلون حماستها، فتخرج في مظاهرات قوية ضد المستعمر الغاضب.

وكان الإنجليز يدركون أنها “ثورة إسلامية”، ويرون في ذلك الخطورة البالغة، كما عبّر عن ذلك “اللورد اللنبي” المندوب السامي  في مصر بقوله:

“إن الثورة تنبع من الأزهر، وهذا أمر له خطورته البالغة.. أفرجوا عن سعد زغلول وأعيدوه إلي القاهرة. (9)

وإذن فقد كانت الثورة في بدايتها(10) ثورة “إسلامية” ـ وكانت أحاديث الناس، وبخاصة في الريف؛ تدور حول ضرورة الثورة ضد الكفار المغتصبين.. وضرورة الثورة ضد الذين يفصلون بين الأمة وبين دولة “الخلافة”.. وكان الناس يرون أن “الأزهر” هو الجدير ـ في حسّهم أن يقود الثورة الإسلامية.

وهكذا في كل مواجهة بين الأمة الإسلامية، وبين أعدائها، كان الإسلام هو الحصن الذي فشلت تحت أسواره محاولات القضاء على الأمة على مدار التاريخ.. وكانت “الهويّة الإسلامية” هي الحافز الأيديولوجي الرئيسي الذي دعّم جهاد الأمة ضد أعدائها، سواء في الحروب الصليبية، أو غزو التتار، أو حرب الفرنجة، أو غيرها.. حيث كانت “الأمة” تندفع بهويتها الإسلامية لتقدم قدراتها القوية؛ فسرعان ما تنهزم قوى الباطل ويعود المسلمون إلي امتلاك إرادتهم، وبناء أمتهم، ونشر كلمة الله في العالمين.. وهذه هي عبرة التاريخ.

درس الواقع

وأما درس الواقع فقد “أثبت لنا تاريخ صراع الأفكار والمذاهب في القرن الأخير في المجتمعات الإسلامية أن “الأمة الإسلامية” رفضت محاولات إسقاطها النهائي أمام الأمم الأخرى وحضاراتها، وأنها لا تزال تحتفظ بجوانب من القوة في مقوّماتها الإسلامية وخصائصها الذاتية المستقلة، على الرغم من غزو الحضارة الغربية لقيمها وحياتها وسلوك أفرادها “(11) ولا تزال ترى أن الإسلام هو المنهج الذي يمثّل خصائصها، ويحدد هويتها، ويرسم الطريق الأمثل والوحيد إلي أهدافها الحضارية .

وليس أدل على ذلك من هذه الصحوة الإسلامية، وتلك الجحافل الساجدة لله بالفكر والسلوك.. الساعية إلي إخراج الأمة الإسلامية من “التبعية” إلي “الريادة” و”قيادة البشرية”.

إن الإسلام وحده هو “هويّة الأمة الإسلامية”، وهو عصب حركتها ومحور اجتماعها، وهو القوة الدافعة التي تُفَجّر طاقات الأمة وتقوّي وقفتها في مواجهة أعدائها. ويوم أن كان الإسلام هو هويّة هذه الأمة، كان المسلمون هم سادة الأرض بحق وصدق وعدل.. وبغيره ستظل الأمة تلهث وراء المظاهر الحضارية التي تحسبها التقدم، وهي القشور والخداع.

هوية متجذرة

وبكلمة .. لقد بلْور الإسلام “هوية الأمة الإسلامية” ومنح أفرادها “الجنسية” الإيمانية، فاجتمعوا حول الإسلام وربط بينهم حبل الله كارتباط الجسد الواحد.

ولم يستطع الغزو العسكري أو الفكري أن يحكم الأمة الإسلامية بغير الإسلام إلا في ظل سياسة العصا الغليظة، والاستبداد السياسي، والظلم الاجتماعي، والأنظمة الجبرية؛ حيث تُلغي إنسانية الإنسان، وتُطارد حريته، وتُصادر هويته..!!

واليوم يبقى الإسلام هو “وحده” المنهج الذي يمثل خصائص الأمة ومنطلقاتها الاعتقادية وأهدافها الحضارية.. ذلك أنه هو “هوية الأمة الإسلامية”.

الهوامش:

  1. ندوة اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر ـ ص 139.
  2. وفقاً للمصطلح الحديث يقصد بالأسلوب: الإستراتيجية والتكتيك.
  3. فقه الدعوة ـ ملامح وآفاق :/ عمر عبيد حسنة ص 72.
  4. الولاء والبراء ـ محمد سعيد القحطاني ص 415.
  5. الإسلام والمدنية الحديثة ـ أبو الأعلى المودودي ص 44.
  6. تطور الفكر السياسي في مصر ـ عبد الجواد ياسين ص 45.
  7. واقعنا المعاصر ـ محمد قطب ص 214.
  8. تطور الفكر السياسي في مصر ـ عبد الجواد ياسين ص 46،47.
  9. مستفاد من كتاب تاريخنا المعاصر للأستاذ محمد قطب.
  10. قبل أن يحولها “سعد” ورفاقه من ثورة إسلامية إلي ثورة وطنية لا علاقة لها بالدين.
  11. المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري – د محسن عبد الحميد ص 41.

اقرأ أيضا:

سُنة الله عز وجل في الهداية والإضلال

سُنة الله عز وجل في الهداية والإضلال


ناصحون

أعظم الأحداث في حياة الانسان هي حدث الهداية أو الإضلال؛ إذ يتقرر عليهما مصيره الأبدي الخالد، ولله في هذا سُنة، ويجب على كل إنسان معرفتها ليفقه عن ربه.

قدر الله، وجهد الإنسان

تناولت سورة الأنعام في أكثر من موضع بيان سُنة الله تعالى في هدايته لعباده وإضلاله لن شاء منهم. وتناول القرآن العظيم بيان هذه السُنة في مواضع كثيرة.

ولأن مصير الانسان يتوقف على هذا الحدث، يحدده قدر الله، وفيه اعتبار لجهد الانسان وموقفه وحال قلبه وحال إرادته للهدى وطلبه له، أو رفضه والإعراض عنه.. من أجل ذلك نتناول بيان طرفا من هذه السنة الربانية من خلال آيات سورة الأنعام.

آيات تناولت سنة الهداية والإضلال

قال الله عز وجل في سورة الأنعام: ﴿مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (الأنعام: 39).

وقال عز وجل في السورة نفسها: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا ۚ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ ۖ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ (الأنعام: 109-110).

وقال تعالى في السورة نفسها: ﴿فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ۚ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَهَٰذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا ۗ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾ (الأنعام: 125- 126).

وقال تعالى في السورة نفسها: ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ۖ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (الأنعام: 149).

وقال سبحانه: ﴿وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَٰؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا ۗ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ (الأنعام: 53).

هذه بعض الآيات من سورة الأنعام التي يبين فيها ربنا تعالى سنته في الهداية والإضلال.

ولتفصيل هذه السنة أذكر هنا ما كتبه بعض المفسرين حول هذه الآيات:

قال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى:

“هذا بيان لحال المكذبين بآيات الله المكذبين لرسله، أنهم قد سدُّوا على أنفسهم باب الهدى، وفتحوا باب الردى، وأنهم … منغمسون في ظلمات الجهل والكفر والظلم والعناد والمعاصي، وهذا من إضلال الله إياهم، …. لأنه المنفرد بالهداية والإضلال بحسب ما اقتضاه فضله وحكمته”. (1)

وقال رحمه الله تعالى عند قوله سبحانه ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾:

“أي: ونعاقبهم إذ لم يؤمنوا أول مرة يأتيهم فيها الدّاعي، وتقوم عليهم الحجة، بتقليب القلوب والحيلولة بينهم وبين الإيمان وعدم التوفيق لسلوك الصراط المستقيم، وهذا من عدل الله وحكمته بعباده؛ فإنهم الذين جنوا على أنفسهم، وفتح لهم الباب فلم يدخلوا وبين لهم الطريق فلم يسلكوا، فبعد ذلك إذا حرموا التوفيق، كان مناسبًا لأحوالهم. (2)

ويقول سيد قطب رحمه الله تعالى:

“والأمر كله مرهون بمشيئة الله، هو الذي شاء ألَّا يهديهم؛ لأنهم لم يأخذوا بأسباب الهدى، وهو الذي شاء أن يدَع لهم هذا القدر من الاختيار على سبيل الابتلاء، وهو الذي يهديهم إذا جاهدوا للهدى، وهو الذي يضلهم إذا اختاروا الضلال..

فلا تعارُض في التصور الإسلامي بين طلاقة المشيئة الإلهية، وهذا المجال الذي ترك للبشر لابتلائهم فيه بهذا القدر من الاختيار..

أن الإنسان مبتلًى بقدر من الاختيار في الاتجاه؛ فإذا اتجه إلى الهدى وجاهد فيه هداه الله، ووقع هداه وتحقق بقدَر، وإذا اتجه إلى الضلال وكره الهدى أضله الله، ووقع ضلاله، وتحقق بقدر من الله.

وهو على الحالَيْن في قبضة الله وسلطانه، وحياتُه تجري بقدر الله، وفق مشيئته الطليقة، وسنته التي وضعتها مشيئته الطليقة. (3)

خلاصة أقوال المفسرين

نخلص من هذه النقولات عن سنة الله عز وجل في الهداية والإضلال إلى ما يلي:

أولًا: الإضلال والهداية مقتضى حكمة الله ورحمته

فالإضلال والهداية من الله سبحانه لعباده هي من مقتضى علمه سبحانه وحكمته وعزته ورحمته؛  فالله عز وجل يهدي مَن يشاء بفضله ورحمته وعلمه وحكمته، ويُضل مَن يشاء بعدله وعلمه وحكمته، وليس لمجرد المشيئة الخالية من العلم والحكمة ـ كما تقوله الأشاعرة ومن نهج نهجهم ـ فالله عز وجل يهدي من علم منه سبحانه حبَّه للهداية وخضوعه وإنابته للحق إذا تبين له، ويعينه ويوفقه لذلك، بينما من أعرض عنه سبحانه وعن الهداية التي أرسل من أجلها الرسل، وأنزل الكتب واستكبر على الحق؛ فإن الله عز وجل يخذله وَيكِله إلى نفسه.

ومَن تخلَّى الله عز وجل عنه، ولم يمده بعونه هلك وضل، وطبع على قلبه وسمْعِه فمن يهديه من بعد الله..؟!

فالهداية والإضلال التي هي من فعل الله عز وجل تقع جزاء لفعل العبد باختياره وسلوكه طريق الهدى وقبوله له، أو اختيار طريق الضلال وقبوله له.

ثانيًا: الهداية والإضلال بين الحمد والعدل

إن سنة الله عز وجل في الهداية والإضلال هي من مقتضى أسمائه الحسنى وصفاته العلى، فَيَمُنُّ على مَن أقبل عليه وأناب إليه بفضله ورحمته وعلمه وحكمته، ويضل من أعرض عنه بعلمه وحكمته وعزته وعدله، وله سبحانه الحمد التام على ذلك كله.

والله تعالى حكم عدل لا يظلم أحدًا من عباده، ولا يضل إلَّا من علم منه سبحانه تكبره وإعراضه، والله عز وجل له الحمد التام في أسمائه وصفاته وأفعاله؛ حيث لا يضع الهداية إلا في قلب مَن يستحقها، ولا الإضلال إلا في قلب مَن يستحقه.

ثالثًا: بين قدر الله النافذ والثقة في عدله

إن قدر الله عز وجل وحكمه النافذ في خلقه هو سر الله عز وجل، ولا قدرة للعقول على إدراك هذا السر؛ لأن كيفيات أفعال الله عز وجل فوق مُدْرَكات العقول، قال الله عز وجل: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ (طه: 110).

لذا؛ فالمطلوب من المسلم أن يهتم وينهض بأداء ما كلّفه الله عز وجل به من الأوامر والنواهي، وأن يكُف ولا ينشغل ولا يبحث في شيء وراء الغاية التي خلق من أجلها، ولا يبحث في شيء وراء ذلك من أمر الغيب المحجوب عن إدراكه المحدود.

وأن يوقن بأن الله عز وجل ما كان ليكلفه بأمر يعلم أن لا طاقة له به أو أنه ممنوع بمانع قهري عنه.

وما كان الله عز وجل لينهاه عن شيء يعلم أن لا طاقة بالامتناع عنه أو أنه مدفوع بدافع قهري لارتكابه، قال سبحانه: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ (البقرة: 286) (4).

من ثمرات العلم بسنة الله في الهداية والإضلال

يترتب على معرفة هذه السُنة عدة فوائد وثمرات؛ منها:

الثمرة الأولى: التضرع في طلب الهداية

سؤال الله عز وجل والتضرع بين يديه في طلب الهداية بنوعيها: هداية الدلالة والإرشاد إلى الحق، وهداية التوفيق باتباع الحق والانقياد له، وسؤاله مع ذلك الثبات على الحق والهدى والموت عليه؛ لأنه ليس كل من رُزق الهداية يموت عليها، والتوفيق للحق واتباعه. والموت والثبات عليه حتى الممات لا يوفِّق إليه إلا مالك القلوب ومصرفها علام الغيوب.

ولقد كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يُكثر في دعائه من قول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله دعوة كثيرًا ما تدعو بها قال: «إنه ليس من عبد إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله، فإذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه». (5)

والله عز وجل لا يُضل من استهداه، ولا يُخيّب من رجاه، ولا يخذل من أناب إليه بصدق وإخلاص؛ لأن الله عز وجل إذا علم من عبده الصدق في طلب الهداية والإذعان للحق إذا تبين له وفّقه وسدّده وأعانه، وإذا علم منه الإعراض والإباء والاستكبار أعرض عنه وخذله ووكله إلى نفسه وشيطانه.

الثمرة الثانية: الحذر من رد الحق

إذا علم العبد أن سنة الله عز وجل في هداية عباده إلى الحق أو الإضلال عنه تنفُذ في عباده، حسب ما يعلمه سبحانه من قلوبهم من محبة بعضهم للحق والانقياد له، أو تَكبُّر بعضهم على الحق ورده؛ إذا علم العبد ذلك، فإن هذا الشعور يجعله على حذر من رد الحق، إذا بان له، لأن الله عز وجل يعاقب مَن تكبر على الحق بصرْفه عنه، وترْك إعانته.

ومن تخلى الله عز وجل عنه ولم يُعنْه هلك وضل ضلالًا مبينًا.

وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى:

“احذر حذار من أمرين لهما عواقب سوء:

أحدهما: رد الحق لمخالفته هواك؛ فإنك تعاقَب بتقليب القلب، وردِّ ما يَرِدُ عليك من الحق رأسًا، ولا تقبله إلا إذا برز في قالب هواك.

والثاني: التهاون بالأمر إذا حضر وقته؛ فإنك إن تهاونت به ثبطك الله وأقعدك عن مراضيه وأوامره؛ عقوبة لك.

فمن سلَّم من هاتين الآفتين والبليَّتين العظيمتين؛ فَلْيَهْنِهِ السلامة”. (6)

[للمزيد: أثر التوحيد على الذنوب وأثر الذنوب عليها]

الثمرة الثالثة: محبة الله وإجلاله

فمن ثمرات معرفة هذه السُنّة؛ محبته سبحانه، وإحسان الظن به، وإجلاله وتعظيمه، وتعظيم أسمائه الحسنى وصفاته العلى، حيث إن كل ما خلق الله عز وجل أو أمَر به فهو مقتضى أسمائه الحسنى التي لا تقتضي إلا الأفعال الحسنى، التي لا يتطرق لها نقص ولا ظلم ولا جهل ولا هوى.

ومن ذلك هدايته سبحانه لمن يشاء من عباده وإضلاله لمن يشاء، وذلك بحكمته وعدله وعزته وعلمه سبحانه، فهو سبحانه ـ كما سبق ـ لا يُضل إلا مَن يعلم سبحانه أنه مستحق للإضلال بإعراضه وتكبُّره على الحق، ولا يهدي إلا مَن يعلم استحقاقه للهداية والتوفيق بما يعلم منه سبحانه من إرادته للحق وانقياده له.

وهذا علم غيبي لا يعلمه إلا الله عز وجل، العالم بما في السرائر والضمائر، أما البشر فلا يعلمون من الإنسان إلا ما ظهر منه، فعلمنا بأسماء الله الحسنى ومقتضياتها يجعلنا نوقن ونطمئن أن الله عز وجل لا يهدي ولا يُضل إلا من علم منه سبحانه أنه مستحق للهداية أو الإضلال.

وهذا يفسر لنا قوله صلى الله عليه وسلم: «وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها»… الحديث. (7)

الثقة في الله

بمعرفة سنة الله عز وجل في الهداية والإضلال يزول الإشكال الذي قد يعْلَق ببعض الأذهان من كون الله عز وجل يُضل مَن عمل بعمل أهل الجنة، وأوشك على دخولها، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وزوال الإشكال يكون بعلمنا أن الله عز وجل يعلم من قلب هذا العبد ما لم يعلمه الناس، الذين لا يرون إلا ظاهر أعماله التي تبدو للناس، أما علم الله سبحانه المطلع على أسرار قلب هذا العبد وما فيه من الكبر والإعراض والإباء؛ فهو الذي ترتب عليه سوء خاتمته وإضلاله ودخوله النار.

وفي إدراك هذه الحقيقة ثمرة أخرى ألا وهي التطامُن في الحكم على الآخرين، سواء بالتزكية أو التَّدْسية، فَلَرُبَّما ضلَّ مَن كنا نرى أنه من المهتدين، واهتدى من نرى أنه من الفاسقين.

وبمعرفة هذه الحقيقة يزول عن المسلم شعورُه باليأس من هداية الضالين أو الحزن والحسرة على ضلالهم، أو انتكاستهم بعد هدايتهم بعد بذْل أسباب الهداية لهم؛ فالله عز وجل بعلمه وحكمته وعزته وعدله يُضل مَن يشاء ويهدي مَن يشاء.

نسأل الله عز وجل أن يتوفانا مسلمين، وأن يلحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين

الهوامش:

  1. تفسير السعدي (ص256).
  2. المصدر نفسه (ص269).
  3. في ظلال القرآن (3/1188).
  4. انظر: خصائص التصور الإسلامي (ص136).
  5. رواه ابن ماجه (199)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (165).
  6. بدائع الفوائد (3/180).
  7. البخاري (4202) عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، ومسلم (2651) (112).