الاثنين، 15 ديسمبر 2014

الخطر الذي ينتظر مصر المسلمة المسيحية!

الخطر الذي ينتظر مصر المسلمة المسيحية!
شريف عبد الغني

كان عم سليمان «النصراني» –أو «المصراني» حسب نطق الريفيين للكلمة- أحد المعروفين في قريتنا.
أتى الرجل إلى القرية قبل عقود.
كانت ظروفه صعبة فتعاون الأهالي على مساعدته، وأعطاه أحدهم مكانا ملحقا بمنزله في حارة «الجامع» ليقيم فيه مع زوجته وأولاده. وكان والدي عند جني أي محصول من حقلنا سواء كان قمحا أو ذرة أو فواكه أول ما يرسل منه إلى أحد يكون إلى عم «سليمان»، وكذلك كان يفعل معظم القادرين، ليس إغواء منهم للرجل على الدخول إلى الإسلام، لكن من منطلق إنساني وديني يحث على مساعدة الغير دون غرض، وهو ما ميّز المصريين طوال تاريخهم. فكلهم أقباط، حيث إن القبطية تعني المصرية، وتنسحب على الجميع بصرف النظر عن ديانتهم.
عاش عم سليمان في أمان، وعمل في النجارة، وازداد دخله واستطاع بناء منزل جديد، وتوثقت علاقته بإخوته المسلمين.
أما زوجته «هانم» وشهرتها «أم عبدالله» -نسبة إلى ابنها الأكبر الذي استشهد في حرب أكتوبر 1973، ولاحظ أنه أحد أشهر الأسماء الإسلامية- فكانت إحدى «أعمدة» الحارة.. بيتها ملتقى لجاراتها المسلمات.
 إذا احتاجت واحدة منهن أن تذبح طيرا ترسل ابنتها إلى أم عبدالله لتذبحه، والمفارقة أنها كانت تبسمل وتكبر وتصلي على النبي قبل الذبح، ليس تملقا بقدر ما هو تعبير عن ثقافة مشتركة تجمع أبناء البلد الواحد.
ووصلت ذروة العلاقة بينها وبين جارتها الحاجة «فاطمة» إلى أن الاثنتين كانتا تتبادلان إرضاع أولاد الأخرى، وهكذا رضع «أحمد» مع «سعد» من ثدي واحد «مسلم- مسيحي» يحمل عصارة قرون من التعايش المشترك، وظلت علاقة الود بين «أحمد الضابط والمحامي الشهير فيما بعد» وأخيه في الرضاعة «سعد النجار النصراني» قائمة حتى وفاة الاثنين بمرض واحد من فيروسات الكبد التي لا تفرق في مصر بين مسلم ومسيحي.
أما عند وفاة «أم عبدالله» نفسها، فكان حدثا مشهودا، جلست ابنتاها «عزيزة» و «فهيمة» مع نساء الحارة يبكيانها، ومثلما يحدث في مثل هذه الظروف بالريف، ذهب الرجال إلى «المسجد» المجاور وأحضروا «الخشبة» الخاصة بغُسل المتوفين، ووضعوها في منزل عم سليمان انتظارا لعودة ابنها «سعد» من عمله خارج القرية، وهمت النسوة بتغسيل أختهن لولا قدوم «سعد» الذي شرح لهم اختلاف الدينين في هذه النقطة.
واستقبل أهل الحارة العزاء فيها مثلما يفعلون تماما عند وفاة أي مسلم، ثم نقلوها معا إلى المقابر. 
إذن ماذا حدث؟ وكيف تحولت علاقة الحب في أبهى وأرقى صورها مثل النموذج الذي ذكرته، بين أناس بسطاء يزعم البعض حاليا أنهم منبع للتطرف والتعصب، إلى أجواء شك وريبة وتربص تجاه الآخر؟
لو قسّمنا مصر في القرن العشرين إلى أربع مراحل، فسنجد أن المرحلة الليبرالية الأولى منذ بداية القرن حتى قيام ثورة يوليو، تميزت بأن المفكرين كانوا هم قادة المجتمع على غرار المجتمعات الأوروبية المتقدمة.
تخيل عندما تكون أسماء مثل طه حسين وعباس العقاد وعبدالرازق السنهوري وسلامة موسى وتوفيق الحكيم وقاسم أمين، وسياسيين عظماء مثل سعد زغلول ومصطفى النحاس، يتسيدون الساحة، نشروا الأفكار الديمقراطية وقبول الآخر وحرية المعتقد في نفوس الجميع، ومن هنا قامت ثورة 1919 تحت شعار حقيقي «وحدة الهلال والصليب».
كما أن مؤسس جماعة «الإخوان المسلمين» الشيخ حسن البنا لم يكن أبداً متطرفا أو متزمتا، والنتيجة أن أحد أشهر السياسيين الأقباط وهو مكرم عبيد -صاحب المقولة «أنا مسلم وطنا.. مسيحي الديانة»- كان الوحيد الذي أصر على مشاركة والد البنا تشييع جنازته رغم الحصار الأمني، وحفظ له التاريخ كلماته الصادقة في رثاء مرشد «الإخوان».
وقتها لم يكن غريبا أن يتولى رئاسة الوزراء سياسي قبطي، أو أن يكون المسيحيون أسماء بارزة في مختلف المجالات، أو أن يتصدر واجهة الفن أسماء مثل ليلى مراد ونجيب الريحاني وكاميليا وإستيفان روستي، أحبهم الناس دون أن يسأل أحد عن دياناتهم.
المرحلة الثانية بعد الثورة، لم تشهد أي أعمال عنف طائفي، حيث قاد جمال عبدالناصر -رغم كل المآخذ عليه- المصريين حول بناء دولة جديدة قائمة على قدر كبير من العدالة الاجتماعية.
أما المرحلة الثالثة خلال فترة حكم السادات فشهدت بداية النفخ في نار التعصب، حينما أطلق السادات على نفسه لقب «الرئيس المؤمن»، وضرب المجتمع في بعضه. الإسلاميين باليساريين. والوفديين بالناصريين، ووصلت المأساة إلى ذروتها بقتل السادات نفسه في نفس يوم انتصاره في السادس من أكتوبر.
أما في المرحلة الرابعة بعد السادات، فإن غياب الديمقراطية كان سببا مباشرا في رفض الآخر أيا كان، سواء كان مختلفا معك في الفكر أو المعتقد أو الدين، فضلا عن أن سياسة التعذيب التي انتهجهتا الأجهزة الأمنية، لم تطل الأقباط خوفا من ردود الأفعال العالمية، ومن هنا شعر المسلم العادي الذي مر بهذه التجربة القاسية، أن هناك «استئسادا «من الدولة ضد المعتقلين المسلمين، يقابله «استنعام» ضد المسيحيين. ولأنه لا يستطيع مواجهة الأمن فإنه يصب جام غضبه على الأقباط.
الملاحظ أن المشاحنات والملاسنات المتبادلة بين «عنصري الأمة» -كما يتغنى إعلام المحروسة- تتسم بحنق شديد على الآخر، دون أن يدرك الجانبان أنهم لو وجهوا طاقاتهم معا للمطالبة السلمية الحضارية بإقامة ديمقراطية حقيقية، فلن يكون هناك مظلوم أو مضطهد منهم، كونهم يستطيعون وقتها بأصواتهم إزاحة أي مسؤول يظلم هذا أو ذاك.
أما أن يحتمي طرف -كما يحدث حاليا- بسلطة لا تعبر عن عموم الشعب، وتقصي تماما طرفا آخر فاعلا وأصيلا من المشهد، فستكون عواقبه وخيمة عندما تصل هذه السلطة إلى أجلها المحتوم!


• shrief.abdelghany@gmail.com
@shrief_ghany

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق