أنس الشريف ورسالة غزة التي هزت الضمير الإنساني
عامر عبد المنعم
وسط مشاعر الحزن التي تلف العالم بسبب مشاهد المجاعة التي تفتك بالفلسطينيين في غزة جاء خبر استشهاد مراسل الجزيرة أنس الشريف ليشعل الغضب المكبوت في النفوس من جرائم الاحتلال المروعة، فهذا الشاب الذي لم يتجاوز الثلاثين استطاع أن يهزم الرواية الإسرائيلية في كل العالم، ونجح هو وزملاؤه في تقديم القصة الحقيقية للقضية الفلسطينية، وتحقيق انتصارات كبرى على الإعلام الصهيوني وفضح أكاذيبه.
بعد ما يقارب عامين من الإفلات من محاولات الاغتيال تم قصف خيمة الصحفيين في مجمع الشفاء الطبي بصاروخ إسرائيلي، لإنهاء حياة الصحفي الشاب الذي كان يخاف منه نتنياهو وأعضاء عصابته، واستشهد مع أنس زميله محمد قريقع والمصوران الصحفيان إبراهيم ظاهر ومؤمن عليوة، ومساعدهم محمد نوفل، والصحفي المستقل محمد الخالدي، وأعلن الجيش الإسرائيلي تبني العملية في إشارة إلى أهمية الهدف وحجم الغل والحقد اتجاهه.
ظن الإسرائيليون أنهم بقتل أنس الشريف قد أسكتوا صوت غزة، ولكن فور نشر خبر استشهاده ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بمشاعر الحزن على البطل الفلسطيني في كل أنحاء العالم، حيث كانت الشعوب في الشرق والغرب تشاهد يوميا قناة الجزيرة لمتابعة أنس وزملائه الذين يصورون المجازر على البث المباشر في مواقع الانفجارات وتحت القصف، وينقلون الصور الحية من قلب المعارك بين الأشلاء في شجاعة نادرة لم نرها من قبل في الحروب.
الكاميرا أقوى من الصاروخ
فرح الإسرائيليين باغتيال أنس الشريف واعتبار قتله إنجازا، يؤكد ضعف الاحتلال المدجج بالسلاح أمام الصحفي الأعزل، الذي يؤدي رسالته ببسالة لا تقل عن الجندي الاستشهادي في ساحة القتال، فالصحفي الذي ينقل الحقيقة بالصوت والصورة ينسف كل الروايات الكاذبة التي دأب الإعلام الدولي الخاضع للتأثير الصهيوني على ترويجها لتشويه النضال الفلسطيني، وقد نجح أنس ورفاقه الذين سبقوه إلى الشهادة في تغيير الرأي العام العالمي ومحاصرة الاحتلال وأنصاره.
نجح الصحفيون الفلسطينيون الأبطال في كسب معركة القلوب والعقول، ليس فقط في بلاد العرب والمسلمين وإنما في كل العالم، وخاصة في عواصم أمريكا وأوروبا التي تقف حكوماتها مع الاحتلال وتمده بكل أنواع الأسلحة، فالتظاهرات المليونية لا تتوقف في الغرب ضد الإبادة في غزة، يشارك فيها مسلمون ومسيحيون ويهود، ولم يعد يجرؤ سياسي مساند للجرائم الإسرائيلية على أن يشارك في أي فعاليات جماهيرية خوفا من هتافات الإدانة التي تلاحق أنصار إسرائيل.
ولأول مرة نشاهد ضعف الصحف ومحطات التلفزة الغربية أمام مواقع التواصل التي تتناقل الصور والمشاهد التي يبثها أنس الشريف وزملاؤه من غزة، فهذه الصور ولقطات الفيديو هزمت ادعاءات كل السياسيين المؤيدين لإبادة الفلسطينيين، وأصبحنا نرى الكثيرين من السياسيين والمثقفين المنصفين في العواصم المشاركة في العدوان على غزة يتحولون إلى مقاتلين أشداء ضد مواطنيهم المؤيدين لسفك الدماء.
وصية أنس لخصت القضية الفلسطينية
ظن الإسرائيليون أنهم تخلصوا من أنس، ولكن لأن الشهيد لا يموت؛ فقد كانت وصيته التي نشرت بعد أن ارتقى وفاضت روحه إلى بارئها تلخيصا عبقريا لما تعانيه غزة، وشرحا مبسطا للقضية الفلسطينية، فقد ولد في مخيم جباليا للاجئين الذي دمره الإسرائيليون، وعائلته تم تهجيرها من عسقلان “المجدل” إلى شمال القطاع.
أوصى أنس الشريف بفلسطين التي وصفها بأنها “درة تاج المسلمين، ونبض قلب كل حر في هذا العالم” وقال: “أوصيكم بأهلها، وبأطفالها المظلومين الصغار، الذين لم يُمهلهم العُمرُ ليحلموا ويعيشوا في أمان وسلام، فقد سُحِقَت أجسادهم الطاهرة بآلاف الأطنان من القنابل والصواريخ الإسرائيلية، فتمزّقت، وتبعثرت أشلاؤهم على الجدران”.
ولم ينس أنس الشريف أن يشكو إلى الله ويشهده “على من سكتوا ومن قبلوا بقتلنا، ومن حاصروا أنفاسنا ولم تُحرّك أشلاء أطفالنا ونسائنا في قلوبهم ساكنًا ولم يُوقِفوا المذبحة التي يتعرّض لها شعبنا منذ أكثر من عام ونصف”.
وقد نشرت وصية أنس في كل أنحاء الدنيا ووصلت إلى الآفاق، وهي ملهمة لمن يحمل الكاميرا بعده من الأجيال الجديدة، التي تنظر لأنس والشهداء باحترام وتقدير، وتقتدي بهم كأبطال ورموز ضحوا بأرواحهم، في سبيل الله ونصرة لقضيتهم وأرضهم وشعبهم.
غزة تنتصر والاحتلال غارق في الهزيمة
باستشهاد أنس الشريف ومحمد قريقع وزملائهما يرتفع عدد الشهداء من الصحفيين جراء الإبادة التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي في غزة إلى 238 شهيدا، وهذا الرقم هو الأكبر في تاريخ الحروب والصراعات، وهو دليل على الاستهداف الإسرائيلي المتعمد لشهود الحقيقة وفرسانها؛ لمنع العالم من الاطلاع على الفظائع المرتكبة، وفي المقابل يؤكد استمرار الصحفيين في أداء رسالتهم رغم القتل والاغتيال أن إزهاق الأرواح لا يخيف، وإنما يزيد الصحفيين حماسا وجسارة وإصرارا على التضحية من أجل إطلاع شعوب العالم على محرقة غزة.
إذا كان البعض قد ربط اغتيال أنس الشريف بمحاولة تعطيل الكاميرات قبل الاجتياح المتوقع للجيش الإسرائيلي لغزة لاحتلال كل القطاع؛ فإن رسالة الصحفيين الأبطال لن تتوقف، وإذا مات أنس فهناك 100 أنس يسيرون في ذات الطريق، وسيبقى الصحفيون الفلسطينيون يواصلون الدفاع عن وطنهم بالصوت والصورة في مواجهة أسلحة الدمار.
قصة أنس الشريف هي قصة غزة المظلومة التي يصبّون عليها القنابل صبّا لحرق أهلها، وهي ترجمة واقعية لقصة أصحاب الأخدود التي كانت سببا لسقوط المجرم في أعين الناس، وانتصارا لصاحب الحق الشهيد، فقتل صاحب الحق لا يمحو قضيته، ولا يغلق الملف كما يتوهم القاتل، وإنما يشعل الغضب أكثر وأكثر حتى يأتي الانفجار الكبير الذي ينهي القضية بانتصار صاحب الحق والمدافع عن الأرض.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق