متى يفلت المواطن العربى من تناوب الاحتلالين الوطنى والأجنبى؟
د. عبدالله الأشعل
عرف العالم تاريخا طويلا من الثورات أى انقطاع الصلة بين وضع ووضع جديد بطريقة فجائية فى توقيتها وإن كانت تراكمية فى تكوينها وتحضيرها.
وتنقسم الثورات الكبرى إلى ثلاثة مجموعات، المجموعة الأولى هى الثورات الاجتماعية، والمجموعة الثانية هى ثورات الاستقلال ضد الاحتلال والاستعمار والمجموعة الثالثة هى الثورات النوعية كالثورة الصناعية والثورة العلمية وغيرها مما يعد قفزات إلى الأمام فى تاريخ الإنسانية، وهى عموماً الثورات الحضارية.
وقد لوحظ أن الثورات الحضارية لم تقع إلا فى الدول الغربية:أوروبا والولايات المتحدة، أما بقية دول العالم فقد عرفت الثورات الاستقلالية. صحيح أن الثورة الانجليزية كانت صراعاً بين الشعب والملك (ثورة كرومويل)، وكانت ثورة العبيد فى روما ثورة المهمشين ضد السادة، كما كانت الثورة الفرنسية ثورة من لايملكون ضد مالكى الأرض ومن عليها من الإقطاعيين البورجوازيين، إلا أن الثورة الأمريكية كانت ثورة المستعمرة على الدولة المستعمرة أى بريطانيون بشكل عام ضد بريطانيين، ولكن كل هذه الثورات ساهمت فى إرساء مبادئ الحرية والعدالة والمساواة وكانت زخماً ضخماً للنظم الديمقراطية وتراث الغرب الديمقراطى.
ثورات أوربا الصناعية والعلمية ثم ثورة العلم مع وسائل الاتصال نقلت البشرية قروناً رغم خيرها للإنسانية كلها.
أما فى العالم الثالث فقد عانى من احتلالين: احتلال أوروبى أمريكى قامت الثورات لمقاومته ويدخل فى ذلك ثورة العشرين فى العراق فى أوائل عشرينيات القرن العشرين وثورة 1919 فى مصر، أما ثورة 1952 فكانت حركة الجيش ضد الملك وما يمثله ثم صارت ثورة اجتماعية بعد أن رأى الشعب برامجها الاجتماعية والسياسية.
ومن هذا النوع انقلابات العراق 1958، 1961، وسوريا 1949 وليبيا 1969 والسودان 1969 وغيرها من انقلابات السودان وما تلاها ، أما ثورة الجزائر وثورات الريف المغربي فكانت ضد الاستعمار الاستيطانى.
وأما الثورات ضد الحاكم الوطنى، ففى معظم الأحوال كان الحاكم العربى صنيعة أو عميلاً للغرب ، ولذلك يمكن القول عموماً إن الغرب يقود البشرية بثوراته الإيجابية، ثم يصدر للعالم العربى أسباب شقائه وهو المشروع الصهيونى، والاحتلال الأجنبى، ثم الاحتلال الوطنى الذى يتولاه أذنابه ، وحتى لو أفلت حاكم من أن يكون صنيعة فهو يقع بعد ذلك فى سلك الأذناب إلا من رحم ربك.
ولعل الاحتلال الوطنى هو الأقسى والأشد لأن الحاكم من الشعب ولكنه يعمد إلى البطش بهذا الشعب، فيستمد شرعيته من رضا الخارج ويستقوى به فى الدعم العسكرى والسياسى، حتى إذا أعلن الشعب أنه يريد قدراً من الحرية والكرامة والثورة، انقض عليه الحاكم العربى، وتصبح الساحة بعد ذلك صراعاً بين "الشرعية الدستورية" الوهمية أساسها دستور وضعه الحاكم لسند بطشه وليس قيداً عليه لصالح شعبه، وبين خارجين على القانون، وقد عانت الشعوب العربية طويلاً من هذا الاحتلال المزدوج الوطنى الذى احتلت إرادته، وبذلك يدفع الشعب من كرامته لصالح المحتل الوطنى، ومن قوته لصالح الفاسدين من رجاله، كما يدفع الوطن من مصالحه وكرامته لصالح الخارج حتى يرضى الحاكم الوطنى أسياده. ولذلك عندما يبدأ الخارج فى الضغط على الحاكم الوطنى لإجراء الاصلاحات، فليس معنى ذلك أنه يتخلى عنه، ولكنه يريد أن يطيل بالإصلاح أمد بقائه وتجنبه الانفجار.
وبالفعل، لو كان مبارك قد ترك كوة صغيرة وألهى شعبه ببعض الفتات لما تجمعت عوامل الثورة عليه، ولما تعرض قاع النظام للانكشاف عن طبقات من الفساد تنوء بها الجبال، ولو كان ابن على قد فعل ذلك أيضاً لنجا ولظل مدى الحياة، بل لو كان مبارك قد مات حتى أثناء الثورة وقبل أن يصل إلى حد قتل الشباب عمداً والرصاص الحى، لكان للأمر وجهة أخرى.
لقد بارك الغرب مبارك وابن على وغيرهما، لكنه انقلب عليهما عندما أدرك أنهما هالكان وأن عالماً جديداً غريباً لا دخل له به ولا سيطرة له عليه قد بدأ يظهر.
ولكنى أظن أن الغرب يجب أن يتغير وأن يغير نظرته إلى العرب، فقد ظهرت أجيال جديدة ساهم العلم الحديث فى ظهورها، ولم يعد ممكنا أن ينصب الغرب حاكماً خاضعاً له حتى يتمكن الحاكم من ترجمة خضوعه للغرب إلى سياسات باطشة ضد شعبه، وليعلم الغرب أن قواعد اللعبة قد تغيرت وأن الديمقراطية والرخاء للجميع والتعاون وليس الاستعباد أو الإملاء مصلحة مشتركة فلن تخرج التربة العربية بعد اليوم حاكماً فاسدا كل مؤهلاته بيع وطنه للغرب أو لإسرائيل.
آن الآوان لكى يختار المواطن العربى نظامه وحكمه بنفسه ، وأن يتحرر من الدوامة التاريخية التى بدأت باحتلال وطنه ثم ثورة الاستقلال، ثم يحل الحاكم العربى محل المحتل الأجنبى فى وصله جديدة من القهر والنهب والاسترقاق بمساندة هذا المحتل فى زمن الاستقلال الوطنى الوهمى، فإذا ثار على حاكمه عاد إليه المحتل الأجنبى من جديد تحت صور مختلفة أوضحها الآن أن المحتل الجديد قادم ليخلص الشعب من الحاكم الظالم المستبد الذى صنعه هذا المحتل الأجنبى. حدث هذا فى العراق، وبدا أنه حدث فى مصر مبارك، ثم هاهو يحدث الأن فى ليبيا، حيث جاء انقلاب القذافى ثم ثار شعبه ثم بطش بهذا الشعب، ثم هم الغرب لانقاذ الشعب الليبى من قبضة الجلاد، والثمن دائماً هو تخليص الشعب من المحتل الوطنى حتى يحل محله المحتل الأجنبى وهكذا حتى صار التاريخ العربى هو التناوب بين المحتل الأجنبى الذى يسلب إرادة الوطن، والمحتل الوطنى الذى يسلب إرادة الوطن والمواطنين، فلا يمكن أن نتصور كما أشاع البعض وروج أنه يمكن الفصل بين حرية الوطن وحرية المواطن. فمتى يتمتع الوطن والمواطن بالحرية والكرامة فى نظام ديمقراطى حقيقى ،هذا هو تحدى القرن الجديد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق