نموذج البطل
بعضُ الحوادث لا يُمكن أنْ تجتازَها بسهولة، تظلّ طعنةً في القلب، وحربةً نافِذةً في الرّوح، ومع أنّ الدّموع قد تجفّ، والأيّام قد تمرّ، والعهود تتقادَم، إلاّ أنّ جرحًا ما يظلّ طريًّا نديًّا مهما غَبَرَتْ عليه السّنون. كيفَ تُنسَى وتلك الصُّورة الأُسطوريّة لرحيلك عصيّةٌ على النّسيان؟!
كأنّي أستذكر ما قال مُتمِّم بن نُويرة في رثاء أخيه مالكٍ:
ذَرِينِي فَإِلاَّ أَبْكِ لَمْ أَنْسَ ذِكْرَهُ
وَإِنْ أمَرَتْنِي بِالعَزَاءِ عَوَائِدِي
بِوُدِّيَ لَوْ أَنِّي تَمَلَّيْتُ عُمْرَهُ
بِمَالِيَ مِنْ مَالٍ طَرِيفٍ وَتَالدٍ
وَبِالكَفَّ مِنْ يُمْنَى يَدَيَّ حَيَاتَهُ
فَفَارَقَنِي مِنْهَا بَنَانِي وَسَاعِدِي
كان وجهُكَ وجهَ شعبٍ مَكلُوم، وجهَ أُمّةٍ نازِفة، وجه أمّة تريدُ أنْ تُبصِر الطّريق ولكنّها لا تجد مَنْ يدلّها ولا مَنْ يُزيل عنها العَتَمات المُتراكِمة، وجهكَ كان بسيطًا ولكنّه كان نبويًّا، فيه من النّبُوّة الصّدق والقُوّة والجِدّية. وجهُكَ يا يحيى كان فيه من الغضون ما يكفي لأنْ تُروى حكايات صمودٍ ومقاومة لعقودٍ قادمةٍ من الزّمن لجيلٍ لم يعرفْك ولم يَرَك ولم يُولَدْ في حياتك.
وعيناكَ؟! كانتا عينَين اختزلتا حالةَ الشّعوب المقهورة، حُزنٌ عميقٌ وإيمان أعمق. ظلالٌ شفيفةٌ من الشّجن وتوقٌ إلى يوم الثّأر. بساطةٌ وإصرار معًا، حنوّ وعنفوان في آنٍ واحدٍ. في غورَيهما تسكنُ الآلام والآمال، وفي بحرٍ صافٍ منهما تثور بواطنه ببراكين لا تحتمل التأجيل.
أكانَ استشهادُكَ هو الآخر لا يحتمل التّأجيل؟! لربّما، مَنْ يدري؟! ذلك قَدَرُ الله، لكنّني أراكَ استعجَلْتَه، أردْتَ أنْ تموت واقِفًا، أردتْ أنْ تأتيكَ تلك الرّصاصة في اللّبّة لا في العَقِب، وفي الصّدر لا في الظَّهر كما اعتدْتَ وكما كنتَ تقول دائِمًا، أردْتَ أنْ ترسمَ صورةً صادِقةً لِصوتِكَ الّذي ملأ أسماع الأجيال التّائقة إلى الحرّيّة عن قوّة الكلمة حينَ ترتبطُ بالفِعل دون زيادة، حرفٌ برصاصة، وجملةٌ بقذيقة، وخطوةٌ بدبّابة، وحياةٌ بموت، ثُمّ حياةٌ لا تنتهي هناكَ حيثُ كنتَ تشتهي وتتمنّى!
كيفَ رسمْتَ صورة البطل في عيون هذا الجيل؟! أولئك الّذين لم يروا نور الحياة أيّام كنتَ تغرقُ في ظلمات الجُبّ، كانوا نُطفًا لم تُخلَق، وأجِنّةً لم يتشكّل في الأرحام بعدُ، وجاؤوا في عصر الاستكبار العالَمي، والاستبداد والظّلم، من القريب ومن البعيد، من الجار ومن العدوّ، من الشّرق والغرب، جاؤوا يبحثون عن مُلهِم، يبحثون عن بطل، لربّما استمالَهم أبطال السّينما، وأبطال الأفلام في هوليود وغيرها، فُتِنوا بالعضلات المفتولة، وبالأجساد المَمْشُوقة، وبالرّصاصات الّتي تنطلق دون حساب، ثُمّ لَمّا كَبُروا قليلاً أدركوا أنّ كلّ هذه البطولات زائفة، وأنّها تُقدَّم من وراء شاشاتٍ فِضّية وزرقاء في عالَم الخَيال والصّورة، وأنّ هذا الّذي يتمتّع بهذه القوّة الخارقة أمام الكاميرا لو صار خلفَها لَسقط، ولانهار المجد الّذي صَنَعتْهُ له الأضواء في لمح البصر، وأنّ هذا الّذي كان يُقاتِل بضراوة أمام الكاميرا لا يستطيع أنْ يُصيبَ هدفًا على بعدِ عشرة أمتار، وأنّ هذا الّذي يتمتّع بهذه القُوّة العضليّة الخارقة لو خرجتْ له قِطّة في الطّريق فجأةً لذُعِر وَوَلْوَل، وأنّه لو خرج من ميدان القتال الوهميّ إلى الميدان الحقيقيّ فإنّه لن يصمدَ أمام غزّيّ يلبس بنطالاً رَثًّا، وينتعل حِذاء مهترِئًا دقائق!! لقد جِئتَ أنتَ يا يحيى من أجل أنْ تُحطّم الصّورة الزّائفة للبطولة، وتصنع الصورة الحقيقيّة لها. فكيفَ كانتْ هذه الصّورة؟
كانتْ فيك، وفيك نموذجك؛ فردٌ يُواجِهُ فوجًا من الجنود والدّبّابات وحده، فردٌ يُقاتِل حتّى آخر قطرةٍ من دمه، فردٌ فيه من جعفر الطّيّار رضي الله عنه َمشابِه، وكأنّه كان حاضِرًا في ذهنك وأنتَ تواجه هذه الأرتال من عساكر العدوّ، تُصاب يدُك فتربطها، وحينَ لا تبقى إلاّ يدٌ واحدة، وتنفد الذّخيرة، تكون عصا خشبيّة لا يُمكن أنْ تقتل أحدًا، ولكنّها جُهدُ المستطيع، فتقاتِل بها لأنّكَ لا تريدُ أنْ تتركَ وسيلة قتالٍ مُمكِنةً مهما ضَؤُلت حتّى تستخدمها، ثُمّ ترتقي شهيدًا.
إنّه نموذجٌ بطولةٍ فريد، وسيعيشُ طويلاً وطويلاً في أذهاننا، وأذهان الأجيال القادِمة، وشكرًا من ألفِ شكرٍ على أنْ رسمْتَ لنا هذا النّموذج الحقيقيَّ للبطولة والفِداء، وشكرًا من ألفِ شكر على أنَّك ببطولتك الفريدة هذه حطّمْتَ صورةَ البطولة الزّائقة، وأسكتّ أصواتَ العنتريّات الكاذبة، وأضفْتَ معنًى جديدًا، ولفظًا مُبتَكَرًا إلى معجم اللّغة العربيّة.
عمّان 3-11-2024م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق