الأربعاء، 6 أغسطس 2025

كذب الجميع وصدق تامر شحيبر

 كذب الجميع وصدق تامر شحيبر

وائل قنديل

كل ادّعاءات مساعدة الشعب الفلسطيني المحاصر في غزّة محض كذب صريح، وكلّ الكلام عن دول قصّرت في حقّ المحاصرين، وأخرى لم تقصّر، لغو بلا معنى يدرك الذين يردّدونه، قبل غيرهم، أنه من قبيل الضحك على الشعوب التي يأكل الحزن والغضب قلوبها، من دون أن تملك القدرة على فعل أيّ شيء.

كلام المواقف هواء وكلّ الكلام هراء، هكذا ينبئنا الطفل تامر شحيبر (13 عاماً)، الذي نهشه الجوع ومصّ دمه وعظامه، حتى لقي حتفه شهيداً وشاهداً على التواطؤ العربي مع الجريمة الصهيونية التي تدور منذ نحو عامَين، من دون أن تبادر دولة عربية واحدة إلى محاولة إنقاذه، ومعه أكثر من مليوني إنسان فلسطيني تحت حصار الجوع والعطش والقتل اليومي. يقول جسد تامر شحيبر إن خلف كلّ تصريح عنتري من حاكم عربي تتكدّس تلالٌ من الخذلان والتواطؤ مع جريمة الاحتلال، ما دامت هذه الدولة العربية أو تلك تتبادل التجارة، تصديراً واستيراداً، مع العدو الصهيوني.
تصرخ فينا العظام التي تخلّى عنها لحمها وجلدها إنه من المعيب أن يخرج رئيس حكومة الدولة العربية الأقرب إلى غزّة، والأكثر ارتباطاً بفلسطين، ليتفاخر أمام الكاميرات بأن الأزمة الاقتصادية في بلده انتهت، في اللحظة ذاتها التي تعلن فيها المنظمات والهيئات الأممية (وتصرخ غزّة) أن المجاعة بلغت من التوحّش حدّ قتل الصغار والكبار وتصفيتهم بالجوع. 

هذا هو الإفلاس الأخلاقي والحضاري الكامل، حين يأتي إعلان رخاء قد حلّ هنا مع بيانات رسمية تؤكّد زيادة حجم التعاون الاقتصادي مع العدو، متزامناً مع ارتفاع معدّلات الموت جوعاً في غزّة.

تهتف جثة الطفل الميّت تجويعاً في وجوهنا: الكلّ يكذب، الكلّ يعني الكلّ، سواء الدول العربية التي تتحرّك بإذن بنيامين نتنياهو لتنفيذ طلعات جوية استعراضية لإسقاط مساعدات لا تغني ولا تسمن من جوع، أو تلك التي اكتفت بالصمت الفرجة، لا فرق هنا بين الممتنعين عن الفعل عجزاً وخوفاً، وبين الممتنعين عن الغوث رغبة وقراراً بعقاب شعب قرّر أن يقاوم في زمن يكره المقاومة.
في الأسبوع الأول من العدوان الإسرائيلي على غزّة، حصلت تلّ أبيب من العرب على ما هو أغلى وأقوى ممّا حصلت عليه من ترسانة السلاح الأميركية، حصلت على إدانة عربية رسمية لمبدأ مقاومة الاحتلال، فراحت تتوحّش في حرب الإبادة وهي على يقين بأنها محمية بحق النقض (فيتو) والسلاح الأميركيين، ومغطاة بملاءة سياسية عربية تبرّر لها كلّ ما ترتكبه من جرائم، وتمنح العرب أنفسهم الحجّة التي يسوّغون بها صمتهم وتخاذلهم، وقتها كان السؤال: 
هل حقاً العرب عاجزون وعاطلون إلا من تسوّل مواقف دولية تساوي (في أكثر الحالات تفاؤلاً) بين دم المواطن الفلسطيني، صاحب الأرض الأصيل، ودم المستعمر الصهيوني المدجّج بالسلاح؟... 
وكان الجواب ولا يزال: من أسف أن العرب ليسوا عجزةً، كما أن لم يعدموا القدرة على تغيير المعادلة وردع الاحتلال، لكنّهم عدموا الإرادة والرغبة في أن يسلكوا بوصفهم أصحاب القضية، مثلهم مثل الفلسطينيين، مكتفين بأدوار الوساطة والسمسرة والتربّح من نزيف الدم.

تدّعي هذه الأنظمة العربية العجز لكي تتسوّل به رضاً دولياً لن يأتي، وتوهم شعوبها بأن معاداة العدو انتحار، وأن رفض التطبيع معه والرضوخ له جنون وتهوّر، ثمّ تخترع لهم عدواً بديلاً في الداخل، تُكرَّس لمحاربته كلّ الطاقات، وتنفق بسخاء على تجييش الشعب ضدّ الشعب، فتنقسم الأوطان طولاً وعرضاً، وتنشطر المجتمعات، وتتشظّى لكي يكون المناخ مناسباً حتى يخرج بنيامين نتنياهو معلناً بمنتهى الثقة والوقاحة: الآن جاء وقت احتلال غزّة، عسكرياً وإدارياً واستيطاناً، بشكل كامل، وهو مدرك أنه لن يسمع من العرب، وخصوصاً دول الجوار، سوى همهمات خجلى بأن من شأن ذلك أن يؤثّر في فرص السلام والتطبيع، وقد يؤدّي إلى ردّ دبلوماسي.

أكثر من ستّين ألفاً من الشهداء، وأطفال وشيوخ ينهش الجوع أبدانهم حتى الموت، ليس من حقّ أيّ طرف إذن أن يزعم أنه فعل ما عليه، وقدّم شيئاً يُذكر للشعب المحاصر في غزّة، ليس لأحد أن يتكلّم عن موقف شريف أو محترم وهو عاجز عن الوصول إلى شعب شقيق يموت جوعاً وقصفاً بالذخيرة، متعلّلاً بأن الاحتلال ينهره أو يعاقبه أو يهدّده، إن حاول إنقاذ شعب كامل من جريمة إبادة جماعية.

أخيرا،ً يقول تامر أبو شحيبر: لا أستثني أحداً منكم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق