"ثلاث فقرات، عشرون سطرا، ومائة ثمانية وعشرون كلمة" هي كل محتوي وثيقة اقتلعت شعبا لتغرس حفة هائمة من سلالة الخزر.. تلك هي وثيقة وعد بلفور التي كتبت في الثاني من شهر نوفمبر سنة 1917 وغيرت المستقبل السياسي والإنساني لمنطقة من أهم مناطق العالم في العصر الحديث.. فبخلاف التعبير الواضح من "أجل إقامة مقر قومي في فلسطين لجماعة اليهود"، فإن الحكومة البريطانية تعهدت ببذل كل جهودها من أجل تسهيل تحقيق هذا الهدف!
ومن الواضح ان الكلمات، في هذا الخطاب، قد تم اختيارها بحرص شديد وعناية فائقة. إذ يمكن للحكومة البريطانية أن تترجمها باقتضاب أو بتوسع، إلا أن اللعبة قد تمت دون أي مراعاة أو أخذ في الاعتبار للعرب والمسلمين، من أجل إرضاء الإدارة الصهيونية. فإنشاء "مقر قومي" لا يعني إنشاء دولة أو وطن. إلا أن المشروع قد تم طرحه، أما شكله القانوني فيمكنه أن ينتظر.. فلأول مرة يتم تعريف جماعة اليهود على أنهم شعب، وهو ما لم يكن ممكنا حتى ذلك التاريخ، خاصة في ذلك الوقت والحروب والأطماع دائرة، بالإضافة الي أن عبارة: "لن يتم عمل أي شيء يمكنه المساس بالحقوق المدنية والدينية للشعوب الأصلية غير اليهودية في فلسطين"، فهي عبارة تمويهية تتضمن اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه. فالشعب الفلسطيني شعبٌ واحدٌ وليس "شعوب".
والموقف برمته بحاجة الي وقفة صارمة، فمن غير المعقول أو غير المنطقي ان يقوم شخصٌ، يدعي بلفور، بعمل من أجل المصالح البريطانية، لتعويض ما أطلقوا عليه ظلم تاريخي.. فبحكم ان بريطانيا وريثة الإمبراطورية الرومانية، أرادت أن تصلح ظلما تاريخيا. وهكذا برّروه، فالإمبراطورية الرومانية كانت قد أخضعت اليهود لسلطتها سنة 70، وهدمت المعبد اليهودي وبه التوراة، التي أُعيدت صياغتها من الذاكرة فيما بعد عدة قرون، وطردت كل اليهود عن بكرة ابيهم من المنطقة، وأطلق الرومان اسم فلسطين على هذه الأرض. فقامت بريطانيا العظمي بعد ثمانية عشر قرنا ونصف بالعمل على "انصاف" (!) اليهود ورد اعتبارهم.. فهل هذا معقول أو منطقي؟
أما العرب، الفلسطينيين، أصحاب الأرض، فإن وعد بلفور بالنسبة لهم فهو عبارة عن التعبير العشوائي الأكثر عنصرية في التاريخ، بما ان هذه الوثيقة التي تمثل، من جهة، التعبير الأكثر عنصرية للإمبريالية الغربية، والإنكار الأكثر وضوحا للوجود الفلسطيني، بما ان الأمر متعلق بجودهم وهويتهم وحقوقهم السياسية والوطنية التي يتم ذبحها، فلم تذكرهم هذه الوثيقة الا بعبارة "غير اليهود الذين لا يمكنهم إلا التمتع بحقوق مدنية ودينية". فأهم ما قامت به هذه الوثيقة الإجرامية المقتلعة للشعب الفلسطيني، هو أنها أقرت وأحيَت غرست هدفا سياسيا يطلق عليه "الصهاينة".
وقد سبق هذه الجريمة اول مؤتمر صهيوني انعقد في مدينة بال السويسرية في 29 أغسطس 1897، برئاسة تيودور هيرتزل، مؤسس الصهيونية الحديثة. وقد حدد الصهاينة عدة أهداف لهم منها: إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، إنشاء بنك للشعب اليهودي، تكوين المنظمة الصهيونية العالمية، وتبني نشيدا قوميا.
وفي أول سبتمبر سنة 1897، كتب تيودور هيرتزل في يومياته: "إن أردت أن ألخص هذا المؤتمر في بضع كلمات، فلن أقوم بذلك في العلن، لأن ما قمت به فعلا هو: لقد أسست في مدينة بال الدولة اليهودية. فإن قلت ذلك اليوم بصوت عال ستنطلق ضحكة على الصعيد العالمي.. ربما يتم ذلك بعد خمس سنوات، لكن من المؤكد بعد خمسين، كل واحد سوف يفهم."
وأرض فلسطين بالنسبة للحكومة البريطانية تمثل موقعا استراتيجيا، فهي تحمي قناة السويس كما تضم مناطق بترولية بدأ الكشف عنها. فمساندة الطموحات الصهيونية، في نظر الحكومة البريطانية، يعني منع قوي سياسية أخري من السيطرة على المنطقة، ومن أجل حماية هذه المصالح تم التصرف في أرض فلسطين.. وكلها مصالح يتكالب عليها الغرب وليدفع ثمنها العرب والمسلمين بما أنهم ألفوا الصمت: فإلى ان يرسل المولي عز وجل من يمكنه إلغاء وثيقة قائمة على الغش والخداع والمصالح الخاصة وإعادة الأرض لأصحابها.. ليتنا نكف عن أن نكون دمية يعبث بها أطماع القوي المسيطرة على العالم ظلما وزورا وبهتانا، ونطالب بالحق. زينب عبد العزيز 16 يونيو 2021
ما بقي من فتات لفلسطين والفلسطينيين.. |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق