الخميس، 9 أكتوبر 2025

مبادئ في مزاد المصالح

 مبادئ في مزاد المصالح

سعدية مفرح


‏أقسى الخيبات أن تكتشف أن من ظننتهم أولاً في صفّك، باعوا مبادئهم عند المزاد الأول للمصالح، فتكتشف أن الأخلاق عند بعضهم مجرّد بطاقة دخول لا أكثر. ثمّة لحظةٌ قاسيةٌ لا ينجو منها المرء مهما ادّعى القوة. لحظة يشهد فيها انكسار شيءٍ ما في داخله، شيء لا يُرمّم ولا يُنسى. 

لحظة يتبدّد فيها يقينُه بالوجوه التي أحاطته، ويكتشف أن بعض الوجوه التي كانت تلوّح له من الصف الأول لم تكن سوى أقنعة ملساء، تُبدّل ملامحها وفق حرارة الضوء واتجاه الريح. 

يكتشف أن الوفاء عند بعضهم ليس سوى ظرف زمني مؤقّت، وأن المواقف تُدار في كواليس خفية، حيث ينعقد المزاد الأكبر؛ مزاد المبادئ.

إنه المزاد الذي تُباع فيه القيم بأثمان رمزية أحياناً، وبالمجان أحياناً أخرى. كلٌّ يرفع لافتته الخاصّة، ويقدّم ما تبقّى من ضميره في علبة مغلّفة بالمبرّرات.

 وحين تنتهي الصفقة، يتصافح الجميع بابتسامات مصطنعة، كأن شيئاً لم يحدث. 

لكن شيئاً حدث فعلاً: 

تهاوى جدار الثقة، وتلوّثت الأرض التي كانت يوماً صلبة تحت أقدامك. 

لا أحد يعلّمنا كيف نواجه الخيبة حين تأتي من الجهة التي لم نكن نتوقّع منها الطعنة. 

لا أحد يخبرنا أن الخذلان لا يأتي من الخصوم، بل من أولئك الذين شاركونا الموقف والخبز والسرّ، أولئك الذين ظننا أنهم يشبهوننا في نقاء النيات وصلابة المبادئ. نكتشف متأخّرين أن بعض القلوب لا تحتمل اختبار الصدق، وأنها تنهار عند أول ضغطٍ من مصلحةٍ أو وعدٍ عابرٍ بالوجاهة أو النفوذ.

الخيبة، في أصل معناها، ليست مجرّد حزنٍ أو صدمة. إنها اهتزاز داخلي يغيّر ترتيب الأشياء فينا. بعدها لا نرى العالم كما كنّا نراه، ولا نقرأ الوجوه بالطريقة نفسها. نصبح أكثر صمتاً، وأكثر حذراً، وربّما أكثر عزلة. 

نكتشف أن الطيبة تحتاج إلى درع، وأن الثقة ينبغي أن تُمنح بوعي لا بعاطفة. ومع ذلك، تبقى في داخلنا رغبة عنيدة في تصديق أن النقاء ممكن، وأن الصدق لا يزال يملك مكاناً صغيراً في هذا العالم المزدحم بالأقنعة.

من يبع مبدأه مرّة، يسهُل عليه أن يبيعه ألف مرّة. 

لأنّ البيع الأول هو السقوط الأصعب، وبعده يصبح كل شيء مبرَّراً. 

يبدأ التنازل بتبرير صغير، بموقف رمادي، بابتسامة مجاملة على حساب الحقّ، ثمّ تتوالى التنازلات حتى يفقد المرء ملامحه الأخلاقية تماماً. 

يصبح نسخة من ذاته القديمة، لكن بلا جوهر، بلا روح، كتمثال جميل فقد قلبه. ولعلّ أقسى ما في الخيبة أن المرء لا يستطيع محاسبة أحد عليها سوى نفسه. إذ يبدأ في مراجعة كل لحظة، كل إشارة، كل حديث سابق، ليكتشف أنه هو من بالغ في حسن الظنّ، وأنه هو من منح الولاء بسخاء لمن لم يستحقّه. 

الخيبة في جوهرها درسٌ في البصيرة، لكنّها درس قاسٍ لا يُدرّس في أيّ مدرسة.

ورغم ذلك كلّه، لا يمكننا أن نعيش من دون الإيمان ببعض القيم التي تمنحنا المعنى، حتى حين يُخذل المرء من أقرب الناس، يظلّ بحاجة إلى أن يتمسّك بما يراه صحيحاً، لأن التنازل عن المبدأ انتقام خفي من الذات، وليس من الآخرين. لا شيء يعوّض خسارة الكرامة الأخلاقية. 

المصلحة قد تمنح المرء وجاهةً وقتيةً، لكنّها تسلبه احترامه الداخلي، والاحترام الداخلي هو ما يجعلنا نستطيع النظر في المرآة من دون شعور بالخجل.

كم من وجوهٍ كانت يوماً مضيئةً ثم انطفأت، لا لأنها فشلت في الوصول، بل لأنها اختارت الطريق الأقصر، الطريق المعبّد بالصفقات الصغيرة والتنازلات المتدرّجة. وكم من وجوهٍ بقيت في الظلّ، لكنّها احتفظت بضوءها الداخلي صافياً لا يعكّره الطمع ولا تلمّعه المصلحة. هؤلاء لا يتصدّرون الصفوف عادة، لأن الصفوف الأولى لا تقاس اليوم بالمواقف، بل بالمكاسب.

ومع ذلك، ثمّة عزاء صغير يهبنا القدرة على الاستمرار، أن الخيبة، مهما كانت موجعة، تُنقّي القلب من الزيف، وتُعيد ترتيب دوائرنا، وتعلّمنا كيف نرى ما وراء الوجوه. إنها توقظ فينا حسّ التمييز بين من يرافقنا حبّاً في الطريق، ومن يرافقنا حبّاً في الوصول.

ليس علينا أن نغدو قساةً بعد الخذلان، بل أن نغدو أكثر وعياً. أن نفهم أن الأخلاق ليست بطاقة دخول إلى مجتمع أو منصب أو صفقة، بل هي جوهرٌ نعيش به ومعه، حتى وإن خسرنا كل شيء آخر. 

لأنّ من يربح ضميره لا يخسر أبداً، ومن يبع مبادئه فلن يكسب مهما بدا رابحاً. 

هكذا فقط نفهم أن الصفّ الأول الحقيقي ليس الذي يصفّق لنا في حضورنا، بل الذي يبقى على مبدئه في غيابنا. 

وأن الخيبة، مهما كانت مرّة، ليست نهاية الطريق، بل بدايته الجديدة، حين نختار أن نواصل السير بأقل عدد من الرفاق، وأكثر قدر من النقاء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق