مدنية هذا الزمان
فهمي هويدي
ثمة أسطورة رائجة في أوساط المثقفين المصريين تقول إن مصر في وضعها المستجد استعادت مدنيتها، في إيحاء يعطى انطباعا بأنه تم تجاوز الدولة الدينية التي كانت عنوانا للنظام السابق. وهى مسألة تحتاج إلى تدقيق وتحديد، رغم أنني لا أعرف كم عدد المهتمين من أبناء الشعب المصري بما إذا كانت الدولة مدنية أو دينية.
لأن المواطن العادي مشغول بأمور أخرى بعيدة عن ذلك الجدل الذي هو نخبوي وأكاديمي في جوهره.
علما بأن مصطلح الدولة المدنية جديد على الخطاب السياسي المصري، حتى إنني أذكر أن الشيخ محمد الغزالي رحمه الله استغربه حين وجده يتردد على ألسنة البعض في وسائل الإعلام. حينذاك سألني عن محتواه قائلا إنه يعرف في القرآن سورا مدنية وأخرى مكية، ويعرف أن هناك فرقا بين الحياة المدنية والعسكرية، وأن مجتمع الحضر أو المدينة يختلف عن الحياة الريفية أو البدوية، لكنه لا يعرف بالضبط ما الذي يعنيه مصطلح الدولة المدنية.
وقتذاك قلت له إن للمصطلح معنيين أحدهما بريء والآخر غير بريء.رغم أن علم الاجتماع السياسي لا يعرف دولة مدنية، لأن المصطلح ينسحب على المجتمع وليس على الدولة.
والمجتمع المدني في التفسير البريء هو الذي تديره المؤسسات لا الأفراد، ويتساوى في ظله المواطنون دون تفرقة حسب الدين أو اللون أو الجنس.
أما التفسير غير البريء فهو الذي تستخدم فيه لافتة المدني لستر التوجه العلماني.
ولأن المصطلح الأخير سيئ السمعة في المجتمع المصري نظرا لشكوك الكثيرين وعدم اطمئنانهم إلى وضع الدين في النظام العلماني. فإن العلمانيين تحايلوا على المصطلح وآثروا أن يغلفوا موقفهم بنسبته إلى المدنية. وهى الصيغة الأكثر قبولا والأقل اشتباها.
وقتذاك اعتبر الشيخ الغزالي أن المجتمع الإسلامي مدني بطبيعته وخبرته، واستدل في ذلك بالموقف القرآني الذي تبني موقفا ثابتا من إدارة المجتمع قرر فيه أنها تتم من خلال «أولى الأمر» ولم يشر في أي موضع إلى «ولي الأمر»، الأمر الذي يعني أن العملية موكولة دائما إلى فريق أو مؤسسة وليس إلى فرد.وكان له حديث طويل عن خبرة المسلمين في هذا المجال، حين اعتبروا الوقف سبيلا لموازنة السلطة وتلبية احتياجات المجتمع، والزكاة لإغاثة الضعفاء وتحقيق التوازن الاجتماعي، وذلك كله بعيدا عن سلطة الدولة أو تحكمها.
هذه الخلفية تسمح لنا بأن نجيب عن السؤال: هل كانت مصر في ظل حكم الدكتور محمد مرسى دولة دينية ثم صارت مدنية بعد عزله في الثالث من يوليو الماضي؟
إذا اعتمدنا التفسير البريء للمصطلح فسنقول إن الدولة لم تكن دينية في الوضع السابق كما أنها لم تكن مدنية في الوضع اللاحق. صحيح أن الرئيس كان ملتحيا في السابق وأن الملتحين ظهروا في محيط الرئاسة كما أن حضورهم كان مشهودا على شاشات التليفزيون وفي الحوارات واللقاءات العامة. لكن هذه الصورة تغيرت كليا في الوضع المستجد حيث اختفت اللحى من الرئاسة ودوائر الحكم.
هذه الخلفية تسمح لنا بأن نجيب عن السؤال: هل كانت مصر في ظل حكم الدكتور محمد مرسى دولة دينية ثم صارت مدنية بعد عزله في الثالث من يوليو الماضي؟
إذا اعتمدنا التفسير البريء للمصطلح فسنقول إن الدولة لم تكن دينية في الوضع السابق كما أنها لم تكن مدنية في الوضع اللاحق. صحيح أن الرئيس كان ملتحيا في السابق وأن الملتحين ظهروا في محيط الرئاسة كما أن حضورهم كان مشهودا على شاشات التليفزيون وفي الحوارات واللقاءات العامة. لكن هذه الصورة تغيرت كليا في الوضع المستجد حيث اختفت اللحى من الرئاسة ودوائر الحكم.
بالتالي فإننا إذا احتكمنا إلى الصور فربما قررنا أن المظهر الديني اختفي (رغم أن فيدل كاسترو رئيس كوبا السابق كان ملتحيا). وأن المنظر تغير في ظل نظام يوليو.
إذا استثنينا المظهر والصور فإن أحدا لا يستطيع أن يدعى بأن ما كان في مصر هو دولة دينية، في حين ظلت إسلامية المجتمع كما هي لم تزد أو تنقص، حتى بالمقارنة بالعصر الملكي.
إذا استثنينا المظهر والصور فإن أحدا لا يستطيع أن يدعى بأن ما كان في مصر هو دولة دينية، في حين ظلت إسلامية المجتمع كما هي لم تزد أو تنقص، حتى بالمقارنة بالعصر الملكي.
فيما عدا ذلك فإن مؤسسات المجتمع ظلت كما هي في عهد الدكتور مرسى، ومنها ما تبنى موقف التحدي والمعاندة لرئاسة الدولة حينذاك (الإعلام والمحكمة الدستورية مثلا).
وغني عن البيان أن رئيس الدولة وأن تبنى خطابا له مرجعيته الدينية في بعض المواضع، فإنه لم يمارس سلطانا له أي صلة بتلك المرجعية، وحين استأسد ذات مرة وأصدر الإعلان الدستوري الشهير الذي حصن به قراراته، فإنه لم يحتمل معارضته وسارع إلى التراجع عنه وإلغائه.
في إطار ذات التفسير البريء. فإننا لا نكاد نرى أثرا لحضور أو استقلال مؤسسات الدولة في الوضع المستجد، الذي قيل لنا إنه أعاد إلينا مدنية الدولة. حيث لا نكاد نلمح دورا لأي جهة يمكن أن تتحدى النظام أو تعارضه، وإنما نجد ترهيبا دائما واتهامات جاهزة بالخيانة أو العمالة لكل من يجرؤ على ذلك ولو من باب السخرية والتندر.
في إطار ذات التفسير البريء. فإننا لا نكاد نرى أثرا لحضور أو استقلال مؤسسات الدولة في الوضع المستجد، الذي قيل لنا إنه أعاد إلينا مدنية الدولة. حيث لا نكاد نلمح دورا لأي جهة يمكن أن تتحدى النظام أو تعارضه، وإنما نجد ترهيبا دائما واتهامات جاهزة بالخيانة أو العمالة لكل من يجرؤ على ذلك ولو من باب السخرية والتندر.
في نفس الوقت فإن الاحتشاد قائم والتعبئة على أشدها لإدخال البلد في عصمة القائد الفرد، بل نجد جرأة في الإعلان عن رفض الديمقراطية والدعوة الصريحة إلى الفاشية.
الأمر الذي يجعلنا نتردد كثيرا في قبول الادعاء بانتساب النظام الجديد إلى المدنية من زاوية التفسير البريء.
وإذا جاز لنا أن نعبر عن الحيرة من هذه الزاوية، فإن الإجراءات التي أعلن عنها مؤخرا تدفعنا دفعا إلى قراءة المشهد باعتباره انحيازا إلى التفسير غير البريء لمدنية الدولة بمفهومها العلماني وليس المؤسساتي.
وإذا جاز لنا أن نعبر عن الحيرة من هذه الزاوية، فإن الإجراءات التي أعلن عنها مؤخرا تدفعنا دفعا إلى قراءة المشهد باعتباره انحيازا إلى التفسير غير البريء لمدنية الدولة بمفهومها العلماني وليس المؤسساتي.
ذلك أن قرارات التحفظ على الأموال والاتجاه إلى تأميم أكثر من ألف جمعية خيرية تنتسب إلى العمل الإسلامي تعد قرينة قوية في هذا الصدد.
لأن هذه الخطوة ومعها قرائن أخرى تعطى انطباعا بأن المواجهة متجاوزة لجماعة الإخوان ومن لف لفها، وأن المستهدف هو مجمل النشاط الإسلامي للمجتمع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق