الخميس، 10 يناير 2013

رجل أسمه ياسر الجندي


 رجل أسمه ياسر الجندي
في ذكرى ميلاد د. ياسر الجندي رحمه الله.
د. أيمن الجندي
تحتاج الطرقات إلى مصابيح إنارة ..وتحتاج الأمم لأبطال قوميين ..ونحتاج نحن – الأفراد العاديون – إلى مثل أعلى ينير لنا الدرب ويشحذ الهمم ويجعلنا نؤمن أن الحياة ليست مجرد بالوعة قاذورات تزحف فيها الحشرات في دبيب صامت..حشرات بشرية تطيع غرائزها البداية فتنهب وتفسد وتسرق ..
أقولها بصراحة : زهقت من قراءة صحف المعارضة من كثرة ما يتسرب إلى من روائح محزنة مقرفة..
ولوهلة قررت أن أفر من هذه العتمة ..أستروح ذكرى بطل .
دعوني أحكي لكم عن حياة رجل .

اسمه ياسر الجندي ..قوي كأسد مهاب ..حزين كغيمة شتائية ..جميل كصور المسيح الذي تفنن في رسم ملامحه فنانو العصور الوسطي .. عيناه خضراوتان كشجرة زيتون..
طفولته كانت عادية جدا ..طفل شقي يفيض بالحيوية ..يطارد القطط والسيارات ويتسلق الأشجار ويهشم النوافذ ولكن أحدا لا يجرؤ على معاقبة الطفل الجميل جدا ذي الابتسامة الساحرة الآسرة ..صباه أيضا لم يكن ينبئ بجوهره الثمين ..مجرد شاب جامعي يأخذ الأمور بجدية ويستميت في دراسة علومه الطبية ..ويحرص على العدالة والصدق ويرفض أي نوع من التمييز يمكن أن تتيحه له وظيفة أبيه القاضي الكبير..ثم كانت اللحظة الفاصلة في حياته عندما تخرج فى كلية الطب بتفوق وبدأ العمل كطبيب امتياز في المستشفى الجامعي ليظهر المعدن الأصيل في نفسه وروحه ، وليعيد اكتشاف نفسه من جديد.
فوجئ بالفقر المدقع والمرض المذل والضعف الباكي …فوجئبالإهمال والقسوة وإهدار قيمة الإنسان ..وكلنا نعرف كيف تدار هذه الأماكن مع مرضى فقراء لا حول لهم ولا قوة …وجد نفسه تذوب رقة وإشفاقا ..وجد رسالته وطريقه كما لم يجدها أي طبيب من قبل وسرعان ما كرس حياته كاملة لهذا العمل النبيل..
لم يكن طبيبا كأي طبيب ..حدث انقلابا شاملا تام في حياته ولم يعد يعنيه من هذا العالم سوى تخفيف ألام المرضى …وتفانى في العمل .. لا يذهب لبيته إلا ساعات قليلة ينام فيها كل بضعة أيام ..نسى راحته ونفسه وأثار حيرة كل من تصادف أن عمل معه بقدرته الأسطورية على قمع نفسه ..حتى في فترة التدريب (الامتياز) ظل أساتذته ( وحتى الآن ) يذكرون انه عمل في هذا المكان طبيب غير عادي لم يصادفوا له مثيلا في الإخلاص والجدية والمثابرة..
ثم تسلم بعدها عمله الجديد كطبيب مقيم في قسم أمراض النساء والتوليد وتحمل مسئولية شبه كاملة عن مريضاته ..تفانى في عمله حتى انه قضى فترة الطبيب المقيم لا ينام لحظة واحدة في النوتبجية التي تمتد ليومين أو ثلاثة أيام لأنه كان يشعر بالمسئولية ويؤمن أنه لو نام لحظة فمن حق الكل أن ينام ..يتبرع بدمه في حالة وجود أي مريضة نازفة لدرجة تبرعه بالدم خمسة عشر مرة في عام واحد ولم يكن – كطبيب - غافلا أنه يؤذي نفسه ولكن صوابه كان يطيش لحظة أن يرى مريضة نازفة توشك على الموت …في ليلة واحدة وهو في قمة الإرهاق من العمل تبرع بدمه مرتين متتاليتين ..فأبي جسده أن يحمله وانهار رغم المقاومة .
وكان بذله للمال لا يوصف ..كل ميراثه عن آبيه وراتبه في رحلة العمر تحول لشراء أدوية الفقراء ..وبات يحرم على نفسه الطعام الجيد أو الرفاهية ..
لمدة عشرين عاما لم يذهب يوما لمصيف أو يتنزه ..إن مشاهد الفقر والمرض والضعف تعذبه ولم يكن ليحترم نفسه لو انه تساهل لحظة ..تحول العنبر المسئول عنه فى مستشفى الفقراء المجانى إلى جنة صغيرة على حسابه الشخصي فابتاع له كل الرفاهيات من ماله ومضى في طريقه يضئ ليل الآخرين المعذب كنجم هادي ..
………………………..
كان من أصحاب الفكرة الواحدة ولم تكن له أي حياة سوى مع مريضاته والمراجع الطبية ..كان عالما في مجاله ، تبحر وتعمق في تخصصه فلم يكن لديه شاغل غيره على مدىرحلة العمر ..وهدفه محدد : تقديم خدمة أفضل مؤمنا أن الطبيب – كالقاضي - يجب ألا يأخذ أجره إلا من ربه وإلا فقد نزاهته ، لذلك فهو لم يفتتح عيادة خاصة قط في حياته ولا دخل جيبه قرشا واحدا من مريضة بل كان يعطي – صحته وحياته وماله - بلا حدود ..تتحول كل مريضة إلى قضيته الخاصة التي تشغل باله ليلا ونهارا حتى يتم الله شفاءها أو يتولاها الله برحمته إذا كان ميئوسا من علاجها ..
كان مشغولا باستمرار ولذلك لم يكن ممكنا أن يستدرجه أحد للحديث عن نفسه أو يدلي بآرائه في السياسة أو يتحدث عن الكرة ..لم يكن يقبل أن يضيع لحظة واحدة في غير العلم والعمل به..كان يعرف هدفه ويسلك أقصر الطرق إليه دون أن يسمح لشيء بتشتيت انتباهه ..لم يكن يملك سيارة لأنه لا يريد أن يحمل هم امتلاك شيء وسيارات الأجرة تكفيه..وعزف عن الزواج والإنجاب ..وفهمه للدين كان مميزا: خدمة الآخرين والقيام بعمله على خير وجه ممكن …
………………….. .
المدهش والمثير للحيرة أن هذا الرجل النبيل قد حورب وأوذي كثيرا جدا ؟ كان هذا عجيبا حقا ..إنسان متجرد بهذا الشكل ليست له أي مطامع ..رفض أن يفتح عملا خاصا به ..يرفض النميمة والشللية ..ولا تهمه الترقية الوظيفية وغير مستعد للدخول في مناقشات سياسية أو اجتماعية ..إنسان لا تنفك أساريره الجادة العابسة إلا مع مريضاته البائسات ..يقضي معهن أوقات فراغه القليلة متربعا بجوارهن على السرير المعدني الرخيص الأبيض مستمعا إلى مشاكلهن البسيطة ويذوب رقة وضعفا إذا بكت إحداهن ..ببساطة إنسان خارج المنافسة البشرية بكامل
أليس عجيبا أن تحدث شبة عملية صيد آدمية له ؟
كيف ولماذا ؟
هل يكون السبب أنه تحول بالنسبة للنفوس الصغيرة المتكالبة إلى دليل إدانة مستمر ومرهق؟ ..هل كان يؤذيهم أن يروا صغار نفوسهم بجواره ؟ الله أعلم .
لكن الشيء المؤكد أنه كان يقف صامتا مقهورا لا يعرف كيف يرد على من يؤذيه وينتقص من قدره ويتهمه بالخبل والمبالغة..ثم ينصرف في أدب لأداء عمله .
ولذلك لم يكن عجيبا أن ينزلق في هاوية الاكتئاب والإجهاد الجسدي والروحي بعد ركض ما يزيد عن عشرين عاما منذ تخرجه .. ولكنه كان يرد على نصائح من يحبونه – وهم كثر - بالصمت فقط.

………………….

ولله تعالى حكمته التي لا يملك لها المؤمن سوى الإذعان ..لقد تعرض هذا الرجل النبيل لابتلاءات عديدة ..فمرة اكتشف وهو في عريض الطريق ضياع ملف مريضة فطاش صوابه وعاد أدراجه دون أن يفكر في النظر أمامه لتصدمه سيارة مسرعة ويقضي شهورا عديدة يعاني العجز والألم ..ومرات يتحرش به بعض الأشقياء وهو في طريق عودته متأخرا من المستشفى ..ومرة يسير في الطريق ليتصادف انتحار فتاة أمامه ليتناثر مخها أشلاء على قدميه ومرات يتعرض لصنوف من الاضطهاد من بعض أساتذته..
هكذا مرت أيامه ولياليه ..جنديا في معركة مستمرة دون زواج أو أبناء أو ترفيه حتى ضاعت نضارة الشباب وبدأت الكهولة المعذبة ,,وارتسمت ملامح العذاب والاكتئاب والمرض الجسدي على وجه الفارس النبيل ليلزم الصمت تماما وتبدأ رحلة العزلة فلم يعد أي شعاع نور في حياته سوى حبه لأطفال العائلة وتكريس أوقات فراغه القليلة لهم .
………………………………….
ثم جاء ذلك الصباح الحزين ..الأول من نوفمبر عام 2003
تأخر استيقاظه عن المعتاد ففتحوا الباب عليه فوجدوه منكفئا على وجهه في غيبوبة كاملة .. نزيف بالغ في المخ وظل في غيبوبته أسبوعا كاملا حتى فاضت روحه الكريمة بعد أسبوع وقت صلاة الجمعة في شهر رمضان المبارك.
في هذا الأسبوع حدث الكثير..
تذكر الكثيرون – بعد فوات الأوان - أنهم ظلموه ولم ينصفوه وهو حي ..
تذكروا وقتها فقط أنه كان يحيا بينهم رجل لم يطمع في دنياهم وبرغم ذلك شاركوا في قذفه بالحجارة أو صمتوا على إيذائه .
في أيام غيبوبته السبعة حل سلام روحي عجيب على ملامحه المتعبة ..وكأن كل أيام عذابه الماضية لم تحدث أبدا .. إن الألم مهما كان عظيما فانه ينتهي - حين ينتهي - ويبقى الأجر إن شاء الله ..
كان جميلا وقد نفض الغبار عن ملامحه المتعبة وعاد إلى رونقه وكأن المعركة لم تحدث أصلا.. أحسست بشكل ما وكأن كل ألام حياته لم تحدث على الإطلاق وأنا أراه في اكتمال رجولته يشع نورا وبهاء في سلامه المنعزل العميق .بعيدا عن هذا العالم الذي آذاه ، هو الذي لم يكن يريد منه شيئا..
ورحت أفكر كم من رجل من هذا الطراز يحيا بيننا دون أن نشعر به؟..
رجل يؤدي واجبه في الحياة على قدر الاستطاعة ..يؤديه في أسرته وفي عمله وبين أقاربه ..المعدن الأصيل للشعب المصري الذي لم ينفرط عقده -بفضل هؤلاء وحدهم - رغم هجمة الفساد المنظمة ؟ ..كميوجد بيننا في تلك اللحظة رجل شريف يعاني من الفاسدين دون أن يفكر أحدنا في إنصافه حتى إذا مات : قلنا خسارة ، رجل لن يعوض ، ورحنا نلوم أنفسنا وننصره في خيالنا بعد أن لم يعد لنصرتنا أي قيمة . لأنه ببساطة ذهب إلى من لا يضيع عنده الأجر ولا يخفى عليه التعب ولا ينسى مكافأة المجتهد .

اقرأ ايضا
فى ذكرى أخى    



………………………….

مات ياسر الجندي وبموته نقص الجمال في الأرض.. وذهب رجل فهم الدين على معناه الصحيح وسط كل هذا الضجيج حولنا ، فهم الدين أنه عمل باخلاص وليس كلاما أجوف ..ولذلك فقد بذل نفسه كاملة من اجل المرضى.. رحمه الله رحمة واسعة و ألحقنا به فى الصالحين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق