الجنون المَدْرُوس
تميم البرغوثي
يعلم، حتى الأطفال، أن السجون لا تهدف إلى حبس المساجين داخلها، بل إلى حبس الطلقاء خارجها.الخطر الدائم الداهم على أي حاكم هو عموم المحكومين، وهو يتوسع في حبس جزء منهم ليخاف الكل.
كذلك، فإن أثر السجن النفسي قليلاً ما يكسر المساجين. هؤلاء ناس كسروا حاجز الخوف، ولن تستطيع جدران الإسمنت وقضبان الحديد ترميمه. والسجانون يعرفون ذلك، إنما يريدون بسجن هؤلاء الشجعان أن يخيفوا الأغلبية الطليقة، ويبنوا جُدُراً من الخوف في صدورهم. إن أسوار السجن الحقيقية هي تلك التي تراها من خارجه، الجانب الخارجي من الجدار هو الجانب الفعال. أما الجانب الداخلي المواجه للمساجين، فهو لا يفلح عادة في حبس أحد.
أحكي عن مصر، وعن عشرات الآلاف من المعتقلين، وعن حكومة رعناء بلغت بها الفاشية والفشل والغباء مبالغَ لم ترها مصر، وقد رأت مصر الكثير، منذ العصور الوسطى.
إن هناك أنواعاً من الديكتاتوريات، ومنها نوع يشوبه العته المقصود، وهي تسمى في العلوم السياسية "خطة الرجل المجنون".
وهذا النوع يقتضي أن يقوم الحاكم بتحركات لا منطق فيها بتاتاً، ولا فائدة لها، ولكنها بالغة القسوة والإيلام، لا لشيء إلا ليتعود الناس على أنه فوق كل قانون، بما في ذلك قوانين المنطق الطبيعي.
الأمر شبيه بالساحر الذي يظهر للناس أنه يخرق التوقع، وأن قوانين الطبيعة لا تنطبق عليه، فينال بسلطة الإبهار منهم ما يشاء.
وقد كان الحراس في معتقلات النازي يغيرون القوانين كل يوم، لكي لا يعلم السجناء ماذا يتوقعون، ويصبحوا في حالة خوف دائم، ويتقبلوا أي فعل يأتي به الحراس، مهما كان غير منطقي.
السجون التي ملأها الجنرال في مصر بالناس، تدخل في هذا التصنيف. فهو يعتقل الأطفال لأنهم يحملون بلالين صفراء، أو مساطر عليها يد بأربع أصابع، أو مستشاراً مسؤولاً عن كشف الفساد، أو طبيباً عائداً إلى أهله في إجازة من عمله في المانيا، أو يقتل شاباً إيطاليا يدرس في الجامعة الأمريكية، أو أماً صبية تحمل الزهور في الشارع.
الجنرال يريد عمداً أن يظنه الناس مجنوناً مسلحاً، لأن الناس يخافون المجانين المسلحين، وخوف الناس رزق الحكام، لا بقاء لهم بدونه.
إلا أن هذا الظلم رغم شدته، أو ربما بسبب شدته، غير فعال، لأن كثرة المساجين تعني كثرة الأحرار، والخوف إذا زاد عن حده، ككل شيء، انقلب إلى ضده. ولذلك فهو لن يفلح في تثبيت أركان حكم الجنرال الغريب الأطوار.
وقد وصلتني تحية، اقتبس فيها أحد المعتقلين في سجون الجنرال كلاماً من كتابات رضوى عاشور.
وأنا لم تسبق لي معرفة السيد المعتقل، ولكن الصديقة الكريمة والشجاعة سامية جاهين أبلغتني رسالته، وبعثت إلي بصورة منها مكتوبة بخط يده، وسألت إن كان ممكنا أن أرسل إليه رداً، فلم أعلم بماذا أجيبه، فالامتنان وحده لا يكفي، ولا يجوز لطليق أن ينصح معتقلاً، ولا حتى بعبارات تشجيع، فالمعتقلون مصدر شجاعة للطلقاء لا العكس.
ولم أذكر اسمه هاهنا لكي أجنبه الأذى إن كان في ذكر اسمه أذى.
فلم يكن مني إلا أن كتبت هذه الأبيات بالعامية المصرية وأحببت نشرها هاهنا، محاولاً إيصالها إليه:
الصُّبْحِ مادِدْ مِنِ القُضْبَانْ صَوَابِعُه الخَمْسْ
يِغْمِسْ إِيدِيِه مْعَاكُوْ فِي الفُولْ، والشَّجَاعَةْ، غَمْسْ
والليلْ عَبِيطْ فَاكِرِ اْنُّه ثُوبْ مِغَطِّي الشَّمْسْ
والشَّمْسِ تِضْحَكْ عَلِيهْ، وِتْقُولْ لُهْ بَطَّلْ عَبَطْ
دَهْ اْنْتَ يَاْ دُوبْ نُصِّ كَوْكَبْ بَسِّ بَاصِصْ غَلَطْ
السِّجْنِ عَايِزْ يِعَبِّي بُكْرَةْ جُوَّةْ الأَمْسْ
فِيْ شْوَالْ كِدَهْ زَيِّ مَا يْعَبِّي الحَجَرْ والزَّلَطْ
وِبُكْرَةْ، بُكْرَاتْ كِتِيرْ، وِالأَمْسِ وَاحِدْ فَقَطْ
وِكُلِّ وَاحِدْ مِنِ اْصْحَابْنَا مَعَاهْ بُكْرَاهْ
فَكُلِّ سَجَّانْ يَاْخُدْ لُهْ شْوَالْ وِيِجْرِيْ وَرَاهْ
سَجَّانْ مَاْ لُوشْ بُكْرَةْ، شَافْ بُكْرَة فْ إِيْدِينَا، شَبَطْ
يَامَا هَجَمْ كَلْبِ عَ الأَشْبَالْ فَاْكِرْهُمْ قُطَطْ
وِشْوَالُهْ مِنْ شَرِّ أَعْمَالُه عَلِيهِ اْتْرَبَطْ
السِّجْنِ عَايِزْ يِعَبِّي بُكْرَةْ فِيْ اْمْبَارِحْ
حَبْسِ النَّوَايَةْ هَيِجْعَلْهَا شَجَرْ سَارِحْ
طَارِحْ رُصَاصْ، لا هُوْ نَاسي التَّارْ وَلا مْسَامِحْ
والثَّوْرَة، أَصْواتْ بَنَادِقْهَا، بِتِبْدَأْ هَمْسْ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق