الثلاثاء، 11 مارس 2025

سورية.. سيدة البدايات

سورية.. سيدة البدايات

يوسف الدموكي

صحفي، وطالب بقسم التلفزيون والسينما في كلية الإعلام بجامعة مرمرة



لساعاتٍ طويلة في النهار، وحتى ساعات متأخرة في الليل، أسهر على أخبار سورية، وأكتب عنها، وأراقب ما يجري فيها، لحظة بلحظة، وخبرًا بخبر، وأكاد لا أفوّت مادة من دون اطلاع، مسابقًا ما يجري، ومُجاريًا ما يدور، ورافعًا من قلبي أمانيّ ودعوات أن تتم الأمور على ما يحبّ الله ويرضى، وأن تنتهي إلى ما يقرّ عيون السوريين الذين انفطرت مآقيهم طوال سنواتهم الخمسين، التي مرّت كخمسين ألف سنة، يتكالب عليهم الأعداء، ويجددون عهدهم بعدما انتهى عهدهم، ليدمروا فوق ما دمروا، وليفشلوا ثورةً انتصرت من حيث ظنوها فشلت، وقد عادت للتوّ لتغرس جذورها في التراب، بلا ثأر مقيت ولا دماء جارية، سوى من دمائها، ومن قليلٍ يستحق أن يحاسَب بعدما أوغل في دم الأبرياء البواسل.

تدور عجلة الحكم في سورية، يومًا بيوم، قرارات واجتماعات واتفاقات، ومواصلة ليل بنهار، وتشرق الشمس من المشرق "عادي"، بعدما ظنّ السوريون أنهم لن يروها أبدًا، وتزداد الخطى على قصر الشعب، وجبل قاسيون، بعدما كانا محظورين إلا على الدخلاء الطارئين، الذين يديرون البلاد ويسومون العباد سوء العذاب، ويتوحّد السوريون/ات المشتتون/ات من جديد، وهم يجربون للمرّة الأولى ربما ألا يحاسَبوا على أساس الطائفة التي يحملون الولاء لها، وشكل العمة التي يتبعون لها، وإنما هم كلٌّ واحد، وذلك أكبر من استيعاب الجميع، لكنهم يستوعبون، وسوف يستوعبون أكثر في قادم الأيام.

تشرق الشمس من المشرق "عادي"، بعدما ظنّ السوريون أنهم لن يروها أبدًا

وبينما هم على ذلك، وحدهم المحتلون القدامى، والمستعمرون المعزولون، والفلول البائدون، الذين لا يستوعبون ما يجري، هل سورية للسوريين حقا؟ هل يتجولون في ساحة الأمويين ويفطرون في ساحة الأموي؟ هل يسافر السوري من مدينة إلى مدينة دون توقيفه على ألف حاجز يمتهن كرامته، وربما يسحق عظامه للأبد؟ هل لا يحتاج كلّ هؤلاء الشباب إلى الكبتاغون لينسوا همومهم ويغوصوا في سباتٍ عميق يعجزهم ولو عن التفكير في قاع المستنقع العالقين فيه؟ هل يملك السوري سلاحه محرّرًا من دون ولاء لإيران ولا روسيا ولا مليشيات متفرّقة؟ هل حرّر السوريون بلادهم بالفعل فصرنا نحن المنبوذين فيها، والمطالَبين بتسليم سلاحنا الذي كان لا يعمل إلا في جباه الشعب؟

أراقب وأترقب، أدعو وألهج، أبكي وأفرح، أشعر بأنّ ذلك المشهد يخصني، وأني أحد مكوّناته، رغم بعدي التام عنه، ورغم أني لا أحمل جنسية تلك البلاد ولم أزرها، لكني أحمل قلبًا لا تلزمه تأشيرة ولا تذكرة سفر لينتمي إلى أيّ قضية يحب، منذ أول لحظة حملت فيها علم الثورة قبل 13 عاما، ومنذ الخيمة السورية على مدخل ميدان التحرير، بالقرب من جامعة الدول العربية، ومنذ مظاهراتنا في شوارع مصر لأجل سورية، ومنذ ليلة الصالة المغطاة باستاد القاهرة يوم قلنا "لبيك يا سورية"، ومنذ إصابتي الخطرة برأسي في مجزرة رابعة العدوية، وحول عنقي كوفية فلسطين وعلى رسغي ساعة فيها علم الثورة السورية ابتعتها من خيمة السوريين قبلها بعام، ومنذ توقيفي بجامعة القاهرة بسبب وقفة شبه منفردةٍ لأجل حلب، ومنذ كلّ تلك الليالي التي سهرها السوريون وحدهم، والحقيقة أنا كنا معهم حينها ولو من أودية بعيدة، ومنذ كلّ تلك الليالي التي لم ننمها منذ أول رصاصة في حملة التحرير، وحتى الليلة، أسمّي بالله وأصلي على نبيه وعيني على الشام الجريح التي بدأت رحلة علاجها الشاقة، ولكن من دون أغلال في يديها ورقبتها، راجيًا أن تقرّ عيني بدمشق، فإن أقرتها دمشق، لم تخزها القاهرة، عمّا قريب، ولا تتأخر إحداهما عن الأخرى في أي فصل من فصول التاريخ أبدا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق