الأربعاء، 17 ديسمبر 2014

تعليم اللغة العثمانية: ميلاد الجمهورية الثانية


تعليم اللغة العثمانية: ميلاد الجمهورية الثانية
أحمد بن راشد بن سعيّد


قبل بضعة أشهر كنت في زيارة لإسطنبول، وزرت قصر الحريم بقصر توبكابي العثماني، وخلال تجولي فيه، وبينا كنت ألتقط صوراً لأبيات شعرية، وأمثال عربية منقوشة على بعض أبوابه وحيطانه، استوقفني رجل تركي وزوجته وسألاني عن معنى تلك المنقوشات، فطفقت أترجم لهما (بالإنكليزية) كل تلك البلاغيات الجميلة، ولاحظت سرورهما الغامر بكل ما قلته، واعتزازهما به، وفي النهاية، شكراني كثيراً.
في مطلع هذا الشهر (2-6 كانون الأول/ديسمبر) اجتمع المجلس الوطني التركي للتعليم في مدينة أنطاليا الساحلية، ليناقش قضايا عدة أبرزها فصل الجنسين في المدارس، وإدخال مقررات دينية في مدارس الروضة والسنوات الأولى من الابتدائية. 
الرئيس التركي رجب طيب إردوغان قال في خطابه الذي افتتح به اجتماعات المجلس إن «الأطفال الأتراك يعرفون (الكثير) عن آنشتاين، ولكنهم لا يعرفون شيئاً ألبتة عن ابن سينا».
غير أن المفاجأة أو الخبر الذي صنع العناوين كان إعلان المجلس في 4 كانون الأول/ديسمبر قراره تدريس اللغة العثمانية في كل المدارس الثانوية.
موقع ألمونيتور نقل عن محلل سياسي في تركيا قوله إن القرار «لم يكن متوقعاً على الإطلاق في بلد كانت جامعة هارفارد، حتى سنوات قليلة، هي التي تموّل مقررات تدريس اللغة العثمانية»
(10 كانون الأول/ديسمبر 2014).
العثمانية هي اللغة التركية مكتوبة بحروف عربية، وقد ألغاها مصطفى كمال عام 1928 بعد سنوات من تأسيس الجمهورية العلمانية على أنقاض الخلافة العثمانية عام 1924.
قذفت «إصلاحات» مصطفى كمال تركيا في أتون صراع عميق مع هويتها وتاريخها، إذ شطبت في لحظة معتمة من التاريخ أكثر من ألف سنة من الكتابة بالأحرف العربية، بل جرّدت اللغة الجديدة من كلمات عربية وفارسية كثيرة اكتسبتها التركية عبر القرون، ثم ختمت المشهد بمنع تدريس اللغة العثمانية، وأُسدل الستار.
كان سلخ تركيا عن لسانها العثماني، بحسب إسهان ثارور، الكاتب في الشؤون الأجنبية بصحيفة الواشنطن بوست، مثيراً للدهشة، إذ كان على شعب كامل أن يتعلم نظاماً جديداً من الأبجدية بين عشية وضحاها، بينما أكبّ مسؤلون حكوميون على «هندسة» قاموس جديد.
نقل ثارور عن الراحل جيفري لويس، عالم اللغة في أوكسفورد، قوله إن حكومة أتاتورك وضعت ثلاثة أسس لإنتاج الكلمات الكفيلة بجعل اللغة التركية مستقلة عن المفردات الأجنبية: استشكاف مصادر اللغة المنطوقة، جمع الكلمات الموجودة في النصوص القديمة، واستيلاد كلمات جديدة، إذا لزم الأمر، من الجذور والمقاطع المتداولة. 
في عام1932 بدأت مرحلة تجميع الكلمات.
ترأس كل حاكم مقاطعة لجنة تجميع مَهمَّتها تنظيم جمع الكلمات التي يتداولها الناس.
وخلال عام، سجلت اللجان أكثر من 35,000 من هذه الكلمات.
في غضون ذلك، كان العلماء ينقّبون في قواميس اللغات التركية (عائلة لغوية تشمل35 لغة يتحدثها الأتراك في مناطق مختلفة من العالم)، وفي أكثر من 150 نصاً قديماً، بحثاً عن كلمات لم تعد مستخدمة، أو لم تُستخدم قط في تركيا---وهذه بلغ عددها 90,000 كلمة.
عدّ لويس هذا المجهود «نجاحاً كارثياً»؛ نجاح لأنه ساعد على تشكيل شعور بالهوية التركية، وكارثي لأنه «جعل كل شيء كُتب قبل مطلع ثلاثينيات القرن العشرين، وكثيراً مما كُتب منذ ذلك الوقت، محجوباً باطراد عن كل جيل جديد» (12 كانون الأول/ديسمبر 2014).
بعد نحو قرن من الزمان، تكتشف تركيا عظم خطيئة قتل اللغة العثمانية، وتسعى إلى إحيائها، وهي خطوة لا بد أن ينظر إليها الخائفون على الإرث الكمالي بكثير من القلق.
عاكف حمزة تشيبي، المتحدث باسم حزب الشعب الجمهوري المعارض، علّق بالقول «إن اهتمام إردوغان لا ينصب فقط على اللغة العثمانية...إن هدفه الرئيس هو تصفية الحسابات مع العلمانية والجمهورية» مضيفاً أن «إردوغان يريد في الواقع إحياء الأبجدية العربية في تركيا».
السياسي الكردي المعارض، صلاح الدين دمرطاش، قال: «إن جيشاً بأكمله لن يجبر ابنتي على تلقي دروس في العثمانية» (رويترز،9 كانون الأول/ديسمبر2O14).
وكالعادة، لم يتراجع إردوغان. في مساء الجمعة، 12 كانون الأول/ديسمبر انتهز احتفالاً لإحياء ذكرى أحد الخطاطين الأتراك في الجانب الآسيوي من إسطنبول، ليقول ما يلي: «اللغة تشكّل السمة الجوهرية للحضارة والذاكرة، بل هي التي تُبنى من خلالها الأمم، ومن دونها تفنى»، مضيفاً أن سلب مجتمع ما لغته، يعني سلبه حضارته وذاكرته، والأتراك أمة دفعت ثمناً غالياً بسبب هذا السلب.
تعلّم العثمانية إذن حتمي؛ لأنها تجسّد ثقافة شعبية متراكمة، ولأنها جزء أصيل من الذاكرة الجمعية للأمة.
يرى إردوغان أن تعلم الجيل التركي القادم اللغة العثمانية لا غنى عنه لإصلاح علاقاته المتضررة بحضارة الأسلاف.
 يتساءل ويجيب: «هل ثمة أمة لا تستطيع قراءة اللغة التي تأسست عليها حضارتها؟...هل هناك أمة لا تستطيع أن تقرأ المصادر الأولى لإنتاج شعراء ومثقفين وكتّاب طالما فخرت بهم؟ يقولون: هل سنعلّم أطفالنا كيف يقرؤون شواهد القبور؟ لكن التاريخ والحضارة يرقد على شواهد القبور هذه...هل ثمة ضعف أكبر من عدم إدراك هذا؟ إن (الانفصال عن الأبجدية العثمانية) يشبه قطع حبل وريدنا». 
ويضيف إردوغان: «يقولون إننا نناقش العثمانية، بينما غيرنا يبحث في الفضاء. لكن لو محوتم حضارتكم، فستشاهدون الآخرين يسبقونكم إلى الأمام، ويجوبون الفضاء، ستشاهدونهم فقط، ولن يكون بوسعكم الصعود مثلهم، وستظلون تشاهدونهم لمئات السنين...الضرر الذي لحق بلغتنا سوف يمحوه الجيل القادم...اللغة العثمانية سوف تُدَرَّس وتُدْرَس في هذا البلد، أحبوا ذلك أم كرهوا»
(وورلد بولتن، ووكالة أنباء الأناضول، 13 كانون الأول/ديسمبر، والواشنطن بوست 12 كانون الأول/ديسمبر).
ينظر معارضو إردوغان إلى سياساته بوصفها جزءاً من برنامج طويل الأمد ومتدرج التنفيذ لأسلمة المجتمع التركي بعد عقود من علمانية شرسة فرضها مصطفى كمال.
حظر غطاء الرأس والحجاب لم يعد قائماً.
عدد طلاب المدارس الدينية الحكومية ارتفع من 63,000 عام 2002 (عندما تسلّم إردوغان السلطة) إلى نحو مليون اليوم. التعليم الديني بات إلزامياً من سن التاسعة، والاجتماع الأخير للمجلس الوطني للتعليم (والذي أقر تعليم العثمانية) اقترح بدء التعليم الديني من سن السادسة.
بي بي سي استشهدت بتصريح لإردوغان قبل ثلاث سنوات قال فيه: «سوف ننشىء جيلاً متديناً»، مشيرة إلى أن منتقديه يرون أن أفعاله اليوم تصدّق أقواله بالأمس
(8 كانون الأول/ديسمبر 2014).
ما يقلق الحرس العلماني القديم هو النبرة العثمانية المتزايدة في خطاب إردوغان، وإظهاره الفخر بأمجاد التاريخ الإسلامي، وغضبه من أولئك الذين يحرصون على النأي بأنفسهم عنها.
حدث ذلك مرات عدة، كان أبرزها إعلانه أمام مؤتمر قادة المؤسسات الاسلامية في أميركا اللاتينية (عُقد في إسطنبول منتصف شهر تشرين الثاني/أكتوبر 2014) أن المسلمين اكتشفوا الأميركتين قبل كريستوفر كولومبس بثلاثة قرون، مشيراً إلى أن كولومبس تحدث في مذكراته عن مسجد على تل في كوبا، ومعرباً عن رغبته في بناء مسجد في ذلك الموقع.
تصريحات إردوغان كانت مادة لعناوين وتعليقات ساخرة لاسيما في بعض الوسائط الخليجية السائدة، كقناة العربية وموقعها.
 بعد التصريح بأيام نقلت قناة الجزيرة عن قائد سابق في البحرية البريطانية تأكيده أن رباناً مسلماً من الصين سبق كولومبس إلى اكتشاف الأميركتين.
يبدو إردوغان ماضياً في مشروعه الذي يهدف إلى إعادة كتابة التاريخ، مستلهماً الرموز العثمانية التي يستدعيها في كثير من المناسبات.
 مشروع القصر الضخم في أنقره لا يخرج عن هذا الإطار, وعندما تعالت الانتقادات لارتفاع تكلفته (490 مليون يورو)، واجهها إردوغان بتحدٍّ مؤكداً أن القصر لا يشتمل على 1000 غرفة كما يُشاع، بل على 1150، مبرراً التكلفة بقوله: «لا يجب التوفير إذا كان الأمر يتعلق بهيبة أمة»، مشيراً إلى أن القصر ليس ملكاً له، بل للشعب 
(القدس العربي، 6 كانون الأول/ديسمبر 2014).
إردوغان غيّر بالفعل وجه تركيا، ورسم معالم «الجمهورية الثانية» خاضداً شوكة العلمانية المتطرفة، ومنتهجاً «علمانية» متصالحة مع الدين، أو ما يسمّيه بعض الباحثين «العلمانية المؤمنة».
يخطط إردوغان للبقاء رئيساً حتى عام 2023 حيث من المتوقع أن يعلن ميلاد «الجمهورية الثانية» بعد مرور 100 عام على تأسيس الأولى.
لقد جاء مصطفى كمال بالكمالية التي فصلت تركيا عن الشرق، وتنكرت للإسلام، وجاء إردوغان بعد نحو قرن لينقض عرى الكمالية من دون أن يوجه انتقاداً مباشراً إليها. السرعة التي تجري بها إصلاحات»السلطان» (كما يحلو لمجلة الإيكونومست أن تسميه دائماً) مدهشة وتحبس الأنفاس، ولكنها حركة التاريخ في هذا المشرق التي لا يدركها كثير من صناع القرار في المنطقة، والذين لا يرون أبعد من اللحظة الراهنة.

أكاديمي وصحافي سعودي
• @LoveLiberty

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق