الأخوة الإنسانية": وثيقة ألعوبانية
أ. د. زينب عبد العزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية
نعم، وعلي الرغم من كل الحفاوة التي واكبتها، فإن تلك الوثيقة المعنونة بالأخوة الإنسانية عبارة عن بيان قائم علي الخداع والتلاعب بالألفاظ، وتندرج مباشرة تحت سلسلة المحاولات الملتوية التي تتسم بها مسيرة "الحوار بين الديان" الذي فرضه مجمع الفاتيكان الثاني.
فهي جزء لا يتجزأ من منهج ذلك المجمع ووثيقته غير الأمينة، المعنونة: "في زماننا هذا"، كما تسير في ركاب الخطاب الفظ الذي ألقاه البابا بنديكت 16 في راتسبون سنة 2006، والذي اتهم فيه سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، بأنه "لم يقم إلا بكل ما هو سيء وغير إنساني، وأنه نشر الإسلام بحد السيف".
وخاصة مطالبته بضرورة حماية الأقباط الذين تحدث عنهم وكأنهم ضحايا يعيشون تحت نير الإسلام !.
كما تعد هذه الوثيقة استمرارية لكل محاولات البابا يوحنا بولس الثاني والصلاة الجماعية التي أقامها في بلدة أسيز، والمحاولات العديدة غيرها، لاقتلاع الإسلام وتنصير العالم وفقا لما حدده المجمع الفاتيكاني الثاني سنة 1965، حتي تبدأ الألفية الثالثة والعالم بأثره تحت رئاسة الفاتيكان.
وهو نفس السبب الذي قام ذلك المجمع بتشكيل لجنتين، إحداهما للحوار بين الأديان والأخري لتنصير الشعوب، وكلا الفيلقان تحت رئاسة البابا مباشرة.
وهو نفس السبب الذي قام ذلك المجمع بتشكيل لجنتين، إحداهما للحوار بين الأديان والأخري لتنصير الشعوب، وكلا الفيلقان تحت رئاسة البابا مباشرة.
وإن كان الإسلام كما يقول البابا بنديكت 16:
"عنيف بطبعه ولا يمت الي المنطق بصلة، فما الذي يمكن قوله حول 150000 آية عنف وإرهاب في الكتاب المقدس، كما تُعلن الموسوعة البريطانية، وما الذي يمكن قوله عن الحروب الصليبية، ومحاكم التفتيش، وحرق الناس أحياء، وآلات التعذيب التي تملأ متحف كركاسون بجنوب فرنسا، وخاصة قول يسوع، ذلك الحَمَل الوديع: "أما عن أعدائي الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فاتوا بهم هاهنا واذبحوهم قدامي" (لوقا 19: 24)؟
إن وثيقة الأخوة ليست بالنص الساذج، بما ان البابا أدرج فيها صراحة : "إما أن نبني المستقبل معا، أو لن يكون هناك مستقبل علي الإطلاق". وهي عبارة تفصح عن الكثير من النوايا من مختلف الأوجه، وذلك هو ما سمح له أن يصفها أثناء اللقاء العام يوم 6 فبراير 2019، صبيحة عودته من أبو ظبي، بأنها "مفاجأة من الرب"!
ويا لها من مفاجأة فعلا، فما من مسلم يمكنه فهم ما بهذه الوثيقة من خدع ويقوم بالتوقيع عليها !.
ونطالع أن النص كتبه إثنان ممّن يجيدون العربية، وإن كانت الأسماء غير معلنة، إلا أن تواجدهما في الصدارة يفصح عنهما، فأحدهما القبطي المصري المونسنيور لحظي جاد، السكرتير الخاص للبابا فرنسيس، ومحمد عبد السلام، المستشار السابق لشيخ الأزهر، والذي منحه البابا وسام بيوس التاسع، أعلي وسام في الفاتيكان والذي يُمنح لأول مرة في التاريخ لمسلم عربي، وذلك للجهد الذي بذله! وهو حاليا يحتل الصدارة في اللجنة العليا للأخوة الإنسانية، تلك اللجنة التي يتعيّن عليها تطبيق كل ما ورد بالوثيقة المشئومة..
وأول ما يمكن الإشارة اليه فيما يتعلق بالأسلوب: فالعبارات ألعوبانية، وآيات القرآن الكريم غير مذكورة صراحة، وإنما معناها مذاب في سائل الوثيقة ويستخدم للزحلقة كخلفية مرجعية.
وهناك عبارات وأسماء وكلمات غير مذكورة علي الإطلاق، من قبيل يسوع ـ المسيح، المسيحية، الأناجيل أو التنصير.
أما المهزلة الكبرى فتمت بالتلاعب باسم "الله". فكلمة Dieu (الرب) بالفرنسية، صفة، تعني أو تشير يقينا إلي يسوع المسيح، بينما لفظ الجلالة "الله" فهو اسم عَلَم يدل فقط علي الخالق سبحانه وتعالي الذي ليس كمثله شيء.
كما أن أسماء الشرق، الغرب، تتناثر عبر النص لكنها تتفادي تماما الإشارة الي حقيقة طبيعة ذلك الغرب الصليبي المتعصب، أو إلي مجمع الفاتيكان الثاني، الذي قرر تنصير العالم ووضَعَ الإسلام ضمن الديانات الأسيوية لاستبعاده تماما عن رسالة التوحيد. والنتيجة المخادعة تبدو وكأن الوثيقة تقول: إنهما منطقتان جغرافيتان بعيدتان تكمّل بعضهما بعضا من باب الأخوة!
من ناحية أخري، فإن هذه الوثيقة تعد سباقة أو جديدة تماما بالمقارنة بوثائق كنسية أخرى، فهي منسوجة علي خلفية إحترام شكلي لقيم الإسلام، خاصة إذا ما تمت مقارنتها بالمسيرة الممتدة الإقتلاعية التي يمارسها الفاتيكان والتي لم تتوقف منذ القرن الثامن عن محاربة الإسلام لاقتلاعه. وبما أنها لم تتمكن من حصاده فقد لجأت الي "حوار الصداقة"، ونصت بعض الوثائق أنه يتعين علي كل مسيحي أن يرتبط بصداقة ما مع أحد المسلمين لتكون منفذا للقاء والحوار بين الأديان علي مستوي الأفراد، كما يلجأ الفاتيكان الي الأقليات المسيحية سواء أكانت من المواطنين أو العمالة السيارة الخاضعة لعقود موقوتة، فهي تتسلل كالسوس لتغيّر من قوانين الدولة الإسلامية التي يعملون بها. ومطالبة البابا وإصراره علي منح تلك العمالة السيارة "حق المواطنة الكاملة" في هذه الوثيقة، فإنه يزود نفسه بفيلق تعداده مليون مسيحي في أبو ظبي وحدها، علي أرض شبه الجزيرة العربية، التي قال عنها البابا يوحنا بولس الثاني "أنه من غير المعقول أن يُطلق علي كل هذه المساحة أرض الإسلام، ويكفيهم سور المسجدان الحرم والمسجد النبوي، وباقي الأرض يجب أن تُرشق بالكنائس والصلبان" (وارد بكتاب الجغرافيا السياسية للفاتيكان).
إن فكر البابا والفاتيكان لم يتبدل علي الإطلاق، بل نلاحظ دس بعض العبارات المصيدة تتناثر عبر الوثيقة، من قبيل: "نطالب بذلك من منطلق إيماننا المشترك في الرب" والرب هنا هو يسوع المسيح.
ولا يسعني إلا قول: لا يا سيادة البابا، نحن لا نعبد نفس الإله علي الإطلاق. إن هذه العبارة الزائفة تقول: أن الرب، (يسوع ـ المسيح، الذي صُلب ومات ودُفن ثلاثة أيام وصحي وتم تأليهه في مجمع نيقية الأول سنة 325،) هو المنقذ الوحيد. وهو ما يعني أن تكون هذه الوثيقة مبادرة مصالحة، وأخوة دينية بين كل المؤمنين، حتي يمكن التخلص من الإسلام بصورة أسهل!
ولكي يمكن فرض هذه الخدع، تم تكوين لجنة عليا يوم 2 أغسطس 2019، وقد اجتمعت في مسكن البابا بسانت مارتر بالفاتيكان، يوم 11 سبتمبر 2019.. ومجرد إختيار هذا التاريخ الذي حدده البابا، يكشف إلي أي مدي تقود خطاة ارادة غير أمينة، لترسيخ تاريخ جريمة أخري قام مجلس الكنائس العالمي بفرض تنفيذها علي الولايات المتحدة في نفس يناير 2001، حين بدأت الألفية الثالثة ولم تتمكن من تنصير العالم. وهي الجريمة التي تم فرض تنفيذها علي المسلمين والتي بدأت بصيحة لا إنسانية من جورج بوش الإن قائلا: "ستكون حرب صليبية طويلة المدي"..
تري كم مليون مسلم تم حصدهم في هذه الحرب الإجرامية المفتعلة ؟ وكم بلد مسلم تم تدميره وحرقه ؟ ولا داعي لإضافة ان عبارة "توظيف الدين لخدمة العنف"، التي تتناثر عبر الوثيقة وتتكرر كضربة مطرقة طوال النص، لتذكر أن الإسلام هو الذي يدفع الي العنف والي إراقة الدماء، وأنه حان الوقت لتطهيره من كل ذلك. وما يسعي اليه الفاتيكان هو إلغاء كل تلك الآيات التي تشير الي ما قام به أتباع الرسالتين السابقتين من تحريف وتزوير، وهو ما يعادل تقريبا ثلث القرآن الكريم ..
وفي الرابع من ديسمبر 2019، التقي أعضاء اللجنة العليا بالأمين العام لهيئة الأمم،السيد أنطونيو جوتير، لمطالبته باختلاق يوما عالميا للأخوة. وقام السيد جوتير علي الفور بتعيين آداما ديينج مستشارا خاصا ليكون ممثلا لهيئة الأمم لدي اللجنة العليا. وكما هو واضح، فإن كل شيء معدّ مسبقا لفرض البرنامج الفاتيكاني.
وهناك نقطة أخيرة لا بد من توضيحها وهي: الإختلافات الكبرى بين المسيحية والإسلام:
* يسوع المسيح: ابن الرب، إنسان وإله، يجلس علي يمين الرب بعد أن تم صلبه ودفنه وصحي من الموت بعد ثلاثة أيام، وفقا للمسيحيين. وإن كان يسوع يؤكد "أنه لم يُرسل إلا من أجل خراف إسرائيل الضالة"، فذلك الشعب الذي أدار ظهره لسيدنا إبراهيم، خرج عن الشرع وعاد للعجل وقتل الأنبياء عن غير وجه حق، "ومعبدهم ليس إلا معبد شيطان" (سفر الرؤيا 2: 9).. أما بالنسبة للمسلمين فإن يسوع نبي مقتدر، حماه الله من الصلب.
* وحدوية الإله: ثالوث تم تكوينه وفرضه في مجمع القسطنطينية الأول سنة 381، بالنسبة للمسيحيين. وتوحيد مطلق فالله ليس كمثله شيء، بالنسبة للمسلمين.
* محمد: استبعدته الكنيسة بدأ من كتابات بولس وأعمال الرسل، وتم فرض هذه الفرية علي أنه لا توجد نبؤات بعد المسيح. أما بالنسبة للمسلمين فهو خاتم الأنبياء، أرسله الله عز وجل لتبليغ رسالة التوحيد وكشف كل ما تم من تلاعب في الرسالتين السابقتين.
* القرآن: بالنسبة للكنيسة هو نص غير منزّل مليء بالإستشهادات المحرّفة المنقولة من الكتاب المقدس. أما بالنسبة للمسلمين فالقرآن هو كلام الله الموحي إلي سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، لهداية البشر، ويتضمن الأدلة القاطعة علي كل ما تم من تحريف في الرسالتين السابقتين.
* الإيمان: بالنسبة للكنيسة يرتكز حول الإيمان بيسوع. وبالنسبة للإسلام يلتزم بممارسة أركان الإسلام الخمسة.
إن كل هذه النقاط الأساسية من الإختلافات العقائدية، وكل ذلك الماضي الدامي والمزدوج الأوجه الذي خاضته الكنيسة ضد الإسلام والمسلمين، لا يسمح لها بوضع الإسلام والمسلمين، تحت عباءتها بفرض أخوة إنسانية مزعومة، لإذابة الإسلام وتنصير العالم.
فإن كان البابا يبحث عن أخوة إنسانية حقة، ليقرّ هو ومن برأهم من تهمة قتل الرب، ويعترفوا بكل ما قاما به من تحريف علي مر التاريخ، وجميعها أحداث ثابتة مسجلة، ولهما أن يعيشا كيفما شاءا، دون اغتيال أشقائكما الحقيقيين، المسلمون، الذين هم علي سراط التوحيد المستقيم.
زينب عبد العزيز
20 مايو 2020
ذات صلة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق