الخميس، 9 ديسمبر 2021

قراءة في كتاب نظام التفاهة

 قراءة في كتاب نظام التفاهة 


أسم الكتاب: نظام التفاهة 
أسم الكاتب: د. آلان دونو
ترجمة :  د. مشاعل عبد العزيز الهاجري

 نبذة عن الكتاب

كتاب نظام التفاهة هو كتاب صدر باللغة الفرنسية تحت عنوان: La médiocratie حيث يعرض فكرة مفادها أننا نعيش فترة مختلفة عن فترات التاريخ البشري، حيث السلطة بعيدة عن يد من يستطيع التميز في القيادة، ومبسوطة في يد التافهين باختلاف درجاتهم ومستوياتهم.

لقد تطور الأمر حتى صار يكتسح جميع المجالات، وصارت التفاهة نظاما يحتفى به، واستطاعة التافهون أن يبنوا عالما جديدا يقتل الإبداع والتميز، ويشرع التفاهة والتخلف، ويجعل الخروج عن النظام التقليدية خطأ غير مقبول، مهما كانت الدوافع، وحتى لو كانت نتيجة التجديد حسنة وجيدة.

ترجمت الكتاب إلى اللغة العربية الدكتورة مشاعل عبد العزيز الهاجري، عن طريق الاعتماد على النسخة الأصلية الصادرة باللغة الفرنسية، مع الرجوع أيضا إلى النسخة التي ترجمت إلى اللغة الانجليزية.

وقد قامت مترجمة الكتاب بتقديم معلومات مفيدة قبل عرض فصوله، حيث تحدثت عن الكاتب وكتابه، ثم ذكرت لنا السبب الذي دفعها إلى ترجمة الكتاب ومنظورها العام إلى الترجمة، مع تقديم بعض الملاحظات حول النسخة الإنجليزية للكتاب. ثم انتقلت بعدها إلى عرض الأطرواحت الكبرى للكتاب، وقد استغرق ذلك كله ما يقارب 60 صفحة.

فصول كتاب نظام التفاهة
جاء كتاب الان دونو نظام التفاهة مقسما إلى 4 فصول، مع مقدمة وخاتمة طبعا، وهذه عناوين تلك الفصول:

الفصل الأول: المعرفة والخبرة
الفصل الثاني: التجارة والتمويل
الفصل الثالث: الثقافة والحضارة
الفصل الرابع: ثورة – إنهاء ما يُضِرُّ بالصالح العام
وأما الخاتمة فقد كانت بعنوان: سياسات الوسط المتطرف…

مما قيل عن الكتاب: أصبح آلان دونو واحدا من أهم الفلاسفة الكنديين الذين لم يسبق للعالم الناطق بالإنجليزية أن سمع بهم من قبل.. الكتابة الجريئة حول (موضوعات عِدَّة) وضعت دونو في قلب خارطة الجدل في كندا.
 


قراءة  
يدور موضوع كتاب "ثقافة التفاهة" حول فكرة خطيرة يجب البدء بمناقشتها ومقاومتها تتعلق بسيادة نظام أدى تدريجياً، إلى سيطرة التافهين على جميع مفاصل نموذج الدولة الحديثة.

برغم أهمية كتاب "ثقافة التفاهة" للفيلسوف الكندي اَلان دونو، الصادر عن دار سؤال للنشر في بيروت، إلا أن مقدمة مترجمته الكويتية الدكتورة مشاعل الهاجري لا تقل قيمة عنه. فقد أعطت مقدمتها الطويلة التي هي بمثابة قراءة وتفكيك لأفكار اَلان دونو، قوة وزخماً له.

عندما يبدأ القارئ بقراءة الكتاب والبحث عمن كتب عنه أو عن مؤلفه الفيلسوف، سيكتشف أن هذا الكتاب الذي يناقش "التفاهة" التي كانت سبب الإنحدار الذي تعاني منه أغلب المجتمعات البشرية، هو من نمط الكتب التي ما زلنا نضطر للعودة إليها كمرجع في هذا المنحى: "تدهور الحضارة الغربية" للفيلسوف أوزوالد إشبنغلر، "حضارة الفرجة" لصاحب نوبل الأديب فارغاس يوسا، و"مجتمع الفرجة: الإنسان المعاصر في مجتمع الاستعراض" للفرنسي جي ديبور"، "الإنسان العاري" لمؤلفيه "مارك دوغان" و"كريستوف لابي" وغيرها من الكتب المهمة والاساسية.

تقول الدكتورة المهاجري إن أطروحة هذا الكتاب  تكمن في لفت الأنظار إلى ما صار يحيط بنا من تسيّد للتفاهة والتافهين.

ولهذا فإن المؤلف اَلان دونو يذكرنا بما قاله صاحب كتاب  "حضارة الفرجة" المفكر الفرنسي "جي ديبور": "في العالم المقلوب بشكل واقعي رأساً على عقب، يكون ما هو حقيقي وواقعي لحظة مِن لحظات ما هو وهمي وزائف".

عام 2017 أصدر المؤلف دونو كتابه "ثقافة التفاهة"، وقد أحدث الكتاب صداً هائلاً  ورواجاً في كل انحاء العالم، كما أحدث كتاب المفكر الفرنسي "جي ديبور": "حضارة الفرجة"، الذي نُشر عام 1967، عندما وصف هذا المجتمع بمجتمع الفرجة أو مجتمع العرض أو الاستعراض، وحاول فيه جدلًا تحليل الثقافة الاستهلاكية التي تطغى على مجتمعات العصر الحديث بتحريك من الرأسمالية، والإعلان، والتلفزيون، والأفلام، والمشاهير.

ففي "مجتمع الاستعراض" استُبدل الوجود بالظهور، وبكلمات أخرى، بات الكثيرون يقيسون وجودهم ودورهم في الحياة ونجاحهم في عملهم أو علاقاتهم أو زواجهم أو في تربية أبنائهم بعدد مرات ظهورهم وظهور صورهم أو منشوراتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، وعدد الإعجابات التي يحصدونها من متابعيهم، لذلك تراهم يتبعون أي موجة تحدث، فتجد لهم في كلّ "trend" اسماً ورأياً ونقاشاً.

معروف عن اَلان دونو تصدية للرأسمالية المتوحشة، وقد كانت مساعية موجعة للأطراف التي تصدى لها، لدرجة أنه لوحق قضائياً من قبل بعض أقطاب صناعة التعدين عام 2008، بعد أن أصدر في العام نفسه كتابه الذي اختار له عنواناً مثيراً : "كندا السوداء: النهب والإفساد والإجرام في أفريقيا".

يدور موضوع كتاب "ثقافة التفاهة" حول فكرة خطيرة يجب البدء بمناقشتها ومقاومتها: "نحن نعيش مرحلة تاريخية غير مسبوقة، تتعلق بسيادة نظام أدى تدريجياً، إلى سيطرة التافهين على جميع مفاصل نموذج الدولة الحديثة".

ويضيف المؤلف: "يلحظ المرء صعوداً غريباً لقواعد تتسم بالرداءة والإنحطاط المعياريين: فتدهورت متطلبات الجودة العالية، وغُيّب الأداء الرفيع، وهُمّشت منظومات القيم، وبرزت الأذواق المنحطة، وأُبعد الأكفاء، وخلت الساحة من التحديات، فتسيدت إثر ذلك شريحة كاملة من التافهين والجاهلين ذوي البساطة الفكرية".

يفكك آلان دونو فكرته ببساطة متناهية ويبدأ كما يقال "من الأخير" مباشرة من دون لف أو دوران: "ضع كتبك المعقّدة جانباً، فكتب المُحاسبة صارت الآن أكثر فائدة. لا تكن فخوراً، و لا روحانياً، و لا حتى مرتاحاً، لأن ذلك يمكن أن يُظهرك بمظهر المغرور. هذه النظرة الثاقبة فى عينيك مقلقة: وسّع من حدقة عينيك، و أرْخِ من شفاهك. ينبغي أن تكون للمرء أفكار رخوة، و ينبغي أن يُظهر ذلك. عندما تَتَحدّث عن نفسك، قلّل من إحساسِكَ بذاتك إلى شيئ لا معنى له: يجب أن نكون قادرين على تصنيفك".

ويكمل دونو مصارحته الصادمة: لقد تغير الزمان، فلم يعُد هناك اقتحامٌ للباستيل Bastille و لا شيء يُقارن بحريق الرايخستاغ l’incendie de Reicshtag، كما أن البارِجة الروسيّة "أورورا" l’Aurore لم تُطلِق طلقةً واحدةً باتّجاه اليابان. و مع ذلك، فقد تم شنّ الهجوم بنجاح: لقد تبوأ التافهون موقِع السّلطة.

يتساءل اَلان دونو ما هو جوهر كفاءة الشخص التافه؟ فيجيب: إنه القدرة على التعرف على شخصٍ تافهٍ آخر. معاً، يدعم التافهون بعضهم البعض، فيرفع كلٍ منهم الآخر، لتقع السلطة بيد جماعةٍ تكبُر باستمرار، لأن الطيور على أشكالها تقع.

هنا يبدأ دونو بالحديث عن "عدة النصب" التي توصل الشخص التافه في إلى أعلى المناصب: "ما يهم هنا لا يتعلق بتجنب الغباء، و إنما بالحرص على إحاطته بصور السلطة. إذا كان المظهر الخارجي للغباء لا يشبه التقدم، المهارة، الأمل، أو الرغبة الدائمة في التعديل، فإن أحداً لن يرغب في أن يكون غبياً، كما لاحظ الروائي النمساوي روبرت موسل. كُن مرتاحاً في إخفاء أوجه قُصورك في سلوكِك المعتاد، ادّعِ دائماً أنك شخصٌ براغماتي، و كن مستعداً للتطوير من نفسك؛ فالتفاهة لا تعاني من نقصٍ لا بالقدرة و لا بالكفاءة".

ولا يكتفي دونو بذلك بل يدخلنا إلى الأتيكات أو المظاهر التي يتبعها الشخص التافه لكي يشعرك أنه مهم أو مميز: "ينبغي أن يكون المرء قادراً على تشغيل تطبيقات الحاسب الآلي، ملء استمارة ما من دون شكوى، ترديد عباراتِ مثل "المعايير العُليا لحوكمة الشركات" و "مقترحٌ قيّم" مع توجيه التحية في الوقت ذاته للأشخاص المناسبين. ولكن – و هذا أمر مهم – لا ينبغي القيام بما هو أكثر من ذلك".

يؤكد  الفيلسوف دونو أن تقسيم العمل وتصنيعه ساهما إلى حد كبير في ظهور السلطة التفاهة. ويعطي أمثلة جميلة على التطور التدريجي للتفاهة:

كان لورنس ج. بيتر Laurence J. Peter و ريموند هال Raymond Hull من أوائل الذين لاحظوا التطور التدريجيّ للتفاهة، إلى أن أصبحت نظاماً متكاملاً. كان جوهر أطروحتهما يتمثل في "مبدأ بيتر" المشهور، الذي طوراه بعد الحرب العالمية الثانية، والجليّ في وضوحه: يتمثل هذا المبدأ فى أن العمليات النظامية تساعد الموظفين من فئة ذوي الكفاءة الاعتيادية على الترقي حتى يصلوا إلى شَغل مواقع السلطة، مزيحين بذلك كل من المُنتمين لفئة ذوي الكفاءة العالية و فئة غير الأكفاء، معاً".

يكمل دونو توغله في تفكيك الشخصية التافهة، وهنا يستند إلى رأي الشاعر الألماني الكبير هانز ماغنوس إنتسنسبرغر الذي تحدث عن "الأمي ثانوياً" كما يلي:

"إنه يعتبر نفسه عالماً بالأمور، يستطيع أن يتعامل مع التعليمات و الرسومات التخطيطية و الشبكات. أما الوسط الذي يتحرك بداخله، فهو يحميه – مثل سورٍ عازل – من كل ما قد يخترق وعيه مع ذلك، فالرقابة الذاتية هي أمر لازم و ينبغي أن تقدم وكأنها دليل على المكر".

يعطي دونو نموذج عن التفاهة التي وصلت إليها  الجامعات ، فيقول دونو: إن "الخبير"، الذي يتعرف عليه غالبية أكاديميي الجامعات اليوم على أنفسهم فيه، يمثل النموذج المركزي للتفاهة، المستعد لبيع عقله لها. في مقابل "المثقف" الذي يحمل الالتزام بالقيم والمثل. ويرى دونو أن جامعات اليوم، التي تموّلها الشركات، صارت مصنعاً للخبراء، لا للمثقفين.

ويستند دونو في رؤيته عن الجامعات بما أصر  عليه الصحافي الأميركي الحائز على جائزة "بوليتزر" والأستاذ الجامعي كريس هيدجيز أن هناك سبباً جدياً للقلق لأن جامعات النخبة قد قامت بنبذ كل نقد ذاتي.

وقد سبق لهيدجيز أن شرح مطولاً  في كتابه "إمبراطورية الخيال"، ما أسماه "موت الثقافة وانتصار الاستعراض".

وحسب هيدجيز، فإننا نعيش اليوم في مجتمعين: مجتمع أقلية يعيش في عالم يعرف القراءة والكتابة وقادر على التعاطي مع التعقيدات وتمييز الوهم من الحقيقة، ومجتمع آخر يمثل أغلبية متزايدة من الناس ينسحب من عالم يقوم على الواقع إلى عالم من اليقين الزائف والوهم.

إن علاقة الخضوع هذه، التي تربط الجامعة بعملائها الذين يشترون عقولها المنتجة بشكل دوري هي من طبيعة ما كان ماكس فيبر ليتخيلها، رغم أنه كان يرفض منذ 100 عام، التفاهة التي كانت الجامعة تغرق فيها من خلال تسليم نفسها لإغراء العلاقات التجارية.

ينقل دونو عن  رئيس جامعة كبرى قوله إن "على العقول أن تتناسب مع حاجات الشركات". أو كما قال رئيس إحدى الشبكات الإعلامية الغربية الضخمة، من أن وظيفته هي أن يبيع للمعلن، الجزء المتوفر من عقول مشاهديه المستهلكين. صار كل شيء، والأهم أن الإنسان صار للاكتفاء، أو حتى لإرضاء حاجات "السوق".

قراءة صلاح الدين ياسين

يمكن تصنيف هذا الكتاب في خانة أدبيات "ما بعد الحداثة" كاتجاه فكري يُعنى بنقد مآلات وصيرورة الحداثة الغربية التي استحالت إلى تضخم النزعة المادية والاستهلاكية، ناهيك عن تشييئ الإنسان وتسليعه بدل العمل على تحريره وصون كرامته، وهو ما يعبر عنه الفيلسوف الكندي المعاصر آلان دونو في كتابه الشيق هذا بـ"نظام التفاهة" الذي يمكن تعريفه بأنه "النظام الاجتماعي الذي تسيطر فيه طبقة الأشخاص التافهين على جميع مناحي الحياة، وبموجبه تتم مكافأة الرداءة والتفاهة عوضاً عن العمل الجاد والملتزم".

من الحرفة إلى الوظيفة

يشير مؤلف الكتاب إلى التحول الذي طرأ على تمثلنا لمفهوم وجوهر العمل بحكم سيادة منطق الرأسمالية المتوحشة التي أحالت البشر إلى مجرد آلات مسخرة لتحقيق فائض الإنتاج اللازم لاستمرار المنظومة الاقتصادية، إذ تم الانتقال في هذا الصدد من الحرفة craft التي تفيد الشغف والتخصص والخلق، إلى الوظيفة job بوصفها مجرد وسيلة لتوفير قوت العامل وتأمين بقائه مما يصب في صالح نمو الرأسمال. ومن هنا، فلا عجب إن رأينا على سبيل المثال لا الحصر بائع صحف وكتب لا يكلف نفسه قراءتها، فهي لا تعدو كونها مصدر دخل ورزق بالنسبة إليه.

من المثقف إلى الخبير

يسلط الفيلسوف الكندي الضوء على حقيقة صادمة مفادها أن الفضاءات التي من المفترض أن تصنف في خانة مضادات الرداءة، وفي مقدمتها الجامعة، أمست لبنة أساسية في نظام التفاهة الذي نعيش في ظله. فبدلاً من أن تضطلع الجامعات بأدوارها التنويرية وتفرز لنا مثقفين نقديين يشتبكون فكرياً مع القضايا والأسئلة المجتمعية الملحّة، أصبحت الجامعات مشتلاً لما يسمى بالخبراء أو "أشباه الخبراء" الذين يحاولون إضفاء الشرعية على الأوليغارشية الاقتصادية المهيمنة والتعمية على تجاوزاتها. فالخبير، كما يؤكد على ذلك إدوارد سعيد، يدفع له لكي يفكر بطريقة معينة. لذلك، فلا غرو أن نجده يشكك في ظاهرة التغير المناخي الناجمة أساساً عن الصناعات الرأسمالية الملوثة، أو حين ينكر المضار الصحية الناجمة عن التدخين.

إن نظام التفاهة يعني انسحاب التفكير العميق والتأملي في النظر إلى الأشياء، وبالتالي إفساح المجال أمام تغول النزعة التقنية ذات الطابع التبسيطي والتنميطي الذي تكفله القواعد والأعراف الأكاديمية المرعية. فإلى جانب مثال الخبير، يتخرج في الجامعات سنوياً ما يمكن تسميته بـ"الأمي ثانويا"، وهو شخص متمكن من المعارف التقنية والعملية، لكنه فارغ فكرياً وأيديولوجياً، وعاجز عن التعاطي مع الإشكالات الفلسفية والنظرية المتصفة بالعمق وكثافة المعنى.

عالم التجارة والاقتصاد: القلب النابض للتفاهة

يفند "آلان دونو" مسلمات النظرية الكلاسيكية في الاقتصاد الرأسمالي التي تفيد بأن السوق تحركه اعتبارات عقلانية مضبوطة، بحيث يستشهد بالعواقب غير المحسوبة والخارجة عن سيطرتنا التي تسببها الخوارزميات وغيرها من تقنيات الذكاء الاصطناعي. كما يعرّي المؤلف زيف نظرية "التقاطر إلى الأسفل" التي تفيد بأنه في حالة ما إذا أصبح الأشخاص الأثرياء أكثر ثراء، فإن الثراء سرعان ما سيتقاطر إلى الفئات الاجتماعية محدودة الدخل. فبالرغم من أن الواقع كذب تلك النظرية، فإن افتراضاتها لا تزال تلقى صدى لدى "أشباه الخبراء" الذي يدافعون عنها بشراسة أمام شاشات الإعلام.

ومما يزيد الطين بلة أن القوى والجماعات التي يفترض أن تشكل ثقلاً مضاداً لسطوة الرأسمال قد تم تدجينها وإخضاعها، وهو ما ينطبق على النقابات التي تخلت عن "نهجها المحارب" وأصبحت مهادنة للشركات متعددة الجنسيات، بينما تحول الكثير من قيادات التنظيمات النقابية إلى حمَلة أسهم ومستثمرين في مسعى للحصول على قطعة صغيرة من كعكة النظام السائد. وينسحب ما قيل عن النقابات على الأحزاب اليسارية التي ما عادت تستميت في الدفاع عن العدالة الاجتماعية ودولة الرفاه، إذ ينوه الكاتب بعدم وجود فرز دقيق وواضح بين السياسيين المنتمين لليمين وأولئك المنتسبين إلى اليسار.

كيف تم تحويل الفن والثقافة إلى صناعة؟

كما هو الحال مع نظيراتها، لم تفلت مجالات الفن والثقافة من سيطرة التافهين أصحاب الذوق الهابط، في حين أضحت الأعمال الفنية والثقافية الرزينة التي تحترم ذائقة المتلقي عملة نادرة. ويعزى ذلك أساساً إلى هيمنة منطق السوق الاقتصادية على المنتجات الفنية، إذ يتم في غالب الأحيان تسخير هذه الأخيرة لتمرير الرسائل وإشباع الحاجيات الضرورية لاستمرار عمل النظام الرأسمالي، في ظل ملكية أصحاب رؤوس الأموال لوسائل الإعلام واستحواذهم على سوق الإعلانات.

ما العمل للإطاحة بنظام التفاهة؟

يخلص آلان دونو إلى أننا نعيش في ظل "أوليغارشية" (حكم الأقلية) أو "بلوتوقراطية" (حكم الأثرياء) وليس في كنف نظام ديمقراطي يستوعب كافة التوجهات والمصالح، بحيث يسهب المؤلف في الحديث عن واقع تضخم أدوار الشركات العالمية والمنظمات غير الحكومية التي تنهب موارد دول الجنوب من خلال توظيف مصطلحات فضفاضة مثل "الحوكمة"، مما يفضي إلى إفراغ سلطات الحكومات والبرلمانات المنتخبة من محتواها، إذ تصبح هذه الأخيرة مجرد غطاء وواجهة لأصحاب رؤوس الأموال التافهين الذين يتسيدون عالمنا.

وبرأي الفيلسوف الكندي، فإن السبيل للإطاحة بنظام التفاهة لا يمكن أن يتم إلا بكيفية جماعية أو ما يصفه بـ"القطيعة الجمعية"، وليس عبر نُشدان الخلاص الفردي، مع ما يستلزمه ذلك من طرق تفكير راديكالية لإنهاء وجود المؤسسات والقواعد التي تضر بالصالح العام.






   قراءة اونلاين   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق