لم تُنقِص الحرب عمراً، ولم يُقرِّب الجهاد أجلاً، ولم تُدنِ الشجاعة خطراً، ولم يُباعد السلم حَتْفاً، ولم يُطِل الجبن عمراً، فما هي إلا آجال محدودة، وأقدار موقوتة، وأرزاق مقسومة، ومنافع مقدورة، بحكمة متناهية ودقة بالغة، قال تعالى: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ {22} لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (الحديد)، وقال تعالى: (فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ) (النحل: 61).
ضمان الرزق والتوكل على الله
وقال عز وجل: (وَمَا مِن دَآبَّةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِ رِزۡقُهَا وَيَعۡلَمُ مُسۡتَقَرَّهَا وَمُسۡتَوۡدَعَهَاۚ كُلّٞ فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ) (هود: 6)، فقد تكفّل الله تعالى بالرزق لكل ما دبّ على الأرض قال تعالى: (وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٖ لَّا تَحۡمِلُ رِزۡقَهَا ٱللَّهُ يَرۡزُقُهَا وَإِيَّاكُمۡۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ) (العنكبوت: 60).
النفع والضر بتقدير الله
النفع والضر، والبسط والقبض، والرزق والأجل؛ كل ذلك أمور مُقدَّرة بقضاء الله وحده لا شريك له، ولا يملك أحد أن يلحق ضرراً بإنسان، أو يحجب عنه خيراً كتبه الله، فعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك» (رواه الترمذي، وأحمد، وغيرهما).
يقول سيد قطب: «وفي ظل هذا المشهد المروع المُزلزل يتجه بالبيان إلى الناس كافة، وإلى القوم خاصة، ليُقرَّ في قلوبهم حقيقة قَدَر الله وحكمته وتدبيره، إن ذلك الأخذ في الدنيا، وهذا العذاب في الآخرة، وما كان قبلهما من رسالات ونُذر، ومن قرآن وزُبُر، وما حول ذلك كله من خلق ووجود وتصريف لهذا الوجود.. إن ذلك كله، وكل صغيرة وكبيرة مخلوقة بقدر، مُصرَّفة بقصد، مُدبَّرة بحكمة، لا شيء جُزاف، لا شيء عَبَث، لا شيء مصادفة، لا شيء ارتجال، إنا كل شيء خلقناه بقدر، كل شيء.
وكل صغير وكل كبير، كل ناطق وكل صامت، كل متحرك وكل ساكن، كل ماض وكل حاضر، كل معلوم وكل مجهول، كل شيء.. خلقناه بقدر.. قدر يحدد حقيقته، ويحدد صفته، ويحدد مقداره، ويحدد زمانه، ويحدد مكانه، ويحدد ارتباطه بسائر ما حوله من أشياء، وتأثيره في كيان هذا الوجود».
جاء في صحيح البخاري في تفسير قوله تعالى: (وَمَن يُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ يَهۡدِ قَلۡبَهُۥۚ) (التغابن: 11): من يؤمن بالله هو الذي إذا أصابته مصيبة رضي وعرف أنها من الله، فلا يكون المرء مؤمناً حتى يُوقِن أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله، ويهد قلبه: يوفقه للإيمان والتصديق بأن ما أصابه لم يكن ليُخطِئَه، وأن ما أخطأه لم يكن ليُصِيبَه.
وروى الترمذي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليُخطِئَه، وأن ما أخطأه لم يكن ليُصِيبَه»،
وعن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لكل شيء حقيقة، وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليُخطِئَه، وأن ما أخطأه لم يكن ليُصِيبَه» (رواه أحمد، والطبراني).
لا استثناء في الأقدار
فما يُصاب إنسان من خير، ولا يَحِلُّ بمخلوق شر إلا وقد كتبه الله عز وجل في الأزل، يستوي في ذلك أوقات الحرب وأوقات السلم، مناطق الرفاهية والخير، وبلدان الفقر والشر، هذا ما يعتقده المسلم، عقيدة تخالط شغاف القلوب، وتُعانق بواطن النفوس، وقد يتوهم إنسان أن من يعيشون في مناطق الحروب، قد لا ينالون ما كُتِب لهم، فربما كانوا أقصر أعماراً وأكثر أضراراً، لكن الحقيقة أن أقدار الله تمضي على القوي والضعيف، وعلى الحقير والخطير دون أدنى استثناء.
عبر التاريخ ودلالات اليقين
وتأتي حوادث التاريخ ووقائع الأيام خير برهان لتنقية الإيمان وتحقيق اليقين، لمن كان في قلبه وهْم أو خالط يقينه شك:
حكمة القضاء الإلهي: في مختلف أصقاع الأرض، وفي أزمنة متعاقبة وتواريخ متباعدة، جلس على منصات القضاء كثير من القضاة الظلمة الذين حكموا بالإعدام ظلماً على أبرياء لم يرتكبوا جُرماً، ثم كان حتف القاضي الظالم في حياة المحكوم بالإعدام ظلماً، وهذه حوادث متكررة وليست نادرة، ولكن هل من مُدَّكِر؟
مقارنات في الأجل (تيودور هرتزل، والشيخ أحمد ياسين):
هرتزل، مؤسس الصهيونية، مات وعمره 44 عاماً، وهو في كامل صحته وتمام فتوته، بينما
الشيخ ياسين، مؤسس حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، الذي كان مشلول القدمين واليدين، ويعاني من شلل رباعي وأمراض أخرى خطيرة، وقد سُجِن وعُذِّب في سجون الاحتلال سنوات طويلة، وقد حاول الاحتلال قتله مرات عديدة، فكانت عناية الله ترعاه وتحميه، لأن أجله المكتوب لم يأتِ بعد، ومع كل ذلك عاش 68 عاماً.
مقارنات في الأجل (جمال عبدالناصر، وسيد قطب): عبدالناصر مات وهو في أتم عافيته وعمره 52 عاماً، بينما قطب، الذي كان طيلة حياته صاحب جسد مريض وبدن عليل وبنيان هزيل، ارتقى شهيداً وعمره 60 سنة، فهل من مُعتَبِر؟
دعوة إلى العزة ورفض الجبن
وما أجمل قول الشاعر الجاهلي عنترة بن شداد:
واختر لنفسك منزلاً تعلو به
أو مت كريماً تحت ظل القَسْطَلِ
فالموت لا يُنجيك من آفاته
حِصْنٌ ولو شيّدته بالجندلِ
وموت الفتى في عزة خير له
من أن يبيت أسير طرف أكحلِ
لا تسقني ماء الحياة بذلة
بل فاسقني بالعز كأس الحنظلِ
فإذا كان الناس جميعهم يموتون؛ المنافقون والأتقياء، الشجعان والجبناء، الضعفاء والأقوياء، فلماذا تحيا منافقاً جباناً؟! إذا كان النفاق لا يطيل عمراً، ولن يؤخر أجلاً، ولن يزيد رزقاً، ولن يجلب نفعاً، أو يدفع ضراً.
اليقين في مواجهة القصف والحصار
والسؤال: هل القصف الوحشي الذي لا يتوقف على غزة والحصار من الممكن أن يُلحق بهم أضراراً، أو يُنزِل بهم أخطاراً لم يُقدِّرها الله؟
والجواب: لا، من المستحيل أن يكون ذلك سبباً لضرر لم يكتبه الله؛ (وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦ وَٱلۡأَرۡضُ جَمِيعٗا قَبۡضَتُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطۡوِيَّٰتُۢ بِيَمِينِهِۦۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ) (الزمر: 67).
أقدار الله ماضية، وأحكامه نافذة، ولن يكون في مُلك الله إلا ما أراد الله، والحقيقة التي يجب أن يُوقِن بها كل مؤمن أن لا ضار ولا نافع في هذا الوجود إلا الله، وأنه لا تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق