الأربعاء، 1 يناير 2014

الطير التركي لا يؤكل لحمه!


الطير التركي لا يؤكل لحمه!

أحمد بن راشد بن سعيّد


حقائق الصراع في المنطقة، وثقافة الإمبريالية التي تسود العلاقة بين الشرق والغرب منذ قرون، لا تدع مجالاً للشك في أن ما يجري في تركيا ليس إلا «مكيدة» لإجهاض مشروع الحداثة الذي هندسه بنجاح اسثنائي حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب إردوغان.
المؤامرات جزء من السياسة، وهي حقيقة كونية وتاريخية، والمتابع قصة نجاح الأنموذج التركي على مدى 12 عاماً، لن يحتاج إلى ذكاء خارق ليدرك أن لظاهرة «الإردوغانية» أعداء لن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام إنجازاتها المدهشة في الداخل، وقوتها الناعمة التي ما فتئت تلهم الملايين وهي تعبر الحدود إلى المشرق.
لدى إردوغان الكثير مما يباهي به. فاز حزبه؛ العدالة والتنمية، 3 مرات في الانتخابات، واستطاع تحويل تركيا إلى الاقتصاد رقم 17 في قائمة أكبر اقتصادات الكون.
 عندما جاء إلى الحكم في عام 2002 كانت البلاد ترزح تحت وطأة ديون بلغت 26 بليون دولار، سددتها الحكومة في شهر أيار (مايو) 2013، ثم قامت بإقراض دائنها، صندوق النقد الدولي، 5 بلايين دولار.
 ارتفع دخل الفرد من 2700 دولار سنوياً عام 2002 إلى 12 ألف دولار عام 2013، وقفز الاحتياطي إلى 135 بليون دولار، بينما ارتفعت الصادرات من 32 بليون دولار عام 2002 إلى 154 بليون، وانخفضت البطالة إلى أقل من 9 في المئة، وانتشرت الجامعات في تركيا لتبلغ 170 جامعة، بعد أن كانت 70 فقط عام 2002.
 عندما زار إردوغان الولايات المتحدة في شهر أيار (مايو) 2013، أبلغ معهد بروكنغ ما يلي: «تركيا لا تتحدث الآن عن العالم. العالم هو الذي يتحدث عن تركيا» (مجلة فورن بوليسي، 2 حزيران/يونيو 2013).
واكبت المعجزة الاقتصادية سياسة خارجية أكسبت تركيا نفوذاً لم تشهد مثيلاً له منذ مطلع القرن العشرين. اتسم أداء هذه السياسة بقيادة أحمد داود أوغلو بالتجديد، ومد الجسور مع الدول في المحيط الإقليمي، والسعي إلى تطوير التعاون معها وصولاً إلى «تصفير المشكلات»، وبناء أنموذج جاذب، مغرٍ، وفريد، لاسيما في ظل مماطلة الاتحاد الأوروبي في قبول عضوية تركيا.
لكن هذا التقدم لم يستمر طويلاً بعد انتفاضات «الربيع العربي» التي أجبرت تركيا على الاستجابة لها، واتخاذ مواقف أخلاقية تتماهى مع الأنموذج الذي أرادته ملهماً لشعوب المنطقة. حاولت السياسة التركية إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة حتى مع أبشع الدول توحشاً، وتحديداً العصابة التي تحكم سوريا، لكن جرائم تلك العصابة لم تترك في قوس الصبر التركي منزعاً. لا معنى للتصفير، في زمن التغيير.
 في الحقيقة، شكّل «الربيع العربي» تحدياً كبيراً لصانع القرار التركي، لاسيما الثورة السورية التي كان أوارها يستعر في الجوار. كان تتابع الأحداث مفاجئاً وموجعاً، ولم تجد تركيا بداً من أن تلقي بثقلها مع الحق الأخلاقي والإنساني الذي جسّدته ثورة السوريين على حكم دموي طائفي لا يرحم.
كان موقف تركيا من سوريا أخلاقياً، تماماً كموقفها من فلسطين وتونس وليبيا، تماماً كموقفها من الانقلاب في مصر، والذي بادر وزير الخارجية، داود أوغلو، إلى استنكاره مطلع تموز (يوليو) 2013 بقوله إن سياسة بلاده مبنية على قيم أخلاقية تحترم إرادة الشعوب وترفض استلابها وتزويرها.
 ليس بوسع ثقافة الإمبريالية وربيبتها الصهيونية أن تتحمل كل هذا «الخروج» عن هيمنتها. أسقطت قوى الثورة المضادة النظام الديموقراطي المنتخب في مصر بالرغم من النجاحات التي حققها بعد حملة «شيطنة» ضخمة مولتها أموال النفط العربي بإشراف الإدارة الأميركية.
 ولا بأس أن تُجهض الديموقراطيات الهشة الوليدة في كل أنحاء منطقة المشرق، حتى في غزة؛ من أجل إبقاء شعوبها تحت التحكم، ومصادرة حريتها في تقرير المصير.
وقفت تركيا بقوة إلى جانب سوريا الشعب والتاريخ، ما أحبط كثيراً من المخططات الرامية إلى التمكين لوحوش الطائفة النصيرية وحلفائها الرجعيين في التهام المنطقة بأسرها. سوريا كانت نقطة التحول.
لولا الله ثم تركيا لضاعت الثورة السورية رغم كل ما يُقال (وبعضه حق) عن تقصير الإدارة التركية في حق شعب يتعرض للإبادة منذ سنوات.
 لكن الإمبريالية وذراعها الصهيونية لم تغفرا احتضان الأتراك للشعب السوري، وتقديم الدعم له، وتوفير العمق لثورته. ثم جاءت القشة التي قصمت ظهر البعير؛ مصر، حيث اضطرت تركيا إلى الاصطدام مع دول خليجية داعمة للانقلاب؛ وفاءً لمثال ضحت كثيراً من أجل إبقائه حياً.
ربما وجد أعداء تركيا في جماعة «خدمة» (حزمت باللغة التركية) نقطة الضعف التي يمكن من خلالها إسقاط حكومة حزب العدالة والتنمية، أو إضعافه على الأقل، وهز سمعته وصولاً إلى إفشاله في الانتخابات المقبلة (لم يبق على الانتخابات البلدية سوى 3 أشهر). تحالفت الجماعة (التي يرأسها فتح الله غولن، تركي متأثر بدعوة الشيخ بديع الزمان النورسي، ويعيش في ولاية بنسلفينيا الأميركية منذ عام 1999) مع حزب العدالة والتنمية، وصوّتت له في الانتخابات الثلاث التي دخلها منذ عام 2002. عاشت «خدمة» عصراً ذهبياً في ظل حكم الحزب الذي فتح لها الأبواب للانتشار في كل مفاصل الدولة من التعليم إلى الإعلام إلى الشرطة والاستخبارات، وحتى وزارتي العدل والخارجية. لكن الجماعة التي تحمل أجندة مختلفة عن أجندة حزب العدالة والتنمية أخذت تتململ من بعض سياساته الخارجية لاسيما موقفه من غزة، حيث هاجم غولن تسيير سفينة «مرمرة» التي أبحرت لإغاثة القطاع عام 2010 من دون الحصول على «إذن» إسرائيلي بحسب ما قال، وشعر كثير من الأتراك بالصدمة عندما حمّل غولن رئيس الوزراء التركي مسؤولية قتل إسرائيل 9 مواطنين أتراك على ظهر السفينة. انتقد غولن أيضاً سياسات إردوغان تجاه سوريا ومصر مشدداً على النأي بتركيا عن المشرق العربي، ورفض الانحياز إلى العرب، وانتهاج سياسات تصالحية مع واشنطن وتل أبيب. كثير ممن يحملون صورة ذهنية إيجابية عن «تديّن» جماعة «خدمة» لا يعلمون أن الجماعة لم تكن قط من أنصار غطاء الرأس في تركيا، ودعت الطالبات المحجبات خلال الحملات العلمانية عليه إلى خلعه والذهاب إلى الجامعات حاسرات. تدير حركة غولن شبكة ضخمة غير رسمية من المدارس ومخازن التفكير ووسائط الميديا في 5 قارات، ولها في الولايات المتحدة وحدها أكثر من 100 مدرسة، وتوجد لها مدارس أيضاً في مدينة شتوتغارت بألمانيا، فضلاً عن شبكة مدارس تديرها داخل الأرض التركية تبلغ 900 مدرسة.
استفزت الجماعة رئيس الوزراء إردوغان حتى في الشأن الداخلي، فثمة روايات صحافية تقول إن التفجيرات التي ضربت منطقة الريحانية في شهر أيار (مايو) 2013 كانت بسبب «تقاعس» بعض أفراد الشرطة التابعين للجماعة عن القيام بواجبهم.
 لكن الاستفزاز الأكبر كان موقف «خدمة» من الاضطرابات التي شهدها ميدان «تقسيم» في شهر حزيران (يونيو) 2013 حيث «تفهّمت» موقف المعتصمين، واتهمت إردوغان بالاستبداد، وأسهمت صحيفة توديز زمان المقربة من غولن، والتي تُطبع بالإنكليزية، في ترويج دعاية «دولية» مضادة لحزب العدالة والتنمية.
 في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 2013 أغلقت الحكومة المدارس التمهيدية للجامعات، والتي تملك «خدمة» 25 في المئة منها، الأمر الذي أثار غضب الجماعة وفسّرته بوصفه محاولة من إردوغان لتحجيم دورها.
وفي 17 كانون الأول (ديسمبر) داهمت قوات الشرطة ليلاً منازل 52 شخصاً من بينهم رجال أعمال مقربون من رئيس الوزراء، وأبناء وزراء في حكومته (وزراء الداخلية والاقتصاد والبيئة)، واعتقلتهم من دون علم السلطات العليا؛ وذلك لإحراج الحكومة، وإلصاق تهم الفساد بها قبل الانتخابات البلدية المقرر إجراؤها في شهر آذار (مارس) المقبل.
 وصف إردوغان الاعتقالات بأنها «مؤامرة قذرة»، واضطر إلى الطلب من الوزراء الثلاثة تقديم استقالاتهم حتى يفصل القضاء في التهم الموجهة إلى أبنائهم. ويسود اعتقاد مؤداه أن أنصار فتح الله غولن المنتشرين في الشرطة والقضاء هم من يقفون وراء الحملة. ردت الحكومة بطرد عشرات الضباط والمسؤولين في الشرطة، بمن فيهم حاكم شرطة إسطنبول، وقائد وحدات مكافحة الجرائم المالية والمنظمة في إسطنبول، فيما وصفته بـ «حملة تطهير» نجحت على الأقل في إجهاض المؤامرة.
هل ستتأثر حظوظ حزب العدالة والتنمية في الانتخابات المقبلة بهذه الأحداث؟ ممكن جداً. لكن لو أسفرت نتائج التحقيقات عن براءة المتهمين أو معظمهم، فقد تتحول القضية برمتها إلى نصر لإردوغان.
 ربما حلت جماعة غولن محل «الدولة العميقة» التي كانت من قبل متركزة في المؤسسة العسكرية والقضاء، واستطاع إردوغان ردع تغولها على مؤسسات الدولة.
ما يجري في تركيا الآن هو تحجيم لدولة عميقة أخرى اسمها «خدمة» يبدو أنها وضعت نفسها في «خدمة» الإمبريالية والصهيونية وعملائهما في المنطقة والذين شعروا بالانتعاش بعد الانقلاب في مصر.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق