الحرس الثوري وروحاني.. الصدام الحتمي
دولة داخل الدولة غض الطرف.. بشروط فرص الصدام قائمة قبل فترة وجيزة من اتفاق جنيف، كان المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران آية الله علي خامنئي يطلق مصطلح "الدبلوماسية المرنة الشجاعة" في اجتماع لقادة الحرس الثوري، الجهة القادرة أكثر من سواها على إجهاض محاولات التقارب مع الولايات المتحدة الأميركية. ولأول مرة في تاريخ العلاقة المحكمة بين مؤسسة المرشد ومؤسسة "الحرس" يطلب منهم عدم التدخل في السياسة، في تناغم مع ما طلبه روحاني في يوم سبق ذلك الاجتماع، حين قال إن الساحة السياسية ليست المكان المناسب لهم. كل ذلك كان يمهد لقرارات على أعلى المستويات تجاه عدد من القضايا الحساسة وفي مقدمتها العلاقة مع أميركا وملف إيران النووي، وهو ما قد يُدخل مؤسسة الحرس في مرحلة جديدة، وهي المؤسسة التي لعبت -وما زالت تلعب- دورا سياسيا وأمنيا واقتصاديا إلى جانب دورها العسكري.
قوة ممتدة وعودة في التاريخ إلى الوراء، نجد أن حرس الثورة أنشئ ضمن شعار الحفاظ على الجمهورية والثورة الإسلامية، وإيجاد حالة من التعادل مع الجيش الإيراني الذي كان يعتقد الخميني أن الكثير من ضباطه لم يتخلوا عن ولائهم للشاه. لكن الظروف السياسية والتحديات العسكرية التي شهدتها إيران، خاصة مع ما أوجدته الحرب العراقية الإيرانية 1980-1988، وما أبداه المنتسبون للحرس من تضحية وشجاعة في القتال، فتح المجال أمامه لدور في المجال الاقتصادي، ما لبث هذا الدور أن اتسع عموديا وأفقيا، خاصة مع الدور الذي لعبه على صعيد إجهاض العقوبات الاقتصادية التي فرضت على إيران. وإيجاد طرق ومداخل للالتفاف عليها. وكذلك الدور الذي قام به على صعيد تأمين الاحتياجات الفنية والعسكرية للبرنامج النووي الإيراني، وهذا الدور أوصل البرنامج إلى مرحلة تجعل من إيقافه عملا في غاية الصعوبة. وإن كان بعض الباحثين يرى أن الحرس "مؤسسة صغيرة داخل النظام، جسورة وترتكب الكثير من الأخطاء"، فإن الباحث علي آلفونه يعتقد أن الحرس لديه وجود عميق ومتنفذ في المؤسسة الحاكمة، ويعكس في عمله وجهة نظر المرشد الأعلى للثورة الإسلامية. بل إن تطورات الساحة السياسة منذ عام 2009 وانتخابات الرئاسة العاشرة، وما رافقها من احتجاجات وما تبعها من نتائج، تجعل المتابع يذهب إلى أكثر من ذلك. فقد برهنت هذه التطورات على أن هذه المؤسسة تلعب دورا أكبر من القيام بعملية "انعكاس" لما يراه المرشد، فهي تؤثر في قراراته، بل تصوغ من خلال حلقة المستشارين المحيطة به بإحكام، ما يشكل البنية الأساسية لأي قرار للمرشد في ملفات حساسة في مقدمتها الملف النووي، والعلاقة مع أميركا، وحزب الله، والعراق وسوريا. تحوَّل دور الحرس مع الزمن وبفعل التحديات التي واجهتها إيران إلى مؤسسة أمنية عسكرية، وكان لهذا الجانب -تحديدا- دوره في جعل الحرس يدخل شيئا فشيئا إلى المجال السياسي والمجال الاقتصادي ويحرز دورا ونفوذا على هذين الصعيدين. ولا يمكن إنكار الدور السياسي للحرس، لكن الدور الاقتصادي لا يقل عنه أهمية، إن لم يكن يتفوق عليه، وهو ما جعل الحرس ينظر بشكل مختلف إلى "اتفاق جنيف" كمدخل يمكن من خلاله كسر حلقة الحصار الذي بدأ يهدد مشاريعه. دولة داخل الدولة وتنبع أهمية الدور الاقتصادي من الوجود القوي للحرس في الاقتصاد الداخلي لإيران، وكذلك على صعيد التجارة الخارجية. واستطاعت هذه المنظمة أن تنتقل من مشاريع صغيرة ومعدودة لإعادة بناء ما دمرته الحرب إلى مؤسسة تضطلع بمشاريع بنية تحتية وعمرانية كبيرة. واستفاد "الحرس" من نفوذه في مجال الصناعات العسكرية، ودخل سوق "الحاجات اليومية" ذات المردود الجيد من خلال مؤسسات تجارية صغيرة خاصة منتشرة في كل أنحاء إيران.
وللحرس أيضا نقاط بحرية تمتد على مسافة 1500 ميل على سواحل الخليج، وباتت تسمى في إيران "الأرصفة البحرية غير المرئية"، وتتهم هذه الأرصفة بأنها مجال واسع لتهريب البضائع إلى داخل إيران. ويعتبر مرفأ "شهيد رجائي" في هرمزكان مركزا لتهريب النفط. وبدأ الفرع الاقتصادي للحرس الثوري المسمى "خاتم الأنبياء" بالسيطرة على مشاريع كبرى في قطاع النفط والغاز، والتي تبلغ قيمتها نحو عشرة مليارات دولار، علاوة على أكبر مشروع يتعلق بمراحل التطوير الثلاث لحقل الغاز العملاق "فارس الجنوبي". وفي الوقت الذي لم تجد فيه وجهة النظر القائلة بضعف تأثير العقوبات ما يسندها من حجج منطقية، كانت وجهة النظر المعارضة تفرض حضورها مدعومة بالأرقام الصادرة عن مؤسسات اقتصادية داخل إيران وخارجها. فالعقوبات كانت سببا رئيسيا في ارتفاع التضخم ليصل إلى 30% وفق أرقام البنك المركزي الإيراني، و35% وفقا لخبراء وأساتذة اقتصاد إيرانيين، و42% وفق تصريحات صدرت عن الرئيس الإيراني، مما "يجعلها نسبة مرتفعة للغاية إذا ما قورنت ببقية دول المنطقة، وربما بدول العالم بأسره". ورافق ذلك ارتفاع نسبة البطالة إلى 13% وفقا لبعض الإحصاءات التي تعكس وجهة النظر الرسمية. وإن كانت إيران تحجم عن بيان المعدل الفعلي للبطالة إلا أنها لم تشهد منذ 1998 رقما من خانة واحدة لمعدل البطالة، التي ترجع في واحدة من أسبابها إلى تراجع الاستثمارات الحكومية والخاصة. وإن كان معدل البطالة في العالم بالمتوسط يصل إلى 9.7% وفي المنطقة إلى 6.9%، فإن خبراء اقتصاديين إيرانيين يتحدثون عن معدل يتجاوز 25% في وقت يجب فيه أن ينخفض إلى 7%. ولم يكن لاقتصاد يعتمد بصورة أساسية على عائدات النفط إلا أن يتأثر بشدة بالعقوبات، حيث انخفض تصدير النفط من 2.5 مليون برميل عام 2011 إلى 1.1 مليون برميل عام 2013 بنسبة تتجاوز 60%، وقاد ذلك إلى انخفاض عائدات إيران من النفط من مائة مليار دولار عام 2011 إلى 35 مليارا عام 2013. وتراجع الإنتاج الإجمالي من النفط من أربعة ملايين برميل يوميا إلى 2.7 مليون، وصاحب ذلك تراجع كبير في قيمة العملة الإيرانية أمام الدولار والعملات الأجنبية. ولم تتجاوز نسب النمو الاقتصادي 0% خلال العامين الماضيين. وهذه نتيجة مخيبة للآمال خاصة لواضعي وثيقة "الرؤية المستقبلية لعام 2025" التي تهدف لجعل إيران القوة الإقليمية الأولى، والارتقاء بها على كافة الصعد، ومن ضمن ذلك تحقيق نسبة نمو اقتصادي تبلغ 8% حتى ذاك العام. غض الطرف.. بشروط لم يتحرك روحاني باتجاه اتفاق جنيف بقراره المستقل، فقد حصل على ضوء أخضر من مرشد الثورة، وقرار المرشد جعل من الصعب على معارضي التقارب مع أميركا مهاجمة روحاني وإعاقة مساره. ومارس الحرس بدوره نوعا من غض الطرف عن مغازلات روحاني للغرب واليهود في إطار سعيه إلى "تحويل التهديد إلى فرصة" والذي أدركت القيادة الإيرانية على مختلف مستوياتها -بما فيها الحرس الثوري- أنه لن يتم إلا بإجراء تغيير في الخطاب والسياسة الخارجية. فبدأ الرئيس روحاني عهده بتهنئة اليهود في العالم أجمع بعيد رأس السنة العبرية (روش هشانه)، وبالرغم من مسارعة الحكومة الإيرانية إلى نفي ذلك، والتأكيد على أن الرئيس روحاني لا يمتلك حسابا على "تويتر"، فإن الوقائع تناقض تصريحات الناطق الحكومي. فقد أُنشيء حساب روحاني على تويتر مطلع مايو/أيار الماضي وتحدث فعلا باسم روحاني في الانتخابات، وتضمّن معلومات دقيقة تتعلق بالموقف من عدد من القضايا، وأبرزها الحوار مع أميركا وضرورة إحداث تغيير في السياسة الخارجية الإيرانية. ونشر هذا الحساب منذ ذلك التاريخ أكثر من 13 ألف تغريدة، بمعدل خمسين تغريدة في الأسبوع. جاءت التغريدات منسجمة مع دعوة روحاني إلى تغيير في السياسة الإيرانية بالداخل والخارج، ولم يصدر منذ ذلك التاريخ أي نفي لأي منها.
وذلك على عكس ما حدث مع أحمدي نجاد، الذي سعى -ورغم تصريحاته المستفزة بشأن إنكار المحرقة وغيرها- إلى فتح صفحة جديدة مع الولايات المتحدة الأميركية. وكذلك ما حدث مع محمد خاتمي (الرئيس الأسبق) الذي خرجت ضده مسيرات أكفان تندد بمحاولاته طي صفحة الخلاف مع الولايات المتحدة الأميركية، وتلقى نقدا لاذعا من قبل قادة الحرس. ومع هذا يجب ألا نسرف في توقع استمرار أداء الحرس في هذه القضية على هذا المنوال، وقد بدأت أولى الإشارات إلى أزمة قادمة مع الرئيس روحاني في تصريحات لقائد الحرس الثوري الجنرال محمد علي جعفري نشرها الإعلام الإيراني مؤخرا. فالحرس وإن كان يريد مخرجا لأزمة العقوبات فإنه لن يسمح بتوسيع هامش استقلال القرار لمؤسسة الرئاسة وتوسيع صلاحياتها على حساب صلاحياته، وهي المحاولات التي لم يتهاون بشأنها مع الرؤساء السابقين. وإذا ما استمر روحاني وطاقمه -وعلى وجه التحديد وزير خارجيته- في رسم مسار سياسي مستقل، فسيجد نفسه آجلا أم عاجلا يواجه نفس المعضلات التي واجهها رفسنجاني وخاتمي وحتى أحمدي نجاد نفسه في الفترة الرئاسية الثانية لكل منهم، فبعد أن نجح رفسنجاني في تعزيز مكانة الطبقة المتوسطة في فترته الرئاسية الأولى، كان في فترته الرئاسية الثانية يفقد السيطرة شيئا فشيئا على الوزارات الهامة والمؤسسات الأمنية. ومنذ ذلك الوقت أصبحت وزارة الاستخبارات تابعة بشكل فعلي -وإن كان غير معلن- للمرشد، وبمعنى أدق أصبحت محصورة في الحلقة المحيطة به، وجلها من الحرس، وهو ما اصطلح على تسميته في إيران بـ"بيت رهبري" أي بيت القائد، ومنذ ذلك الحين أيضا بدأت مأسسة القوى الموازية للحكومة. وتكرر الأمر مع الرئيس السابق محمد خاتمي، ففي فترته الرئاسية الأولى نجح في تعزيز مكانته داخل المجتمع، وشهدت الحياة السياسية انفراجا لا يمكن إنكاره، انعكس على الأحزاب والجمعيات والمجتمع المدني. لكن الأمر لم يستمر في دورته الرئاسية الثانية، حيث شكل اغتيال أكثر من سبعين شخصا جلهم من المفكرين ضربة كبيرة لمسيرة خاتمي. ومع ثبوت تورط الاستخبارات الإيرانية، وجد خاتمي نفسه يواجه حكومة موازية، نجحت في إجهاض مخططه خاصة على صعيد نزع صفة العسكرة عن المجتمع الإيراني. أما أحمدي نجاد فقد حاول أن يخضِع النشاط الاقتصادي للحرس لسلطة ورقابة الحكومة، لكنه لم ينجح، وبدلا من ذلك دخل في مواجهة مع المؤسسة الأقوى في إيران، ووجد نفسه في صراع مع البرلمان ومهددا بالإقصاء، واتهم تياره بـ"الانحراف" وما زال سيف المحاكمة مُصلتا على رقبته. فرص الصدام قائمة تريد مؤسسة الحرس إنجاز الاتفاق مع الغرب، ومنح ما جرى التوافق عليه في جنيف فرصة للنجاح، لكنها لن تسمح أن يأتي ذلك بدون شروطها وخطوطها الحمراء، خاصة فيما يتعلق بنفوذها وتأثيرها في الملفات الكبرى وفي مقدمتها الملف النووي. ورغم حرص الجميع في إيران على إظهار تماسك الجبهة الداخلية فإن التصريحات الأخيرة تشي بانقسام لا يمكن تجاهله. ففي الشهر الماضي قدم الجنرال جعفري تحذيرا واضحا لوزير الخارجية ظريف بأن "لا يتكلم في شأن ليس من اختصاصه ولا يفهم فيه". ولم تستطع قيادة الحرس أن تخفي غضبها من تصريحات لظريف قال فيها "إن الإنسان الإيراني هو من يخيف الغرب وليست بعض الصواريخ"، وإن بلاده يجب أن تأخذ التهديد العسكري الذي تمثله أميركا على محمل الجد "فالدفاعات العسكرية يمكن تدميرها بسهولة". قرأ الحرس في تلك التصريحات تجاوزا لا يُغتفر من "دبلوماسي من ذوي الخبرة، ولكن ليس لديه أي خبرة في المجال العسكري". والحقيقة أن اتفاق جنيف فيه ثلاثة مآخذ من الممكن أن يستخدمها الحرس لمحاصرة فريق روحاني والضغط عليه، وهي: - لم يرد في الاتفاق أية جملة تنص على الاعتراف رسميا بحق إيران في تخصيب اليورانيوم على أراضيها، طبقا للمادة الرابعة من معاهدة وكالة الطاقة الذرية، ولا يمكن اعتبار أن عبارة "استمرار التخصيب" التي وردت في نص الاتفاق تعني "الاعتراف رسميا".
1- أن يكون محدودا من حيث المستوى والقدرة وحجم المخزون المخصب، ونطاقه وموقعه. 2-أن يخضع لرقابة مشددة. 3-إثبات الحاجة العملية له، وهذا الشرط تحديدا يعطي الجانب الغربي فرصة القول بأن الحاجة العملية لا تتطلب قيام إيران بالتخصيب داخل أراضيها، وذلك بسبب الحاجة إلى وقود للمفاعلات. وهذه الشروط تعكس في حقيقتها سعيا لتفكيك البنية التحتية لتخصيب اليورانيوم.
- نص اتفاق جنيف صراحة على ضرورة التزام إيران بقرارات مجلس الأمن الدولي. وهذا يعطي للقوى الغربية الحق بأن تطلب تعليق التخصيب حتى بالنسبة لما دون 5% الذي تم القبول به. وهو ما ينص عليه قرار مجلس الأمن.
وتمهيدا لاتفاق جنيف وفي سبتمبر/أيلول الماضي، قطع رأي المرشد بأن دور الحرس يجب أن يكون بعيدا عن السياسة، لكن قيادة الحرس اليوم ترى رأيا آخر نجده في آخر تصريحات جعفري حين قال "إن التهديد الرئيسي للثورة هو في الساحة السياسية، والحرس لا يمكن أن يبقى صامتا في وجه ذلك".
"الابتلاء بالغرب" هو العنوان الذي بدأ يتشكل وسيكون شعار الحرس في صدامهم مع روحاني الذي بدأ مبكرا، حيث سيجد نفسه بمواجهة القوى الموازية التي جرت مأسستها خلال السنوات الماضية. وتتركز إدارة هذه القوى في حلقة أمنية مقربة من المرشد، ونفوذ هذه القوى على الصعد السياسية والاقتصادية هو ما سيجعل الصدام معها أمرا حتميا، إذا ما أراد روحاني أن ينفذ ما تضمنه برنامجه الواعد على هذه الصعد، ولم يستطع أن يدير العلاقة مع منافسه القوي بذكاء، وقد بدأت قوته ونفوذه يسولان له الاستحواذ على السلطة بكل أركانها. |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق