مصر رايحة في داهية!
بقلم: محمد جمال عرفة
وعندما ذهبت للقاء هذا اللواء -وكان دمث الخلق- لأسأله عن المطلوب بدقة، وأحاول أن أقول له ضمنًا إنني في البحث الذي سأكتبه لينشر ضمن هذه الدراسة التي أعدها 20 من كبار الباحثين والخبراء، سوف أكتب بحرية لا على طريقة حكومة مبارك في ذلك الوقت، لـ”تزيين” الواقع، فاجئني الرجل قائلًا: “اكتب ما تراه.. هل ترى مصر رايحة في داهية أم لا؟”
وعندما التقيت مع الدكتور إبراهيم محمد منصور رئيس مركز دراسات المستقبل بمركز معلومات مجلس الوزراء المصري، للتنسيق للدراسة والجلوس مع المشاركين فيها ومنهم د. أحمد عكاشة، و د. أحمد عمر هاشم، و د. أحمد حجازي، ود. وليد عبد الناصر، ويوسف القعيد، ووجدي رياض، وليلي حافظ، وعاطف الغمري، وغيرهم، قال لي نفس الكلام أن أكتب بحرية.
وبصرف النظر عن أنني علمت لاحقًا أن الدراسة التي نشرت في كتاب بعنوان: (أجنحة الرؤية: نحو نسق إيجابي للقيم الاجتماعية يحلق بالمصريين إلى أفق الرؤية المستقبلية لمصر 2030)، أثارت أزمة في مجلس الوزراء؛ لأن ما كتبته أنا تحديدًا ونشره الصحفي إبراهيم عيسي في مقاله بجريدة الدستور حينئذ، اعتبروه اعترافًا من الحكومة بانهيار القيم في مصر، فضلًا عن علمي أن هذه الدراسة وغيرها من دراسات المركز القيمة كانت تلقى في القمامة، فقد كشفت الأحداث التي تمر بها مصر حاليًا أنها “رايحة في داهية”!
لماذا؟ .. الأمر لا يتعلق فقط بانهيار منظومة العدالة والحرية والديمقراطية والمساواة، التي قامت بسببها ثورة 25 يناير، والانقلاب على هذه الثورة وعودة نفس الأوضاع كما كانت في عهد مبارك وأسوأ، ولكنه لأن الواقع المصري استمر في نفس الانهيار الأخلاقي والقيمي الذي يحرص عليه كل حاكم ؛لأن الديكتاتورية لا يمكنها أن تعمل في أجواء صحية والبيئة المناسبة لتكاثرها هي بيئة الفساد والانحلال الخلقي في المجتمع وانتشار كل القيم الفاسدة.
ولو عرضت لكم ما جاء في دراسة مركز الدراسات المستقبلية التابع لمركز معلومات مجلس الوزراء المصري حول قيم المجتمع المصري وكيف تغيرت وكيف ستكون صورتها عام 2030 ربما تندهشون؛ لأنها نفس البيئة التي حاولت ثورة 25 يناير انتشال مصر منها، ولكن تم الانقلاب عليها وإعادة نفس النظام القديم بأسوأ مما كان فيه.
فالدراسة الرسمية المصرية توصلت لحقيقة مفزعة تؤكد ما أسمته “انقلابًا صادمًا في منظومة القيم المصرية المتعارف عليها، والتي حفظت قوام الشخصية المصرية: من نخوة وشهامة واعتدال وتسامح وأريحية وإيثار ونجدة ودقة وإتقان وتفان، وتتسلل قيم سلبية غريبة تفرض ضغوطًا على تحقيق أية خطط حالية أو رؤى مستقبلية لمصر.
وقالت (الدراسة) إن هذا الانقلاب في قيم المواطن المصري انعكس على غياب العديد من القيم النبيلة وحلول قيم سلبية محلها ،وأن هذا الأمر انعكس على غياب مواطنة المواطن المصري نفسه وغربته في بلده وفقدان القيمة العليا وهي الانتماء للبلد.
وقد وصف د. ماجد عثمان رئيس مركز المعلومات، حينئذ، الدراسة بأنها “حملت خلاصة عشرين بحثًا لأهم باحثي مصر وخبرائها قدموا فيها رؤيتهم لأزمة القيم في المجتمع المصري وأسباب تدهورها”، وقال اللواء محمد شريف عبد العزيز مسؤول مركز الدراسات المستقبلية بمجلس الوزراء إنها “دراسة علمية مركزة تبرز ماذا حدث للإنسان المصري ومواطن الخلل وطرق علاجها فيه”.
أما الهدف من هذه الدراسة فكان: “تحديد مصادر هذا التدهور في البيئة الداخلية والإقليمية والدولية خلال نصف القرن الأخير ومحاولة التعرف على تداعيات تدهور منظومة القيم، لطرح استراتيجية تعالج الخلل الراهن في منظومة القيم وتصبح عونًا على خروج رؤية مستقبلية لمصر عام 2030″ بحسب د. محمد إبراهيم منصور مدير مركز الدراسات المستقبلية التابع لمجلس الوزراء.
غياب العدالة والقدوة
وقد قلت في الجزء الخاص بي في هذه الدراسة وركزت عليه صحيفة “الدستور” حينئذ ما أثار أزمة ولفت الأنظار للدراسة باعتبار أنها دراسة حكومية تنتقد الحكومة: ” لقد انتفت قيمة العدالة على جميع المستويات، حيث علا شأن لاعبي الكرة والفنانين في الوقت الذي خُسف فيه مقام العلماء والمفكرين والمخترعين والرموز العلمية «أطباء-أدباء-مفكرين-علماء دين-علماء علم-أساتذة-معلمين»، مرورًا بانتفاء العدالة الوظيفية «المحسوبية»، والسياسية «تزوير الانتخابات»، والاقتصادية «الرشوة والفساد وغياب الطبقة المتوسطة لصالح فئة قليلة من أصحاب المال»، والاجتماعية «تصعيد الفئات المنافقة وكتبة السلطة ومؤيديها» على حساب أصحاب الكفاءة العلمية والفنية والوظيفية الحقيقية «العلماء والأطباء والمهندسين والمفكرين.. إلخ» ما انعكس على حالات إحباط متتالية لدى غالبية فئات الشعب كان لها أثر مدمر في الشخصية المصرية بسبب سياسات الإفقار”.
ونبهت لأن هذه القيم مؤثرة للغاية علي طلاب المدارس، الذين باتوا يتخذون لاعبي الكرة وراقصي الفيديو كليب نبراسًا لهم وقدوة في حين غابت القيم القديمة، حيث كانت القدوة سابقًا هي للطبيب أو الضابط أو المعلم وغيرها.
أيضًا، قالت الدراسة إن: “قيم النفاق والنفعية والوصولية والتواكل والصعود على أكتاف الآخرين بدون مجهود باتت هي الصفات الغالبة، وأصبح التفاني في العمل أو العلم والاختراع أو تعليم الأجيال غير مُرحَّب بها ونتج عن ذلك كثرة ظواهر الانتحار لعدم القدرة على العمل رغم الحصول على مؤهل عال أو عدم القدرة على الزواج، وكذلك انتشار المخدرات بين الشباب وعادات الزواج العرفي وانتشار الأفكار المتطرفة سواء الدينية: جماعات عنف جديدة أكثر شراسة متوقعة نتيجة الفساد والشعور بالظلم وأكثر تكنولوجيا؛ لأنها تتواصل بالإنترنت والوسائل الحديثة، أو الدنيوية مثل جماعات عبادة الشيطان، أو الشذوذ أو تجارة البنات والرقيق الأبيض والسحر والدجل والشعوذة فضلًا عن تزايد حالات الخروج على الأمن والنظام من قبل عصابات وتزايد الجرأة في مواجهة أجهزة الأمن. والسبب واضح وهو انعدام العدالة”.
التحلل من قيمنا الأصلية
وقد أكد خبراء آخرون في نفس الدراسة أن هناك تغيرًا محسوسًا طرأ علي بنية الإنسان المصري في الخمسين عامًا الأخيرة، تمثل في التحلل من بعض قيمه الأصيلة التي تميز بها، مما زاد من السلبيات بشكل واضح حتى أصبحت تشكل ظواهر عامة في كثير من الأحيان، وأنه لوحظ على الإنسان المصري انفعالات مختفية تحت بعض الصمت والسكينة، تبدأ بالمجاملة وتنتهي بالنفاق، وبدلًا من القلق الجماعي ومواجهة الأفكار والمفاهيم العديدة التي تتدفق على المجتمع هرب المصري إلى الغيبيات؛ حيث الطمأنينة المزيفة من التواكل، وامتزجت روح الفكاهة بالاكتئاب.
وأنه نتج عن هذا الغياب أو الانتفاء للقيم فقدان القيمة العليا، وهي الانتماء للبلد حتى أصبح كل مواطن جزيرة منعزلة إلى الحد الذي يجعله غير عابئ بشيء في الوطن بدءًا بحقه الانتخابي وانتهاء بحرصه على عدم الإسراف في استهلاك المياه، وأصبح المواطن يتسم بالعدوانية الشديدة تجاه الملكية العامة، حيث يحطم هذه الممتلكات من مواصلات عامة، ويقتلع الأشجار أو يدمر النجيل الأخضر أو يتهرب من ضريبة، وغيرها من السلوكيات التي تدل على اللامبالاة بالإضافة إلى زيادة هجرة الشباب للخارج خاصة الدول الأوروبية وأمريكا، كما شهد المجتمع المصري هجرة بعض الشباب إلى إسرائيل، مما يدل على يأس الشباب من العيش في مصر ليرتمي في أحضان العدو الأول لوطنه، مانحًا أبناءه من زوجته اليهودية ديانتها.
تراجع قيمة التعليم والعلم
وهناك مخاطر أخرى من تراجع قيم العلم نفسه بعدما أصبح المواطن يسعى إلى تقليد الغير في إلحاق الأطفال بدار الحضانة التي تقدم أعلى خدمة (خمس نجوم)، ويتبعها البحث عن مدارس لغات بأعلى المصاريف، تقدم مناهج دراسية بعيدة عن الواقع وتنشر قيمًا جديدة عليه، وتزيف التاريخ الوطني، وتخرج تلاميذ متعددي الولاءات من مدارس فرنسية أو بريطانية أو أمريكية وأخرى ألمانية.
وذلك في الوقت الذي تفتقر فيه بعض المدن في جنوب مصر الفقير إلى مبان للمدارس أصلًا، وقد يقف المدرس تحت شجرة ويعلق السبورة على أحد فروعها، ومدارس تعمل ثلاث فترات في مدن أخرى صباحًا وعصرًا ومساء، بأبنية متهالكة الأمر الذي ينتج إنسانًا مغتربًا عن وطنه، سواء تعلم في جامعات الخارج أو الداخل.
المضحك، أنه وكنتيجة لضياع قيمة التفكير العلمي، أصبحنا نجد مفردات متداولة عجيبة؛ فالمهموم أصبح يقال إن “عنده فكر”!، والذي يمرض يكون مرضه بسبب أنه يفكر!، والذي يحاول أن يتأمل ويعمق الأمور والأشياء يقولون إنه “يتفلسف”!، وكلمة “فلسفة” و”فيلسوف” باتت كلمة سلبية تسخر من الذي يحاول أن يفكر بصورة جادة، ويعبر عن فكره، ويرجع الظواهر إلى أصولها وليس إلى الغيب أو الخيال؟!
وقد أثر هذا على تراجع قيم العمل أيضًا، حيث أصبح الحصول على عمل مرهونًا بالواسطة، وأصبح العمل مقصورًا على خريجي الجامعات الأجنبية، أما خريجو الجامعات الحكومية فليس أمامهم سوى الانتظار بلا نهاية، أو البحث عن الواسطة. فضلًا عن انتفاء قيمة الانضباط في العمل والإتقان.
وكذا، تراجعت قيمة الأمانة ما أدى لانتشار الفساد الذي يعد أحد الأسباب الرئيسة للتغير في الضمير والأخلاقيات والقيم والتسبب لدى المواطن، حتى أصبح المسؤول الكبير الذي يحتفظ بالهدايا التي تقدم له من جهات في الداخل أو الخارج يشبه “بالنبي الذي قبل الهدية”!
كما تراجعت قيمة الأسرة وأصبحت الأسرة المصرية تواجه خطر التفكك، مما أفقد الفرد الشعور بالانتماء الكامل لأسرته، وتراجع قيم مثل: التفاني في رعاية الوالدين، والتراحم والتواد مع الأشقاء والشقيقات، وصون الحقوق وغيرها.
أيضًا، قالت الدراسة إن: “قيم النفاق والنفعية والوصولية والتواكل والصعود على أكتاف الآخرين بدون مجهود باتت هي الصفات الغالبة، وأصبح التفاني في العمل أو العلم والاختراع أو تعليم الأجيال غير مُرحَّب بها ونتج عن ذلك كثرة ظواهر الانتحار لعدم القدرة على العمل رغم الحصول على مؤهل عال أو عدم القدرة على الزواج، وكذلك انتشار المخدرات بين الشباب وعادات الزواج العرفي وانتشار الأفكار المتطرفة سواء الدينية أو الدنيوية”.
التنبؤ بظهور “داعش “
وهناك نقطة مهمة أشرت لها في الجزء الخاص بي في هذه الدراسة حينئذ (2009) تتوقع انتشار “جماعات عنف جديدة أكثر شراسة نتيجة الفساد والشعور بالظلم”، بخلاف جماعات أكثر تكنولوجية وتطورًا لأنها تتواصل بالإنترنت والوسائل الحديثة، والأخرى المتطرفة العدمية التي ظهرت بالفعل مثل جماعات عبادة الشيطان.
والأخطر هو فقدان القيمة العليا، وهي الانتماء للبلد حتى أصبح كل مواطن جزيرة منعزلة إلى الحد الذي يجعله غير عابئ بشيء في الوطن وأصبح المواطن يتسم بالعدوانية الشديدة تجاه الملكية العامة، حيث يحطم هذه الممتلكات من مواصلات عامة، ويقتلع الأشجار أو يدمر النجيل الأخضر أو يتهرب من الضريبة وغيرها من السلوكيات التي تدل على اللامبالاة بالإضافة إلى زيادة هجرة الشباب للخارج خاصة الدول الأوروبية وأمريكا، وهجرة بعض الشباب إلى إسرائيل، مما يدل على يأس الشباب من العيش في مصر ليرتمي في أحضان العدو الأول لوطنه، مانحًا أبناءه من زوجته اليهودية ديانتها.
أما أخطر جزء في الدراسة فهو: “التحول السلبي والضعف والخلل في شخصية القدوة بداية من الزعماء السياسيين والروحيين، وانتهاء بلاعبي الكرة ومطربي الفيديو كليب الذين ساهم الإعلام في تلميعهم -ضمن عملية التلميع الإعلامي لرموز وقدوات سلبية- مما أدى إلى تشويه صورة القدوة بحيث أصبحت القدوة للأجيال الجديدة ليست هي المدرس أو الموظف العصامي المحترم، وإنما هي المليونير النصاب الذي نجح في تكوين ثروة في زمن قياسي وهرب أو الراقصة التي اشتهرت وباتت تتقاضى آلاف الدولارات أو لاعب الكرة -الفاشل دراسيًا- الذي نجح في الحصول على عقد في ناد شهير بمبالغ خيالية، أو مطرب نصف موهوب.
خلاصة ما أردت قوله هو إن: الخطورة لست في الأنظمة السياسية الفاشية الفاسدة، ولكن في رعايتها لنشر القيم الفاسدة ونشر الانحلال وقتل الأخلاق في المجتمع، فهذه هي البيئة التي تترعرع فيها هذه الأنظمة وتنمو بينما تموت وتضمحل في البيئة الأخلاقية النظيفة، ولهذا عندما نقول إن (مصر رايحة في داهية) فهذا ليس قاصرًا على الحالة السياسية وانسداد أفق التعبير السياسي وانتشار القمع، ولكنه تعبير عن مرض متعفن أخطر يتغلغل كالغرغرينة في الجسد الاجتماعي المصري -والعربي- ليضرب جذور المجتمع الحضارية الإسلامية وينشر بدلًا منها قيمًا غريبة عن مجتمعاتنا تجعل المستقبل -لو استمر هذا الحال- أخطر من أن يتم إصلاحه في سنوات قليلة؛ لأنه يمس “الإنسان” نفسه محور الكون”.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق