الأحد، 12 أكتوبر 2025

مراكز الأبحاث الأمريكية والتحريض على الحرب

 مراكز الأبحاث الأمريكية والتحريض على الحرب

عامر عبد المنعم



استمرار الحرب في غزة لمدة عامين وفشل كل المحاولات السابقة للوصول إلى اتفاق وقف إطلاق النار سببه التقارير الصهيونية والخطط المستحيلة الصادرة عن مراكز الدراسات والأبحاث الأمريكية، التي كانت تتبنى الأهداف الإسرائيلية بشكل مطلق، وتقدمها إلى صانع القرار الأمريكي على أنها تقديرات استراتيجية محكمة، رغم أنها بعيدة عن الواقع، ومجرد أوهام لنتنياهو ومعاونيه.

كان من الممكن الوصول إلى الاتفاق الذي فرضه الرئيس الأمريكي ترامب في مفاوضات شرم الشيخ منذ بداية الحرب، لكن كل ما أنتجته مراكز الدراسات الأمريكية كان يصب في اتجاه واحد، هو استمرار الحرب إلى الأبد، بزعم القضاء على التهديد والتخلص من حماس ومحو وجودها في غزة، حتى ولو باستدراج الجيش الأمريكي إلى احتلال القطاع لاستكمال ما فشل فيه الجيش الإسرائيلي!

رغم تنوع المراكز وتعدد الباحثين فإن ما نُشر عن اليوم التالي للحرب في غزة يبدو وكأنه مأخوذ من مصدر واحد، وتبدو السيناريوهات المطروحة متطابقة، وهي تقييد حركة أي رئيس أمريكي، سواء كان من الحزب الديمقراطي أو الحزب الجمهوري، بل في معظم الدراسات تجد يهودا وإسرائيليين مشاركين، وفي بعضها يتم النص صراحة على أن الدراسة جرى مناقشتها مع الإسرائيليين، لاسترضاء اللوبي!

منذ اليوم الأول للحرب، ركزت مراكز الدراسات على “شيطنة” حماس واعتبارها “جماعة إرهابية” يجب عزلها والتخلص منها، وليست حركة تحرر وطني تقود نضال الشعب الفلسطيني، وإدانة هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، واعتباره بداية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وليس جولة ورد فعل على جرائم طوال حقبة الاحتلال المستمرة منذ أكثر من 75 عاما، وترديد الاتهامات ذاتها التي ثبت كذبها، والفظائع الزائفة التي تم نفيها من قِبل الإسرائيليين أنفسهم، مثل قطع رؤوس الأطفال لتبرير الإبادة!

تبنّي أفكار نتنياهو ليس عملا بحثيا

نجح المال اليهودي في صياغة أفكار نتنياهو كي تبدو منطقية، وقدَّمها على هيئة دراسات وخطط استراتيجية من خلال مراكز الدراسات الأمريكية الأكثر شهرة، تدعو إلى إعادة “الانتداب” والاحتلال الدولي للقطاع، والإبقاء على الجيش الإسرائيلي في غزة، وإرسال عشرات الآلاف من القوات الدولية المتعددة الجنسيات لمساعدة الاحتلال في السيطرة على الفلسطينيين.

من أبرز الخطط عن اليوم التالي للحرب ما صدر عن مركز ويلسون ومؤسسة راند، وقد تضمنت خطة ترامب التي تتكون من 20 بندا مجمل ما ورد فيهما من أفكار، فالدراسة الأولى (Plan for Postwar Gaza) منحازة بشكل مطلق إلى “إسرائيل”، وحظيت بموافقة الجيش الإسرائيلي، وهي ترجمة لما يطرحه نتنياهو، والثانية (Pathways to a Durable Israeli-Palestinian Peace) أعدتها المؤسسة الأمريكية المشهورة، وهي لا تختلف كثيرا عن دراسة ويلسون في الدعوة إلى احتلال القطاع و”التخديم” على الإسرائيليين، لكن من باب التوازن أشارت “راند” إلى أن السلام غير ممكن في ظل الحكومة الإسرائيلية الحالية.

تتفق الدراستان على أهمية القضاء على حماس والمتعاونين معها، وعدم صلاحية السلطة الفلسطينية للقيام بأي دور، وتدعوان إلى احتلال القطاع الفلسطيني بقوات دولية كبيرة متعددة الجنسيات لنزع سلاح الفلسطينيين، وتعيين حاكم دولي لغزة، يقدّم تقاريره إلى مجموعة اتصال دولية تقودها الولايات المتحدة.

تطرح “راند” خمسة نماذج نجح فيها التدخل الدولي، وتدعو إلى تكرار التجربة في غزة لجلب السلام، وهي: البوسنة وكوسوفو (إرسال 60 ألف جندي وتعيين ممثل سامٍ وإدارة دولية) وتيمور الشرقية وكامب ديفيد وأيرلندا الشمالية، وتدعو دراسة “ويلسون” إلى تكرار تجربة العراق وأفغانستان، أي إرسال مئات الآلاف من القوات بقيادة عسكرية أمريكية لنزع سلاح حماس، وتطلب إعادة برمجة عقول الفلسطينيين ليحبوا السلام مع الإسرائيليين، باستنساخ برامج نزع التطرف في ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية!

مغالطات في تشخيص حالة غزة

المغالطة في دراسة “راند” أن النماذج المذكورة مختلفة تماما عن الحالة في غزة، فالبوسنة شهدت حربا أهلية بعد تفكك الاتحاد اليوغوسلافي، بين الصرب الأرثوذكس والكروات الكاثوليك والبوشناق المسلمين، وتدخلت صربيا لصالح صرب البوسنة، والأوروبيون لصالح الكروات، وجاء التدخل الدولي والأمريكي لردع الصرب وللفصل بين المتحاربين، وانتهت باتفاق دايتون الذي كان المسلمون أكبر الخاسرين فيه.

وفي كوسوفو، جاء التدخل الدولي لوقف المذابح التي ارتكبها الصرب المدعومون من روسيا ضد المسلمين الذين يشكلون أغلبية السكان، وكان التدخل الدولي للسيطرة ولمنع التغول الصربي.

وفي تيمور الشرقية، جاء التدخل الدولي بعد حرب أهلية بين المسيحيين والمسلمين، ولفصل الجزيرة التي تقطنها أغلبية كاثوليكية عن إندونيسيا. وفي شمال أيرلندا، جاء التدخل الدولي لوقف الحرب الأهلية، والفصل بين الكاثوليك الراغبين في الانضمام إلى أيرلندا والبروتستانت الراغبين في البقاء تحت التاج البريطاني. أما في مصر، فالقوات الأمريكية موجودة لمراقبة تنفيذ اتفاقية كامب ديفيد.

الوضع في غزة ليس حربا أهلية، وإنما شعب يتعرض للقتل والتدمير من الاحتلال الإسرائيلي، والمنطقي أن الفلسطينيين يطلبون من النظام الدولي تنفيذ القرارات الدولية التي صدرت ضد الاحتلال، والتدخل لحماية الشعب ووقف الإبادة، وليس قوات دولية هدفها قمع الفلسطينيين، وحكمهم بالقوة، وفرض احتلال دولي غير مشروع، ينسق مع الجيش الإسرائيلي، ويوفر له الحماية والمشروعية، وبناء سجون لاعتقال الفلسطينيين الرافضين.

أيضا فإن استنساخ تجربتَي الاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان في غزة -كما يدعو مركز ويلسون- يتصادم مع المنطق، فالتدخل الأمريكي بغطاء دولي في العراق وأفغانستان غير صالح للتكرار مرة أخرى، فهو وصفة فشل مؤكدة، وكانت النهاية للاحتلال في الدولتين من أسباب التراجع الإمبراطوري الأمريكي، وأدى الانسحاب إلى نهاية الانفراد الأمريكي بزعامة العالم، وما زال الهروب من الدولتين وما ترتب عليه من إهانة مثار جدل بين ترامب وبايدن حتى الآن .

إسرائيل لا يمكنها أن تقاتل العالم

عندما قال ترامب لنتنياهو “إن إسرائيل لا يمكنها أن تقاتل العالم” إنما هو تقدير الموقف الذي توصل إليه الرئيس الأمريكي بعد عامين من الحرب، فنتنياهو تورط في حروب أكبر من قدرته على التحمل، وأكبر من أن تتحملها الولايات المتحدة التي ما زالت لم تتعاف من حربي العراق وأفغانستان.

نعم، لدى ترامب طموحات شخصية بالفوز بجائزة نوبل، لكن الاستمرار في السير خلف الأطماع الإسرائيلية يورط الولايات المتحدة في مستنقعات استنزاف لا ربح منها، ويتسبب في خسارة أمريكا للعالمين العربي والإسلامي، والتضحية بالمصالح مقابل لا شيء، فاستمرار احتلال غزة من المستحيلات في ظل وجود مقاومة، كما أن الجبهات المفتوحة في سوريا واليمن وإيران ثم التوتر مع تركيا ومصر نهايته وخيمة لمستقبل الإسرائيليين ومن يقف معهم.

كان موقف حماس ذكيا ومدروسا، فهي وافقت على ما أعلنته من قبل، وهو تسليم الرهائن (الأسرى) مقابل وقف الحرب ودخول المساعدات والانسحاب وتحرير السجناء الفلسطينيين، وأعلنت أنها مستعدة لتسليم الحكم في غزة إلى حكومة من المستقلين التكنوقراط بالتشاور مع بقية الفصائل الفلسطينية، أي أن الحل فلسطيني، وليس لأي قوة خارجية التدخل فيه.

بالتأكيد سيحاول نتنياهو عرقلة الانسحاب، فهو أكبر الخاسرين في اتفاق السلام، ولكن كيده ضعيف، وليس أمامه الكثير، وقريبا ستطوى صفحته بصفته مجرم حرب تطارده اللعنات والمحاكمات.

بكل المقاييس المادية، فإن القادم يفرضه صمود شعب الجبارين أصحاب الأرض، الذين لم تكسر الصواريخ والقنابل عزيمتهم، ولم يقهرهم التجويع المتعمد، وظلوا ثابتين كالجبال لا يخافون الموت، وصبروا، حتى انهار حلف الحرب الغربي، وجاءت الريح العاتية التي غيرت التوازنات وقلبت الحسابات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق