قدوات غزة بعد «طوفان الأقصى».. الطبيب والمعلم والإعلامي أبطال لا يغيبون

عثمان الثويني
كاتب كويتي
انتهت الحرب، لكن أصداءها لم تنته، إذ بقي في ذاكرة الأمة ملامح قدوات حقيقية من لحم ودم، قدوات صاغها الألم ووشمها الصبر، وأثبتت أن البطولة ليست حكراً على المقاتلين في الميدان، بل تسكن أيضاً في كل يد تعمل، وعقل يخطط، وقلب ينبض بالإيمان، لقد كانت حرب «طوفان الأقصى» مدرسة كبرى خرجت أبطالاً في ميادين متعددة، من الأطباء والمعلمين والإعلاميين، كل منهم حمل راية مختلفة، لكنها جميعا راية الكرامة والثبات.
الأطباء.. صمود في ساحات الجهاد الصامت
في ميدان الطب، كانت المستشفيات المهدمة ساحات جهاد صامت، رأينا أطباء لا يملكون إلا أدوات متهالكة، ومع ذلك أجروا عمليات معقدة على ضوء الهواتف، وبين أصوات القصف وبكاء الأطفال، رأينا الطبيب يربط الجرحى بيد، ويمسح دموع أُمٍّ بيده الأخرى، ثم يعود ليكمل عمله وكأن قلبه من فولاذ، كانت صورة الطبيب الفلسطيني وهو يبتسم بعد يوم كامل من الجراحات، وقد غطاه غبار الدمار والدماء، تختصر معنى البطولة الإنسانية التي لا تبحث عن كاميرات ولا تصفيق، هؤلاء الأطباء لم ينقذوا أرواحاً فحسب، بل حفظوا للأمة ضميرها الحي، وأثبتوا أن مهنة الطب في غزة ليست وظيفة، وإنما عبادة وصمود.
المعلمون.. مهندسو الوعي وبناة المستقبل
أما المعلمون، فقد أثبتوا أن التربية جبهة لا تقل عن الجبهات الأخرى، كم من معلم وقف أمام طلابه في خيمة أو على أنقاض مدرسة، ليقول لهم: سنكمل الدرس لأن العلم مقاومة، كان يكتب على لوح من كرتون، ويشرح في فناء بلا سقف، ومع ذلك زرع في عقولهم معنى البقاء والأمل، هؤلاء المعلمون هم مهندسو الوعي الذين أبقوا جذوة الإيمان متقدة في عقول الأطفال، وغرسوا فيهم أن المستقبل يبنى لا بالبكاء على الأطلال، بل بالتشبث بالعلم والحلم، لقد كانوا يعلمون الأرقام والحروف، لكنهم في الحقيقة يعلمون العالم كله كيف لا تموت الحضارة تحت القصف.
الإعلاميون.. شهود العصر وضمير الأمة
وأما الإعلاميون، فقد حملوا كاميراتهم كما يحمل المقاتل بندقيته، يواجهون القصف بالكلمة والصورة، ويقاومون الرواية الصهيونية بالحقائق الحية، رأيناهم يبثون رسائلهم من تحت الدمار، بوجوه شاحبة وصوت يرتجف لكنه ثابت، ينقلون للعالم ما تحاول آلة الكذب إخفاءه، الإعلامي في غزة لم يكن ناقل خبر فقط، وإنما شاهد على العصر وضمير للأمة، بعضهم استشهد وهو يبث، وبعضهم فقد عائلته وعاد في اليوم التالي للهواء قائلاً: لن أترك الميدان، هؤلاء الإعلاميون غيَّروا مفهوم الإعلام من مهنة إلى رسالة، ومن وظيفة إلى شهادة.
الأبطال الحقيقيون لا يغيبون
وهكذا، انتهت الحرب عسكرياً، لكنها بدأت أخلاقياً وإنسانياً، بقيت قدواتها تضيء الطريق للأجيال القادمة؛ الطبيب الذي لم يترك مريضه، والمعلم الذي واصل رسالته، والإعلامي الذي صدع بالحق، كل منهم جدار من صبر، وصوت من ضمير، وسطر في تاريخ جديد يكتب بالدم والعزم والإيمان، فحرب غزة لم تكن فقط معركة حدود وأسلحة، وإنما معركة قدوات وأمثلة تلهم الأمة، لتقول لنا جميعاً: قد تنتهي الحروب، لكن الأبطال الحقيقيين لا يغيبون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق