الاثنين، 14 يوليو 2025

رواية «تغريبة معروف الإسكافي» (10)

 رواية «تغريبة معروف الإسكافي» (10)



أ.د. حلمي القاعود


الفصل العاشر

أظلمت الدنيا في الغرفة التي أغلقت على معروف والملك. لم يكن هناك بصيص ضوء في باب أو جدار. ألقى بهما العساكر، وأغلقوا عليهما بأقفال ثقيلة، ولم يقدموا لهما رغيف خبز أو شربة ماء، ولم يجيبوا على أي سؤال.

قال معروف للملك:

-       ليس أمامنا غير النوم حتى يطلع الصباح.

أجاب الملك:

-       لن يزور النوم عيني.

-       سلم أمرك لله يا مولاي.

-       آمنت بالله. لكن ما فعله الوزير الخائن يلهب رأسي.

حاول معروف أن يواسي الملك، ويشجعه على الصبر والتحمل، وهو الذي يحتاج إلى الصبر والتحمل، ولكن الملك كان يذهب بذهنه بعيدا، حين التقط الوزير صبيا، فربّاه وعلمه، وأكرمه، وعامله مثل الابن، ولكن الوضيع نسي كل شيء، وفي أول فرصة انقلب على سيده، وأعلن نفسه ملكا. يا للوضاعة حين تملك أو تغتني! يكشف أصحابها عن معدن رخيص زائف، مليء بقيم الغدر والخسة واللؤم والنذالة. إن الملك لا يخاف على نفسه بقدر ما يخاف على ابنته الأميرة زوج معروف. ماذا سيفعل بها الوغد وهي وحيدة لا تملك من أمرها شيئا؟ إن ابنته هي روحه وحياته، يضحي من أجلها بكل شيء، ولكن الوغد صار صاحب الكلمة الأولى والأخيرة، ولا أحد هناك يستطيع أن يقاومه أو يعترض ظلمه وجبروته، وقد صار الخاتم ملك يديه يفعل به ما يشاء ويقهر من يشاء. تذكر الملك مقولة لعمرو بن العاص رضي الله عنه تلخص الموقف في إيجاز: "موت ألفٍ من العِلية، أقل ضررا من ارتفاع واحد من السِّفلة". وهذا واحدٌ من السِّفلة ارتفع لا ليعلي شأن العدل والحرية والرحمة، ولكن ليؤسّس للظلم في المملكة التي عاشت لا تعرف غير الكرم، ولا تعرف الظلم. كانت المملكة كلها تقف على قدميها إذا وقعت حادثة ظلم واحدة، ولا تقعد إلا إذا تم رفع الظلم وتصحيح الخطأ. وكم تغاضى الملك عن إساءات وجهت إليه شخصيا، واتهامات ظالمة طالته مباشرة ولا أساس لها من الصحة، كان الملك يردد دائما قول الشاعر أبي العتاهية:

أَمَا وَاللَّهِ إِنَّ الظُّلْمَ شُؤْمٌ  *  وَمَا زَالَ الْمُسِيءُ هُوَ الظَّلُومُ

إِلَى دَيَّانِ يَوْمِ الدِّينِ نَمْضِي*   وَعِنْدَ اللَّهِ تَجْتَمِعُ الْخُصُومُ

ُ تَنَامُ وَلَمْ تَنَمْ عَنْكَ الْمَنَايَا   *    تَنَبَّهْ لِلْمَنِيَّةِ يَا نَئُومُ

لأَمْرٍ مَا تَصَرَّمَتِ اللَّيَالِي  *   لأَمْرٍ مَا تَحَرَّمَتِ النُّجُومُ

ظل الملك يتذكر كيف وثق بوزيره، بينما الآخر يعمل لنفسه، ويكوّن عصابة من أتباعه تستولي على مقدرات المملكة، وتبغض الملك. وتشوه صورته في عيون الناس، وتسعى للهيمنة المطلقة بتكوين طبقة مساعدة من اللصوص الكبار الذين يسرقون كل شيء بمعرفته ومساعدته، ويقنعه أن ما يفعلونه من أجل المملكة، كان يبعد الصالحين من العلماء والخبراء وأصحاب التجارب المفيدة والنافعة، ويقرب الطالحين من الحرامية والفهلوية والمنافقين، ومن يجيد قرع الطبول في المسرات والأحزان.. لقد سرق المملكة بالكذب والخداع والمكر..

انتبه الملك على صوت معروف وهو يعاتبه:

-       كيف يا مولاي اخترت هذا المخلوق وزيرا لك؟
- كان يخدعني يا معروف، وينافقني، وكنت أحسبه يقول حقا وصدقا، ولكني اكتشفت خسته مذ رفضت الأميرة أن تتزوجه. بدأ يقلِبُ الوجه الآخر، ويعترض على قراراتي، ويرتّب لإرباكي، ويحرّض القادة والكبراء ضدي، بل التجار والعامة شجعهم على استباحة هيبتي وكرامتي، وأنا أتسامح وأبرئ ساحته، وأقول إن بعض الظن إثم. وراح ينتظر حتى تسنح له الفرصة فيستولي على كل شيء بوصفه المنقذ والمخلّص. وها هي الفرصة قد سنحت له.
- اسمح لي يا مولاي أن أذكرك بمعنى الحديث الشريف المشهور: "المؤمن كيِّسٌ فطِن". أين فطنتك حين اخترت هذا الوزير؟ وأين ذكاؤك بعد اختياره؟ ألم تعين رقيبا عليه يأتيك بخططه ومؤامراته أولا بأول؟

-       معك حق يا معروف. لقد صدقته، واعتمدت

 على الظاهر والله يتولى السرائر.

-       لكن الحكم في بلاد العالم كلها يقتضي يقظة

 كاملة شاملة، ويفرض الحزم لمعالجة الأمور الخاطئة

 في مهدها وعدم تركها حتى تتفاقم.

-       خدعني بكلامه ونفاقه، ووقعت في الغفلة.

-       مولاي! فوّض أمرك لله، وحاول أن تنام،

 واطلب الفرج من رب العباد. إن مع العسر يسرا. إن

 مع العسر يسرا.

-       سأحاول يا معروف..

أفاق معروف من نومه المضطرب، وشعاع من شمس الضحى يضرب وجهه، فجلس يتشهّد ويحمد الله على نعمة الحياة، ويسأله الفرج وفكّ الأزمة، وبعد قليل سمع صرير الأقفال في الباب، والعساكر يقتحمون عليهما الغرفة ويوقظان الملك، ويأمرانهما السير معهم، وفي غرفة جلس فيها كبير العساكر، وقف الملك ومعروف يخضعان للاستجواب من أجل البتّ في أمرهما.

كانت القاعة كبيرة يجلس فيها عدد كبير من الناس عديد منهم من الشبان، تبدو عليهم الكآبة والمهانة واليأس. لا يتكلمون ولا يثرثرون وجوههم عابسة باسرة، لم يسألوا الملك وصهره عن شيء، ولكنهم كانوا ينظرون إليهما باستغراب، لأن الملابس مختلفة، والملامح لا تشير إلى أنهما ينتميان إلى أهل البلد. كان الصمت يجلل القاعة الحجرية التي يجلسون فيها على الأرض الجرداء، ولا يوجد أثر لغطاء أو أدوات أخرى.. الإحساس بالاختناق تصنعه الحرارة الشديدة في الخارج. هجير الصيف يقتل الرغبة في الحياة.

كان الحزن يخيم على معروف والملك. وزادهما منظر الجالسين في القاعة ذات الجدران العالية، والنوافذ الحديدية الضيقة المرتفعة بؤسا على بؤس، فلم يتكلما هما أيضا. كان الملك يستغرب أن يكون حاكم هذه المدينة ظالما بهذه الصورة. البشعة. سألهما كبير العساكر:

-       من أنتما؟

قال معروف:

-       أنا تاجر وهذا هو الملك؟

رد كبير العساكر بوحشية:

-       أتسخر مني ايها المخلوق؟ ما الذي يأتي بتاجر

 وملك إلى الأرض المقفرة؟ إنكما من الجواسيس على

 بلادنا.

-       يا سيدي نحن غرباء وقد ضللنا الطريق.

أجاب معروف، وقد فضل هذه الإجابة على الإشارة إلى قصتهما مع الوزير وأبي السعادات، بينما التزم الملك الصمت. ولكن كبير العساكر لم تعجبه الإجابة، وقال لهما:
- وما الذي جاء بكما إلى الأرض الخراب التي لا يمر بها إلا عساكرنا، وهم في مهماتهم لعقاب الخونة.

-       يا سيدي الغريب أعمى ولو كان بصيرا.

-       لا شأن لي بهذا الكلام. إنكما جاسوسان، ولا بد

 من معاقبتكما. إن جزاءكما هو الموت. ولأنكما

 غريبان فالسجن مصيركما حتى تهلكا فيه.

أراد معروف أن يدافع ويتكلم، ولكن كبير العساكر

 أشار إليه أن يصمت، وأمر العساكر، أن يأخذاهما إلى

 القاعة الحجرية الضخمة..

في الطريق إلى القاعة مال معروف على حميه الملك،

 قائلا:

-       في السجن يا سيدي سنجد طعاما وشرابا ولا

 نهلك جوعا وعطشا.

قال الملك:

-       عسى الله أن يأتي بالفرج أو أمر من عنده.

تأمل السجينان رفاق القاعة الحجرية. عيونهم زائغة، أبصارهم مخطوفة، وملامحهم ذابلة. لا يتحركون ولا يتكلمون. لم ير منهم نشاطا إلا عندما اندفع بعض العساكر بكيس مليء بالخبز الجاف، وقصعة وُضع فيها شيءٌ من الطعام المطبوخ، حيث توسطوا الغرفة، ودعوا الرفيقين الجديدين للمشاركة. كان معروف جائعا، وكان الملك أشد جوعا ولكن نفسه عازفة عن الأكل. شجعه معروف لأن الحزن زمنه يطول، أما الطعام فلابد منه لأن المعدة لا تصبر. وراح معروف يشارك بشهية مفتوحة..

في أثناء الأكل سأل الشخص الذي بجواره:

-       ما اسم هذه المدينة؟

رد عليه الرجل باقتضاب:

-       قمْعستان!

خرقت الكلمة أذنه. لكنه لم يستوعبها جيدا، ولم يعرف معناها، فسأل الرجل:

-       قمْعستان؟ ما معنى قمعستان؟

نظر إليه الرجل بتعجب كأنه يقول له: أهناك من لا يعرف قمْعستان؟ ولكنه سأله:

-       من أي بلد أنت؟

-       من كرَمستان؟  



تدخل شخص آخر يقول لمعروف، كأنه يوضح له شيئا

واضحا:

- لا أحد في بلادنا يستطيع الكلام أو إبداء الرأي غير الحاكم وأتباعه. من يجرؤ على الكلام يتم قمْعه، أي إسكاته. ولذا سميت قمْعستان!
بدا الأمر لمعروف مثيرا لسخريته، ورأى في اسم قمْعستان طرفة يتندر بها، لولا إدراكه أنه في مكان لا يحتمل التندر أو السخرية. 

قال لمحدثه، والآخرون يسمعون:

- هل يمكن إسكات أهل المدينة جميعا؟

- بلى! يمكن إسكات المدينة كلها.

- كيف؟

- الحاكم جعل وراء كل خمسة أشخاصا بصاصا يراقبهم ويتابعهم ويسجل ما يقولون، فإن كان فيه كلام يتجاوز قضاء المصالح اليومية فيما بين الناس، أو يحمل تأويلا سيئا رُفع الأمر لكبير العساكر، الذي يأمر بزرع صاحب الكلام المخالف حيا في الأرض الخراب. يجعل جسمه في باطن الأرض عدا رأسه التي تظل حية حتى تذيبها الشمس الحارقة في الصيف، أو يجمدها برد الصحراء في الشتاء!

توقف السجناء عن الأكل، فنظر إليهم المتحدث نظرة غير مبالية، وقال لهم في استهانة:

- لا تخافوا عليّ! فقد أصدر كبير العساكر حكما بزرعي في الأرض الخراب، فلماذا أخاف؟ فلأتكلم قبل الموت. لا تخافوا عليّ خافوا على أنفسكم.
سرت همهمة بين السجناء، فسأل معروف الشخص المتحدث:
- ولماذا حكم عليك بالزرع في الأرض الخراب؟
- لأني تجاوزت حدود الكلام المسموح.
- أعلم ذلك. ولكني أريد أن أعرف ما هو هذا الكلام الذي أدى إلى الحكم بإعدامك؟

- كنت خطيبا في المسجد ودعوت أن ينتقم الله من الظالمين.
- وماذا في الدعاء؟

- يجب أن تدعو للملك أولا وآخرا، ولا تدعو على الظالمين، لأنهم يؤولون هذا الدعاء أن المقصود به الملك وأنه هو الظالم.

استغفر معروف ربه، وغامت عينا الملك وهو يسمع كلام الرجل، وتذكّر أنه كان يطلب من علماء الدين أن ينصحُوه، ويبصّروه بمواقع النقص والتقصير ليعيش أبناء مدينته في أفضل الأحوال، وتحفّز ليتكلم، ولكن منعته رغبته ورغبة معروف في عدم الكشف عن هويتهما الحقيقية، وفوجئ بالخطيب يقول:
- هذا كبير أهل الحكمة وعلاج المرضى (في إشارة إلى رجل مهيب ذي لحية بيضاء)، حكموا عليه بالإعدام لأنه طالب بمزيد من الرعاية للفقراء الذين لا يملكون ثمن الدواء..

وهذا كاتب المظالم والشكاوى التي تحمل مشكلات الناس، حكموا عليه أيضا بالإعدام، لأنه تجرأ وشكا أحد الكبراء إلى الملك مباشرة، ولم يستخدم لغة الاستعطاف والرجاء.

وهذا معلم في مدرسة المدينة، قال للطلاب: إن الحرية هي قول الحق دون خوف من أحد إلا الله، فعدوا ذلك إهانة لمقام الملك، وحكموا عليه بالزرع في الأرض الخراب، وهذا... وهذا.. وهذا.. وظل المتحدث يقدم أسباب الحكم بالإعدام على معظم الرفاق في قاعة السجن، عدا قلة قليلة من بينهم معروف والملك من المحكوم عليهم بالسجن حتى نهاية العمر
قال معروف:
- لعل هذه الأحكام تتم بمعرفة كبير العساكر، والحاكم لا يعلم بها؟

ضحك الرجل ساخرا، وأجاب:

- إن الحاكم يتلذّذ عندما يقرأ أسماء الضحايا، باختيار بعضهم عشوائيا، ويطلب من كبير العساكر أن يدخلهم واحدا واحدا، ويطلب من الضحية أن يقترب منه ويضع يده فوق مكتبه. ترى ماذا يفعل بها؟

- ماذا؟

- يخرج ساطورا، ويقطع أصابعه وهو يقهقه!!

- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم!

- المحظوظ هو الذي يذهب للإعدام دون أن تقطع أطرافه.

- ما أقسى الإنسان على أخيه الإنسان.

- إنه وحش وليس إنسانا. بل إن الوحش لا يقطع أطراف الوحش الآخر. قد يقتله دون أن يتلذذ بتقطيعه أو تعذيبه.

سأل الملك الخطيب المتحدث:

- وهل توقف الناس عن الكلام المحظور يا ولدي؟

- كلا! هناك من يخاطر ويتكلم، ولكن الأكثرية تؤثر الصمت من أجل الحياة! ولكنهم في السرّ يتكلمون.

- أية حياة يا بني يحكمها القمع والصمت؟!

أكثرت الأميرة من ترحيبها وتدليلها للوزير الخائن، الذي ضرب عرض الحائط بأحكام الدين والشريعة، وأعلن كفره البواح، وأنه لا يؤمن بغير نفسه ومصلحته، وإصراره على الدخول بالأميرة قبل أن تنتهي شهور العدة، ولم يستجب لما قاله شيخ الإسلام.

- مرحبا بك يا مليكي ونور عيني!
ثم صمتت الأميرة قليلا:

- ليتك قتلت أبي وزوجي لأعيش معك إلى الأبد بغير منغصات!

لم يصدق ما يسمع، ورأى أنها استسلمت تماما:

- سأقتلهما يا حبيبتي لتكتمل سعادتك.

وجلست بجانبه وراحت تمازحه وتهشّ له، وتسقيه من كلام الحب والغرام ما أسكره، وغيبه عن التفكير. وملأت له كئوس المنكر الذي أحضره الخدم مع الطعام والفاكهة والشراب، فانتشى ونسي نفسه. وراحت تبدي له الرضا الكامل والموافقة على ما يريد، ولكنها كانت في أعماقها تمقته وتلعنه، وتتنظر اللحظة التي تحقق فيها انتصارها عليه، والانتقام من خسته وخيانته ودناءته ونذالته وكفره علنا بالدين.
دنا منها يحاول أن يشبع أشواقه إليها، وفتح ذراعيه ليطوقها، ولكنها أجْفلتْ وتباعدتْ، وبكت، وقالت:

- أما ترى الرجل الناظر إلينا يا سيدي؟ بالله عليك أن تسترني عن عينه، فإني أستحي أن يرانا أحد ونحن في هذه الحال؟

ركبه الغضب، وسألها مغتاظا:

- أين هذا الرجل اللعين لأقطع رقبته؟
- ها هو في فص الخاتم يخرج رأسه وينظر إلينا.
ظنّ أن خادم الخاتم ينظر إليهما، فضحك وقال:

- لا تخافي يا حبيبتي. إن هذا خادم الخاتم، وهو تحت سيطرتي.
- إني أخاف من العفاريت يا سيدي، اخلع الخاتم وارمه بعيداً عني.
خلعه ووضعه على المخدة ودنا منها، فرفسته برجلها في قلبه فانقلب على قفاه مغشياً عليهن ونادت على أتباعها فأتوها بسرعةٍ فقالت:

- امسكوه!
فقبض عليه الخدم والجواري، وخطفت الأميرة الخاتم من فوق المخدة ودعكته، وإذا بأبي السعادات يُقبل وهو يقول: "لبيك يا سيدتي!" فقالت:

- احمل هذا الكافر وضعه في السجن وثقّل قيوده، وضعه في سجن الغضب.
حتى يتم الحكم عليه.
فأخذه وسجنه في سجن الغضب وعاد ليبلغها بإتمام مهمته. فقالت له:
- أين أبي وزوجي؟
- رميتهما في الأرض الخراب.
- أحضرهما فورا.
- سمعاً وطاعةً يا سيدتي.
ثم طار من أمامها ولم يزل طائراً إلى أن وصل إلى قمعستان، ونزل عليهما في القاعة الحجرية الضخمة. فرآهما يبكيان حزنا وألما وقهرا وسط السجناء والمحكومين بالإعدام. فطمأنهما، وبشرهما بالحرية، ومجيء الفرج، وأخبرهما بأفعال الوزير وسجنه بأمر الأميرة التي طلبت إعادتهما. فرحا بالخبر وأجهشا ثانية بالبكاء وتساقطت منهما الدموع الغزيرة فرحا بالحرية وسقوط الخائن. قال لهما:

- هيا لنطير إلى كرمستان.

قال الملك:
- يا بني، إن هؤلاء الذين تراهم معنا ولا يرونك هم من المظلومين الذين سيتم إعدامهم، رحمة بهم يا بني خذهم معنا ليعيشوا حياتهم.

قال أبو السعادات إن الأميرة طلبت مني أن أحضركما وحدكما، ولا أستطيع أن أغيّر في أمرها.

قال الملك:
- إذا نذهب، ثم نطلب منها أن تأمرك لتحرّرهم وتنقلهم إلى مدينتنا. هيا.

ثم حملهما وطار بهما فما كان غير ساعة حتى وصل كرمستان.
كانت لحظة مشهودة.
لم تصدق الأميرة أن ترى أباها وزوجها ثانية. ولكن ها هما أمامها بأعينهما، احتضنت أباها وزوجها، وسلمت عليهما وقبّلت يديهما. وأسرعت بتقديم الطعام والحلوى وإطلاق البخور، وقالت:

- اليوم عيد يا أبي. اليوم عيد يا معروف.

- الحمد لله يا ابنتي. الحمد لله..

قالها الملك، وهو يتلذذ بالحرية واستعادة الحكم، ثم اتجه إلى الأميرة:

- ابنتي. هناك مظلومون تركناهم وراءنا. ليتك تأمرين أبا السعادات ليحرّرهم ويحضرهم. لن أدخل الحمام، ولن أغير ثيابي قبل أن أراهم محررين.

- حالا يا أبي. لن نسمح بعد اليوم أن يظلم أحد ولو كان من غير مدينتنا.

قال معروف موجها حديثه إلى الملك:
- الآن يا سيدي وقد منّ الله علينا بالحرية، والقضاء على الخائن، يجب أن تتخذ قرارا مهما.
- ما هو يا معروف:
- بعد أن تحكم بعدلك على الخائن، تأمر أبا السعادات أن يسحب الأموال والمجوهرات التي أغدقها على المتآمرين والمنافقين، وقارعي الطبول للظلم، والمصفقين للخيانة ليصبحوا بلا قوة. وليكونوا عبرة لغيرهم، فهؤلاء أعوان الظلم، أعداء المظلومين.

- قرارك صائب يا معروف.

وبينما كان الملك ومعروف والأميرة يتحدثون ويتناولون بعض الطعام والفاكهة، هبط أبو السعادات، ومعه سجناء قمعستان. وخاطب الأميرة، قائلا:

- أحضرت الأمانة يا سيدتي.

فنظر إليهم الملك ونظروا إليه وإلى معروف، ولم يصدقوا أنفسهم أنهم صاروا أحرارا بصحبة ملك عظيم وتاجر كبير، فتعانقوا، وفاضت دموع الفرح غزيرة، وأمر الملك بإعداد مكان مريح لهم، وأخبرهم أنه سيهيئ لهم أعمالا مناسبة ليخدموا مدينة كرمستان، ويواصلوا حياتهم في حرية وكرامة. فشكروا الملك وصهره، وعبروا عن امتنانهم ورغبتهم في خدمة أشقائهم بكرمستان.

قالت الأميرة لأبي السعادات:

- اسمع ما يقوله صاحب الجلالة ونفذه في الحال.
- سمعا وطاعة.
قال الملك:
- عليك أن تأمر أتباعك، بإحضار المتآمرين، وسحب الأموال التي وزعها الوزير الخائن عليهم وعلى المنافقين وقارعي الطبول والمصفقين للظلم والهاتفين له.

- حالا يا سيدي!
يتبع...

14 يوليو 2025

رواية «تغريبة معروف الإسكافي» (9)




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق