الدولة ضد الأمة
من مفارقات زماننا وعجائبه أن استعدادنا للتواصل والتفاهم مع الأعداء صار أفضل منه مع الأشقاء. كان ذلك تعليقي على ما قرأت ما نشر بخصوص الإعلان الذي تم عن اتفاق الأتراك والإسرائيليين على تطبيع العلاقات بينهما بعد قطيعة استمرت ست سنوات.
صحيفة «حريت» المعارضة التركية هي التي نشرت الخبر في عدد الثلاثاء ٢٦/ ٦، وذكرت أن مؤتمرا صحفيا سيعقد في أنقرة يوم الأحد (اليوم) لإعلان التوصل إلى اتفاق البلدين على إنهاء الأزمة بينهما ومن ثم طي صفحتها والتطلع إلى صفحة جديدة للتعاون المشترك.
شعرت بالغيظ حين وقعت على الخبر، وتلبستني الغيرة. حين قرأت أن تخفيف الحصار على قطاع غزة هو الذي آخر الاتفاق، ومد أجله لستة أشهر. ذلك أن المشكلة بدأت باعتداء إسرائيلي على سفينة الإغاثة «مافي مرمرة»، التي حاولت في عام ٢٠١٠ كسر الحصار على القطاع.
وكان عليها عدد من النشطاء، إلا أن إسرائيل تعرضت لها في عرض البحر وهاجمت ركابها، الذين قتل منهم عشرة بينهم تسعة من الأتراك. وهو ما أجج الخلاف بين البلدين وأحدث قطيعة استمرت منذ ذلك الحين. وأعلنت أنقرة آنذاك أنها لن تعيد العلاقات مع إسرائيل إلا إذا استجابت لثلاثة شروط.
أولها الاعتذار عما بدر منها.
ثانيها دفع تعويضات مناسبة لأسر الضحايا. أما الشرط الثالث فتمثل في رفع الحصار الظالم عن قطاع غزة.
وسواء تم ذلك بتدخل أمريكي أو بمبادرة إسرائيلية، فقد قدمت تل أبيب اعتذارها رسميا إلى أنقرة في عام ٢٠١٣ ثم دخلت في مفاوضات مطولة بخصوص موضوع تعويض أسر الضحايا، انتهت بالاتفاق على مبالغ التعويض مقابل سحب القضايا المرفوعة من الأتراك ضد الضباط والمسؤولين الإسرائيليين أمام المحاكم التركية والدولية.
أما ما تعلق بالموقف من حصار قطاع غزة فقد كان الملف الأكثر حساسية وتعقيدا الذي أجريت بشأنه مفاوضات مضنية واتصالات عديدة طوال السنوات الثلاث اللاحقة. ولأن الحصار أسهمت فيه إجراءات إسرائيلية وحسابات إقليمية فإن سقف المفاوضات لم يحتمل كسر الحصار بمعنى رفعه تماما بما في ذلك إطلاق حرية الحركة التي تشمل معبر رفح.
فقد تبين أن المفاوضات يمكن أن تحقق تقدمها على صعيد تخفيف الحصار وليس كسره أو رفعه تماما، خصوصا أن الأطراف الإقليمية العربية لم تكن بعيدة عن مناقشة حدود التخفيف الممكنة. ومن التقرير الذي نشرته الصحيفة التركية فإن الاتفاق في ذلك الجانب شمل النقاط التالية: وافقت إسرائيل على إنهاء إجراءات بناء مستشفى لخدمة الغزيين. وأقرت بعدم وضع أي عراقيل أمام وصول الأدوية والأجهزة والموظفين الأتراك العاملين في المشروع وستتعاون ألمانيا مع تركيا في بناء محطة لإنتاج الكهرباء وحل مشكلة النقص الفادح في الطاقة الكهربائية بالقطاع ــ ستقوم تركيا ببناء محطة لتحلية المياه في غزة ــ وستمر جميع المساعدات دون أي عراقيل عبر ميناء أشدود إلى القطاع.
قبل أن أسترسل ألفت الانتباه إلى أنني لست في وارد الحفاوة بأي تطبيع مع إسرائيل وأعتبر أن مقاطعة نظامها الفاشي والاستيطاني هي الأصل وإذا كانت تركيا قد تورطت في تلك العلاقة منذ عام 1949، حيث كانت ثاني دولة ذات أغلبية مسلمة تعترف بالكيان الصهيونى (إيران اعترفت بها عام 1948 وكانت الأولى)، فإنني أزعم بأن العلاقة مع إسرائيل أصبحت «عاهة سياسية» أصيبت بها تركيا وينبغي أن تتخلص منها يوما ما. وإزاء اللامعقول السياسي الحاصل في العالم العربي الذي انقلبت في ظله المعايير، فإن التطبيع الذي يفيد قطاع غزة يظل أقل سوءا من التطبيع الذي يشدد الخناق عليه. وقبولنا المؤقت بهذا الوضع في الحالة التركية يعد من قبيل تفضيل العور على العمى.
الاتفاق والتطبيع الذي أعلن يستدعي المفارقة التي أشرت إليها في السطر الأول، ويعبر عنها السؤال التالي: لماذا تكلل التفاهم بين أنقرة وتل أبيب بالاتفاق، في حين استمرت القطيعة السياسية بين القاهرة وبين كل من أنقرة وطهران؟ أدري أن هناك خلافا في السياسات، لكننا فشلنا في إدارة الخلاف وسمحنا له أن يتحول إلى قطيعة. يتحمل كل طرف قسطا من المسؤولية عنها. هل لأننا نستقوي على أشقائنا؟ أم لأن حساسيتنا أشد إزاءهم بحكم العَشَم والوشائج المفترضة؟ أم أن موقفنا متأثر بضغوط خارجية لنا مصلحة في التجاوب معها؟ أم أن حساباتنا شخصية مع الأشقاء وموضوعية مع الأعداء؟ تعدد الأسئلة المثارة يعني أن الظاهرة تحتاج إلى مناقشة أوسع تفسِر وتصوب المسار وتعالج الخلل الذي يعتريه.
وإلى أن يتحقق ذلك فإن استمرار المفارقة يظل شهادة تدين العقل السياسي وتعلن فشل رؤيته الاستراتيجية، بدليل عجزه عن الحفاظ على التواصل المفترض مع الأشقاء الذي نسجته الوشائج على مدى التاريخ، الأمر الذي يضعنا أمام خسارة مضاعفة. ذلك أنا نضعف صفوفنا حين نخاصم الأشقاء ونقيم الجدران التي تفصلنا عنهم. في الوقت ذاته نقوي صف الأعداء حين نمد جسور الوصل والتحالف معهم، بحيث تصبح الدولة ضد الأمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق