فتن كقطع الليل المظلم! وتُنزَعُ عُقولُ أكثرِ ذلك الزمانِ!
د.ليلي حمدان
إن المتأمل في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم عما يتوعد المسلمين من فتن مرهبة تتوالى، يخرج متأدبا خاشعا يسأل الله تعالى النجاة من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:” قال بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع أحدهم دينه بعرض من الدنيا” حديث حسن صحيح
وإن كان هذا الحديث العظيم يخبرنا عن توالي الفتن واشتدادها كلما تقدم الزمان ويشد انتباهنا لأهمية الأعمال الصالحة في حياة المؤمن. إلا أن هديه وهدي الأحاديث الموازية عن آخر الزمان تصنع كذلك الرهبة من الانجرار للفتن أو التسبب فيها أو تأجيجها.
قال النبي صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لجرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه في حَجَّةِ الوَدَاعِ: “اسْتَنْصِتِ النَّاسَ”، ليشد انتباههم ويضمن سماعهم، ثم قال صلى الله عليه وسلم: “لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ“. صحيح البخاري
كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض!
جاء في شرح هذا الحديث في الدرر السنية: كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَنصَحُ أُمَّتَه ويُرشِدُهم إلى ما فيه صَلاحُهم، ويَنْهاهم عمَّا يَضُرُّهم في دِينِهم ودُنْياهم وآخِرتِهم.وفي هذا الحَديثِ يَرْوي جَريرُ بنُ عبدِ اللهِ البَجَليُّ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أمَرَهُ في حَجَّةِ الوداعِ أنْ يَأمُرَ النَّاسَ بالإنصاتِ والإصغاء إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والاستماعِ إلى ما سَيَقولُه لهم بقلْبٍ حاضرٍ وأُذُنٍ واعيةٍ، فلمَّا أنْصَتوا خَطَبَ فيهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وحذَّرَهم أنْ يَرجِعوا بعْدَه كفَّارًا يَضرِبُ بَعضُهم رِقابَ بَعضٍ؛ وذلك بأنْ تَحمِلَهم العداوةُ والبَغضاءُ فيما بيْنهم على استحلالِ بَعضِهم دِماءَ بعضٍ. وقيل: يَحتمِلُ أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عَلِمَ أنَّ هذا لا يكونُ في حَياتِه، فنَهاهُم عنه بعْدَ وَفاتِه، يعني إذا فارقْتُ الدُّنيا فاثْبُتوا بَعْدي على ما أنتمْ عليه مِن الإيمانِ والتَّقوى، ولا تُحارِبوا المسلِمينَ، ولا تَأخُذوا أموالَهُم بالباطلِ، وقيل: لا تكُنْ أفعالُكم شَبيهةً بأفعالِ الكُفَّارِ في ضَرْبِ رِقابِ المسلمينَ.وفي الحديثِ: إصْغاءُ الإنسانِ إلى جَليسِه إذا لم يكُنْ يَتكلَّمُ بشَيءٍ مُحرَّمٍ. وفيه: عَلامةٌ مِن عَلاماتِ نُبوَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.وفيه: النَّهيُ والتَّشديدُ عن الاقتِتالِ بيْن المسلِمينَ وسَفْكِ دِماءِ بَعضِهم بَعضًا“.
وفي حديث آخر عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنَّ الشَّيْطانَ قدْ أيِسَ أنْ يَعْبُدَهُ المُصَلُّونَ في جَزِيرَةِ العَرَبِ، ولَكِنْ في التَّحْرِيشِ بيْنَهُمْ“؛ رواه مسلم.
والتحريش: هو إثارة العداوات، وإذكاء الكراهية، وإلقاء البغضاء، وتأليب النفوس بعضها على بعض.
وكل ظلم موجب للفتنة قال الله عز وجل (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب) (الأنفال: 25)
ومن يتأمل سير الصحابة البهية المهيبة، ويرى ذلك الانسجام والتواد والتراحم والتلاحم يأسر الأذهان محبة وثناء! ثم يصل لحقبة الفتنة التي وقعت بين الصحابة وابتلى الله بها خيرة الناس بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، يدرك أن هذه الفتنة لم تأت بلا عبر ودروس يجب على المسلمين التأدب منها والاتعاظ بها.
وأوجب واجبات المسلم مع توالي الفتن اليوم، النأي بالنفس عن أي فتنة أو إثارة وتأجيج لها، أو التسبب في اقتتال المسلمين أو الإيقاع بينهم وسفك دمائهم ولو بشطر كلمة! لأنه أمر عظيم!.
قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” إن بين يدَيِ الساعةِ لهرَجًا”، قال: قلت: يا رسولَ اللهِ ما الهرَجُ ؟
قال: “القتلُ”.
فقال بعضُ المسلمينَ: يا رسولَ اللهِ إنا نقتُلُ الآن في العامِ الواحدِ من المشركينَ كذا وكذا.
فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:”ليس بقتلِ المشركين ولكن يقتُلُ بعضُكم بعضًا حتى يقتُلَ الرجلُ جارَهُ وابنَ عمهِ وذا قرابتِهِ”.
فقال بعضُ القومِ: يا رسولَ اللهِ ومعَنا عُقولُنا ذلك اليومِ؟
فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم :”لا ، تُنزَعُ عُقولُ أكثرِ ذلك الزمانِ ويَخلُفُ له هباءٌ من الناسِ لا عُقولَ لهم”.
ثم قال الأشعريُّ: وايمُ اللهِ إني لأظنُها مُدرِكَتي وإيَّاكم، وايمُ اللهِ ما لي ولكم منها مخرجٌ إن أدركَتنا فيما عهِد إلينا نبيُّنا صلى الله عليه وسلم إلا أن نخرجَ كما دخلنا فيها. صحيح ابن ماجه
فهذا الحديث يذكر ما يجري بين يدي الساعة من علاماتها، وما يسبقها من الفتن، ومنها: كثرة القتل والتهاون بالدماء.
وهي علامة ثابتة في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة مرفوعا:” لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم وتكثر الزلازل ويتقارب الزمان وتظهر الفتن ويكثر الهرج وهو القتل القتل”.
قال العراقي في طرح التثريب: فيه أن من أشراط الساعة كثرة القتل بغير حق، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لا تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس يوم لا يدري القاتل فيم قتل، ولا المقتول فيم قتل ـ وفي سنن ابن ماجه ـ وذكر حديث أبي موسى هذا ـ اهـ.
وأما معنى العبارة الأخيرة (لا، تنزع عقول أكثر ذلك الزمان) جاء في شروحات الحديث:” فقوله: لا ـ نفي لما قبله، و: تنزع ـ بيان ذلك النفي، أي لا يكون ذلك مع عقولكم، بل ينزع عقول أكثر ذلك الزمان لشدة الحرص والجهل، والهباء الذرات التي تظهر في الكوة بشعاع الشمس، والمراد ههنا الحثالة من الناس“. اهـ.
وفي حاشية السندي على ابن ماجه: قوله: لا ـ أي لا عقل معكم ذلك اليوم، ثم بين ذلك بقوله: تنزع… إلخ ويخلف له أي يحصل ذلك النزع، هباء: أي ناس بمنزلة الغبار: إني لأظنها ـ أي تلك الحالة. اهـ.
فما هو قادم عظيم جدا ومن لم يدرك خطورة العبث بتأجيج الفتن بين المسلمين، سيتحمل وزر ذلك كاملا!
دعاء النبي صلى الله عليه وسلم معلمٌ للبصيرة
في الحديث الصحيح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولفظه في صحيح البخاري: جاء: “اللهم بارك لنا في شأمنا، الله بارك لنا في يمننا، قالوا: يا رسول الله، وفي نجدنا؟ قال: اللهم بارك لنا في شأمنا، اللهم بارك لنا في يمننا، قالوا: يا رسول الله في نجد؟ (قال الرواي) فأظنه قال في الثالثة: هنالك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان”. وفي صحيح مسلم طرف منه.
وفي هذا الحديث دلالة على فضل الشام واليمن، والدعاء لهما بالبركة، وقد وردت أحاديث أخر في فضلهما، وفضل سكناهما، وخاصة في آخر الزمان حين تكثر الفتن، فمن ذلك ما أخرجه أبو داود وابن حبان في صحيحه، والحاكم في المستدرك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
“سيصير الأمر أن تكونوا جنوداً مجندة: جند بالشام، وجند باليمن، وجند بالعراق، قال ابن حوالة: خر(أي: اختر) لي يا رسول الله إن أدركت ذلك، فقال: عليك بالشام، فإنها خيرة الله من أرضه، يجتبي إليها خيرته من عباده، فأما إن أبيتم فعليكم بيمنكم، واسقوا من غدركم، فإن الله توكل لي بالشام وأهله”.
وفي الحديث دلالة على أن الفتن، وما يأمر به الشيطان ويزينه من الكفر والأهواء والبدع تأتي من جهة نجد.
وقد اختلف أهل العلم في المراد بنجد، والراجح أنه جهة المشرق بالنسبة لمن كان في المدينة.
جاء في الفتح نقلا عن الخطابي: نجد من جهة المشرق، ومن كان بالمدينة كان نجده بادية العراق ونواحيها، وهي شرق أهل المدينة.
وجاء في الفتح عن غير الخطابي من أهل العلم قوله: كان أهل المشرق يومئذٍ أهل كفر، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الفتنة تكون من تلك الناحية، فكان كما أخبر، وأول الفتن كان من قبل المشرق، فكان ذلك سبباً للفرفة بين المسلمين، وذلك مما يحبه الشيطان، ويفرح به، وكذلك البدع نشأت من تلك الجهة.
وكما في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو مستقبل المشرق: “ألا إن الفتنة هاهنا، ألا أن الفتنة هاهنا، من حيث يطلع قرن الشيطان”.
وعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر، ثم أقبل على القوم، فقال: اللهم بارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في مدنا وصاعنا، اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا، فقال رجل: والعراق يا رسول الله! قال: من ثم يطلع قرن الشيطان وتهيج الفتن. قال الهيثمي: ورجاله ثقات. انتهى.
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: دعا نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا، وبارك لنا في شامنا ويمننا، فقال رجل من القوم: يا نبي الله! وعراقنا، قال: إن بها قرن الشيطان، وتهيج الفتن، وإن الجفاء بالمشرق. رواه الطبراني في الكبير، قال المنذري والهيثمي: ورواته ثقات. انتهى.
والتاريخ يشهد والواقع أن هذه المساحة الجغرافية مصدر فتن عظمى فرقت صف المسلمين وسفكت دماءهم، ولا يعني ذلك ذم هذه البلاد وذم أهلها، وإنما في ذلك إشارة لمن كان من أهلها أن يسأل الله الثبات والنجاة من فتنها، وعلى المسلمين في كل مكان أن يسدوا أبواب الفتن ويحصنوا قلوبهم بالأعمال الصالحة والأدعية وهجر حلبات التحريش بين المسلمين كي لا يحملوا وزر سفك دم مسلم واحد!
وصية أخيرة
أخطها هنا وأنا أرى في الأفق نيران الفتن والظلمات التي تتوعد المسلمين بشدة: إن أرجى أعمالك أيها المسلم في هذه الأيام وما يليها هي تحصين قلبك من الفتن والابتعاد عما يجرك لها أو يصنع منك حطبا لإشعالها وسببا لتأجيجها، فاعتزل كل ذلك واحفظ إيمانك وتقواك، وترفع عن الظلم ولو كان يبدو صغيرا، وأكثر الذكر والأعمال الصالحة، فوالله لا أخشى على مؤمن مثل الفتن! فلا يخشى المؤمن الكافرين لأنهم مهزومون بإذن الله تعالى ومقتله على أيديهم شهادة! قال عز وجل (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ۚ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء: 74)
ولا يخشى المؤمن العواقب في قتال أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فقد ربح البيع!
لكنه يخشى مرتين من أن يتلطخ بدماء معصومة أو يتسبب في فتنة المسلمين وشق صفوفهم وصناعة الجفاء والوحشة بينهم، فتلك هي الكارثة! واستحضر في هذا المقام بخشية ووجل! “لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ”.
ولا يغرك دعوات الحق، ففي الفتنة الكل مؤمن أنه على حق وأنه في سبيل الله تعالى!
ولذلك يأتي المهدي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما، فالحقبة التي تسبقه حقبة فتن!
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله كثيراً من الفتن كما في حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن) رواه مسلم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني الليلة ربي تبارك وتعالى في أحسن صورة -فذكر الحديث وفيه قوله تعالى- “يا محمد إذا صليت فقل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني وتتوب علي، وإن أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون) صحيح الترغيب والترهيب.
ولذلك كان يدعو الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالشهادة في بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم، خشية أن تدركه الفتن! وهذا لسعة فقهه وبصيرته.
والفتنة إذا وقعت لا تفرق بين ظالم ومظلوم بل تصيب الجميع. فاللهم سلم!
التزم أيها المؤمن، هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم (أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون) “صحيح أبي داود”
ولك في وصية النبي اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت عميس رضي الله عنها هديا وأنسا: (أَلَا أُعَلِّمُكِ كَلِمَاتٍ تَقُولِينَهُنَّ عِنْدَ الْكَرْبِ أَوْ فِي الْكَرْبِ (أي: المحنة والمشقة) (اللَّهُ رَبِّي لا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) صحيح أبي داود”.
اللهم ثبتنا على سبيل المؤمنين، واستعملنا في إعلاء كلمتك ونصرة دينك وإصلاح الأمة وجمع شتاتها على منهاج نبيك، اللهم أحسن لنا خاتمتنا في الأمور كلها يا رب العالمين، وقِنا الفتن ما ظهر منها وما بطن وإن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك معافين غير فاتنين ولا مفتونين، غير ضالين ولا مضلين، غير خزايا ولا نداما ولا مبدلين. اللهم لطفك بنا ورحمتك نرجو لا إله إلا أنت الحي القيوم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق