هل الإسلام: قلة تتحكم بالثروة والسلطة وكثرة مهمشة مدقعة : أم تلك بداية الخروج من الإسلام؟
بقلم د . عبدالله الحامد
هاهم ولاة العرب والمسلمين في عهد هيمنة الصهيونية والأمريكية والإفرنجية الإمبريالية يسرفون في صرف الأموال،ويهتمون بالترف والملذات، ويشغلون شعوبهم بما يضعف الإرادة والعزيمة، من أجل ذلك تدرجوا بالأمة إلى الهزيمة, عن ولو كانوا ولاة أيتام عند قاض عادل لعزلهم. وبسبب رين الطغيان، الذي أطاش الميزان، ازداد الطاغية هيبة كلما ازداد سرقة من أموال الأمة، واعتبر كريما رحيماً، كلما صرف من سرقاته على الضعاف دينارا.
أ=الترف من إفرازات الطغيان ومكوناته:
بين ابن خلدون رحمنا الله وإياه في نظرية أجيال الدولة الثلاثة،-وهي نظرية من مصدر روماني قديم- أن الدول تعيش في قوة ما دامت بعيدة عن الترف، الداعي إلى الكسل ، لأنه يصرف الناس من عز الاستطالة إلى ذل الاستكانة، فينسون الخشونة ، ويبلغ بهم الترف غايته ، فيصبح الرجال في ليونة النساء والولدان، ويحرصون على مظاهر المجد ، وهم أجبن الناس ، فإذا جاء عدو مهاجم لم يقاوموا ، ويتخلخل البناء الاجتماعي لبنة من بعد أخرى حتى يسوى بالتراب .
وذكر ابن خلدون أن من مظاهر ذلك ، أن يتجاوز الناس ضرورات العيش وخشونته، إلى نوافله ورقته وزينته، وينزعون إلى رقة الأحوال في المطاعم والملابس والفرش والآنية ، ويتفاخرون في ذلك ، ويكون همهم التنافس في الطيب، ولبس الأنيق ، وركوب الأليف وبناء القصور، وينشغلون بكل مظاهر الأبهة من آنية وفرش ، ويؤثرون الدعة والراحة والسكون ، على النصب والجد والاجتهاد ، فيبتعدون عن صفات الخشونة والبسالة ، وينسلخون عنها شيئا فشيئاً.
ولذلك قال رحمنا الله وإياه:إن الترف مفسد للخلق ، بما يحصل في النفس من ألوان الشر والسفه. وكلما تفنن الناس في النعيم نقص من شجاعتهم بمقدار ما نقص من اعتدالهم ، وإنما الغلبة كما قال ابن خلدون للأمم ذات الإقدام والبسالة، ولذلك قال الرسول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: لما بعث معاذا إلى اليمن : " إياك والتنعم، فان عباد الله ليسوا المتنعمين " (رواه أحمد والبيهقي صححه الألباني)وقال : " شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم ، يأكلون ألوان الطعام ، ويلبسون ألوان الثياب ويتشدقون في الكلام "(رواه الطبراني وصححه الألباني).
ولكن ما لم يقله ابن خلدون هو أن شيوع الترف في قوم، يعنى شيوع الفقر في قوم آخرين، ومقتضى ذلك غلبة القلة المثرية المترفة على الكثرة المدقعة
وإنما ذم الترف –أكثر من ذم الفقر- لخمسة أسباب:
الأول: أنهم أكثر الناس حفاظا على الواقع الفاسد، لأنهم تقليديون، يكرهون كل تغيير حتى لو كان إصلاحا، كما قال تعالى""كَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ "(الزخرف:23).
الثاني: أنهم ميالون إلى الشهوات، والشهوات تستدعي الاستسلام للمغريات، لأن المبادئ تستلزم التضحية بكثير من رغبات الجسد وملذاته.
الثالث: أنهم يستعبدون الناس، فهم أكثر الناس فتكا بالمساواة، فالمترفون هم صناع الاستعباد، الذي يتحولون هم به إلى عبيد للرخاوة مستسلمين لجلادهم، لأنهم لا يطيقون التضحية، لأن الترف والاستسلام يضعفان الإرادة، ويجعلان الناس حريصين على استدرار ما هم عليه من أثداء الترف والنعومة والاستكانة.
والمترفون هم منتجو نظام الطبقات، من أجل ذلك لم يتحرر الهنود من استعمار الإنجليز، حتى تحرروا –نسبيا-من نظام الطبقات المقيت الذي قسمهم إلى براهمة وشودر.وهذا ما لاحظه غستاف لوبون أيضا عندما قارن بين الهنود والإنجليز(أصحاب شركة الهند الشرقية)، قبل استقلال الهند.
الرابع: أنهم من علامات الاستكبار في الأرض، ولذلك كان المترفون أول من يحارب الأنبياء ودعاة القسط، كبرياؤهم تصم آذانهم عن سماع الحق، كما قال تعالى"وما أرسلنا من قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون"(الإسراء:34). ولذلك وصف الله المترفين في القران الكريم؛ بأنهم أعداء كل إصلاح ، وخصوم كل حق .
والمترفون ينشئون تابعين مستكينين، والتابع المدقع والمتبوع المترف أكثر الناس انزلاقا في هاوية الفواحش ، لأن إشباع بطونهم وشهوات فروجهم وإرضاء ملذاتهم ، وملء جيوبهم هو الهدف الذي يحيون لأجله ، وبذلك تتنامى فيهم الرخاوة والأنانية والأثرة، وتضعف صفات الإيثار والصدق والشهامة والاستقامة.
الخامس: أن استشراءهم من علامات دمار الأمة والدولة، كما في قال تعالى:"حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب؛ إذاهم يجأرون"(المؤمنون:64).
ولذلك رأى (منتسيكو) الفيلسوف الفرنسي أن الترف مجلبة لفساد الدولة لأنه يصرف الناس عن حب الوطن، ويجعل النبلاء (الاستقراطين ) يجرون وراء مصالحهم فيعم البلاء.
ولأن المترفين ينتجون المستعبدين،قرر القران أن الترف كالاستكانة كلاهما يهلك الأمة، قال تعالى"إن الإنسان خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا، إلا المصلين".
وأوجب الإسلام محاربة طبقة المترفين الفاسدين، وإلزامهم بالوقوف على حدود الاعتدال ، وتوعية طبقات المستسلمين لأن الهلاك لا يصيب المترف وحده ، بل ولا الجماعة التي هو فيها "وإذا أردنا إن نهلك قرية ، أمرنا مترفيها ففسقوا فيها".
ب=فرعون العربي استخف قومه فأطاعوه:
وهاهم ولاة العرب والمسلمين في عهد هيمنة الصهيونية والأمريكية والإفرنجية الإمبريالية يسرفون في صرف الأموال،ويهتمون بالترف والملذات، ويشغلون شعوبهم بما يضعف الإرادة والعزيمة، من أجل ذلك تدرجوا بالأمة إلى الهزيمة, عن ولو كانوا ولاة أيتام عند قاض عادل لعزلهم.
وبسبب رين الطغيان، الذي أطاش الميزان، ازداد الطاغية هيبة كلما ازداد سرقة من أموال الأمة، واعتبر كريما رحيماً، كلما صرف من سرقاته على الضعاف دينارا.
ولو سرق وصي مال سفهاء أو قصر أو أيتام، وقالوا: لحجروا عليه وقالوا:وصي سارق، أو أسرف امرؤ في تدبير ماله، لحجروا عليه وقالوا: مسرف طائش.
فكيف سكتوا أمام سلطان الطغيان، وسرقته وإسرافه أكبر وأظهر؟.
أليس هذا يخالف منهج السلف الصالح المصلح من المجاهدين بكلمة الحق أمام السلطان الصحراوي المستبد، وكم كلمة لشيخ حكيم أمام حاكم قديم تدوى على مر الزمن، نجدها من خلال الحوار بين الفقيه عبدالله بن عبدالعزيز العمري وهارون الرشيد وهما يطوفان بين الصفا والمروة :
العمري : يا هارون
هارون :نعم
العمري :ارق الصفا ( فرقاها)، فأردف العمري =ارم بطرفك
هارون:لقد فعلت
العمري:كم هم ؟
هارون:خلق لا يحصيهم إلا الله
العمري: اعلم أيها الرجل إن كل واحد منهم يسأل عن خاصة نفسه، وأنت وحدك تسأل عنهم كلهم، فانظر كيف تكون
( فبكى هارون الرشيد )
العمري: وأخرى أقولها لك
هارون: قل يا عم
العمري: إن الرجل ليسرف في ماله فيستحق الحجر عليه، فكيف بمن أسرف في مال المسلمين؟.
ج=من يحجر على الخليفة؟:
كلام العمري كلام (مبدئي)صحيح، ولكن من يحجر على الخليفة؟ كيف وما (الوسيلة) لماذا نردد حكمة الفئران والقط، التي نسجتها المسكنة في كهوف الفرعنة؟: من يعلق الجرس؟، هل نردده أم ندرك أن الأمر ليس مستحيلا؟، أجل إنه أمر صعيب ولكنه ليس مستحيلا.
وهاهم الأمريكان والأوربيون؛ أطرو (الحكام )أطرا، فكيف نصل إلى ذلك؟.
الشعب يحتاج إلى قيادات من العرفاء ولا سيما من الفقهاء تتقدم موكب مسيرة الخلاص والتضحية المبصرة.
بحاجة إلى تحديد (الهدف): قوامة الأمة-ممثلة بنوابها وقضاتها وجمعياتها المدنية الأهلية-على ولاتها.
و بحاجة إلى تحديد (الوسيلة): رفع علم الجهاد السلمي.
بذلك ينشق النهر جماهير حتى يحجر المسلمون ولا سيما العرب على الحكام السفهاء، كما فعل الأوربيون والآسيويون والأفارقة الأحرار.
لقد بكى هارون دقائق، ثم مسح دموعه، وعاد إلى سيرة السفاح والمنصور، لأنه ليس ثمة تكتل مدني أهلي يقف في عرفات أو في موسم الحج: ويقول ياهارون اعتدل أو اعتزل، وإن لا فجهادك السلمي أولي من جهاد عدوان الروم.
د-سر انفجار سد مأرب:
هذا وقد ارتبط في تاريخ الأمم الرخاء بالسرف و الترف ، وارتبط السرف في جانب ، بالتقصير في جانب آخر ، وارتبط الترف بفساد الأخلاق ، وانحلال الأسر والجماعات والدول ، وارتبطت هذه الأمور بالظلم ، قال تعالى " كلا ان الإنسان ليطغى ان رآه استغنى "
من أجل ذلك فإن الأمة إذا تمادت في ترفها، تمادت في تظالمها، فتدحرجت في مهاوي السقوط، وصارت كالعربة في المنحدرة في المنحدر ، كما قال الشاعر:
إذا تم شيء بدا نقصه ترقب زوالا إذا قيل : تم
وقد تكون الأمة متهاوية من الداخل، جاهزة للسقوط، بترفها وضعفها، فإذا غزاها عدو عجل بنهايتها، وإلا تحللت بنفسها وتآكلت.
وهذا الزوال طبيعي معلوم الاسباب والنتائج،(حتم) أو(احتمال) في سنن الله الاجتماعية والسياسية المطردة، التي تدل على أن وقوع العقوبة الإلهية طبيعي تلقائي، على كل مجتمع تظالم وفجر ومارس الفواحش، لا بأسلوب العقوبات الماحقة الخارقة،التي حاقت ببعض الأمم التي قص القران أخبارها، كقوم نوح وعاد وثمود وفرعون، بل كما جرت سننه الله المطردة، في كل زمان ومكان، في الأمم والدول والحضارات، كما حدث وما هو متناقل في الأمثال والحكايات والوقائع الثابتة بين الشعوب، لأن شيوع الفجور والفواحش، يخرب البناء الاجتماعي ، ويشيع الآفات النفسية والجسدية.
ولأن أهل التظالم ، سواء أكانوا ظالمين أم ساكتين ،يشربون كأس الهوان والانحدار، ولأن أهل الطغيان يسقطون سريعاً، ولو كانت لهم قوة ومنعة وسلطان ، لأن الاستبداد جوهر كل خراب وفساد، لأن الله يسلط عليهم بمقتضى سننه الاجتماعية السياسية المطردة عدوا يغزوهم، كما عاقب بني إسرائيل لما فسدوا، فبعث عليهم ( بختنصر) فقتلهم وخرب ديارهم ، وأذلهم وسبأ ذراريهم ، قال تعالى " فبعثنا عليهم عبادا لنا ، أولي بأس شديد ، فجاسوا خلال الديار ".
وهذا ما أكده في " قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا ظهرت المعاصي في أمتي ، عمهم الله بعذاب من عنده ، فقالت أم سلمة : يا رسول أما فيهم يومئذ أناس صالحون ؟
قال : بلى ، قلت : فكيف يصنع بأولئك ؟ قال : يصيبهم ما أصاب الناس ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان" (رواه أحمد وصححه الألباني ).
وعن عمر بن الخطاب قال : كنت عاشر عشرة رهط من المهاجرين عند رسول الله عليه الصلاة والسلام ، فأقبل علينا بوجهه فقال:" يا معشر المهاجرين خمس خصال أعوذ بالله ان تدركوهن : ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى اعلنوا بها إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في اسلافهم الذين مضوا ولا نقص قوم المكيال والميزان الا ابتلوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان ، وما منع قوم زكاة اموالهم الا منعوا القطر من السماء ،فلولا البهائم لم يمطروا ولا خفر قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله عز وجل في كتابه إلا جعل الله بأسهم بينهم "(رواه ابن ماجه وصححه الألباني ).
قال صلى الله عليه وسلم:"اذا تبايعتم بالعينة ، وأخذتم اذناب البقر ، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد ، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا الى دينكم "
(رواه ابوداود وصححه الألباني).وفي هذا الحديث دليل جلي على أن الجهاد دفع عدوان أوطغيان.
وقال صلى الله عليه وسلم:" يا أيها الناس ان الله عز وجل يقول لكم : مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أجيبكم ، وتستنصروني فلا أنصركم ، وتسألوني فلا أعطيكم"
(حسنه الألباني)، فالأمر بالمعروفات ولا سيما المعروفات المدنية، هو صمام أمان المجتمعات كما وقع للمسلمين لما بعث الله لهم التتار، ولذلك قال الشاعر:
إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم
هذه العقوبات من سنن الله المطردة ، وهي آلية حتمية ، فضلا عن ما يمكن أن يصيب الناس من عقوبات حسب سنن الله الخارقة ،(للمزيد انظر للكاتب/ العدل والحرية جناحان حلق بهما الإسلام/ مركز الناقد الثقافي/ دمشق/ 1311هـ-2009م).
فكيف تتجنب الأمة الهلاك؟، أليس بتكاثر المصلحين، لا بمجرد وعاظ صالحين يبكون السلاطين؟
أليس بالبيعة الشرعية على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، التي مقتضاها قوامة الأمة على ولاتها مطلبا، وبالجهاد السلمي مركبا؟.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق