الثلاثاء، 9 ديسمبر 2014

لما بدا يترنح

لما بدا يترنح

وائل قنديل

لا يستطيع أحد أن يقطع بحقيقة ما يدور من تحركات سياسية غامضة في المنطقة هذه الأيام، وبالأخص على الصعيد المصري. ومنذ الإعلان عن إغلاق سفارات دول غربية في مصر، وإصدار تحذيرات أمنية من مخاطر وشيكة، والكل يضرب أخماسا في أسداس، وتشتعل حمى التكهنات والتحليلات، وتعج الساحة بكاتبي سيناريوهات ومنجمين يقرأون كف المستقبل، على نحو يختلط فيه الجدل السياسي الرصين بالدجل المعلوماتي الهزيل.
الموقف ذاته مع اختلاف في بعض التفاصيل عاشته الجماهير قبل نحو أسبوعين مع الإعلان عما سمي "ثورة الشباب المسلم" في 28 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، إذ سرعان ما تدحرجت كرة النار من صفحات التواصل الاجتماعي إلى وسائل إعلام تتغذى على بالونات الأكاذيب والشائعات، مرورا بالقيادات الأمنية والسياسية التي وجدتها فرصة لإنعاش بورصة الخوف والفزع من جانب، ولإيجاد مناخ ضبابي معتم لتمرير ما يصعب تمريره في الظروف الاعتيادية.
وبعد أن حبس الناس أنفاسهم رعبا من يوم جحيم مستعر، مرت المناسبة بشكل مخالف لكل التوقعات والتخوفات، لتظهر أدوات سلطة الانقلاب من إعلاميين وخبراء استراتيجيين "شرفاء" ليزفوا إلى الأمة نبأ الانتصار على "الإرهابيين الأوغاد" ويغرقوا المشهد باستنتاجات مؤداها أن معارضة النظام العسكري حجمها هزيل يكاد لا يرى بالعين المجردة.
وفي تلك الملهاة لم يبخل المسرح بإظهار أصوات تبشر بأن الانقلاب يجمع أوراقه استعدادا للرحيل، فيما ذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك بادعاء أنها لحظة لفظ الأنفاس الأخيرة للنظام.
شيء من هذه الأجواء تجده الآن لمناسبة موضوع إغلاق سفارات ست دول في القاهرة، إذ كالعادة يأتي هؤلاء المتفائلون بالسليقة، أو محترفو تسويق الأكاذيب والشائعات المفرطة في تفاؤلها، ليعلنوا بلا وجل مرة أخرى أنها "لحظة الانقلاب على الانقلاب" أو تجد آخرين يعيدون أداء مونولوج "الانقلاب يترنح" منطلقين من أن هذه الدولة قررت فجأة أن ترفع الغطاء عن سلطة الانقلاب الحالية في مصر، تمهيدا لصعود سلطة أخرى.
ويثير العجب هنا أن من المشتغلين في الشأن السياسي العام -وعليه- من يرقص طربا لاحتمالية أن تقدم المؤسسة العسكرية على تبديل جلدها، من خلال التخلص من سلطتها الحالية، لوضع جنرال آخر، وهنا تنتحر علامات الدهشة والتعجب والاستفهام أمام هذا المنطق من قبل أفراد ومجموعات أسسوا تواجدهم في المشهد على أساس معارضتهم للحكم العسكري، وفي الوقت ذاته لا يخفون ترحيبهم وفرحتهم بسيناريوهات جديدة تحمل بين سطورها نسخة مزيدة ومنقحة من الانقلاب العسكري. 
ورغم أنه منطقيا لا يمكن توقع هدايا ديمقراطية من أناس بنوا مملكتهم على أنقاض ديمقراطية وليدة، إلا أن بعضهم لا يمانع في أن يخدع نفسه ويخادع الجماهير بفكرة أن إزاحة نظام عسكري بأدوات عسكرية يمكن أن تسفر عن منتج مدني ديمقراطي، تماما كما شارك آخرون في جريمة نصب واحتيال سياسي في الثلاثين من يونيو/حزيران 2013 من خلال ترويج أكذوبة مضمونها أن ثورة مدنية هتفت منذ ولادتها ضد العسكر، يمكن استكمالها من خلال تسوّل المساعدة من العسكر ضد رئيس مدني منتخب.
إن أحدا لا ينكر أن المنطقة في حالة فوران سياسي وغليان اجتماعي، ينبئ بتغييرات في الواقع الراهن، لكن من العبث أن يتصور أحد أن العالم الذي وفر كل أشكال الرعاية المتكاملة لدعم فرص نجاح الأنظمة الانقلابية في الحكم، قرر على حين غرة أن يتخلى عن مشروعه في تثبيت كنوزه الاستراتيجية.
وحتى إن حدث ذلك، فأقصى ما يمكن توقعه هو بعض التعديلات الطفيفة في النظام، بحيث يظل العسكر حاكما دون أن يظهر، فيما توضع في "الفاترينة" وجوه مدنية.
ويبقى أن التغيير الكامل يظل مرهونا بقدرة جماهير الثورة على الصمود ومواصلة طريقها، واستعدادها لدفع ثمن الحرية الكاملة، أما انتظار هدايا "بابا نويل العسكري" فهو أمر لا يليق إلا بالعجزة والبلداء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق