الأربعاء، 3 سبتمبر 2025

معارك سيد قطب 2/1

 

معارك سيد قطب 2/1


رئيس الهيئة العالمية لأنصار النبيﷺ ، وعضو مجلس الأمناء بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

بين قطب والطنطاوي

مع نسمات الربيع العربي تصدّر المفسر الثائر ‎سيد قطب المشهد وعاد إلى الواجهة، وبدأت الجماعات التي فترت صلتها به في تجاوز هذه الفترة. وعودة صاحب الظلال كانت عودة مستحقة، فهو من وضع معالم الطريق، وبشّر بأن المستقبل لهذا الدين، ودفع ثمن دفاعه عن مبادئه التي رفض المساومة عليها. وكما أن عالم النبات فيه نباتات متسلقة، تعرف كيف تصعد بالاعتماد على أغصان أشجار راسخة، كذلك توجد ظاهرة “الكاتب اللبلاب” نسبة إلى نبات متسلق ـ وله معنى آخر في قاموس الصعايدة ـ عندما يقرر الصعود لأعلى، يتسلق على قمة سيد قطب السامقة، ويجعل من افتعال معركة معه بداية طريقه إلى الشهرة، وعلاجه الإهمال أثناء البيان إعمالًا لقاعدة الفقهاء: من تعجّل شيئًا قبل أوانه عوقب بحرمانه.

النفخ في رماد المعركة

وهذا الوصف لا أقصد به شخصًا بعينه، لأنهم كُثر ومن مشارب مختلفة، لكن من ينفخ في رماد معركة سيد قطب وينشر شررها هم أعداء المشروع الإسلامي، أو من يوصفون بخصوم الإسلام السياسي، وإن كانوا طرفي نقيض، لكن يجمعهم هدف واحد. لذا تجد في وسط المعركة أبواق المدخلية مع يتامى العلمانية صفًا واحدًا، كلهم ينهش سيد الظلال بطريقته ووسائله. ولا أستغرب ذلك من الجهتين، لأن كتابات الأستاذ سيد هي الأقدر على فضح الطرفين وتعرية الفريقين. فإذا قرأت ما كتبه مبكرًا عن رفض تقديس الحاكم ووجوب أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وأنه لا طاعة له في المعصية، ووجوب مقارعة الاستبداد المفضي للاستعباد، تدرك أنه كتب المصل الواقي من الجامية والترياق الشافي من المدخلية، قبل ظهور هذه الفرقة الأمنية.

أما تقريره لمبدأ الحاكمية لله وحده وتفصيله لهذه المسألة، فقد جعله خصمًا لكل صاحب مشروع مستورد أو فكر معلّب. ويصعب على الفريق الثاني المزايدة عليه، لاسيما بعدما أخرج كتابه أمريكا من الداخل بعد أن ابتعث فيها عامين وعاد إلى مصر في 23 أغسطس 1950م، واستشرف خديعة العلمانية الغربية والديمقراطية الأمريكية، وأنهما قناع حملة الهيمنة الجديدة، وقفاز الاحتلال الناعم.

عود على بدء.. أن تتكرر في كل عام خلال العقد الماضي ظاهرة أن يحل اسم سيد قطب ضمن الأكثر تداولًا على وسائل التواصل الاجتماعي ويحوز “الترند” بعد 59 سنة من وفاته، لم يحدث هذا لأحد من نظرائه أو قرنائه. ومردّ ذلك إلى تجليات الشهادة وآثارها، حيث تنتقل روح الشهيد من جسده لتحل في كلماته وأعماله، فتبقى حية بين الأحياء. وإنصافًا لخصوم الأستاذ سيد، فهم الذين يلفتون الأنظار إليه، ويستثيرون حمية أنصاره بتعرضهم له. وانضم إليهم في الآونة الأخيرة قوم ضعفت ظهورهم عن حمل أثقالهم وأفكارهم، فأرادوا التخلص منها على ساحل سيد قطب. كما أن اتخاذه غرضًا قد يشفي مرضًا، أو يحجز مقعدًا ويؤهل للقبول عند أصحاب الشاطئ الآخر من النهر. 

ويصدق في هؤلاء جميعًا قول القائل:

وإذا أراد الله نشر فضيلة
طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت
ما كان يعرف طيب عرف العود

تاريخ طويل

لست أنكر أن شخصية سيد قطب وأفكاره ساحة خصبة لمعارك ضارية، وبدأ حياته ثائرًا مشتبكًا سواء في انتقاده لمناهج وزارة التعليم التي يعمل بها، أو معاركه الأدبية في مجال النقد الأدبي. وتبقى آفة خصوم سيد قطب فيمن يقرأون عنه ولا يقرأون له، ومن يفهمون كلامه على غير مراده، لهوى أو ضعف. أما من يعي قيمة فقه التثوير، أو من يدرك حقيقة التنوير، ومن يملك ذائقة أدبية فلا يسعه إلا أن يستروح مع المحبين في ظلال القرآن الكريم.

كما حدث مع أديب الفقهاء الشيخ علي الطنطاوي، صاحب الشهرة الواسعة والأثر الكبير، كما جاء في كتاب ذكريات الطنطاوي الجزء الخامس:

يقول الشيخ الطنطاوي رحمه الله:
لي مع سيد قطب – رحمة الله عليه – تاريخ طويل:
كنت معه في كلية دار العلوم سنة 1928م، ولكني نسيت ذلك ونسيَه… ثم عاركته فيمن عاركه في معركة “العقاد والرافعي”، وكان يومئذ أكرهَ الناس إليّ، وأبغضَهم إلى قلبي… شتمته وشتمني، وأنكرته وأنكرني…
ثم لمّا ألّف كتابه التصوير الفني في القرآن فرأيت فيه فتحًا جديدًا في دراسة القرآن، وكتبت أثني عليه بعدما هجوته وشتمته…
ثم كانت المفاجأة لي أني كنت يومًا في دار “الرسالة” عند الأستاذ أحمد حسن الزيات، فدخل رجل دقيق العود، أسمر اللون، هادئ الطبع، ساكن الجوارح، يكاد يكون خافت الصوت قليل الكلام… فسلّمت عليه سلامَ من لا يعرف الآخر، فضحك الزيات وقال: ألا تعرف خصمك اللدود “سيد قطب”؟
فوجئت حقًا، لأني كنت أتصوّره ضخم الجسم بارز العضلات، تقدح عيناه شررًا، كالمصارع الذي ترونه في المصارعة الحرة، يضرب رأسه بالحديد ويضرب رأس خصمه بالحديد!
كنت بادئ الأمر في صفّ، وكان هو في صفّ آخر. كنتُ أنا في صفّ “الرافعي” وهو أقرب إلى الجهة الإسلامية، وكان هو في صفّ “العقاد” قبل أن يؤلّف العقاد كتبَه الإسلامية. ثم اقترب منّا بكتابه التصوير الفني في القرآن، ثم أعطاه الله ما أرجو أن أُعطى نصفه أو رُبعه.. أو حتى عُشره. فَعَلا وسبقني، وصنع ما لم أصنع مثله حين ألّف الظلال. 

ثم أعطاه الله النعمة الكبرى التي طالما تمنيتها، ولم أعمل لها:

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها…
إن السفينة لا تمشي على اليبس

أعطاه ما كنت أتمناه.. أعطاه الشهادة في سبيل الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق