الثلاثاء، 8 سبتمبر 2015

عالم كامل ينهار.. وعودة دامية إلى التاريخ!


عالم كامل ينهار.. وعودة دامية إلى التاريخ!

ساري عرابي

حين النظر إلى المشرق العربي، بما يحيط به من تداخلات إقليمية ودولية، فإننا على الأرجح إزاء عالم قديم آخذ بالانهيار الكامل، دون أن ندري على وجه اليقين كيف سيُتِمُّ هذا العالم انهياره، وإن بقي السؤال قائما حول قدرة هذا العالم على إعادة إنتاج نفسه بثبات واستقرار، إلا أن حجم التغيرات الجارية الآن أفقيا وعموديا يعزز الاعتقاد بأنها تأخذ شكل الانهيار لعالم يتداعى الآن بكل قواه وفواعله، وبأن هذا التداعي أوسع من بؤرته العربية.

لا يقتصر هذا الانهيار على مجموعات الحكم السلطوية التي عجزت عن فهم اللحظة التاريخية المباغتة التي أخذت بعد ذلك في هدم العالم القديم وعلى نحو غير متصور من قبل، حتى وإن تمكنت بعض تلك المجموعات من الثبات إلى حين، أو تمكنت من إعادة إنتاج نفسها، فإنها تفعل ذلك بالشروط القديمة في عالم لم يعد كما كان بشروطه السابقة، ولكنه يتداعى ويفقد كل معانى الثبات والاستقرار، بعدما اهتزت مكانة الصور القديمة كلها في المخيال العربي.

إن الانهيار أعمق وأشمل، حتى لو لم تخرج مجموعات الحكم السلطوية بعد من التاريخ الراهن أو من المخيال العربي تماما، فالتاريخ والجغرافيا ذاتهما يتغيران، بانهيار الصور التاريخية لكل شيء تقريبا، للدولة والجيش والقضاء والتعليم والمؤسسة الدينية ولسردياتنا التاريخية عن ذواتنا، وبانهيار الجغرافيات المتشكلة من بعد الحرب العالمية الأولى، انهيارا حقيقيا وإن كان لا يزال انهيارا موضعيا، ولكن يكفي منه ما يهز اليقين، بينما يمكن القول أن الدولة الموروثة من الحقبة الاستعمارية يتفاوت حضورها الآن في ثلاثة مستويات، من الانهيار الفعلي، إلى الهشاشة الآيلة للانهيار، إلى الثبات الخداع في قلب العالم الذي يتداعى، وإن كان الانهيار المبهر لن يتخذ بالضرورة الشكل ذاته في كل مكان، فالتنوع من سمات البغتة التاريخية الحالية بما يوفر لها صفة الإبهار والإعجاز، كما هو شأنها مع الشمول والقوة والعمق والمدى الزمني الطويل.

وإذا كان هذا حال الدولة فحال مجموعات الحكم السلطوية المتمتعة بالثبات الظاهر لا يقل خداعا، وليس بمنأى عن المباغتة، أو الالتحاق بالصورة الطاغية على سطح الحقيقة العربية في عدد من البلاد، وإن كان الجميع حاضرا في قلب هذا التداعي بشكل أو بآخر، بما لا يدع مجالا للقول بأن أحدا هو خارج التحدي، لا دول الخليج ولا الأردن ولا لبنان ولا دول المغرب العربي، بل ولا حتى الدول الإقليمية الكبرى كإيران وتركيا المرشحتين ولأسباب متعددة للدخول في مرحلة طويلة من عدم الاستقرار الداخلي، لكن أهميتهما الخاصة تكمن في انخراطهما في لحظة التحولات العربية الراهنة بما يجعل لأوضاعهما الداخلية آثارا كبرى على الفواعل في المنطقة العربية.

وتبدو الصورة الآن مختلفة تماما عن كل التوقعات التي سبقت البغتة العربية من بعد انهيار لحظتها الرومانسية الأولى، أو بالأدق مخالفة لكل الأماني التي عجزت في مواجهة زمن الانغلاق الطويل، فأحالت رفضها إلى أماني تعوّل على تغير ما في مجموعات الحكم السلطوية يقود إلى انفتاح سياسي أو معجزة اقتصادية، أو على نمط ما من التدافع الناعم بين تلك المجموعات الحاكمة وبين المجموعات المعارضة بما يحقق قدرا من التغير المأمول..

إلا أن الذي حصل من بعد انهيار اللحظات الرومانسية الأولى للثورات العربية هو انهيار طرفي التدافع، من مجموعات الحكم إلى مجموعات المعارضة، على مستوى الخطاب أو تصورات الحلّ مع انفتاح الممكنات على انهيار بنيوي ينذر به تداعي بنى الكيانات السياسية القائمة بما في ذلك جماعات وأحزاب "الإسلام السياسي"، حتى وإن كانت بعض هذه الأحزاب تحقق نجاحات في تصور أنصارها، كما هو الحال في تونس والمغرب، ولكن هذه النجاحات الخاضعة للجدل والاختلاف، يبقى التعويل على قدرتها في إنجاز تغيير جوهري ضعيفا، حتى على مستوى ادعاءاتها الخاصّة في إطار الدولة الوطنية، ما لم يحصل تغير دافع في واحدة من دول المركز، تغير من نوع تحقيق انتصار واضح ومعقول على الثورة المضادة وآمال النخب السلطوية الحاكمة في تجديد أو إعادة تثبيت نفسها، ومن خلفها بالضرورة القوى الاستعمارية الكبرى.

إن الانهيار الآخذ بالاشتغال قد لا يذر أحدا، وقد يذر، ولكنه يتطلب من الجميع تجديد أنفسهم حتى لا تدفعهم بغتة ما خارج التاريخ، بما في ذلك الحركات الإسلامية، وحركات المقاومة، إذ لا يمكن أبدا الانعزال عن هذه التحولات الضخمة وما تحمل في رحمها من مفاجآت غير متوقعة، لا سيما وأن الجميع بات في قلب التحدي بإرادته وبحكم مسؤوليته أو رغما عنه.

الشكل العنيف والفوضوي الذي يتخذه الانهيار مع انعدام اليقين والعجز عن التوقع فضلا عن انهيار اللحظة الرومانسية الأولى للبغتة العربية، يدفع البعض للقول بأن ما يجري الآن هو الترسيم النهائي للخروج العربي من التاريخ، وهو قول يائس يستبطن رضا ما عن الأوضاع التي استقرت ما قبل الثورات العربية، بالرغم من أنها أوضاع الخروج الفعلي من التاريخ والذي يتغطى بحد أدنى من الأمن والاستقرار، ولكن إذا اتفقنا على أن عملية انهيار الحضارة العربية أخذت زمنا طويلا، وأن الخروج من التاريخ بعد ذلك استقر زمنا طويلا، فإن محاولة العودة إلى التاريخ لا بد وأن تكون طويلة وقاسية وعنيفة وتتسم بقدر من الفوضى التي تخفي النظام في أحشائها، كما تخفي اليد المعجزة التي تدير التاريخ بتدبير محكم.

نحن هنا لسنا بصدد التنبؤ والجزم بالعودة إلى التاريخ، ولكنه جزم بأن ما يجري لم يكن استكمالا للخروج النهائي من التاريخ، وإنما محاولة للعودة إلى التاريخ، بتضحيات هائلة تُجلّي إرادة جادة في استعادة الدور الحضاري للعرب، وبما يعني أن العرب كفّوا عن التنكر لحقائق التاريخ وعن الاكتفاء بتقنيات الدفاع النفسي إزاء التفوق الغربي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق